الدروس
course cover
تفسير سورة آل عمران[من الآية (192) إلى الآية (195) ]
21 Aug 2015
21 Aug 2015

5321

0

0

course cover
تفسير سورة آل عمران

القسم الثاني عشر

تفسير سورة آل عمران[من الآية (192) إلى الآية (195) ]
21 Aug 2015
21 Aug 2015

21 Aug 2015

5321

0

0


0

0

0

0

0

تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)}


تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقولهم: ربّنا إنّك من تدخل النّار فقد أخزيته، استجارة واستعاذة، أي فلا تفعل بنا ذلك ولا تجعلنا ممن يعمل عملها، والخزي: الفضيحة المخجلة الهادمة لقدر المرء، خزي الرجل يخزى خزيا إذا افتضح، وخزاية إذا استحيى، الفعل واحد والمصدر مختلف، وقال أنس بن مالك والحسن بن أبي الحسن وابن جريج وغيرهم: هذه إشارة إلى من يخلد في النار، ومن يخرج منها بالشفاعة والإيمان فليس بمخزي، وقال جابر بن عبد الله وغيره: كل من دخل النار فهو مخزي وإن خرج منها، وإن في دون ذلك لخزيا.
قال القاضي: أما إنه خزي دون خزي وليس خزي من يخرج منها بفضيحة هادمة لقدره، وإنما الخزي التام للكفار وقوله تعالى: وما للظّالمين من أنصارٍ هو من قول الداعين، وبذلك يتسق وصف الآية). [المحرر الوجيز: 2/448-449]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قالوا: {ربّنا إنّك من تدخل النّار فقد أخزيته} أي: أهنته وأظهرت خزيه لأهل الجمع {وما للظّالمين من أنصارٍ} أي: يوم القيامة لا مجير لهم منك، ولا محيد لهم عمّا أردت بهم). [تفسير القرآن العظيم: 2/186]

تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: ربّنا إنّنا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربّكم فآمنّا ربّنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفّر عنّا سيّئاتنا وتوفّنا مع الأبرار (193) ربّنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنّك لا تخلف الميعاد (194)
هذه الآيات حكاية عن أولي الألباب أنهم يقولون: ربّنا قال أبو الدرداء: يرحم الله المؤمنين ما زالوا يقولون: «ربنا ربنا» حتى استجيب لهم، واختلف المتأولون في المنادي، فقال ابن جريج وابن زيد وغيرهما: المنادى محمد صلى الله عليه وسلم، وقال محمد بن كعب القرظي: المنادي كتاب الله وليس كلهم رأى النبي صلى الله عليه وسلم وسمعه، ولما كانت ينادي بمنزلة يدعو، حسن وصولها باللام بمعنى «إلى الإيمان»، وقوله: أن آمنوا «أن» مفسرة لا موضع لها من الإعراب، وغفران الذنوب وتكفير السيئات أمر قريب بعضه من بعض، لكنه كرر للتأكيد ولأنها مناح من الستر، وإزالة حكم الذنب بعد حصوله، والأبرار جمع بر، أصله برر على وزن فعل، أدغمت الراء في الراء، وقيل: هو جمع بار كصاحب وأصحاب، والمعنى: توفنا معهم في كل أحكامهم وأفعالهم). [المحرر الوجيز: 2/449]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ربّنا إنّنا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان} أي: داعيًا يدعو إلى الإيمان، وهو الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم {أن آمنوا بربّكم فآمنّا} أي يقول: {آمنوا بربّكم فآمنّا} أي: فاستجبنا له واتّبعناه {ربّنا فاغفر لنا ذنوبنا} أي: بإيماننا واتّباعنا نبيّك فاغفر لنا ذنوبنا، أي: استرها {وكفّر عنّا سيّئاتنا} أي: فيما بيننا وبينك {وتوفّنا مع الأبرار} أي: ألحقنا بالصّالحين). [تفسير القرآن العظيم: 2/186]

تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): ( {ربّنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنّك لا تخلف الميعاد}
معناه والله أعلم - على ألسن رسلك.
وقوله - عزّ وجلّ: {ولا تخزنا يوم القيامة} أي: قد صدقنا يوم القيامة فلا تخزنا، والمخزي في اللغة: المذلّ المحقور بأمر قد لزمه بحجة، وكذلك أخزيته، أي: ألزمته حجة أذللته معها.
وقوله عزّ وجلّ: {إنّك لا تخلف الميعاد}أي: قد وعدت من آمن بك ووحدك الجنة). [معاني القرآن: 1/499-500]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله: ربّنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك معناه: على ألسنة رسلك، وقرأ الأعمش «رسلك» بسكون السين، وطلبوا من الله تعالى إنجاز الوعد، وهو تعالى من لا يجوز عليه خلفه من حيث في طلبه الرغبة أن يكونوا ممن يستحقه، فالطلبة والتخوف إنما هو في جهتهم لا في جهة الله تعالى لأن هذا الدعاء إنما هو في الدنيا، فمعنى قول المرء: اللهم أنجز لي وعدك، إنما معناه: اجعلني ممن يستحق إنجاز الوعد، وقيل: معنى دعائهم الاستعجال مع ثقتهم بأن الوعد منجز، وقال الطبري وغيره: معنى الآية ما وعدتنا على ألسنة رسلك من النصر على الأعداء فكأن الدعوة إنما هي في حكم الدنيا، وقولهم: ولا تخزنا يوم القيامة إنّك لا تخلف الميعاد، إشارة إلى قوله تعالى: يوم لا يخزي اللّه النّبيّ والّذين آمنوا معه [التحريم: 8] فهذا وعده تعالى وهو دال على أن الخزي إنما هو مع الخلود). [المحرر الوجيز: 2/450]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {ربّنا وآتنا ما وعدتّنا على رسلك} قيل: معناه: على الإيمان برسلك. وقيل: معناه: على ألسنة رسلك. وهذا أظهر.
وقد قال الإمام أحمد: حدّثنا أبو اليمان، حدّثنا إسماعيل بن عيّاشٍ، عن عمرو بن محمّدٍ، عن أبي عقال، عن أنس بن مالكٍ، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "عسقلان أحد العروسين، يبعث اللّه منها يوم القيامة سبعين ألفًا لا حساب عليهم، ويبعث منها خمسين ألفًا شهداء وفودًا إلى اللّه، وبها صفوف الشهداء، رؤوسهم مقّطعة في أيديهم، تثجّ أوداجهم دمًا، يقولون: {ربّنا وآتنا ما وعدتّنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنّك لا تخلف الميعاد} فيقول: صدق عبدي، اغسلوهم بنهر البيضة. فيخرجون منه نقاءً بيضًا، فيسرحون في الجنّة حيث شاؤوا".
وهذا الحديث يعد من غرائب المسند، ومنهم من يجعله موضوعا، والله أعلم.
{ولا تخزنا يوم القيامة} أي: على رؤوس الخلائق {إنّك لا تخلف الميعاد} أي: لا بدّ من الميعاد الّذي أخبرت عنه رسلك، وهو القيام يوم القيامة بين يديك.
وقد قال الحافظ أبو يعلى: حدّثنا الحارث بن سريج حدّثنا المعتمر، حدّثنا الفضل بن عيسى، حدّثنا محمّد بن المنكدر؛ أنّ جابر بن عبد اللّه حدّثه: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "العار والتّخزية تبلغ من ابن آدم في القيامة في المقام بين يدي اللّه، عزّ وجلّ، ما يتمنّى العبد أن يؤمر به إلى النّار" حديثٌ غريبٌ).
[تفسير القرآن العظيم: 2/186-187]

تفسير قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {فاستجاب لهم ربّهم أنّي لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالّذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفّرنّ عنهم سيّئاتهم ولأدخلنّهم جنّات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند اللّه واللّه عنده حسن الثّواب} المعنى: فاستجاب لهم ربهم بأني لا أضيع - عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى.
وإن قرئت(إنّي لا أضيع عمل عامل منكم). جائز بكسر (إنّ) ويكون المعنى قال لهم ربهم: إنّي لا أضيع عمل عامل منكم.
وقوله عزّ وجلّ: {ثوابا} مصدر مؤكد، لأن معنى {ولأدخلنّهم جنّات تجري من تحتها الأنهار} "لأثيبنهم" ومثله {كتاب اللّه عليكم} لأن قوله عزّ وجلّ {حرّمت عليكم أمّهاتكم وبناتكم...} معناه: كتب اللّه عليكم هذا فـ {كتاب اللّه} - مؤكد - وكذلك قوله عزّ وجلّ: {وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السّحاب صنع اللّه الّذي أتقن كلّ شيء} قد علم أن ذلك صنع اللّه). [معاني القرآن: 1/500]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: فاستجاب لهم ربّهم أنّي لا أضيع عمل عاملٍ منكم من ذكرٍ أو أنثى بعضكم من بعضٍ فالّذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفّرنّ عنهم سيّئاتهم ولأدخلنّهم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند اللّه واللّه عنده حسن الثّواب (195)
«استجاب» استفعل بمعنى أجاب، فليس استفعل على بابه من طلب الشيء بل هو كما قال الشاعر: [الطويل]
وداع دعا يا من يجيب إلى النّدى = فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي لم يجبه، وقوله: أنّي يجوز أن تكون «أن» مفسرة ويمكن أن تكون بمعنى «أني»، وقرأ عيسى بن عمر: «إني» بكسر الهمزة، وهذه آية وعد من الله تعالى: أي هذا فعله مع الذين يتصفون بما ذكر، وروي أن أم سلمة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، قد ذكر الله تعالى الرجال في الهجرة ولم يذكر النساء في شيء من ذلك، فنزلت الآية، ونزلت آيات في معناها فيها ذكر النساء، وقوله: من ذكرٍ تبيين لجنس العامل، وقال قوم: من زائدة لتقدم النفي من الكلام وقوله تعالى: بعضكم من بعضٍ يعني في الأجر وتقبل العمل، أي إن الرجال والنساء في ذلك على حد واحد، وبيّن تعالى حال المهاجرين، ثم الآية بعد تنسحب على كل من أوذي في الله تعالى وهاجر أيضا إلى الله تعالى وإن كان اسم الهجرة وفصلها الخاص بها قد انقطع بعد الفتح، فالمعنى باق إلى يوم القيامة، واللّه يضاعف لمن يشاء [البقرة: 261] و «هاجر» مفاعلة من اثنين، وذلك أن الذي يهجر وطنه وقرابته في الله كان الوطن والقرابة يهجرونه أيضا فهي مهاجرة، وقوله تعالى: وأخرجوا من ديارهم عبارة إلزام ذنب للكفار، وذلك أن المهاجرين إنما أخرجهم سوء العشرة وقبيح الأفعال فخرجوا باختيارهم فإذا جاء الكلام في مضمار إلزام الذنب، للكفار قيل أخرجوا من ديارهم، وإخراج أهله منه أكبر عند الله، إلى غير ذلك من الأمثلة، وإذا جاء الكلام في مضمار الفخر والقوة على الأعداء، تمسك بالوجه الآخر من أنهم خرجوا برأيهم، فمن ذلك إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان بن الحارث حين أنشده: [الطويل] (وردني = إلى الله من طردت كل مطرد) فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت طردتني كل مطرد؟ إنكارا عليه ومن ذلك قول كعب بن زهير: [البسيط]
في عصبة من قريش قال قائلهم = ببطن مكّة لمّا أسلموا زولوا
زالوا فما زال أنكاس ولا كشف = عند اللّقاء ولا ميل معازيل
وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو: «وقاتلوا وقتلوا» بتخفيف التاء وضم القاف، ومعنى هذه القراءة بيّن، وقرأ ابن كثير: «وقاتلوا وقتّلوا» بتشديد التاء وهي في المعنى كالأولى في المبالغة في القتل، وقرأ حمزة والكسائي: «وقتلوا وقاتلوا» يبدآن بالفعل المبني للمفعول به، وكذلك اختلافهم في سورة التوبة، غير أن ابن كثير وابن عامر يشددان في التوبة، ومعنى قراءة حمزة هذه: إما أن لا تعطى الواو رتبة لأن المعطوف بالواو يجوز أن يكون أولا في المعنى وليس كذلك العطف بالفاء، ويجوز أن يكون المعنى وقتلوا وقاتل باقيهم فتشبه الآية قوله تعالى: فما وهنوا لما أصابهم [آل عمران: 146] على تأويل من رأى أن القتل وقع بالربيين، وقرأ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: و «قتلوا» بفتح القاف والتاء من غير ألف، و «قتلوا» بضم القاف وكسر التاء خفيفة، وهي قراءة حسنة المعنى مستوفية للفضلين على الترتيب المتعارف، وقرأ محارب بن دثار: «وقتلوا» بفتح القاف «وقاتلوا»، وقرأ طلحة بن مصرف: «وقتّلوا» بضم القاف وشد التاء «وقاتلوا» وهذه يدخلها إما رفض رتبة الواو، وإما أنه قاتل من بقي، واللام في قوله: لأكفّرنّ لام القسم وثواباً مصدر مؤكد مثل قوله: صنع اللّه [النمل: 88] وكتاب اللّه عليكم [النساء: 24] وباقي الآية بين). [المحرر الوجيز: 2/450-453]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({فاستجاب لهم ربّهم أنّي لا أضيع عمل عاملٍ منكم من ذكرٍ أو أنثى بعضكم من بعضٍ فالّذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفّرنّ عنهم سيّئاتهم ولأدخلنّهم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار ثوابًا من عند اللّه واللّه عنده حسن الثّواب (195)}
يقول تعالى: {فاستجاب لهم ربّهم} أي: فأجابهم ربّهم، كما قال الشّاعر: وداعٍ دعا:
يا من يجيب إلى النّدى = فلم يستجبه عند ذاك مجيب
قال سعيد بن منصورٍ: حدّثنا سفيان، عن عمرو بن دينارٍ، عن سلمة، رجلٌ من آل أمّ سلمة، قال: قالت أمّ سلمة: يا رسول اللّه، لا نسمع الله ذكر النّساء في الهجرة بشيءٍ؟ فأنزل اللّه [عزّ وجلّ] {فاستجاب لهم ربّهم أنّي لا أضيع عمل عاملٍ منكم من ذكرٍ أو أنثى} إلى آخر الآية. وقالت الأنصار: هي أوّل ظعينةٍ قدمت علينا.
وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عيينة، ثمّ قال: صحيحٌ على شرط البخاريّ، ولم يخرّجاه.
وقد روى ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ، عن أمّ سلمة قالت: آخر آيةٍ أنزلت هذه الآية: {فاستجاب لهم ربّهم أنّي لا أضيع عمل عاملٍ منكم من ذكرٍ أو أنثى بعضكم من بعضٍ} إلى آخرها. رواه ابن مردويه.
ومعنى الآية: أنّ المؤمنين ذوي الألباب لمّا سألوا -ممّا تقدّم ذكره-فاستجاب لهم ربّهم -عقّب ذلك بفاء التّعقيب، كما قال تعالى: {وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريبٌ أجيب دعوة الدّاع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون} [البقرة:186].
وقوله: {أنّي لا أضيع عمل عاملٍ منكم من ذكرٍ أو أنثى} هذا تفسيرٌ للإجابة، أي قال لهم مجيبًا لهم: أنّه لا يضيع عمل عاملٍ لديه، بل يوفّي كلّ عاملٍ بقسط عمله، من ذكرٍ أو أنثى.
وقوله: {بعضكم من بعضٍ} أي: جميعكم في ثوابي سواء {فالّذين هاجروا} أي: تركوا دار الشّرك وأتوا إلى دار الإيمان وفارقوا الأحباب والخلّان والإخوان والجيران، {وأخرجوا من ديارهم} أي: ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجؤوهم إلى الخروج من بين أظهرهم؛ ولهذا قال: {وأوذوا في سبيلي} أي: إنّما كان ذنبهم إلى النّاس أنّهم آمنوا باللّه وحده، كما قال تعالى: {يخرجون الرّسول وإيّاكم أن تؤمنوا باللّه ربّكم} [الممتحنة:1]. وقال تعالى: {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا باللّه العزيز الحميد} [البروج:8].
وقوله: {وقاتلوا وقتلوا} وهذا أعلى المقامات أن يقاتل في سبيل اللّه، فيعقر جواده، ويعفّر وجهه بدمه وترابه، وقد ثبت في الصّحيح أنّ رجلًا قال: يا رسول اللّه، أرأيت إن قتلت في سبيل اللّه صابرًا محتسبا مقبلا غير مدبر، أيكفّر اللّه عنّي خطاياي؟ قال: "نعم" ثمّ قال: "كيف قلت؟ ": فأعاد عليه ما قال، فقال: "نعم، إلّا الدّين، قاله لي جبريل آنفًا".
ولهذا قال تعالى: {لأكفّرنّ عنهم سيّئاتهم ولأدخلنّهم جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار} أي: تجري في خلالها الأنهار من أنواع المشارب، من لبنٍ وعسلٍ وخمرٍ وماءٍ غير آسنٍ وغير ذلك، ممّا لا عين رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
وقوله: {ثوابًا من عند اللّه} أضافه إليه ونسبه إليه ليدل على أنّه عظيمٌ؛ لأنّ العظيم الكريم لا يعطي إلّا جزيلا كثيرًا، كما قال الشّاعر:
إن يعذب يكن غرامًا وإن يع = ط جزيلا فإنّه لا يبالي
وقوله: {واللّه عنده حسن الثّواب} أي: عنده حسن الجزاء لمن عمل صالحًا.
قال ابن أبي حاتمٍ: ذكر عن دحيم بن إبراهيم: حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، أخبرني حريز بن عثمان: أنّ شدّاد بن أوسٍ كان يقول: يا أيّها النّاس، لا تتهموا اللّه في قضائه، فإنّه لا يبغي على مؤمنٍ، فإذا نزل بأحدكم شيءٌ مما يحب فليحمد الله، وإذا أنزل به شيءٌ ممّا يكره فليصبر وليحتسب، فإنّ الله عنده حسن الثواب).
[تفسير القرآن العظيم: 2/190-191]


* للاستزادة ينظر: هنا