21 Aug 2015
* للاستزادة ينظر: هنا
تفسير قوله
تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا
أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ
عَظِيمٌ (172)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله - جلّ وعزّ -: {الّذين استجابوا للّه والرّسول من بعد ما أصابهم القرح للّذين أحسنوا منهم واتّقوا أجر عظيم} أي من بعد ما أصابهم الجرح، ومن قرأ القرح، فمعناه: ألم الجرح.
{الذين}جائز أن يكون: في موضع خفض على النعت للمؤمنين، والأحسن أن يكون: في موضع رفع بالابتداء ويكون خبر الابتداء {للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم}). [معاني القرآن: 1/489]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله
تعالى: الّذين استجابوا يحتمل أن تكون الّذين صفة للمؤمنين على قراءة من
كسر الألف من «إن»، والأظهر أن الّذين ابتداء وخبره في قوله تعالى: للّذين
أحسنوا الآية، فهذه الجملة هي خبر الابتداء الأول، والمستجيبون لله والرسول
هم الذين خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد في طلب قريش
وانتظارهم لهم وذلك أنه لما كان في يوم الأحد وهو الثاني من يوم أحد نادى
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس باتباع المشركين، وقال: لا يخرجن
معنا إلا من شاهدنا بالأمس، وكانت بالناس جراحة وقرح عظيم، ولكن تجلدوا
ونهض معه مائتا رجل من المؤمنين حتى بلغ حمراء الأسد، وهي على ثمانية أميال
من المدينة، وأقام بها ثلاثة أيام، وجرت قصة معبد بن أبي معبد التي
ذكرناها، ومرت قريش وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة،
فأنزل الله تعالى في شأن أولئك المستجيبين هذه الآية، ومدحهم لصبرهم، وروي
أنه خرج في الناس أخوان وبهما جراحة شديدة وكان أحدهما قد ضعف، فكان أخوه
يحمله عقبة ويمشي هو عقبة، ورغب جابر بن عبد الله إلى النبي صلى الله عليه
وسلم في الخروج معه فأذن له، وأخبرهم تعالى أن الأجر العظيم قد تحصل لهم
بهذه الفعلة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها غزوة). [المحرر الوجيز: 2/421-422]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله:
{الّذين استجابوا للّه والرّسول من بعد ما أصابهم القرح} هذا كان يوم
"حمراء الأسد"، وذلك أنّ المشركين لمّا أصابوا ما أصابوا من المسلمين كرّوا
راجعين إلى بلادهم، فلمّا استمرّوا في سيرهم تندّموا لم لا تمّموا على أهل
المدينة وجعلوها الفيصلة. فلمّا بلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
ندب المسلمين إلى الذّهاب وراءهم ليرعبهم ويريهم أنّ بهم قوّةً وجلدًا،
ولم يأذن لأحدٍ سوى من حضر الوقعة يوم أحدٍ، سوى جابر بن عبد اللّه رضي
اللّه عنه -لما سنذكره-فانتدب المسلمون على ما بهم من الجراح والإثخان
طاعةً للّه [عزّ وجل] ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا محمّد بن عبد اللّه بن يزيد، حدّثنا سفيان بن
عيينة، عن عمرٍو، عن عكرمة قال: لمّا رجع المشركون عن أحدٍ قالوا: لا
محمّدًا قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، بئسما صنعتم، ارجعوا. فسمع رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم، فندب المسلمين فانتدبوا حتّى بلغ حمراء الأسد -أو:
بئر أبي عيينة -الشّكّ من سفيان-فقال المشركون: نرجع من قابلٍ. فرجع رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فكانت تعدّ غزوةً، فأنزل اللّه عزّ وجلّ:
{الّذين استجابوا للّه والرّسول من بعد ما أصابهم القرح للّذين أحسنوا منهم
واتّقوا أجرٌ عظيمٌ}
ورواه ابن مردويه من حديث محمّد بن منصورٍ، عن سفيان بن عيينة، عن عمرٍو، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ فذكره.
وقال محمّد بن إسحاق: كان يوم أحدٍ يوم السّبت النصف من شوّالٍ، فلمّا كان
الغد من يوم الأحد لستّ عشرة ليلةً مضت من شوّالٍ، أذّن مؤذّن رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم في النّاس بطلب العدوّ، وأذّن مؤذّنه ألّا يخرج معنا
أحدٌ إلّا أحدٌ حضر يومنا بالأمس. فكلّمه جابر بن عبد اللّه بن عمرو بن
حرامٍ فقال: يا رسول اللّه، إنّ أبي كان خلّفني على أخواتٍ لي سبع وقال: يا
بنيّ، إنّه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النّسوة لا رجل فيهنّ، ولست
بالّذي أوثرك بالجهاد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على نفسي،
فتخلّف على أخواتك، فتخلّفت عليهنّ، فأذن له رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم، فخرج معه. وإنّما خرج رسول اللّه مرهبا للعدوّ، وليبلغهم أنّه خرج
في طلبهم ليظنّوا به قوّةً، وأنّ الّذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوّهم.
قال ابن إسحاق: حدّثني عبد اللّه بن خارجة بن زيد بن ثابتٍ، عن أبي السّائب
مولى عائشة بنت عثمان؛ أنّ رجلًا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم من بني عبد الأشهل، كان شهد أحدًا قال: شهدت أحدًا مع رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم أنا وأخي فرجعنا جريحين، فلمّا أذّن مؤذّن رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالخروج في طلب العدوّ، قلت لأخي -أو قال لي-:
أتفوّتنا غزوةً مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؟ واللّه ما لنا من
دابّة نركبها، وما منّا إلّا جريحٌ ثقيل، فخرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم، وكنت أيسر جراحًا منه، فكان إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة حتّى
انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون.
وقال البخاريّ: حدّثنا محمّد بن سلامٍ، حدّثنا أبو معاوية، عن هشامٍ، عن
أبيه، عن عائشة رضي اللّه عنها: {الّذين استجابوا للّه والرّسول [من بعد ما
أصابهم القرح للّذين أحسنوا منهم واتّقوا أجرٌ عظيمٌ]} قالت لعروة: يا ابن
أختي، كان أبواك منهم الزّبير وأبو بكرٍ، رضي اللّه عنهما، لمّا أصاب نبيّ
اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ما أصابه يوم أحدٍ، وانصرف عنه المشركون، خاف
أن يرجعوا فقال: "من يرجع في إثرهم؟ " فانتدب منهم سبعون رجلًا فيهم أبو
بكرٍ والزّبير، رضي الله عنهما.
هكذا رواه البخاريّ منفردًا به، بهذا السّياق. وهكذا رواه الحاكم في
مستدركه عن الأصم، عن العبّاس الدّوريّ، عن أبي النّضر، عن أبي سعيدٍ
المؤدّب، عن هشام بن عروة، به، ثمّ قال: صحيحٌ ولم يخرّجاه. كذا قال.
ورواه أيضًا من حديث إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن البهيّ، عن عروة قال: قالت
لي عائشة: يا بني، إنّ أباك من الّذين استجابوا للّه والرّسول من بعد ما
أصابهم القرح. ثمّ قال: صحيحٌ على شرط الشّيخين، ولم يخرّجاه.
وروى ابن ماجه، عن هشام بن عمّارٍ، وهدبة بن عبد الوهّاب عن سفيان بن
عيينة، عن هشام بن عروة به وهكذا رواه سعيد بن منصورٍ وأبو بكرٍ الحميديّ
في مسنده عن سفيان، به.
وقال أبو بكر بن مردويه. حدّثنا عبد اللّه بن جعفرٍ من أصل كتابه، أنبأنا
سمويه، أنبأنا عبد اللّه بن الزّبير، أنبأنا سفيان، أنبأنا هشامٌ، عن أبيه،
عن عائشة قالت: قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إن كان أبواك
لمن الّذين استجابوا لله والرّسول من بعد ما أصابهم القرح: أبو بكرٍ
والزّبير، رضي اللّه عنهما".
ورفع هذا الحديث خطأٌ محضٌ من جهة إسناده، لمخالفته رواية الثّقات من وقفه
على عائشة كما قدّمناه، ومن جهة معناه، فإنّ الزّبير ليس هو من آباء عائشة،
وإنّما قالت عائشة لعروة بن الزّبير ذلك لأنّه ابن أختها أسماء بنت أبي
بكرٍ الصّدّيق، رضي اللّه عنهم.
وقال ابن جريرٍ: حدّثني محمّد بن سعدٍ، حدّثني أبي، [حدّثني] عمي، حدّثني
أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ قال: إنّ اللّه قذف في قلب أبي سفيان الرّعب
يوم أحدٍ بعد ما كان منه ما كان، فرجع إلى مكّة، فقال النّبيّ صلّى اللّه
عليه وسلّم: "إنّ أبا سفيان قد أصاب منكم طرفًا، وقد رجع، وقذف الله في
قلبه الرّعب". وكانت وقعة أحدٍ في شوّالٍ، وكان التّجّار يقدمون المدينة في
ذي القعدة، فينزلون ببدرٍ الصّغرى في كلّ سنةٍ مرة، وإنّهم قدموا بعد وقعة
أحدٍ وكان أصاب المؤمنين القرح، واشتكوا ذلك إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه
وسلّم، واشتدّ عليهم الّذي أصابهم. وإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
ندب النّاس لينطلقوا معه، ويتّبعوا ما كانوا متّبعين، وقال: "إنّما يرتحلون
الآن فيأتون الحجّ ولا يقدرون على مثلها حتّى عامٍ مقبلٍ". فجاء الشّيطان
فخوّف أولياءه فقال: إنّ النّاس قد جمعوا لكم فأبى عليه النّاس أن يتبعوه،
فقال: "إنّي ذاهبٌ وإن لم يتبعني أحدٌ". لأحضض النّاس، فانتدب معه أبو بكرٍ
الصّدّيق، وعمر، وعثمان، وعليٌّ، والزّبير، وسعدٌ، وطلحة، وعبد الرّحمن بن
عوفٍ، وعبد اللّه بن مسعودٍ، وحذيفة بن اليمان، وأبو عبيدة بن الجّرّاح في
سبعين رجلًا فساروا في طلب أبي سفيان، فطلبوا حتّى بلغوا الصّفراء، فأنزل
اللّه [عزّ وجلّ] {الّذين استجابوا للّه والرّسول من بعد ما أصابهم [القرح
للّذين أحسنوا منهم واتّقوا أجرٌ عظيمٌ]} .
ثمّ قال ابن إسحاق: فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى انتهى إلى حمراء الأسد، وهي من المدينة على ثمانية أميالٍ.
قال ابن هشامٍ: واستعمل على المدينة ابن أمّ مكتوم فأقام بها الاثنين
والثّلاثاء والأربعاء، ثمّ رجع إلى المدينة. وقد مر به -كما حدّثني عبد
اللّه بن أبي بكرٍ-معبد بن أبي معبد الخزاعيّ، وكانت خزاعة -مسلمهم
ومشركهم-عيبة نصح لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بتهامة، صفقتهم معه،
لا يخفون عنه شيئًا كان بها، ومعبدٌ يومئذٍ مشركٌ فقال: يا محمّد، أما
واللّه لقد عزّ علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أنّ اللّه عافاك فيهم.
ثمّ خرج ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بحمراء الأسد، حتّى لقي أبا
سفيان بن حربٍ ومن معه بالرّوحاء، وقد أجمعوا الرّجعة إلى رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلّم وأصحابه وقالوا: أصبنا حد أصحابه وقادتهم وأشرافهم، ثمّ
نرجع قبل أن نستأصلهم.. لنكرّنّ على بقيّتهم فلنفرغنّ منهم. فلمّا رأى أبو
سفيان معبدًا قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمّدٌ قد خرج في أصحابه يطلبكم
في جمع لم أر مثله قطّ، يتحرّقون عليكم تحرّقا، قد اجتمع معه من كان تخلّف
عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا، فيهم من الحنق عليكم شيءٌ لم أر مثله
قطّ. قال: ويلك. ما تقول؟ قال: واللّه ما أرى أن ترتحل حتّى ترى نواصي
الخيل -قال: فواللّه لقد أجمعنا الكرّة عليهم لنستأصل بقيّتهم. قال: فإنّي
أنهاك عن ذلك. وواللّه لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم أبياتًا من شعرٍ،
قال: وما قلت؟ قال: قلت:
كادت تهدّ من الأصوات راحلتي = إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تردى بأسدٍ كرامٍ لا تنابلة = عند اللّقاء ولا ميلٍ معازيل
فظلت عدوا أظنّ الأرض مائلةً = لمّا سموا برئيسٍ غير مخذول
فقلت: ويل ابن حرب من لقائكم = إذا تغطمطت البطحاء بالجيل
إنّي نذيرٌ لأهل البسل ضاحيةً = لكلّ ذي إربة منهم ومعقول
من جيش أحمد لا وخشٍ تنابلة = وليس يوصف ما أنذرت بالقيل
قال: فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه.
ومرّ به ركبٌ من بني عبد القيس، فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة.
قال: ولم؟ قالوا: بعكاظٍ إذ وافيتمونا قالوا: نعم. قال: فإذا وافيتموه
فأخبروه أنّا قد أجمعنا المسير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيّتهم، فمرّ
الرّكب برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو بحمراء الأسد، فأخبروه
بالّذي قال أبو سفيان وأصحابه، فقالوا: حسبنا اللّه ونعم الوكيل.
وذكر ابن هشامٍ عن أبي عبيدة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
حين بلغه رجوعهم: "والّذي نفسي بيده لقد سوّمت لهم حجارةٌ لو صبّحوا بها
لكانوا كأمس الذّاهب".
وقال الحسن البصريّ [في قوله] {الّذين استجابوا للّه والرّسول من بعد ما
أصابهم القرح} إنّ أبا سفيان وأصحابه أصابوا من المسلمين ما أصابوا ورجعوا،
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ أبا سفيان قد رجع وقد قذف
الله في قلبه [الرّعب] فمن ينتدب في طلبه؟ " فقام النّبيّ صلّى اللّه عليه
وسلّم، وأبو بكرٍ وعمر، وعثمان، وعليٌّ، وناسٌ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه
عليه وسلّم، فاتّبعوهم، فبلغ أبا سفيان أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه
وسلّم، يطلبه فلقي عيرًا من التّجّار فقال: ردّوا محمّدًا ولكم من الجعل
كذا وكذا، وأخبروهم أنّي قد جمعت لهم جموعًا، وأنّني راجعٌ إليهم. فجاء
التّجّار فأخبروا بذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال النّبيّ
صلّى اللّه عليه وسلّم: {حسبنا اللّه ونعم الوكيل} فأنزل اللّه هذه الآية.
وهكذا قال عكرمة، وقتادة وغير واحدٍ: إنّ هذا السّياق نزل في شأن [غزوة] حمراء الأسد"، وقيل: نزلت في بدر الموعد، والصّحيح الأوّل). [تفسير القرآن العظيم: 2/165-168]
تفسير قوله
تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا
لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ: {الّذين قال لهم النّاس إنّ النّاس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا اللّه ونعم الوكيل}
يقال في
التفسير: إن قائل هذا نعيم بن مسعود الأشجعي بعثه أبو سفيان وأصحابه يثبطون
النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن لقيّهم، وكان بين المسلمين وبين
المشركين في يوم أحد موعد للقاء ببدر الصغرى، فلم يلتفت المسلمون إلى تخويف
نعيم وعزموا على لقاء القوم وأجابوه بأن قالوا: {حسبنا اللّه ونعم الوكيل}
وتأويل {حسبنا اللّه}أي: الذي يكفينا أمرهم اللّه.
وقوله جلّ وعزّ: {فزادهم إيمانا} أي: زادهم ذلك التخويف ثبوتا في دينهم وإقامة على نصرة نبيهم.
وصاروا إلى بدر الصغرى، وألقى اللّه في قلوب المشركين الرعب فلم تغفلوهم). [معاني القرآن: 1/489-490]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
تعالى: الّذين قال لهم النّاس إنّ النّاس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم
إيماناً وقالوا حسبنا اللّه ونعم الوكيل (173) فانقلبوا بنعمةٍ من اللّه
وفضلٍ لم يمسسهم سوءٌ واتّبعوا رضوان اللّه واللّه ذو فضلٍ عظيمٍ (174)
الّذين صفة للمحسنين
المذكورين، وهذا القول هو الذي قاله الركب من عبد القيس لرسول الله صلى
الله عليه وسلم وأصحابه، حين حملهم أبو سفيان ذلك، وقد ذكرته قبل، ف النّاس
الأول ركب عبد القيس والنّاس الثاني عسكر قريش، وقوله تعالى: فزادهم
إيماناً، أي ثبوتا واستعدادا، فزيادة الإيمان في هذا هي في الأعمال، وأطلق
العلماء عبارة: أن الإيمان يزيد وينقص، والعقيدة في هذا أن نفس الإيمان
الذي هو تصديق واحد بشيء ما، إنما هو معنى فرد لا تدخله زيادة إذا حصل، ولا
يبقى منه شيء إذا زال، فلم يبق إلا أن تكون الزيادة والنقص في متعلقاته
دون ذاته، فذهب بعض العلماء إلى أنه يقال: يزيد وينقص من حيث تزيد الأعمال
الصادرة عنه وتنقص، لا سيما أن كثيرا من العلماء يوقعون اسم الإيمان على
الطاعات، وذهب قوم: إلى أن الزيادة في الإيمان إنما هي بنزول الفروض
والإخبار في مدة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي المعرفة بها بعد الجهل غابر
الدهر وهذا إنما زيادة إيمان إلى إيمان، فالقول فيه إن الإيمان يزيد وينقص
قول مجازي ولا يتصور النقص فيه على هذا الحد وإنما يتصور الأنقص بالإضافة
إلى الأعلم، وذهب قوم من العلماء: إلى أن زيادة الإيمان ونقصه إنما هي من
طريق الأدلة، فتزيد الأدلة عند واحد، فيقال في ذلك: إنها زيادة في الإيمان،
وهذا كما يقال في الكسوة، إنها زيادة في الإيمان، وذهب أبو المعالي في
الإرشاد: إلى أن زيادة الإيمان ونقصانه إنما هو بثبوت المعتقد وتعاوره
دائبا، قال: وذلك أن الإيمان عرض وهو لا يثبت زمانين فهو للنبي صلى الله
عليه وسلم وللصلحاء متعاقب متوال، وللفاسق والغافل غير متوال، يصحبه حينا
ويفارقه حينا في الفترة، فذلك الآخر أكثر إيمانا، فهذه هي الزيادة والنقص
وفي هذا القول نظر، وقوله تعالى: فزادهم إيماناً لا يتصور أن يكون من جهة
الأدلة، ويتصور في الآية الجهات الأخر الثلاث، وروي أنه لما أخبر الوفد من
عبد القيس رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حملهم أبو سفيان، وأنه ينصرف
إليهم بالناس ليستأصلهم، وأخبر بذلك أيضا أعرابي، شق ذلك على المسلمين فقال
لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا حسبنا اللّه ونعم الوكيل فقالوا
واستمرت عزائمهم على الصبر ودفع الله عنهم كل سوء، وألقى الرعب في قلوب
الكفار فمروا). [المحرر الوجيز: 2/422-423]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله:
{الّذين قال لهم النّاس إنّ النّاس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا
[وقالوا حسبنا اللّه ونعم الوكيل]} أي: الّذين توعّدهم النّاس [بالجموع]
وخوّفوهم بكثرة الأعداء، فما اكترثوا لذلك، بل توكّلوا على اللّه واستعانوا
به {وقالوا حسبنا اللّه ونعم الوكيل}
قال البخاريّ: حدّثنا أحمد بن يونس، أراه قال: حدّثنا أبو بكرٍ، عن أبي
حصين، عن أبي الضّحى، عن ابن عبّاسٍ: {حسبنا اللّه ونعم الوكيل} قالها
إبراهيم عليه السّلام حين ألقي في النّار وقالها محمّدٌ صلّى اللّه عليه
وسلّم حين قالوا: {إنّ النّاس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا
حسبنا اللّه ونعم الوكيل}
وقد رواه النّسائيّ، عن محمّد بن إسماعيل بن إبراهيم وهارون بن عبد اللّه،
كلاهما عن يحيى بن أبي بكير، عن أبي بكرٍ -وهو ابن عيّاشٍ-به. والعجب أنّ
الحاكم [أبا عبد اللّه] رواه من حديث أحمد بن يونس، به، ثمّ قال: صحيحٌ على
شرط الشّيخين ولم يخرّجاه.
ثمّ رواه البخاريّ عن أبي غسّان مالك بن إسماعيل، عن إسرائيل، عن أبي حصين،
عن أبي الضّحى، عن ابن عبّاسٍ قال: كان آخر قول إبراهيم، عليه السّلام،
حين ألقي في النّار: {حسبنا اللّه ونعم الوكيل}.
وقال عبد الرّزّاق: قال ابن عيينة: وأخبرني زكريّا، عن الشّعبي، عن عبد
اللّه بن عمرٍو قال: هي كلمة إبراهيم عليه السّلام حين ألقي في البنيان.
رواه ابن جريرٍ.
وقال أبو بكر بن مردويه: حدّثنا محمّد بن معمر، حدّثنا إبراهيم بن موسى
الثّوريّ أخبرنا عبد الرّحيم بن محمّد بن زيادٍ السّكّريّ، أنبأنا أبو بكر
بن عيّاشٍ، عن حميدٍ الطّويل، عن أنس بن مالكٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه
وسلّم أنّه قيل له يوم أحدٍ: إنّ النّاس قد جمعوا لكم فاخشوهم. فأنزل
اللّه هذه الآية.
وروى أيضًا بسنده عن محمّد بن عبيد اللّه الرّافعيّ، عن أبيه، عن جدّه أبي
رافعٍ أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وجّه عليًّا في نفرٍ معه في طلب
أبي سفيان، فلقيهم أعرابيٌّ من خزاعة فقال: إنّ القوم قد جمعوا لكم قالوا:
حسبنا اللّه ونعم الوكيل. فنزلت فيهم هذه الآية.
ثمّ قال ابن مردويه: حدّثنا دعلج بن أحمد، أخبرنا الحسن بن سفيان، أنبأنا
أبو خيثمة مصعب بن سعيدٍ، أنبأنا موسى بن أعين، عن الأعمش، عن أبي صالحٍ،
عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
"إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا: حسبنا اللّه ونعم الوكيل".
هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه.
وقد قال الإمام أحمد: حدّثنا حيوة بن شريح وإبراهيم بن أبي العبّاس قالا
حدّثنا بقيّة، حدّثنا بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن سيفٍ، عن عوف بن
مالكٍ أنّه حدّثهم: أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قضى بين رجلين فقال
المقضيّ عليه لما أدبر: حسبي اللّه ونعم الوكيل. فقال رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلّم: "ردّوا عليّ الرّجل". فقال: "ما قلت؟ ". قال: قلت: حسبي
الله ونعم الوكيل. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ اللّه يلوم
على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمرٌ فقل: حسبي اللّه ونعم
الوكيل".
وكذا رواه أبو داود والنّسائيّ من حديث بقيّة عن بحير، عن خالدٍ، عن سيف
-وهو الشّاميّ، ولم ينسب -عن عوف بن مالكٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه
وسلّم، بنحوه.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا أسباطٌ، حدّثنا مطرّف، عن عطية، عن ابن عبّاسٍ
[في قوله: {فإذا نقر في النّاقور} [المدّثّر: 8] قال: قال رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلّم: "كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته، يسمع
متى يؤمر فينفخ". فقال أصحاب محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: فما نقول ؟
قال: "قولوا: حسبنا اللّه ونعم الوكيل على اللّه توكّلنا".
وقد روي هذا من غير وجهٍ، وهو حديثٌ جيّدٌ وروّينا عن أمّ المؤمنين عائشة
وزينب [بنت جحشٍ] رضي اللّه عنهما، أنّهما تفاخرتا فقالت زينب: زوجني اللّه
وزوجكن أهاليكنّ وقالت عائشة: نزلت براءتي من السّماء في القرآن. فسلّمت
لها زينب، ثمّ قالت: كيف قلت حين ركبت راحلة صفوان بن المعطّل؟ فقالت: قلت:
حسبي اللّه ونعم الوكيل، فقالت زينب: قلت كلمة المؤمنين.
ولهذا قال تعالى: {فانقلبوا بنعمةٍ من اللّه وفضلٍ لم يمسسهم سوءٌ} ). [تفسير القرآن العظيم: 2/169-171]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقال
ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ في قوله: {الّذين قال لهم النّاس إنّ النّاس قد
جمعوا لكم فاخشوهم} قال: [هذا] أبو سفيان، قال لمحمّدٍ صلّى اللّه عليه
وسلّم: موعدكم بدرٌ، حيث قتلتم أصحابنا. فقال محمّدٌ صلّى اللّه عليه
وسلّم: "عسى". فانطلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لموعده حتّى نزل
بدرًا، فوافقوا السّوق فيها وابتاعوا فذلك قول اللّه عزّ وجلّ: {فانقلبوا
بنعمةٍ من اللّه وفضلٍ لم يمسسهم سوءٌ [واتّبعوا رضوان اللّه واللّه ذو
فضلٍ عظيمٍ]} قال: وهي غزوة بدرٍ الصّغرى.
رواه ابن جريرٍ. وروى [أيضًا] عن القاسم، عن الحسين، عن حجّاجٍ، عن ابن
جريج قال: لمّا عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لموعد أبي سفيان،
فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريشٍ، فيقولون قد جمعوا لكم يكيدونهم
بذلك، يريدون أن يرعبوهم فيقول المؤمنون: {حسبنا اللّه ونعم الوكيل} حتّى
قدموا بدرًا، فوجدوا أسواقها عافيةً لم ينازعهم فيها أحدٌ، قال: رجل من
المشركين فأخبر أهل مكّة بخيل محمد، وقال في ذلك:
نفرت قلوصي من خيول محمّدٍ = وعجوةٍ منثورةٍ كالعنجد
واتّخذت ماء قديدٍ موعدي
ثمّ قال ابن جريرٍ: هكذا أنشدنا القاسم، وهو خطأٌ، وإنّما هو:
قد نفرت من رفقتي محمّدٍ = وعجوة من يثربٍ كالعنجد
تهوى على دين أبيها الأتلد = قد جعلت ماء قديدٍ موعدي
وماء ضجنان لها ضحى الغد). [تفسير القرآن العظيم: 2/171-173]
تفسير قوله
تعالى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ
يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ
عَظِيمٍ (174)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ: {فانقلبوا بنعمة من اللّه وفضل لم يمسسهم سوء واتّبعوا رضوان اللّه واللّه ذو فضل عظيم}المعنى: فلم يخافوا ما خافوا، وصاروا إلى الموعد الذي وعدوا فيه.
{فانقلبوا بنعمة}أي: انقلبوا مؤمنين قد هرب منهم عدوهم.
وقيل في التفسير: إنهم أقاموا ثلاثا واشتروا أدما وزبيبا ربحوا فيه.
وكل ذلك جائز، إلا أن انقلابهم بالنعمة هي نعمة الإيمان والنصر على عدوهم). [معاني القرآن: 1/490]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله
تعالى: فانقلبوا بنعمةٍ من اللّه وفضلٍ يريد في السلامة والظهور في اتباع
العدو وحماية الحوزة، وبفضل في الأجر الذي حازوه والفضل الذي تجللوه، وباقي
الآية بين قد مضت نظائره، هذا هو تفسير الجمهور لهذه الآية، وأنها غزوة-
أحد- في الخرجة إلى حمراء الأسد وشذ مجاهد رحمه الله فقال:
إن هذه الآية من قوله:
الّذين قال لهم النّاس إلى قوله: فضلٍ عظيمٍ إنما نزلت في خروج النبي عليه
السلام إلى بدر الصغرى، وذلك أنه خرج لميعاد أبي سفيان في- أحد- إذ قال:
موعدنا بدر من العام المقبل، فقال النبي عليه السلام: قولوا نعم: فخرج رسول
الله قبل بدر وكان بها سوق عظيم، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم
أصحابه دراهم وقرب من بدر فجاءه نعيم بن مسعود الأشجعي فأخبره أن قريشا قد
اجتمعت وأقبلت لحربه هي ومن انضاف إليها، فأشفق المسلمون من ذلك لكنهم
قالوا: حسبنا اللّه ونعم الوكيل، وصمموا حتى أتوا بدرا فلم يجدوا عدوا
ووجدوا السوق فاشتروا بدراهمهم أدما وتجارة وانقلبوا ولم يلقوا كيدا وربحوا
في تجارتهم، فذلك قوله تعالى: بنعمةٍ من اللّه وفضلٍ أي فضل في تلك
التجارة، والصواب ما قاله الجمهور: إن هذه الآية نزلت في غزوة حمراء الأسد،
وما قال ابن قتيبة وغيره:
من أن لفظة النّاس على رجل واحد من هذه الآية، فقول ضعيف). [المحرر الوجيز: 2/424]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (قال
تعالى: {فانقلبوا بنعمةٍ من اللّه وفضلٍ لم يمسسهم سوءٌ} أي: لمّا توكّلوا
على اللّه كفاهم ما أهمّهم ورد عنهم بأس من أراد كيدهم، فرجعوا إلى بلدهم
{بنعمةٍ من اللّه وفضلٍ لم يمسسهم سوءٌ} ممّا أضمر لهم عدوّهم {واتّبعوا
رضوان اللّه واللّه ذو فضلٍ عظيمٍ}
قال البيهقيّ: أخبرنا أبو عبد اللّه الحافظ، حدّثنا أبو بكر بن داود
الزّاهد، حدّثنا محمّد بن نعيم، حدّثنا بشر بن الحكم، حدّثنا مبشّر بن عبد
اللّه بن رزين، حدّثنا سفيان بن حسينٍ، عن يعلى بن مسلمٍ، عن عكرمة، عن ابن
عبّاسٍ في قول اللّه تعالى {فانقلبوا بنعمةٍ من اللّه وفضلٍ} قال: النّعمة
أنّهم سلموا، والفضل أنّ عيرًا مرّت، وكان في أيّام الموسم، فاشتراها رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فربح فيها مالًا فقسّمه بين أصحابه). [تفسير القرآن العظيم: 2/171]
تفسير قوله
تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا
تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ: {إنّما ذلكم الشّيطان يخوّف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}أي: ذلك التخويف الذي كان فعل الشيطان ،أي: هو قوله للمخوفين، يخوف أولياءه.
قال أهل العربية، معناه: يخوفكم أولياءه، أي من أوليائه.
والدليل على ذلك قوله جلّ وعزّ: {فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}أي: كنتم مصدقين فقد أعلمتكم أني أنصركم عليهم فقد سقط عنكم الخوف، وقال بعضهم يخوف أولياءه، أي: إنما يخاف المنافقون، ومن لا حقيقة لإيمانه.
{فلا تخافوهم}أي: لا تخافوا المشركين). [معاني القرآن: 1/490]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
تعالى: إنّما ذلكم الشّيطان يخوّف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم
مؤمنين (175) ولا يحزنك الّذين يسارعون في الكفر إنّهم لن يضرّوا اللّه
شيئاً يريد اللّه ألاّ يجعل لهم حظًّا في الآخرة ولهم عذابٌ عظيمٌ (176)
إنّ الّذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضرّوا اللّه شيئاً ولهم عذابٌ أليمٌ
(177)
مقتضى إنّما في اللغة الحصر،
هذا منزع المتكلم بها من العرب، ثم إذا نظر مقتضاها- عقلا- وهذا هو نظر
الأصوليين- فهي تصلح للحصر وللتأكيد الذي يستعار له لفظ الحصر، وهي في هذه
الآية حاصرة، والإشارة ب ذلكم إلى جميع ما جرى من أخبار الركب العبديين، عن
رسالة أبي سفيان ومن تحميل أبي سفيان ذلك الكلام، ومن جزع من ذلك الخبر من
مؤمن أو متردد، وذلكم في الإعراب ابتداء، والشّيطان مبتدأ آخر، ويخوّف
أولياءه خبر عن الشيطان، والجملة خبر الابتداء الأول، وهذا الإعراب خير في
تناسق المعنى من أن يكون الشّيطان خبر ذلكم لأنه يجيء في المعنى استعارة
بعيدة، ويخوّف فعل يتعدى إلى مفعولين، لكن يجوز الاقتصار على أحدهما إذ
الآخر مفهوم من بنية هذا الفعل، لأنك إذا قلت: خوفت زيدا، فمعلوم ضرورة أنك
خوفته شيئا حقه أن يخاف، وقرأ جمهور الناس يخوّف أولياءه فقال قوم المعنى:
يخوفكم أيها المؤمنون أولياءه الذين هم كفار قريش، فحذف المفعول الأول
وقال قوم: المعنى يخوف المنافقين ومن في قلبه مرض وهم أولياؤه، فإذا لا
يعمل فيكم أيها المؤمنون تخويفه، إذ لستم بأوليائه، والمعنى: يخوفهم كفار
قريش، فحذف هنا المفعول الثاني واقتصر على الأول، وقرأ ابن عباس فيما حكى
أبو عمرو الداني «يخوفكم أولياءه» المعنى يخوفكم قريش ومن معهم، وذلك
بإضلال الشيطان لهم وذلك كله مضمحل، وبذلك قرأ النخعي وحكى أبو الفتح بن
جني عن ابن عباس أنه قرأ «يخوفكم أولياءه» فهذه قراءة ظهر فيها المفعولان،
وفسرت قراءة الجماعة «يخوف أولياءه» قراءة أبي بن كعب «يخوفكم بأوليائه»
والضمير في قوله فلا تخافوهم لكفار قريش وغيرهم من أولياء الشيطان، حقر
الله شأنه وقوى نفوس المؤمنين عليهم، وأمرهم بخوفه هو تعالى وامتثال أمره،
من الصبر والجلد، ثم قرر بقوله تعالى إن كنتم مؤمنين كما تقول: إن كنت رجلا
فافعل كذا). [المحرر الوجيز: 2/424-425]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ
قال تعالى: {إنّما ذلكم الشّيطان يخوّف أولياءه} أي: يخوّفكم أولياءه،
ويوهمكم أنّهم ذوو بأسٍ وذوو شدّةٍ، قال اللّه تعالى: {فلا تخافوهم وخافون
إن كنتم مؤمنين} [أي: ف] إذا سوّل لكم وأوهمكم فتوكلوا علي والجؤوا إليّ،
فأنا كافيكم وناصركم عليهم، كما قال تعالى: {أليس اللّه بكافٍ عبده
ويخوّفونك بالّذين من دونه} إلى قوله: {قل حسبي اللّه عليه يتوكّل
المتوكّلون} [الزّمر:36-38] وقال تعالى: {فقاتلوا أولياء الشّيطان إنّ كيد
الشّيطان كان ضعيفًا} [النّساء:76] وقال تعالى: {أولئك حزب الشّيطان ألا
إنّ حزب الشّيطان هم الخاسرون} [المجادلة:19] وقال تعالى: {كتب اللّه
لأغلبنّ أنا ورسلي إنّ اللّه قويٌّ عزيزٌ} [المجادلة:21] وقال [تعالى]
{ولينصرنّ اللّه من ينصره} [الحجّ:40] وقال تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا
إن تنصروا اللّه ينصركم [ويثبّت أقدامكم]} [محمّدٍ:7] وقال تعالى: {إنّا
لننصر رسلنا والّذين آمنوا في الحياة الدّنيا ويوم يقوم الأشهاد. يوم لا
ينفع الظّالمين معذرتهم ولهم اللّعنة ولهم سوء الدّار} [غافر:51، 52] ). [تفسير القرآن العظيم: 2/173]