الدروس
course cover
الدرس التاسع: تحرير مسائل التفسير
6 Nov 2017
6 Nov 2017

6793

0

0

course cover
المهارات المتقدمة في التفسير

القسم السابع

الدرس التاسع: تحرير مسائل التفسير
6 Nov 2017
6 Nov 2017

6 Nov 2017

6793

0

0


0

0

0

0

0

الدرس التاسع: تحرير مسائل التفسير

عناصر الدرس:
1. تمهيد
2. بيان أنواع مسائل التفسير
3. مراحل تحرير مسائل التفسير
4. عناصر تحرير المسائل
5. بيان الاشتراك في المراد بالقول
6. تنبيهات مهمة
7. الأمثلة
8. التطبيقات



تمهيد
تحرير مسائل التفسير هو لبّ عمل المفسّر، مَن رُزق فيه معرفة حسنة ومهارة عالية على هدى وسداد رُجي أن يكون له شأن في هذا العلم، وأن يكون من حَملة لوائه، وأئمته الذين يُنتفع بعلمهم، ويُرجع إليهم في بيان معاني كلام الله جلّ وعلا وهداياته.
وهذه المهارة هي زبدة المهارات وخلاصتها، وما سبق من المهارات والمعارف إنما هو إعداد لها، ولذلك فإنّ إتقان ما سبق من المهارات له أثر كبير في تيسير إتقان مهارة التحرير العلمي لمسائل التفسير.

بيان أنواع مسائل التفسير:
مسائل التفسير منها مسائل ظاهرة تُحكى فيها أقوال يتداولها المفسرون وتشتهر في كتب التفسير.
ومنها مسائل خفية تُستخرج استخراجاً، ولا يكاد يجد لها الباحث ذكراً في كثير من التفاسير، ومن هذا النوع كثير من مسائل التفسير البياني، والمسائل التي نشأت بعد إشكالات متأخرة.
وبعض هذه المسائل غير المشتهرة قد لا يجد الباحث فيها أقوالاً منصوصة عن المفسرين المتقدمين، وإنما يستخرج الأقوال منها بتأمل أقوال المفسّرين في تلك الآية ولوازمها، وتأمّل سياق الآيات، والنظر في نظائر تلك المسألة وأشباهها، وما يتصل بها من أصول التفسير وقواعده، مع الرجوع إلى المراجع التي يُعنى فيها بذلك النوع من المسائل.

وتقسّم المسائل في التفسير باعتبار آخر إلى مسائل إجماع ومسائل خلاف.
1. فأمّا مسائل الإجماع، فتكون الأقوال فيها متوافقة على الدلالة على معنى أو حكم واحد؛ يُجمع عليه المفسّرون الذين تنقل أقوالهم في التفسير من أصحاب القرون المفضلة؛ فيكون إجماعهم حجة قاطعة للنزاع.
وتحرير المراد بالإجماع في التفسير، ومظان معرفته، وطرق حكايته، وما يقدح في ثبوته وما لا يقدح، يُحتاج فيه إلى دورة خاصة، وأسأل الله تعالى أن ييسرها.
وغالب مسائل الإجماع يجد الباحث من ينصّ فيها على حكاية الإجماع من الأئمة المفسّرين الذين لهم عناية بنقل أقوال السلف في التفسير وتحرير محلّ النزاع في المسائل الخلافية؛ فينقل الباحث ما يجده من حكاية للإجماع، مع التنبه إلى اختلاف مناهج أهل العلم في حكاية الإجماع فمنهم من لا يعدّ مخالفة الواحد نافية للإجماع، ومنهم من لا يبلغه الخلاف فيحكي الإجماع، ولذلك ينبغي التنبّه إلى أنه ليس كل ما يدّعى فيه الإجماع تصحّ فيه هذه الدعوى.
وإذ توافق جماعة من العلماء المحققين على حكاية الإجماع كان ذلك أقوى في حكايته.
ولا ينبغي للباحث المبتدئ أن يتسرّع في حكاية الإجماع إذا لم يجد نصّا عليه ممن تقدّم من أهل العلم، وكم ممن تسرّع في حكاية الإجماع فكان في المسألة خلاف معروف لم يطّلع عليه.

2. وأمّا مسائل الخلاف في التفسير فهي على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: مسائل الخلاف القوي
وتطلق على نوعين من المسائل:
أحدهما: المسائل التي يكون فيها تنازع بالحجج والردود مع وجاهة الأقوال المحكية فيها وإن كانت قليلة.
والآخر: المسائل التي تكثر فيها الأقوال، ويكون في تحريرها شيء من الصعوبة والخفاء وإن لم يكن فيها نزاع قوي بين المفسرين.

ومسائل هذه الدرجة إذا وازنتها بعامّة مسائل التفسير لم تجدها كثيرة، وقد يشتهر في تفسير السورة الطويلة مسائل معدودة، لكنّها تتطلّب تحريراً حسناً، ومهارة عالية في دراسة مسائل التفسير، وإذا أتقنها طالب العلم كان ما سواها أيسر عليه بإذن الله.
والغالب على مسائل هذه الدرجة وفرة مراجع بحثها، لكثرة كلام أهل العلم فيها، بل ربّما كان في بعضها مؤلفات مفردة.

الدرجة الثانية: مسائل الخلاف المتوسّط.
وهي المسائل التي يكون الخلاف فيها على أقوال قليلة، والتنازع فيها بالحجج قليل كذلك، وتحريرها غير متعسّر، لتيسّر إعمال أصول التفسير المتعلقة بها، وسهولة إجراءات دراستها.
وغالب مسائل هذه الدرجة مما يكون الخلاف فيه خلاف تنوّع.

والدرجة الثالثة: مسائل الخلاف الضعيف.
وهي المسائل التي يكون فيها القول الصحيح ظاهراً بيّنا، والقول الضعيف بيّن الضعف لغرابته ونكارته، أو لكونه مما يسهل بيان ضعفه، أو لظهور ردّ المفسّرين عليه، أو لشذوذه، أو لمخالفته أصلاً صحيحاً متفقاً عليه.

والأقوال الضعيفة في التفسير على أنواع:
- فمنها الأقوال المهجورة، التي كان يقول بها بعض المتقدمين لسبب من الأسباب ثمّ تبين الصواب في خلافه فهُجر القول به.
- ومنها الأقوال التي لا أصل لها، وهي التي لا دليل عليها، ولم يقل بها أحد من السلف.
- ومنها الأقوال المبتدعة التي يتضمّن القول بها ابتداعاً في الدين.
- ومنها الأقوال المنكرة التي تتضمّن معنى فاسداً أو تؤدّي إلى معارضة النصوص الصحيحة، أو تعود على أصل من أصول الشريعة بالبطلان.
- ومنها الأقوال المعلّة، وهي الأقوال التي بُنيت على خطأ خفيّ في الدليل أو الاستدلال؛ ثمّ يتبيّن ذلك الخطأ.

وقد تنوّعت عبارات النقّاد من المفسّرين في وصف الأقوال الضعيفة، ومن عباراتهم ما يشعر بشدّة الضعف والاستهجان كقول بعض المفسّرين في وصف بعض الأقوال: (باطل، مرذول، بارد، بارد جدا، لا أصل له، فاسد، سمج، تمحّل، تكلّف بعيد، غلط، مردود، منكر، شنيع).
وعامّة هذه الألفاظ التي فيها استهجان وتقبيح إنما هي في وصف أقوال لأهل بدع وتكلّف، ولا تكاد تُطلق على قول يصحّ عن أحد من أئمة السلف الصالح.
وبعض عبارات النقّاد تُشعر بالضعف كقولهم: غيره المعتمد، غيره أولى، لا أتجاسر عليه، فيه ضعف.
وهذه العبارات وغيرها مبثوثة في كتب التفسير

مراحل تحرير مسائل التفسير:
تحرير مسائل التفسير له قائم على إحسان جملة من الأمور المؤثرة على بحث المسألة التفسيرية، وسأقسّم العمل في تحرير مسائل التفسير إلى مراحل من أتقنها أرجو أن يبلغ مرتبة عالية في علم التفسير بإذن الله تعالى، وأن يسلك سبيل المحققين من أئمة المفسّرين.
ومن صعب عليه بعض هذه المراحل؛ فليحاول تعرّف أسباب الصعوبة، وليجتهدْ في اجتياز ما يجده من الصعوبة، فإن أعياه الأمر فليحرص على تحسين أدائه فيها بما يتيسّر له، وأرجو أن يعاون بالمداومة على البحث والسؤال والتحرير.
وهذه المراحل تشترك فيها عامّة مسائل التفسير التي تنقل فيها أقوال للمفسّرين، وقد يكون لبعض المسائل ما تختصّ به من إجراءات إضافية، وبعض المسائل تختصر فيها بعض الإجراءات لقلة الأقوال أو قلة الحديث في الحجج والمناقشات.
وبعض هذه المراحل يسار فيها بالتوالي فلا ينتقل إلى مرحلة حتى يتمّ ما قبلها، ومنها مراحل يمكن أداؤها بالتوازي، لكن بشرط أن لا يؤثّر الإخلال بالترتيب على جودة بحث المسألة.
وسأذكر هذه المراحل على الترتيب المفضّل الذي أرجو أن يكون أيسر للباحث وأجود لبحثه مع الإشارة إلى ما يمكن أداءه بالتوازي.
وإذا سار الباحث على هذه المراحل بالترتيب على عدد من الأمثلة أمكنه بعد ذلك التمييز بين ما يمكن أداؤه بالتوالي وما يمكن أداؤه بالتوازي.
وسنبدأ في بيان هذه المراحل على افتراض أنّ الباحث قد جمع عدّته اللازمة لدراسة هذه المسألة، من جمع كلام أهل العلم في تلك المسألة وتصنيفه وترتيبه.

المرحلة الأولى: تصور نوع الخلاف في المسألة
المرحلة الثانية: استخلاص الأقوال في المسألة
المرحلة الثالثة: تخريج أقوال المفسّرين
المرحلة الرابعة: جمع التعليقات على الأقوال
المرحلة الخامسة: جمع الحجج والاعتراضات
المرحلة السادسة: توجيه أقوال المفسرين
المرحلة السابعة: الدراسة والنقد والترجيح

المرحلة الأولى: تصور نوع الخلاف في المسألة

وهذا التصوّر الذهني الأوّلي يفيد الباحث في تقدير عدد الأقوال المحكية في المسألة، ومدى شهرة الخلاف فيها، ونوع الخلاف في هذه المسألة، وربّما عرّفه بسببه وبعض تفصيلاته.
وهو تصوّر أوّلي لا يُعتمد عليه لكنّه يقرّب للذهن تصوّر ما يتطلّبه بحث هذه المسألة.
ولذلك أفضّل للباحث في مسائل التفسير أن يبدأ بالاطلاع على التفاسير التي تلخّص أقوال المفسرين كالنكت والعيون للماوردي وزاد المسير لابن الجوزي؛ فإن لم يكن في المسألة ذكر فيهما فيمكنه الرجوع إلى الهداية لمكي بن أبي طالب وإلى تفسير ابن عطية، أو إلى غيرهما من التفاسير التي تعنى بجمع أقوال السلف.
وأنبّه إلى أنّ هذا الاطلاع لا يقتضي الاعتماد على طريقة أولئك المفسّرين في تقسيم الأقوال ولا اعتماد نسبة الأقوال.
وهذه المرحلة لا تتطلّب أن يدوّن شيئاً، وإنما هو اطّلاع يستفيد به تقريب تصوّر الخلاف في المسألة في ذهنه.

المرحلة الثانية: استخلاص الأقوال في المسألة وتصنيفها:
بعد تصوّر الخلاف في المسألة، نشرع في استخلاص الأقوال من المصادر الأصلية والبديلة، وبعض المصادر الناقلة عند الحاجة.
والأقوال التي تتحصّل للباحث من بحثه على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: أقوال متوافقة؛ وهي التي تدلّ على معنى واحد بألفاظ متطابقة أو متوافقة على الدلالة على ذلك المعنى وإن اختلفت الألفاظ.
والنوع الثاني: أقوال متقاربة، وهي التي تدلّ على معان متقاربة غير متطابقة لكنّ بعضها قريب من بعض.
والنوع الثالث: أقوال متباينة؛ وهي التي تختلف في ألفاظها وفي معانيها، وهذه الأقوال المتباينة قد تكون متعارضة، وقد يمكن الجمع بينها، وإرجاعها إلى أصل تجتمع فيه هذه الأقوال.
- فالأقوال المتّفقة تجمع في صنف واحد، ويعبّر عنها الباحث بأبين العبارات وأجمعها ثمّ يذكر من توافقوا على هذا القول من المفسّرين، ويفضّل أن يرتّبهم ترتيبا تاريخياً.
- والأقوال المتقاربة إن كانت قليلة فيمكن تفصيلها، وإن كانت كثيرة فيفضّل إرجاعها إلى أقوال كلية معدودة باستخراج المعنى الجامع لها، ثمّ يعبّر عن هذا القول بالعبارة الجامعة، لكن في أوّل الأمر يحتاج الباحث إلى التفصيل في ذكر هذه الأقوال في مسودة بحثه.
- والأقوال المتباينة ، يُجعل كلّ قول منها في صنف.
وعند حكاية الأقوال عن المفسّرين ينبغي أن يجتنب الباحث نسبة الأقوال المروية بإسناد ظاهر الضعف بصيغة تدلّ على الجزم بصحّة النسبة.
فلا ينبغي أن يقول: وهو قول فلان ؛ إذا كان ذلك القول مروياً بإسناد منقطع أو فيه رجل مجهول أو ضعيف معروف بضعفه لدى الباحث؛ أو إسناد يعرف الباحث أنه من الأسانيد الضعيفة المشهورة أو له علّة تمنع الجزم بصحّة نسبة القول.
وإنما يقول: مرويّ عن فلان، أو رُوي عن فلان، ونحو ذلك من صيغ التمريض التي تفيد عدم الجزم بنسبة ذلك القول.
وإذا ذكر الباحث قولاً صحيح النسبة إلى جماعة من المفسّرين؛ فمن إحسان التحرير أن يرتّبهم تاريخياً، وقد يُتغاضى عن الخطأ في ترتيب المتقاربين ما لا يتغاضى عنه في ترتيب المتباعدين؛ فإذا رأيت الباحث يقول: وهذا القول قال به ابن كثير وابن جرير؛ فهو إما جاهل بتاريخ الوفيات، وإما غير مدرك لفائدة ترتيب الأقوال.

المرحلة الثالثة: تخريج أقوال المفسّرين:
وهذه المرحلة يمكن أداؤها مع ما قبلها، بحيث يضع مع كلّ قول تخريجه، وذلك لأنّه إذا قرأ كلام أهل العلم مرتباً، أمكنه في كلّ نقل أن يجمع بين استخلاص القول وتخريجه من ذلك المصدر، ويمكن أن يجعل تخريج الأقوال بعد الفراغ من استخلاصها من النقول التي جمعها.
وينبغي أن يكون الباحث دقيقاً في تخريجه للأقوال ما أمكنه ذلك، ودقيقا في عباراته التي يستعملها في التخريج.
فإذا قال: "رواه" فهذا يعني أنّ ذلك المفسّر قد روى القول بإسناده.
وإذا كان المصدر بديلاً؛ فيقول: رواه فلان (المصدر الأصلي المفقود) كما في الكتب الفلاني ( المصدر البديل)
وإذا كان المصدر ناقلاً، ودعت الحاجة إلى الإشارة لذكره لذلك القول، فيقال: وذكره فلان أو نحو ذلك من العبارات التي تفيد عدم روايته بالإسناد.
ولا يصحّ الاعتماد في التخريج على المصادر الناقلة، ولا يشار إليها إلا بعد التخريج من المصادر الأصلية والبديلة، ولفائدة تستحقّ الذكر؛ كأن يكون المصدر الناقل من أئمة المفسّرين، وله عليه تعليق بعبارة حسنة يرى من الفائدة ذكرها، أو كان القول لا أصل له في المصادر الأصلية؛ فيكون ذلك المصدر الناقل بديلاً.
أو كان لذكر ذلك القول في ذلك المصدر الناقل علّة يريد بيانها.
والمقصود من هذه الحالات التي سقتها للتمثيل لا للحصر أن لا يعزى ذكر القول إلى مصدر ناقل إلا لفائدة.
ومقام البحث يختلف عن مقام الإفتاء وإجابة أسئلة السائلين عن مسائل التفسير؛ فمن سُئل عن مسألة فيها أقوال محكية في تفسير من التفاسير؛ فأشار إليها؛ فلا حرج لأنّ مقصوده إرشاد السائل للرجوع إلى ذلك التفسير إن شاء ليطّلع على هذه الأقوال، وليس غرضه تحرير بحث تلك المسألة.
ولذلك لا يصحّ أن يُنتقد ما يوجد في أجوبة بعض الأئمة من العزو لمصادر ناقلة لاختلاف مقام الحديث.
وقد قدّمت الحديث عن تخريج أقوال المفسّرين في الدرس السابق ليشرع الباحث في تحرير مسائل التفسير وهو على معرفة بتخريج الأقوال.

المرحلة الرابعة: جمع التعليقات على الأقوال:
قد يطّلع الباحث على تعليقات لبعض العلماء على بعض الأقوال تفيده في الدراسة، وتثري بحثه، وتعينه على معرفة متعلقات بعض الأقوال؛ ولذلك أرى أن يجمع الباحث تلك التعليقات في مسودة بحثه، ثمّ إذا بلغ مرحلة الدراسة أبقي على ما يرى الحاجة لإبقائه وحذف ما لا حاجة له، ونظر في موضعها الأليق بها.
وهذه التعليقات تكون غالباً في وصف بعض الأقوال بأنها قول الجمهور، أو أنه قول مهجور، أو ذكر فائدة متعلّقة بها، أو غير ذلك.
وهذه المرحلة يمكن أداؤها بالتوازي مع ما قبلها.

المرحلة الخامسة: جمع الحجج والاعتراضات:
قد يقف الباحث على أدلّة يذكرها بعض المفسّرين على بعض الأقوال أو اعتراضات على بعضها ونقد لها، فيشير إلى ذلك في مسودة بحثه، ثمّ ينقل منه عند تبييض البحث ما يحتاج إليه.
وجمع أدلّة الأقوال والاعتراضات عليها من أعظم ما يفيد الباحث في دراسة المسألة.
والحجج والاعتراضات على أقوال المفسرين في مسائل التفسير تتفاوت كثيراً، فقد يجتمع للباحث في بعض المسائل كلام كثير لأهل العلم في ذكر الحجج والاعتراضات.
وقد لا يكاد يظفر في بعض المسائل بكلام لأهل العلم فيما يتعلق بحجج الأقوال والاعتراض عليها.
والمقصود أن يجمع الباحث ما يستطيع من الحجج والاعتراضات على الأقوال؛ قبل الانتقال لمرحلة الدراسة.
.
المرحلة السادسة: توجيه أقوال المفسّرين:
وهي من أهمّ المراحل وأنفعها في تحرير مسائل التفسير وتيسير دراسة الأقوال في المسألة.
والمراد بتوجيه أقوال المفسّرين معرفة مآخذها وحججها وما بُنيت عليه، ووجه دلالة الآية على ذلك القول، وإذا كان القول مرجوحاً أو ضعيفاً فتوجيهه أن يعرف السبب الذي بنى عليه قائله ذلك القول.
والأقوال على مراتب في توجيهها:
- فمنها أقوال ينصّ قائلها على وجه الدلالة.
- ومنها أقوال يكون توجيهها ظاهراً لوضوح دليله وظهور وجه الاستدلال وإن لم ينصّ عليه قائله.
- ومنها أقوال يكون لبعض المفسّرين المتقدّمين كلام في توجيهها.
- ومنها أقوال يجتهد الباحث في معرفة توجيهها، وما بنيت عليه.
وعامّة الكلام في توجيه أقوال المفسّرين يرجع إلى جمع الأدلة واستعمال الأدوات الأصولية واللغوية.
وسأفرد بعون الله تعالى درساً خاصاً لتوجيه أقوال المفسّرين بأمثلته وتطبيقاته.

المرحلة السابعة: الدراسة والنقد والترجيح:

وهذه المرحلة هي لبّ عمل المفسّر في التحرير العلمي لمسائل التفسير، والإحسان في المراحل السابقة له أثر كبير في تقوية دراسته وتيسيرها ومعين على إدراك القول الصحيح في الآية بإذن الله تعالى.
وعماد العمل في هذه المرحلة على الموازنة بين الأقوال وتأمّل حججها وعللها، والنظر في نوع الخلاف، ثم إذا خرج من الأقوال المحكية في المسألة بأقوال صحيحة؛ نظر في محاولة الجمع بينها بعبارة تبيّن المعنى الجامع لهذه الأقوال.
وهذه المرحلة تتطلّب معرفة حسنة بأصول التفسير وقواعده، ومعرفة بالأدلّة وأوجه الاستدلال، وعوارض الأدلّة، وعلل حكاية الأقوال.
ومداومة الباحث على تحرير مسائل التفسير مما يعينه على اكتساب كثير من المعارف والمهارات التي تفيده في إحسان بحوثه وتجويدها.
وليحذر من أنعم الله عليه بمعرفة حسنة بتحرير مسائل التفسير من الغفلة عن هذه النعمة، وترك البحث أو التهاون في إحسانه، ومن فرّط في نعمة خُشي عليه من سلبها أو ذهاب بركتها.

تنبيه:
وقد يحتاج الباحث في بعض المسائل إلى النظر في نظائر المسألة التي يبحثها وأدلتها وأقوال العلماء فيها؛ ولا سيما كلام المحققين من المفسّرين؛ ليستفيد من كلامهم في تحرير مسألته التي يبحث فيها، وربما احتاج إلى بحث مسائل أخرى يعتمد تحرير الجواب في هذه المسألة على معرفة الصواب فيها.
وهذه المعارف والمهارات يعين بعضها على بعض، ويحتاج الطالب إلى مواصلة البحث في مسائل التفسير وعلوم القرآن بأنواعها ليكتسب تلك المعارف والمهارات على مرّ الليالي والأيام ، ومن سار على درب أهل العلم بلغ منازلهم بإذن الله.

عناصر تحرير المسائل:

من الأمور التي ينبغي أن يراعيها الباحث عند تحريره لمسائل التفسير اكتمالُ عناصر تحرير المسألة، وقد نظرت في كثير من مسائل التفسير فوجدت لها سبعة عناصر، وهي:
1. رأس المسألة، وهو ما ينطلق منه لتفريع الأقوال، وغالباً ما يكون هو اسم المسألة أو مورد تقسيم الأقوال فيها.
والتعبير عن رأس المسألة مما يدخله الاجتهاد والذوق، لكن من إحسان التحرير أن يكون التعبير عن رأس المسألة وافياً بالمراد، واضحاً غير خفيّ.
وإغفال ذكر رأس المسألة خطأ ربما وقع فيه بعض المبتدئين من الباحثين، وهو قطع لصلة الأقوال المحكية عن رأسها وأصلها الذي تفرعت منه.
ورأس المسألة في كثير من المسائل ظاهر لا إشكال فيه لنصّ بعض المفسّرين عليه، أو لظهور تفرّع الأقوال منه، وفي بعض المسائل يحتاج المفسّر إلى النظر والتدقيق لاستخراج رأس المسألة لخفائه وغموضه، واضطراب التقابل بين الأقوال في المسألة، فيحتاج المفسّر إلى إعادة استخراج رأس المسألة بالموازنة بين الأقوال ومحاولة معرفة القدر المشترك بينها وما يتميّز به كلّ قول عن الآخر؛ فيظهر بذلك محور يصلح للتقسيم؛ فيعيد حكاية الأقوال وترتيبها بناء على ما استخرجه.
وقد يحتاج المفسّرُ في بعض المسائل الكبار إلى تقسيمها إلى مسائل فرعية لاعتماد الجواب في بعضها على بعض.
وإحسان تعيين رأس المسألة مما يعين على تحرير المسألة وإيضاحها وتقريبها لأفهام المخاطبين، ويعين أيضاً على الكشف عن علل بعض الأقوال الخاطئة في التفسير.


2. ذكر الأقوال في المسألة، وهذه الأقوال ينبغي أن تكون شاملة للأقوال المعتبرة التي لها حظ من النظر، وقد تدعو الحاجة لذكر بعض الأقوال الواهية لشهرتها أو للتنبيه على علّتها أو لفائدة عارضة.
وترك ذكر الأقوال الواهية غير المشتهرة لا يُنتقد به الباحث، وإنما الذي يُنتقد هو ترك ذكر الأقوال التي لها حظ من النظر والأقوال المشتهرة.
ثم ترتيب الأقوال مما يدخله الاجتهاد والذوق، لكن ينبغي أن يكون لترتيبها مناسبة فهو أحسن لعرض المسألة وتقريب فهمها، ولا يشترط أن يسير في جميع بحوثه على ترتيب واحد ، بل ينظر في كل حال ومسألة ما يناسب من الترتيب، ومن أوجه الترتيب المعتبرة:
- أن يرتب الأقوال تاريخيا بحسب نشأتها.
- أن يكون للترتيب مناسبة موضوعية.
- أن يبدأ بأصحّ الأقوال ثمّ ما دونه.
- أن يبدأ بأضعف الأقوال يختم بالقول الصحيح.
- أن يبدأ بأقلّ الأقوال دلالة معنوية ثم ينتقل إلى ما هو أوسع منه ، وهكذا.
والترتيب النهائي للأقوال إنما يكون عند تبييض البحث وبعد الفراغ من مرحلة الدراسة.

3. تخريج أقوال المفسرين في المسألة، وهو أمر مهمّ ينبغي للمفسّر في مقام البحث العلمي أن يعتني به، وأن لا يذكر قولاً منسوباً لأحد المفسّرين من غير تحقق من أصل تلك النسبة ومصدرها.
وقد يُتسامح في عدم التصريح بذكر مصدر النسبة إذا كان في مقام تعليم لمبتدئين أو وعظ للعامة أو عرض للمسألة استطراداً، فإنّه لا يلزم أن ينصّ على مصدر نسبة كلّ قول، لكن ذلك لا يخوّله أن لا يتحقق من صحّة أصل النسبة.
ومن عُرف منه العناية بالتحقق من صحة النسبة كانت حكايته للأقوال معتبرة عند أهل العلم، بخلاف من يذكر الأقوال من غير تحقق ولا تمييز ؛ فإنّه لا يُعتمد على بحثه في نسبة الأقوال.
4. التعليقات على الأقوال إن وجدت.
5. الحجج والاعتراضات، والباحث مخيّر بين سرد الأقوال أولاً ثم ذكر ما يتعلق بها من حجج واعتراضات وبين أن يجعل ما يتعلق بكلّ قول معه.
6. توجيه الأقوال، والقول فيه كسابقه، قد يجعل توجيه كلّ قول معه، وقد تذكر الأقوال أولاً ثم يذكر توجيهها.
7. الدراسة، وهذا العنصر ينبغي أن يشتمل على غاية ما يصل إليه الباحث من التحرير والنظر والجمع والترجيح والنقد والإعلال.
وهذه الدراسة غالباً ما تكون في ختام بحث المسألة، وقد تدعو الحاجة في بعض المسائل إلى تقديم خلاصة لهذه الدراسة قبل الشروع في تفصيل عرض المسألة.
وينبغي أن يفرّق في الترتيب بين ما يكون في مسودة البحث ، وما يكون عند تبييضه؛ فالترتيب في مسودة البحث ينبغي أن يكون ترتيبه على التسلسل الأنسب للوصول إلى نتائج البحث.
وأما في مقام عرض هذا البحث لفئة يخاطبها الباحث ببحثه؛ فإنه ينظر أفضل ما يمكن من الترتيب لإحسان عرض هذه المسألة عليهم عرضاً يكون قريباً من أفهامهم؛ فمقام البحث يختلف عن مقام التعليم والتأليف.

وهذه العناصر لا يلزم ذكرها في عناوين بحث المسألة، وإنما المقصود أن ينظر الباحث بعد تحرير المسألة في استيفائه لهذه العناصر ، فإن وجد نقصاَ أتمّه، وإن وجد خللا أصلحه.
وهي عناصر عامة في كثير من مسائل التفسير، وقد يكون لبعض المسائل ما تختص به من زيادة أو حذف.
وإذا بلغ الباحث مرتبة الإجادة في هذه المراحل كان من أهل التحرير العلمي لمسائل التفسير بإذن الله تعالى.

بيان الاشتراك في المراد بالقول:
مما ينبغي أن يُتنبّه له الاشتراك في المراد بالقول عند دراسة أقوال المفسرين؛ فهو يُطلق على معنيين:
المعنى الأول: عبارة المفسّر التي قالها نصاً
والمعنى الثاني: مدلول تلك العبارة.
وقد يجتمع المعنيان إذا تطابقا بأن تكون عبارة المفسر مطابقة لمدلولها الذي يصحّ أن توصف به.

مثال ذلك:
قال ابن كثير: (وقوله: {والليل إذا عسعس} فيه قولان:
أحدهما: إقباله بظلامه.
قال مجاهد: أظلم. وقال سعيد بن جبير: إذا نشأ. وقال الحسن البصري: إذا غشى الناس. وكذا قال عطية العوفي.
وقال علي بن أبي طلحة، والعوفي عن ابن عباس: {إذا عسعس} إذا أدبر.
وكذا قال مجاهد، وقتادة، والضحاك، وكذا قال زيد بن أسلم، وابنه عبد الرحمن: {إذا عسعس} أي: إذا ذهب فتولى)ا.هـ.


- فقول ابن كثير: "إقباله بظلامه" هذا يُسمّى قولاً ، وهو مدلول كلام القائلين بمعنى هذا القول من المفسّرين.
- وقول سعيد بن جبير: إذا نشأ ، يصحّ أن يُطلق عليه قول أيضاً، لأنّه نصّ قوله.
ولذلك قد يرد لفظ "القول" في كلام المفسرين مراداً به المعنى الأول، وقد يرد مراداً به المعنى الثاني.

تنبيهات مهمة:
1. التحرير العلمي على درجات ؛ ويتفاوت فيه العلماء فضلاً عن طلاب العلم، فإذا وجد الباحث في بحثه شيئا من ضعف التحرير في أوّل الأمر فلا يصدّنّه هذا الضعف عن مواصلة التمرن على تحرير المسائل؛ فإنّ المهارة إنما تنال بكثرة المران والتدرب.
2. يجب على الباحث أن يتجنّب الأخطاء القادحة في التحرير العلمي كأن يعدّ النقلين المتوافقين قولين في المسألة.
3. من الخطأ البيّن أن يرجع الباحث في مسألة اعتقادية في التفسير إلى تفاسير غير أهل السنة؛ كأن يرجع في مسائل الإيمان إلى تفاسير الأشاعرة وهم مرجئة في هذا الباب، أو يرجع في مسائل آيات الصفات إلى تفاسير المؤولة أو المفوّضة.
4. ومن الخطأ البيّن أيضاً الخلط بين أقوال العلماء في التفسير وأقوالهم في أسباب النزول؛ فيعرض الأقوال الواردة في سبب النزول مع الأقوال الواردة في المسألة التفسيرية التي يبحثها، والواجب أن يعامل الأقوال في سبب النزول معاملة مستقلة، ويحرر القول في سبب النزول، ثمّ يحرر القول في المسألة التفسيرية التي يبحث فيها، وقد يستفاد مما صحّ في أسباب النزول في الترجيح بين الأقوال المتباينة أو الجمع بين الأقوال المتقاربة؛ لكن لا يصلح أن يجعل المسألتين مسألة واحدة؛ إلا في حال التطابق بينهما؛ كأن يكون الكلام في تلك المسألة التفسيرية لا يخرج عن الكلام في سبب النزول؛ كمسألة المراد بصاحب النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}.
5. إذا كان الباحث ذا عناية بالأسانيد فلا بأس أن يذكر الأحاديث والآثار من مخارجها، وأمّا إذا لم يكن لديه معرفة حديثية ؛ فينبغي أن يحذف الأسانيد مع بقاء العزو، وأن يذكر ما ظفر به من أقوال العلماء في الحكم على هذا الأثر تصحيحاً أو تضعيفاً أو تنبيها على علة أو شرح لغريب أو غير ذلك مما تتمّ به الفائدة.
6. من المهم للباحث أن يحسن توظيف النقول التي يظفر بها في المسألة؛ وأن يسلك سبيلاً متوسّطاً بين إغفال النقول جملة، وبين إثقال البحث بذكرها كلها، فيذكر من النقول ما تكون عبارته حسنة محررة، وما كان لبعض المحققين من أهل العلم الذي يتأيّد ترجيحه بكلامهم وترجيحهم؛ فيزدان البحث بذلك ولا يثقل على القارئ.
7. ينبغي للباحث أن لا يخلي بحثه من الفوائد واللطائف والملح فيذكر منها ما يطرّز به بحثه ويثريه؛ وكان من عادة العلماء أن يذكروا في رسائلهم وبحوثهم من الفوائد واللطائف والنقول المفيدة والمؤثرة وربما بعض القصص والأشعار التي لها مناسبة ما بالبحث أو ببعض مسائله ما يجعل النفوس تستروح لقراءتها من غير إكثار؛ فالإكثار منها يشغل عن إدراك مقاصد البحث، وإخلاء البحث منها غير سديد.
8. ينبغي أن تظهر شخصية الباحث ولغته العلمية في كتابته وتحريره، وأن لا يكون عمله مقتصراً على مجرّد الجمع والتلخيص؛ بل ينبغي أن يحسن التعبير عن الأقوال، ويبيّنها بما يوضّح المراد بها، ويزيل الإشكالات.
9. من أحسن ما يعين الباحث على إجادة التحرير العلمي مداومة الاطلاع على الرسائل التفسيرية المحررة، ومحاولة محاكاتها، وأن يعرض ما يكتبه من الرسائل على عالم بالتفسير ليقوّم له بحثه وينبهه على ما أخطأ فيه، ويرشده إلى ما يحسن الأخذ به.
10. ينبغي للباحث أن يكون حسن الملاحظة؛ فيعرف ما لبعض العلماء والباحثين من عناية حسنة ببعض أنواع المسائل؛ فيحرص على الرجوع إلى أقوالهم وكتبهم عند الحاجة إلى بحث ذلك النوع من أنواع المسائل.
11. إذا اكتشف الباحث علّة الخطأ في مسألة ما فليعتنِ بشأن تلك العلة وطرق اكتشافها؛ لأن تلك العلة قد تتكرر أمثلتها كثيراً؛ فيسهل عليه أن يعرفها بعد ذلك.


الأمثلة:
- المثال الأول: تحرير المراد بالبطشة الكبرى في قول الله تعالى: {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون}
- المثال الثاني: تحرير معنى الصاخّة في قوله تعالى: {فإذا جاءت الصاخّة}


التطبيقات
- راجع تطبيقَي الدرس السادس والسابع، وحرّر القول في المسألتين.



عبد العزيز بن داخل المطيري

#2

8 Nov 2017

المثال الثاني:تحرير معنى الصاخة في قول الله تعالى: {فإذا جاءت الصاخة}



اختلف العلماء في معنى الصّاخّة ووجه تسميتها بهذا الاسم على أقوال:

القول الأول: سمّيت بذلك لأنها تَصُخّ الأسماع أي تصمّها، وهو قول الخليل بن أحمد، وابن قتيبة، وأبي إسحاق الزجاج، والثعلبي، وابن سيده، والبغوي، وابن عطية، والقرطبي، وابن منظور، والسمين الحلبي.
وذكره ابن جرير الطبري، وأبو منصور الأزهري.
قال الخليل بن أحمد: (الصّاخّةُ: صَيْحةٌ تَصُخُّ الآذان فتُصِمُّها).
وقال أبو إسحاق الزجاج: (تصخّ الأسماع أي تصمّها فلا يسمع إلا ما يدعى فيه لإحيائها).
وهذا القول مبني على أنّ الصاخّة اسم فاعل من صخّ يصُخّ.
وذكر ابن سيده توجيها آخر من باب الاحتمال فقال: (إمَّا أَن يكون اسْم الْفَاعِل من صَخَّ يَصُخُّ، وَإِمَّا أَن يكون الْمصدر).
قوله: (وَإِمَّا أَن يكون المصدر) يريد به أن لفظ الصاخّة وإن شابه في صيغته اسم الفاعل إلا أنّ حقيقته مصدرية كالعافية والخاتمة والكاشفة كما فسّر به قول الله تعالى: {ليس لها من دون الله كاشفة} أي كشف، على أحد الأقوال.
والتوجيه الأوّل أظهر وأقرب.

القول الثاني: لأن الخلق يصيخون لها أي يستمعون، وهو قول الحسن البصري، ويحيى بن سلام البصري، وذكره القرطبي.
- أما قول الحسن البصري فرواه ابن أبي الدنيا في كتاب "الأهوال" من طريق سلمة بن الفضل الأبرش قال: حدثنا إسماعيل بن مسلم، عن الحسن: {فإذا جاءت الصاخة } قال : « الآخرة يصيخ لها كل شيء »، أي : ينصت لها كل شيء »
وإسماعيل بن مسلم هو العبدي ثقة.
وأما قول يحيى بن سلام البصري فأفاده اتفاق مختصرَي تفسيره: تفسير هود بن محكم وتفسير ابن أبي زمنين.
قال ابن جرير: (وأَحْسَبُها مَأْخُوذَةٌ مِنْ قولِهم: صَاخَ فلانٌ لصوتِ فلانٍ، إذا اسْتَمَعَ لهُ، إِلاَّ أَنَّ هذا يُقالُ مِنهُ: هوَ مُصِيخٌ لَهُ، ولعلَّ الصوتَ هوَ الصَّاخُّ، فإنْ يَكُنْ ذلكَ كذلكَ، فيَنْبَغِي أنْ يكونَ قِيلَ ذلكَ لنَفْخَةِ الصُّورِ).
وكون الساعة يصيخ لها الخلق قد دلّت عليه السنّة، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقا من الساعة إلا الجن والإنس ». رواه الإمام مالك وأحمد والنسائي.
ولكن تفسير الصاخّة بهذا القول لا يدلّ عليه التصريف ولا الاشتقاق؛ لأنّ الصخّ غير الإصاخة، فالصاخة مشتقة من صخّ يصخّ، وهو ثلاثي، والإصاخة من أصاخ يصيخ وهو رباعي.
قال القرطبي في شأن هذا القول: (قال بعض العلماء: وهذا يؤخذ على جهة التسليم للقدماء، فأما اللغة فمقتضاها القول الأول).

القول الثالث: الصاخّة اسم من أسماء الداهية، وهو قول أبي حيان الأندلسي.
وقد ذكر جماعة من علماء اللغة أنّ الصاخة اسم من أسماء الداهية في لسان العرب، وممن ذكر ذلك: الخليل بن أحمد، وابن قتيبة، ومكي بن أبي طالب، وابن عطية، وابن الجوزي، وابن منظور.

قال الخليل بن أحمد: (يقال: رماه الله بصاخَّةٍ، أي: بداهيةٍ وأمرٍ عظيم).
وقال ابن عطية: (ويستعمل هذا اللفظ في الداهية التي يصمّ نبأها الآذان لصعوبتها، وهذه استعارةٌ).
ولا ريب أن الساعة داهية بل هي أدهى الدواهي كما قال الله تعالى: {والساعة أدهى وأمر}.

وقال مجد الدين الفيروزآيادي في بصائر ذوي التمييز: (وسمّيت الصَّاخة - والصّاخَّة: الصّوت الشَّديد - لأَنَّ من شدّة صوتها يحيا النَّاس؛ كما ينتبه النَّائم من الصّوت الشديد)ا.هـ.
وهذا القول غريب، ولعلّه أخذه من قول أبي إسحاق الزجاج: (تصخّ الأسماع أي تصمّها فلا يسمع إلا ما يدعى فيه لإحيائها).
ولا يعرف في اللغة أنّ صخّه بمعنى أسمعه وأحياه.
وقال الزمخشري: (يقال : صخّ لحديثه ، مثل : أصاخ له).
وهذا القول لا أعلم له أصلا في كتب علماء اللغة المتقدمين، ولا شاهداً لغويا صحيحاً.
وقال ابن عاشور: (وقد اختلف أهل اللغة في اشتقاقها اختلافا لا جدوى له، وما ذكرناه هو خلاصة قول الخليل والراغب وهو أحسن وأجرى على قياس اسم الفاعل من الثلاثي، فالصاخة صارت في القرآن علما بالغلبة على حادثة يوم القيامة وانتهاء هذا العالم)ا.هـ.
والراجح أنّ الصاخّة اسم من أسماء يوم القيامة سمّيت بذلك لأنها تصخّ الأسماع أي تُصمّها، وهذا القول هو المعتمد، وقد قال به جمهور المفسرين.
والقول الثالث صحيح المعنى وتشمله دلالة الآية، وهو قول ذكره جماعة من العلماء.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#3

8 Nov 2017

المثال الأول: تحرير القول في المراد بالبطشة الكبرى في قوله تعالى: {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون}


اختلف العلماء في المراد بالبطشة الكبرى على قولين:
القول الأول:
هي بطشة اللّه بمشركي قريشٍ يوم بدرٍ، وهو قول ابن مسعود، وأبي العالية، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء الخراساني، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وروي عن أبيّ بن كعب وابن عباس والضحاك وعكرمة.

- قال ابن جرير: (بطش بهم جلّ ثناؤه بطشته الكبرى في الدّنيا فأهلكهم قتلاً بالسيف).
-
قال الثعلبي: (هذا قول أكثر العلماء).
- وقال مكي بن أبي طالب: (وهو يوم بدر عند أكثر المفسرين).
-
وقال البغوي: (وهذا قول ابن مسعود وأكثر العلماء).

التخريج:
- أما قول ابن مسعود فرواه عبد الرزاق في تفسيره وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي، وابن جرير في تفسيره، والطحاوي في شرح مشكل الآثار، كلهم من طريق أبي الضحى مسلم بن صبيح القرشي عن مسروق عن ابن مسعود في قوله تعالى: {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون} قال: (يعني يوم بدر)، وللأثر قصة رويت بألفاظ متقاربة، وله طرق أخرى عند ابن جرير.
- وأما قول سعيد بن جبير فرواه ابن الجعد في مسنده من طريق شريك النخعي عن سالم الأفطس عنه.
- وأما قول مجاهد فرواه ابن جرير من طرق عنه، ورواه عبد الرحمن بن الحسن الهمذاني في تفسير مجاهد.
- وأما قول أبي العالية فرواه ابن أبي شيبة في مصنفه من طريق ابن عون عنه، ورواه ابن جرير في تفسيره من طريق ابن أبي عدي عنه.
- وأما قول عطاء الخراساني فهو في تفسيره الذي رواه رشدين بن سعد عن يونس بن يزيد الأيلي عنه.
- أما القول المروي عن أبيّ بن كعب؛ فرواه ابن جرير في تفسيره من طريق قتادة عن أبي الخليل عن مجاهد عن أبيّ، وهو منقطع، ورواه عبد الرزاق في تفسيره عن قتادة أنه بلغه عن أبيّ.
- وأما القول المروي عن ابن عباس فرواه ابن جرير من طريق محمد بن سعد العوفي عن آبائه عن ابن عباس.
- وأما القول المروي عن الضحاك فرواه ابن جرير بإسناد فيه انقطاع؛ فقال: (حدّثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذٍ، يقول: أخبرنا عبيدٌ قال: سمعت الضّحّاك، يقول في قوله: {يوم نبطش البطشة الكبرى}: يوم بدرٍ).
- وأما القول المروي عن عكرمة فرواه ابن جرير في تفسيره من طريق الأعمش عن إبراهيم النخعي عن رجل لم يسمّه، وأنّه رجع إلى هذا القول.

القول الثاني:
هي بطشة اللّه بأعدائه يوم القيامة، وهو قول ابن عباس، وعكرمة، والحسن البصري.
قال ابن عبّاسٍ: (قال ابن مسعودٍ: "البطشة الكبرى: يوم بدرٍ"، وأنا أقول: هي يوم القيامة). رواه ابن جرير من طريق خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس، وصححه ابن كثير.
قال ابن كثير: (والظاهر أن ذلك يوم القيامة، وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضا)

التخريج:
- أما قول ابن عباس فتقدّم تخريجه.
- وأما قول عكرمة فرواه ابن جرير من طريق الأعمش عن إبراهيم النخعي عنه، وذكر إبراهيم عن رجل عن عكرمة أنه رجع عنه إلى القول الأول.
- وأما قول الحسن البصري فرواه ابن جرير في تفسيره من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عنه، ورواه أبو القاسم البغوي في "نسخة طالوت" بإسناد منقطع، ورواه عبد بن حميد كما في الدر المنثور.

الدراسة:
أما القول الأول فمبناه على أن الخطاب في الآيات لمشركي مكّة، وأنّ المراد بالدخان هو ما رأوه من جهد الجوع، وأنّ الله تعالى كشفه عنهم، ثم عادوا؛ فانتقم الله منهم يوم بدر بالبطشة الكبرى التي أهلكتهم،
وأنّ المراد بالبطشة الأخذة التي يكون بها هلاك المكذبين للرسل، كما قال الله تعالى في إنذار لوط لقومه: {وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38)}.
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)}
وقال تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)}
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته )) قال: ثم قرأ: { وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد }).
وهذا الأخذ الذي يكون به الهلاك هو معنى البطشة، وسميت بالبطشة الكبرى لأنها كُبرى البطشات التي يكون بها هلاكهم في الدنيا فلا نجاة لهم بعدها.
وهذه الآية وإن كان الخطاب فيها لمشركي قريش ، وقد وقع ما توعّدهم الله به من البطشة التي أهلكتهم، فحكمها عامّ في كلّ من فعل مثل فعلهم.

وأما القول الثاني فمبناه على أنّ المراد بالدخان ما يكون من أشراط الساعة، وأنّ وصف "الكبرى" يدلّ على منتهى الغاية، والبطشة يوم القيامة أشدّ وأكبر من بطشة يوم بدر، وهي أولى بوصف "الكبرى" عند الموازنة.
وهي أوفق لعموم ألفاظ القرآن فتشمل النقمة من جميع الكفار، ولا تختص بقتلى المشركين يوم بدر.
ولا ريب أن أكبر البطشات هي بطشة الله عز وجل بأعدائه يوم القيامة، كما دل على ذلك قول الله تعالى: {فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد}.

والراجح أن الآية تشمل القولين جميعاً، وأنّ أولى من يدخل في هذه الآية قتلى يوم بدر من المشركين، وكلّ من فعل مثل فعلهم من الكفر والتولّي عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم الاتعاظ بما يصيبه من العذاب الأدنى في حياته الدنيوية فهو مستحقّ لنقمة الله تعالى منه ببطشةٍ كبرى تهلكه في الدنيا، وبطشةٍ كبرى في الآخرة يكون بها العذاب الأبدي.

وأسماء التفضيل يدخلها الاشتراك بتعدد الاعتبارات:
- فالبطشة الدنيوية التي تهلك صاحبها هي كبرى باعتبار البطشات في الدنيا.
- والبطشة التي يكون بها العذاب الأبدي في نار جهنم هي البطشة الكبرى والعذاب الأشدّ.
والقولان المذكوران في تفسير الآية صحيحان عن السلف، ودلالة الآية تسعهما، والراجح حمل الآية على المعنيين جميعاً.

قال السعدي: (إذا نزَّلت هذه الآيات على هذين المعنيين لم تجد في اللفظ ما يمنع من ذلك، بل تجدها مطابقة لهما أتم المطابقة، وهذا الذي يظهر عندي ويترجح والله أعلم).ا.هـ.
وقال محمد الأمين الشنقيطي: (وقد ثبت في صحيح مسلم أن الدخان من أشراط الساعة، ولا مانع من حمل الآية الكريمة على الدخانين: الدخان الذي مضى، والدخان المستقبل جمعا بين الأدلة.
وقد قدمنا أن التفسيرات المتعددة في الآية إن كان يمكن حمل الآية على جميعها فهو أولى.
وقد قدمنا أن ذلك هو الذي حققه أبو العباس بن تيمية رحمه الله في رسالته في علوم القرآن بأدلته)ا.هـ.
وقد ذكر الماوردي قولاً ثالثاً في هذه المسألة من باب الاحتمال، وهو أن يكون المراد بالبطشة الكبرى قيام الساعة لأنها هي خاتمة بطشاته في الدنيا، وهذا القول لم أجده منصوصاً عن أحد من السلف، وقد نقله القرطبي عن الماوردي، وسمكن أن يستدلّ له بقول الله تعالى: {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر}.
وهذا القول داخل في عموم معنى الآية؛ فالبطشة الكبرى في الدنيا تشمل كلّ ما يكون به هلاك المجرمين، وقيام الساعة هو خاتمة بطشات الدنيا.