الدروس
course cover
تفسير سورة آل عمران[من الآية (169) إلى الآية (171) ]
21 Aug 2015
21 Aug 2015

4467

0

0

course cover
تفسير سورة آل عمران

القسم العاشر

تفسير سورة آل عمران[من الآية (169) إلى الآية (171) ]
21 Aug 2015
21 Aug 2015

21 Aug 2015

4467

0

0


0

0

0

0

0

تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)}


تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {ولا تحسبنّ الّذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتا بل أحياء عند ربّهم يرزقون}
القراءة بالرفع {بل أحياء عند ربّهم} ولو قرئت {بل أحياء عند ربهم}لجاز المعنى: أحسبهم أحياء وقيل في هذا غير قول: قال بعضهم لا تحسبهم أمواتا في دينهم بل هم أحياء في دينهم، كما قال اللّه تعالى: {أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في النّاس كمن مثله في الظّلمات}
وقال بعضهم: لا تحسبهم كما يقول الكفار إنهم لا يبعثون بل يبعثون.
{بل أحياء عند ربّهم يرزقون*فرحين بما آتاهم اللّه من فضله}
وقيل إن أرواحهم تسرح في الجنة وتلذ بنعيمها، فهم أحياء عند ربهم.
قال بعضهم: أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة، ثم تصير إلى قناديل تحت العرش). [معاني القرآن: 1/488]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقرأ جمهور القراء: «ولا تحسبن» بالتاء مخاطبة للنبي عليه السلام، وقرأ حميد بن قيس، «ولا يحسبن» بالياء على ذكر الغائب، ورويت عن ابن عمر وذكره أبو عمرو وكأن الفاعل مقدر: ولا يحسبن أحد أو حاسب، وأرى هذه القراءة بضم الباء فالمعنى: ولا يحسب الناس، ويحسبن، معناه يظن، وقرأ الحسن: «الذين قتّلوا»، بشد التاء، وابن عامر من السبعة، وروي عن عاصم أنه قرأ: «الذين قاتلوا» بألف بين القاف والتاء، وأخبر الله تعالى في هذه الآية عن الشهداء: أنهم في الجنة يرزقون، هذا موضع الفائدة، ولا محالة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل، حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم، قال الحسن بن أبي الحسن: ما زال ابن آدم يتحمد حتى صار حيا لا يموت بالشهادة في سبيل الله، فقوله: بل أحياءٌ مقدمة لقوله: يرزقون إذ لا يرزق إلا حي، وهذا كما تقول لمن ذم رجلا: بل هو رجل فاضل، فتجيء باسم الجنس الذي تركب عليه الوصف بالفضل، وقرأ جمهور الناس: «بل أحياء» بالرفع على خبر ابتداء مضمر، أي هم أحياء، وقرأ ابن أبي عبلة، «بل أحياء» بالنصب، قال الزجّاج: ويجوز النصب على معنى بل أحسبهم أحياء، قال أبو علي في الأغفال: ذلك لا يجوز لأن الأمر يقين فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة، ولا يصح أن يضمر له إلا فعل المحسبة.
قال القاضي: فوجه قراءة ابن أبي عبلة أن تضمر فعلا غير المحسبة، اعتقدهم أو اجعلهم وذلك ضعيف إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر، وقوله عند ربّهم فيه حذف مضاف تقديره: عند كرامة ربهم، لأن عند تقتضي غاية القرب، ولذلك لم تصغر قاله سيبويه، وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أرواح الشهداء على نهر بباب الجنة يقال له بارق، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا، وروي عنه عليه السلام أنه قال: أرواح الشهداء في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها.
قال القاضي رحمه الله: وهؤلاء طبقات وأحوال مختلفة، يجمعها أنهم يرزقون، وقال عليه السلام:
إنما نسمة المؤمن طير تعلق في ثمار الجنة، ويروى يعلق بفتح اللام وبالياء، والحديث معناه في الشهداء خاصة، لأن أرواح المؤمنين غير الشهداء، إنما ترى مقاعدها من الجنة دون أن تدخلها، وأيضا فإنها لا ترزق، وتعلق معناه: تصيب العلقة من الطعام، وفتح اللام هو من التعلق، وقد رواه القراء في إصابة العلقة، وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: إنه الله تعالى يطلع إلى الشهداء فيقول: يا عبادي ما تشتهون فأزيدكم؟ فيقولون يا ربنا لا فوق ما أعطيتنا، هذه الجنة نأكل منها حيث نشاء، لكنا نريد أن تردنا إلى الدنيا فنقاتل في سبيلك فنقتل مرة أخرى، فيقول تعالى: قد سبق أنكم لا تردون، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن عبد الله: ألا أبشرك يا جابر؟ قال جابر: قلت بلى يا رسول الله، قال: إن أباك حيث أصيب- بأحد- أحياه الله، ثم قال: ما تحب يا عبد الله بن عمرو أن أفعل بك؟ قال: يا رب أحب أن تردني إلى الدنيا فأقاتل فيك فأقتل مرة أخرى، وقال قتادة رحمه الله: ذكر لنا أن رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: ليتنا نعلم ما فعل إخواننا الذين أصيبوا- بأحد- فنزلت هذه الآية وقال محمد بن قيس بن مخرمة في حديث: إن الشهداء قالوا يا ربنا ألا رسول يخبر نبينا عنا بما أعطيتنا؟ فقال الله تعالى: أنا رسولكم، فنزل جبريل بهذه الآية وكثرت هذه الأحاديث في هذا المعنى، واختلفت الروايات وجميع ذلك جائز على ما اقتضبته من هذه المعاني). [المحرر الوجيز: 2/417-420]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (يخبر تعالى عن الشّهداء بأنّهم وإن قتلوا في هذه الدّار فإنّ أرواحهم حيّةٌ مرزوقةٌ في دار القرار.
قال ابن جريرٍ: حدّثنا محمّد بن مرزوقٍ، حدّثنا عمر بن يونس، عن عكرمة، حدّثنا ابن إسحاق بن أبي طلحة، حدّثني أنس بن مالكٍ في أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم الّذين أرسلهم نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى أهل بئر معونة قال: لا أدري أربعين أو سبعين. وعلى ذلك الماء عامر بن الطّفيل الجعفريّ، فخرج أولئك النّفر من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، حتّى أتوا غارًا مشرفا على الماء فقعدوا فيه، ثمّ قال بعضهم لبعضٍ: أيّكم يبلّغ رسالة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أهل هذا الماء؟ فقال -أراه ابن ملحان الأنصاريّ-: أنا أبلّغ رسالة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. فخرج حتّى أتى حيًّا [منهم] فاختبأ أمام البيوت، ثمّ قال: يا أهل بئر معونة، إنّي رسول رسول اللّه إليكم، إنّي أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنّ محمّدًا عبده ورسوله، فآمنوا باللّه ورسوله. فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضرب به في جنبه حتّى خرج من الشّقّ الآخر. فقال: اللّه أكبر، فزت وربّ الكعبة. فاتّبعوا أثره حتّى أتوا أصحابه في الغار فقتلهم أجمعين عامر بن الطّفيل. وقال إسحاق: حدّثني أنس بن مالكٍ: أنّ اللّه [تعالى] أنزل فيهم قرآنًا: بلّغوا عنّا قومنا أنّا قد لقينا ربّنا فرضي عنّا ورضينا عنه ثمّ نسخت فرفعت بعد ما قرأناه زمنًا وأنزل اللّه: {ولا تحسبنّ الّذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتًا بل أحياءٌ عند ربّهم يرزقون}.
وقد قال الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجّاج القشيريّ في صحيحه: حدّثنا محمّد بن عبد اللّه بن نمير، حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا الأعمش، عن عبد اللّه بن مرّة، عن مسروقٍ قال: سألنا عبد اللّه عن هذه الآية: {ولا تحسبنّ الّذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتًا بل أحياءٌ عند ربّهم يرزقون} فقال: أما إنّا قد سألنا عن ذلك فقال: "أرواحهم في جوف طيرٍ خضرٍ لها قناديل معلّقةٌ بالعرش، تسرح من الجنّة حيث شاءت، ثمّ تأوي إلى تلك القناديل، فاطّلع إليهم ربّهم اطّلاعةً فقال: هل تشتهون شيئًا؟ فقالوا: أيّ شيءٍ نشتهي ونحن نسرح من الجنّة حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرّاتٍ، فلمّا رأوا أنّهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا ربّ، نريد أن تردّ أرواحنا في أجسادنا حتّى نقتل في سبيلك مرّةً أخرى، فلمّا رأى أن ليس لهم حاجةٌ تركوا". وقد روي نحوه عن أنسٍ وأبي سعيدٍ.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الصّمد، حدّثنا حمّاد، حدّثنا ثابتٌ عن أنسٍ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "ما من نفسٍ تموت، لها عند اللّه خيرٌ، يسرّها أن ترجع إلى الدّنيا إلا الشّهيد فإنّه يسرّه أن يرجع إلى الدّنيا فيقتل مرّةً أخرى لما يرى من فضل الشّهادة".
انفرد به مسلمٌ من طريق حمّادٍ .
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا عليّ بن عبد اللّه المدينيّ، حدّثنا سفيان، عن محمّد بن عليّ بن ربيعة السّلميّ، عن عبد اللّه بن محمّد بن عقيلٍ، عن جابرٍ قال: قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أما علمت أنّ اللّه أحيا أباك فقال له: تمنّ عليّ، فقال له: أردّ إلى الدّنيا، فأقتل مرّةً أخرى، فقال: إنّي قضيت الحكم أنّهم إليها لا يرجعون".
انفرد به أحمد من هذا الوجه وقد ثبت في الصّحيحين وغيرهما أنّ أبا جابرٍ -وهو عبد اللّه بن عمرو بن حرام الأنصاريّ رضي اللّه عنه-قتل يوم أحدٍ شهيدًا. قال البخاريّ: وقال أبو الوليد، عن شعبة عن ابن المنكدر قال: سمعت جابرًا قال: لمّا قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثّوب عن وجهه، فجعل أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ينهوني والنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لم ينه، وقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا تبكه -أو: ما تبكيه -ما زالت الملائكة تظلّه بأجنحتها حتّى رفع". وقد أسنده هو ومسلمٌ والنّسائيّ من طريقٍ آخر عن شعبة عن محمّد بن المنكدر عن جابرٍ قال: لمّا قتل أبي يوم أحدٍ، جعلت أكشف الثّوب عن وجهه وأبكي = وذكر تمامه بنحوه.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا يعقوب، حدّثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدّثنا إسماعيل بن أميّة بن عمرو بن سعيدٍ، عن أبي الزّبير المكّيّ، عن ابن عبّاسٍ، رضي اللّه عنهما، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لمّا أصيب إخوانكم بأحدٍ جعل الله أرواحهم في أجواف طيرٍ خضرٍ، ترد أنهار الجنّة، وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهبٍ في ظلّ العرش، فلمّا وجدوا طيب مشربهم، ومأكلهم، وحسن منقلبهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع اللّه لنا، لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب" فقال اللّه عزّ وجلّ: أنا أبلّغهم عنكم. فأنزل اللّه عزّ وجلّ هؤلاء الآيات: {ولا تحسبنّ الّذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتًا بل أحياءٌ عند ربّهم يرزقون} وما بعدها".
هكذا رواه [الإمام] أحمد، وكذا رواه ابن جريرٍ عن يونس، عن ابن وهب، عن إسماعيل بن عيّاش عن محمّد بن إسحاق به ورواه أبو داود والحاكم في مستدركه من حديث عبد اللّه بن إدريس عن محمّد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أميّة، عن أبي الزّبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ فذكره، وهذا أثبت. وكذا رواه سفيان الثّوريّ، عن سالمٍ الأفطس، عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاسٍ.
وروى الحاكم في مستدركه من حديث أبي إسحاق الفزاريّ، عن سفيان عن إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: نزلت هذه الآية في حمزة وأصحابه: {ولا تحسبنّ الّذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتًا بل أحياءٌ عند ربّهم يرزقون} ثمّ قال: صحيحٌ على شرط الشّيخين ولم يخرجاه.
وكذا قال قتادة، والرّبيع، والضّحّاك: إنّها نزلت في قتلى أحدٍ.
حديثٌ آخر: قال أبو بكر بن مردويه: حدّثنا عبد اللّه بن جعفرٍ، حدّثنا هارون بن سليمان أنبأنا عليّ بن عبد اللّه المدينيّ، أنبأنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن بشير بن الفاكه الأنصاريّ، سمعت طلحة بن خراش بن عبد الرّحمن بن خراش بن الصّمّة الأنصاريّ، قال: سمعت جابر بن عبد اللّه قال: نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ فقال: "يا جابر، ما لي أراك مهتما؟ " قال: قلت: يا رسول اللّه، استشهد أبي وترك دينا وعيالًا. قال: فقال: "ألا أخبرك؟ ما كلّم الله أحدًا قطّ إلّا من وراء حجابٍ، وإنّه كلّم أباك كفاحًا -قال عليٌّ: الكفاح: المواجهة -فقال: سلني أعطك. قال: أسألك أن أردّ إلى الدّنيا فأقتل فيك ثانيةً فقال الرّبّ عزّ وجلّ: إنّه سبق منّي القول أنّهم إليها لا يرجعون. قال: أي ربّ: فأبلغ من ورائي. فأنزل الله [عزّ وجلّ] {ولا تحسبنّ الّذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتًا} الآية.
ثمّ رواه من طريقٍ أخرى عن محمّد بن سليمان بن سبيطٍ الأنصاريّ، عن أبيه، عن جابرٍ، به نحوه. وكذا رواه البيهقيّ في "دلائل النّبوّة" من طريق عليّ بن المدينيّ، به.
وقد رواه البيهقيّ أيضًا من حديث أبي عبادة الأنصاريّ، وهو عيسى بن عبد الرّحمن، إن شاء اللّه، عن الزّهريّ، عن عروة، عن عائشة [رضي اللّه عنها] قالت: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لجابرٍ: "يا جابر، ألّا أبشّرك؟ قال: بلى. بشّرك اللّه بالخير. قال شعرت أنّ الله أحيا أباك فقال: تمنّ عليّ عبدي ما شئت أعطكه. قال: يا ربّ، ما عبدتك حقّ عبادتك. أتمنّى عليك أن تردّني إلى الدّنيا فأقاتل مع نبيّك، وأقتل فيك مرّةً أخرى. قال: إنّه سلف منّي أنّه إليها [لا] يرجع".
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا يعقوب، حدّثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدّثنا الحارث بن فضيل الأنصاريّ، عن محمود بن لبيدٍ، عن ابن عبّاسٍ، رضي اللّه عنهما، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "الشّهداء على بارق نهرٍ بباب الجنّة، في قبّةٍ خضراء، يخرج عليهم رزقهم من الجنّة بكرةً وعشيًّا".
تفرّد به أحمد، وقد رواه ابن جريرٍ عن أبي كريب حدّثنا عبد الرّحيم بن سليمان، وعبدة عن محمّد بن إسحاق، به. وهو إسنادٌ جيّدٌ.
وكان الشّهداء أقسامٌ: منهم من تسرح أرواحهم في الجنّة، ومنهم من يكون على هذا النّهر بباب الجنّة، وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النّهر فيجتمعون هنالك، ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح، واللّه أعلم.
وقد روّينا في مسند الإمام أحمد حديثًا فيه البشارة لكلّ مؤمنٍ بأنّ روحه تكون في الجنّة تسرح أيضًا فيها، وتأكل من ثمارها، وترى ما فيها من النّضرة والسّرور، وتشاهد ما أعدّه اللّه لها من الكرامة، وهو بإسنادٍ صحيحٍ عزيزٍ عظيمٍ، اجتمع فيه ثلاثةٌ من الأئمّة الأربعة أصحاب المذاهب المتّبعة؛ فإنّ الإمام أحمد، رحمه اللّه، رواه عن [الإمام] محمّد بن إدريس الشّافعيّ، رحمه اللّه، عن مالك بن أنسٍ الأصبحيّ، رحمه اللّه، عن الزّهريّ عن عبد الرّحمن بن كعب بن مالكٍ، عن أبيه، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "نسمة المؤمن طائرٌ يعلق في شجر الجنّة، حتّى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه".
قوله: "يعلق" أي: يأكل.
وفي هذا الحديث: "إنّ روح المؤمن تكون على شكل طائرٍ في الجنّة".
وأمّا أرواح الشّهداء، فكما تقدّم في حواصل طيرٍ خضرٍ، فهي كالكواكب بالنّسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنّها تطير بأنفسها، فنسأل اللّه الكريم المنّان أن يثبّتنا على الإيمان).
[تفسير القرآن العظيم: 2/161-164]

تفسير قوله تعالى: {فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): ({بل أحياء عند ربّهم يرزقون*فرحين بما آتاهم اللّه من فضله}
وقيل: إن أرواحهم تسرح في الجنة وتلذ بنعيمها، فهم أحياء عند ربهم.
قال بعضهم: أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة، ثم تصير إلى قناديل تحت العرش). [معاني القرآن: 1/488] (م)
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جل ثناؤه: {ويستبشرون بالّذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألّا خوف عليهم ولا هم يحزنون} أي:لم يلحقوا بهم في الفضل إلا أن لهم فضلا عظيما بتصديقهم وإيمانهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
فموضع. " أن " خفض، المعنى: يستبشرون بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون). [معاني القرآن: 1/489]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: فرحين نصب في موضع الحال وهو من الفرح بمعنى السرور، و «الفضل» في هذه الآية: التنعيم المذكور.
يستبشرون معناه: يسرون ويفرحون، وليست استفعل في هذا الموضع بمعنى طلب البشارة، بل هي بمعنى استغنى الله واستمجد المرخ والعفار، وذهب قتادة والربيع وابن جريج وغيرهم: إلى أن هذا الاستبشار إنما هو بأنهم يقولون: إخواننا الذين تركناهم خلفنا في الدنيا يقاتلون في سبيل الله مع نبيهم فيستشهدون فينالون من الكرامة مثل ما نحن فيه فيسرون لهم بذلك، إذ يحصلون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وذهب فريق من العلماء وأشار إليه الزجّاج وابن فورك: إلى أن الإشارة في قوله: بالّذين لم يلحقوا إلى جميع المؤمنين، أي لم يلحقوا بهم في فضل الشهادة لكن الشهداء لما عاينوا ثواب الله، وقع اليقين بأن دين الإسلام هو الحق الذي يثيب الله عليه، فهم فرحون لأنفسهم بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون للمؤمنين بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون»، وألّا مفعول من أجله، التقدير، بأن لا خوف، ويجوز أن يكون في موضع خفض بدل اشتمال). [المحرر الوجيز: 2/420-421]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({فرحين بما آتاهم اللّه من فضله ويستبشرون بالّذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون (170) يستبشرون بنعمةٍ من اللّه وفضلٍ وأنّ اللّه لا يضيع أجر المؤمنين (171) الّذين استجابوا للّه والرّسول من بعد ما أصابهم القرح للّذين أحسنوا منهم واتّقوا أجرٌ عظيمٌ (172) الّذين قال لهم النّاس إنّ النّاس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا اللّه ونعم الوكيل (173) فانقلبوا بنعمةٍ من اللّه وفضلٍ لم يمسسهم سوءٌ واتّبعوا رضوان اللّه واللّه ذو فضلٍ عظيمٍ (174) إنّما ذلكم الشّيطان يخوّف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين (175)}
وقوله: {فرحين بما آتاهم اللّه [من فضله ويستبشرون بالّذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون]} أي: الشّهداء الّذين قتلوا في سبيل اللّه أحياءٌ عند اللّه، وهم فرحون ممّا هم فيه من النّعمة والغبطة، ومستبشرون بإخوانهم الّذين يقتلون بعدهم في سبيل اللّه أنّهم يقدمون عليهم، وأنّهم لا يخافون ممّا أمامهم ولا يحزنون على ما تركوه وراءهم.
قال محمّد بن إسحاق {ويستبشرون} أي: ويسرون بلحوق من خلفهم من إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم؛ ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب اللّه الّذي أعطاهم.
[و] قال السّدّيّ: يؤتى الشّهيد بكتابٍ فيه: "يقدم عليك فلانٌ يوم كذا وكذا، ويقدم عليك فلانٌ يوم كذا وكذا، فيسرّ بذلك كما يسرّ أهل الدّنيا بقدوم غيّابهم".
وقال سعيد بن جبيرٍ: لمّا دخلوا الجنّة ورأوا ما فيها من الكرامة للشّهداء قالوا: يا ليت إخواننا الّذين في الدّنيا يعلمون ما عرفناه من الكرامة، فإذا شهدوا للقتال باشروها بأنفسهم، حتى ويستشهدوا فيصيبوا ما أصبنا من الخير، فأخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بأمرهم وما هم فيه من الكرامة، وأخبرهم -أي ربّهم-[أنّي] قد أنزلت على نبيّكم وأخبرته بأمركم، وما أنتم فيه، فاستبشروا بذلك، فذلك قوله: {ويستبشرون بالّذين لم يلحقوا بهم من خلفهم} الآية.
وقد ثبت في الصّحيحين عن أنسٍ، رضي اللّه عنه، في قصّة أصحاب بئر معونة السّبعين من الأنصار، الّذين قتلوا في غداةٍ واحدةٍ، وقنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على الّذين قتلوهم، يدعو عليهم ويلعنهم، قال أنسٌ: ونزل فيهم قرآنٌ قرأناه حتّى رفع: "أن بلغوا عنّا قومنا أنّا لقينا ربّنا فرضي عنّا وأرضانا").
[تفسير القرآن العظيم: 2/165]

تفسير قوله تعالى: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يستبشرون بنعمة من اللّه وفضل وأنّ اللّه لا يضيع أجر المؤمنين}
{وأن اللّه لا يضيع أجر المؤمنين}
{أنّ} في موضع خفض،المعنى: ويستبشرون بأن اللّه لا يضيع ويجوز (وإنّ اللّه لا يضيع أجر المؤمنين) على معنى واللّه لا يضيع أجر المؤمنين، وكذلك هي في قراءة عبد اللّه (واللّه لا يضيع).
فهذا يقوى (وإنّ) بالكسر). [معاني القرآن: 1/489]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: {يستبشرون بنعمةٍ من اللّه وفضلٍ وأنّ اللّه لا يضيع أجر المؤمنين (171) الّذين استجابوا للّه والرّسول من بعد ما أصابهم القرح للّذين أحسنوا منهم واتّقوا أجرٌ عظيمٌ (172) }
ثم أكد تعالى استبشارهم بقوله: يستبشرون بنعمةٍ ثم بين تعالى بقوله: وفضلٍ فوقع إدخاله إياهم الجنة الذي هو فضل منه لا بعمل أحد، وأما النعمة في الجنة والدرجات فقد أخبر أنها على قدر الأعمال، وقرأ الكسائي وجماعة من أهل العلم: «وإن الله» - بكسر الألف من «أن»، وقرأ باقي السبعة وجمهور العلماء: «وأن الله» - بفتح الألف، فمن قرأ بالفتح فذلك داخل فيما يستبشر به، المعنى، بنعمة وبأن الله، ومن قرأ بالكسر فهو إخبار مستأنف، وقرأ عبد الله «وفضل والله لا يضيع»). [المحرر الوجيز: 2/421]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال: {يستبشرون بنعمةٍ من اللّه وفضلٍ وأنّ اللّه لا يضيع أجر المؤمنين} قال محمّد بن إسحاق: استبشروا وسرّوا لما عاينوا من وفاء الموعود وجزيل الثّواب.
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: هذه الآية جمعت المؤمنين كلّهم، سواءً الشّهداء وغيرهم، وقلّما ذكر اللّه فضلًا ذكر به الأنبياء وثوابًا أعطاهم إلّا ذكر ما أعطى اللّه المؤمنين من بعدهم).
[تفسير القرآن العظيم: 2/165]


* للاستزادة ينظر: هنا