الدروس
course cover
الدرس العاشر: توجيه أقوال المفسرين
13 Nov 2017
13 Nov 2017

9158

0

0

course cover
المهارات المتقدمة في التفسير

القسم الثامن

الدرس العاشر: توجيه أقوال المفسرين
13 Nov 2017
13 Nov 2017

13 Nov 2017

9158

0

0


0

0

0

0

0

الدرس العاشر: توجيه أقوال المفسرين


عناصر الدرس:
1. تمهيد
2. المراد بتوجيه الأقوال
3. مراتب توجيه أقوال المفسرين
4. السبيل إلى اكتساب مهارة توجيه أقوال المفسّرين
5. مسالك التفسير عند السلف.
6. الأمثلة
7. التطبيقات

تمهيد:
من المهارات التي تشتدّ حاجة المفسّر إليها مهارة توجيه أقوال المفسّرين؛ فلا تكاد تخلو مسألة من مسائل الخلاف في التفسير من حاجة إلى توجيه بعض الأقوال فيها، ومعرفة مآخذها وعللها.
وإتقان هذه المهارة يعين المفسّر على حسن دراسة مسائل التفسير ونقد أقوال المفسّرين، وإدراك كثيرٍ من حجج المفسرين، وعلل الأقوال التفسيرية، ومعرفة أوجه الجمع والترجيح.
وهذه الملكة الذهنية تفتح له بإذن الله تعالى أبواباً في تدبّر القرآن، واستخراج الفوائد واللطائف والأوجه التفسيرية لقوة الاتصال بين توجيه أقوال المفسرين والأدوات العلمية التي تُستخرج بها الفوائد واللطائف القرآنية.

المراد بتوجيه أقوال المفسرين:
توجيه قول المفسّر هو بيان وجه الحجة فيه باستعمال الأدوات العلمية التي تُظهر ترتّب ذلك القول على الأصل الذي بُني عليه.
وتوجيه الأقوال منه ما هو يقيني يظهر وجه الحجة فيه جلياً، ومنه ما هو ظنّي، وقد يقع من بعض المتكلمين في توجيه أقوال المفسّرين تكلّف وخطأ.
وتوجيه القول لا يقتضي صحّته وإنما هو بيان لوجه حجة قائله، ثم قد يكون احتجاجه صحيحاً، وقد يدخله الخطأ والضعف، وقد يعارضه ما هو أرجح منه وأولى.
وقد يكون لبعض الأقوال أوجه متعددة؛ وهذا أقوى في الاستدلال، وأظهر لحجة قائله.

مراتب توجيه أقوال المفسرين:
توجيه أقوال المفسّرين على مراتب:
المرتبة الأولى: أن يكون توجيه القول منصوصاً عليه أو مقروناً ببيان دليله الذي يدلّ عليه دلالة ظاهرة.
المرتبة الثانية: أن يكون القول مقروناً بدليل يحتاج فيه إلى بيان وجه دلالته عليه.
المرتبة الثالثة: أن يُذكر القول من غير دليل يدلّ عليه فيجتهد المفسّر في استخراج الدليل له وبيان مأخذ ذلك القول وما بُني عليه.
والمرتبة الثالثة تتفاوت فيها الأقوال في ظهور التوجيه وخفائه، فأمّا الظاهر فأمره هيّن، وأما الخفيّ فهو مما يتفاضل فيه المفسّرون.

السبيل إلى اكتساب مهارة توجيه أقوال المفسّرين:
السبيل إلى اكتساب مهارة توجيه أقوال المفسّرين إنما يكون بالجمع بين أمرين:
الأمر الأول: التمرن على الأمثلة التي أجاد جهابذة المفسّرين فيها توجيه الأقوال، ثمّ أداء التطبيقات المتدرّجة في نظائرها، يبدأ بالسهل الممكن ثم ينتقل لما هو أصعب منه قليلاً حتى يتعرف الأدوات العلمية التي يستعملها العلماء في توجيه أقوال المفسرين ويُحسن استعمالها.
وممن عني بتوجيه الأقوال من العلماء: ابن جرير الطبري، ومكي بن أبي طالب، وابن عطية، وابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، وابن الجزري، وابن حجر، وابن عاشور، ومحمد الأمين الشنقيطي.
فقراءة تحريراتهم لمسائل التفسير في تفاسيرهم أو رسائلهم التفسيرية أو في بعض مباحث كتبهم الأخرى والتمرّن على محاكاتها مما يعين على اكتساب هذه المهارة وإتقانها بإذن الله تعالى.
والأمر الثاني: المعرفة الحسنة بجملة من العلوم التي يُعتمد عليها في توجيه أقوال المفسّرين، ومن ذلك:
1. علم القراءات ولا يُقتصر فيها على القراءات المتواترة، بل يحتاج المفسّر إلى الاطلاع على ما حُكي في التفاسير المتقدمة وكتب القراءات من قراءات منسوبة لقرّاء السلف، وربما احتاج إلى الوقوف على بعض ما نُسخت تلاوته أو تركت القراءة به في الجمع العثماني إذا تعلّق به قول من أقوال المفسّرين.
2. علم الإعراب، وبه يُعرف توجيه كثير من الأقوال.
3. معاني الحروف، وهو من أهمّ العلوم التي يحتاجها المفسّر، ويكشف بها عن أوجه كثير من أقوال المفسرين.
4. معاني الأساليب
5. الصرف
6. الاشتقاق
7. البلاغة
فهذه العلوم من أهمّ ما يُحتاج إليه في توجيه الأقوال، ومتى رأى طالب علم التفسير حاجته لدراسة مختصر في علم من هذه العلوم؛ فليبادر إلى دراسته حتى يكتسب إلماماً حسناً بذلك العلم يعينه على استعماله في توجيه أقوال المفسرين.

ومن بلغ مرتبة الإتقان في مهارة توجيه أقوال المفسّرين تمكّن بإذن الله تعالى من محاكاة العلماء في تحرير مسائل التفسير والتوجيه والنقد والإعلال واستخراج الفوائد والأوجه التفسيرية؛ لأن الجامع بين هذه الأمور ملكة ذهنية ومعارف مكتسبة.
والنبوغ في العلم إنما يحصل باجتماع المعارف والمهارات.

مسالك التفسير عند السلف:
مما يتّصل بتوجيه أقوال المفسرين معرفة مسالك التفسير عند السلف؛ ومنها:
1. تفسير المفردة القرآنية ببيان معناها المطابق أو المقارب، وهو الأصل في تفسير ألفاظ القرآن.
2. تفسير المفردة ببعض معناها، ومنه التفسير بالمثال؛ وهو كثير في تفاسير السلف، وقد يراد به أحيانا التنبيه على دخول ذلك المثال في معنى الآية.
أ: فمن التفسير ببعض المعنى قول ابن عباس في المراد بالقسورة؛ قال: (هم الرماة) رواه ابن جرير من طرق عنه.
وقال أبو هريرة: (الأسد). رواه ابن جرير من طريق زيد بن أسلم عنه، وهو منقطع لكن رواه البزار في مسنده موصولاً من طريق زيد بن أسلم عن ابن سيلان عن أبي هريرة.
والقسورة لفظ مشترك يطلق على الرماة وعلى الأسد، وكلٌّ قد قال ببعض المعنى.
ب: ومن التفسير بالمثال قول أنس بن مالك رضي الله عنه في تفسير قول الله تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} قال: التكبيرة الأولى). رواه ابن المنذر.
قال ابن عطية: (هذا مثال حسن يحتذى عليه في كل طاعة).
3. تفسير بلازم المعنى؛ وهو من مسالك التفسير المعتبرة عند السلف؛ فتفسّر اللفظة بلازم معناها لا بحقيقة معناها بمقتضى الوضع اللغوي.
- ومن أمثلته قول عبد الرحمن بن زيد في تفسير قول الله تعالى: {لأحتنكنّ ذرّيّته إلاّ قليلاً} قال: لأضلّنّهم). رواه ابن جرير.
وليس الإضلال من معاني الاحتناك في اللغة، ولكن لمّا كان لازم الاحتناك أن يضلّهم سلك ابن زيد في تفسير هذه الآية مسلك بيان لازم معنى اللفظة.
- ومن أمثلته أيضاً قول الفراء في تفسير قول الله تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} قال: إلا ليوحدوني).
وهذا تفسير باللازم لأنّ العبادة لا تكون معتبرة في الشرع حتى تكون خالصة لله تعالى.
4. تفسير ببعض لازم المعنى، وهذا غالباً ما يكون لغرض التنبيه على دخول ذلك الأمر المذكور في التفسير في معنى الآية.

وإذا عرف الباحث في مسائل التفسير المسلك الذي سلكه صاحب القول في التفسير أعانه ذلك على معرفة وجهه.

الأمثلة:
1: قال السدي في تفسير قول الله تعالى: ({يوم التناد}: تندّون)
التخريج: رواه ابن جرير في تفسيره من طريق أحمد بن المفضل عن أسباط بن نصر عنه.
التوجيه: (تندّون) أي: تهربون وتشردون شرود البعير، مأخوذ من قولهم ندّت الإبل إذا شردت.
هذا القول مبني على قراءة {التنادّ} بتشديد الدال، وهذه القراءة ذكرها ابن جرير في تفسيره من غير نسبة، ونسبها أبو القاسم الهذلي في "الكامل" للحسين بن مالك الزعفراني ومحمد بن الحسن ابن مِقْسَم، ونسبها أبو الفتح ابن جني في "المحتسب" لابن عباس والضحاك وأبي صالح والكلبي.
قال ابن جنّي: (هو تفاعل، مصدر تنادّ القوم، أي: تفرقوا، من قولهم: ندَّ يندّ، كنفر ينفر. وتنادوا كتنافروا، والتناد كالتنافر، وأصله التنادد، فأسكنت الدال الأولى وأدغمت في الثانية استثقالا لاجتماع المثلين متحركين)ا.هـ.

2: قال الضحاك في تفسير قول الله تعالى: ({كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون} : كانوا قليلاً من الناس).
التخريج: رواه ابن جرير من طريق سفيان الثوري عن الزبير بن عدي عن الضحاك، وهو في تفسير سفيان الذي رواه أبو حذيفة النهدي.
التوجيه: هذا القول مبني على إعراب "قليلاً" خبراً لكانَ يتمّ به الكلام، ثم يستأنف: (من الليل ما يهجعون).

3: قال مجاهد في تفسير قول الله تعالى: {ن والقلم}: «الّذي كتب به الذّكر» ).

التخريج: رواه ابن جرير من طرق عن ابن أبي نجيح عنه.
التوجيه: هذا القول مبني على أنّ التعريف في "القلم" للعهد الذهني وليس للجنس، وأنّ أولى ما يراد به أشرف الأقلام وهو القلم الذي كُتب به الذكر.

4:
قال قتادة في تفسير قول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} يقول: سجنا.
التخريج: رواه ابن جرير من طريق يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة.
التوجيه: هذا القول مبني على أنّ حصيراً فعيل بمعنى فاعل، أي: حاصر؛ فهي حاصرة لهم يسجنون فيها.

5:
قال عطاء في قوله تعالى: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة} قال: عطيةً).
التخريج: رواه سفيان الثوري في تفسيره، وابن جرير من طريق ابن جريج عنه.
التوجيه: هذا القول يوجّه بأن تعرب "نافلة" نائب مفعول مطلق لتكون مؤكدة لمعنى الهبة، تقول: وهبته شيئاً هبةً ووهبته إياه نافلة بمعنى واحد.
وفي المسألة قول آخر، وهو أنّ الموهوب إسحاق، وأنّ يعقوب نافلة أي زيادة ؛ فتعرب على هذا القول حالا من يعقوب؛ فالنافلة تطلق بمعنى الهبة وبمعنى الزيادة.
وممن قال بالقول الثاني: قتادة ؛ فقال: (النافلة ابن ابنه يعقوب). رواه ابن جرير.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: (
وقوله: {نافلة} فيه وجهان من الإعراب؛ فعلى قول من قال: النافلة العطية فهو ما ناب عن المطلق من {وهبنا} أي: وهبنا له إسحاق ويعقوب هبة، وعليه النافلة مصدرٌ جاء بصيغة اسم الفاعل كالعاقبة والعافية.
وعلى أن النافلة بمعنى الزيادة فهو حال من {يعقوب} أي: وهبنا له يعقوب في حال كونه زيادة على إسحاق)ا.هـ.


التطبيقات:
خرّج أقوال المفسّرين التالية ووجّهها:
1: قول ابن عباس في قوله عز وجل: {وله المثل الأعلى} قال: (يقول: ليس كمثله شيء).
2: قول ابن عباس في تفسير قول الله تعالى: {وادّكر بعد أمه} قال: بعد نسيان.
3: قول سالم الأفطس في قوله تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه} قال: (يخوفكم بأوليائه).
4: قول سعيد بن جبير في قول الله تعالى: {يحفظونه من أمر اللّه}: (الملائكة: الحفظة، وحفظهم إيّاه من أمر اللّه)
5: قول ابن عباس رضي الله عنهما في الكوثر: (هو الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه)
.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#2

16 Nov 2017

أمثلة إضافية لتوجيه أقوال المفسرين



توجيه أقوال المفسرين مما تدعو الحاجة فيه إلى تعديد الأمثلة وتنويعها، والبيان بالأمثلة قد يغني عن كثير من الشرح والتفصيل، ولذلك سأعرض أمثلة إضافية مما سبقت لكم دراسته في دورات برنامج إعداد المفسر يظهر فيها أثر توجيه الأقوال في دراسة مسائل التفسير.


المثال الأول: توجيه أقوال المفسرين في معنى "مسنون" في قول الله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون}
[من دورة طرق التفسير]

اقتباس:
المثال الثاني: معنى {مسنون}
قال ابن عطية الأندلسي(ت:546هـ) في تفسير قول الله تعالى: {من حمأ مسنون} قال: (قال معمر: هو المنتن، وهو من أسن الماء إذا تغير).
ثمّ تعقّبه بقوله: (والتصريف يردّ هذا القول).
يريد أنّه لا يقال في اسم المفعول من "أسن": "مسنون"؛ لأن "أسن" فعل ثلاثي لازم؛ فلا يصاغ منه اسم مفعول، وإذا عدَّيته بالهمزة فاسم المفعول منه: "مُؤسَن".

ثمّ قال ابن عطية: (والذي يترتَّب في "مَسْنُونٍ":
- إما أن يكون بمعنى محكوك؛ محكَم العمل أملس السطح، فيكون من معنى المُسَنّ والسنان، وقولهم: سَنَنْتُ السّكينَ وسننت الحجر: إذا أحكمت تمليسه، ومن ذلك قول الشاعر:
ثم دافعتها إلى القبة الخضرا ... ء تمشي في مرمر مسنون
أي محكم الإملاس بالسَّنّ
- وإما أن يكون بمعنى المصبوب، تقول: سننت التراب والماء إذا صببته شيئا بعد شيء، ومنه قول عمرو بن العاصي لمن حضر دفنه: إذا أدخلتموني في قبري فسنوا علي التراب سنا، ومن هذا: هو سن الغارة. وقال الزجاج: هو مأخوذ من كونه على سنة الطريق، لأنه إنما يتغير إذا فارق الماء، فمعنى الآية- على هذا- من حمأ مصبوب موضوع بعضه فوق بعض على مثال وصورة)ا.هـ.
فذكر قولين صحيحين من جهة التصريف، ويضاف إليهما قول ثالث ذكره الخليل بن أحمد، وهو أن "المسنون" بمعنَى "المصوَّر" من قول العرب: سنَّ الشيء إذا صوَّره، والمصوَّر: مسنون.
ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
سحرتني بجيدها ، وشتيتٍ ، ** وبوجهٍ ذي بهجةٍ مسنونِ
وقول ذي الرمة:
ترِيكَ سُنَّةَ وَجْهٍ غَيْرَ مُقْرِفَةٍ ... مَلْسَاَء لَيْسَ بها خَالٌ ولا نَدَبُ

وقال أبو عبيدة (المسنون: المصبوب على صورة).
فجمع القولين الثاني والثالث.
وقال المبرّد: (المسنون: المصبوب على استواء).

فهذه أقوال أهل اللغة، وللسلف في معنى "مسنون" قولان آخران:
أحدهما: أن المسنون: الرطب، وهذا القول رواه ابن جرير من طريق معاوية بن صالح عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس.
وتخريج هذا القول أن يكون المسنون هنا بمعنى الذي سُنَّ عليه الماء؛ فهو رطب لذلك.
والآخر: أنّ المسنون المتغيّر، وهذا قول ابن جرير، استخرجه من أثر رواه عن قتادة، واختلف أهل اللغة في تخريج هذا القول:
فذهب الفراء إلى أنّ المسنون لا يكون إلا متغيّراً؛ فتفسير المسنون بالمتغيّر تفسير بلازم المعنى لا بدلالته اللفظية.
وذهب أبو عمرو الشيباني إلى أنّه مأخوذ من تَسَنَّنَ الطعامُ إذا تغيّر، ومنه قوله تعالى: {لم يتسنّه} والهاء مبدلة من النون.
قال أبو عبيدة: (وليستْ من الأَسِن المتغير، ولو كانت منها لكانت ولم يتأسن).
وذهب أبو منصور الأزهري إلى أنّه مأخوذ من السَّنَة، أي: مضت عليه سنون حتى تغيّر.
فانظر في هذه المفردة كيف اتّسع النظر فيها بسبب بحث تصاريفها.
والتحقيق: أنّ الأقوال الثلاثة الأولى صحيحة، واللفظ يحتملها من غير تعارض، وقول الفراء أقرب الأقوال في تخريج القول المروي عن بعض السلف.




المثال الثاني: توجيه أقوال المفسرين في معنى {قُبلا} في قول الله تعالى: {وحشرنا عليهم كل شيء قبلا}
[من دورة طرق التفسير]

اقتباس:

اقتباس:
المثال الثالث: معنى {قُبلا}
ومن فوائد علم التصريف أنه يُعرف به تخريج بعض أقوال السلف في التفسير من جهة اللغة.
ومن أمثلة ذلك: أقوال السلف في تفسير قول الله تعالى: {وحشرنا عليهم كلّ شيء قُبُلا}
فروي عنهم في معنى {قبلا} ثلاثة أقوال:
القول الأول: {قُبُلا} أي : معاينة، وهذا القول رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس من طريق معاوية بن صالح عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس.
والقول الثاني: {قبلا} أي: أفواجاً ، رواه ابن جرير عن مجاهد.
والقول الثالث: {قُبلا} أي: كفلاء، وهذا القول اختاره الفراء.

فهذه ثلاثة أقوال في هذه المسألة:
- فأمّا القول الأول فتخريجه أنّ القُبُل بمعنى المقابِل ؛ والمقابل معاين لمن قابله، كما تقول: لقيتُه قُبُلاً: أي: مواجهة ، ومنه قوله تعالى: {قُدّ من قُبُل}، وقوله تعالى: {أو يأتيهم العذاب قُبُلا}.
ويرجّح هذا المعنى قراءة من قرأ: {وحشرنا عليهم كلّ شيء قِبَلا}.
- وأما القول الثاني فتخريجه أنَّ {قبلا} جمع قبيل، كرغيف ورُغُف، والقبيل: الجماعة الكثيرة من صنف واحد، أي ُحشروا عليهم أفواجاً كل فوج قبيل.
قال ابن كثير: (أي: تُعرَض عليهم كلّ أمّةٍ بعد أمة فتخبرهم بصدق الرسل فيما جاؤوهم به {ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء اللّه}).
- وأما القول الثالث فتخريجه أنَّ {قبلا} جمع قبيل بمعنى كفيل، ومنه قوله تعالى: {أو تأتي بالله والملائكة قبيلا} أي: كفلاء وضمناء.
والتحقيق أنّ هذه المعاني كلّها صحيحة، ودلالة الآية تسعها كلها.

فانظر فائدة علم التصريف في معرفة التخريج اللغوي لأقوال السلف، وقد كان عامّتهم عرباً فصحاء من أهل عصر الاحتجاج، يفسّرون القرآن بما يعرفون من لسانهم العربيّ، وقد تقدّم أنّ تفسيرهم حجّة لغوية إذا صحّ الإسناد إليهم وأُمن لحن الرواة.



المثالث الثالث: توجيه أقوال المفسرين في معنى "المسحّرين"

اقتباس:
ومن أمثلة فوائد [علم الاشتقاق] في الجمع والترجيح بين أقوال المفسّرين:
ما وقع من اختلاف المفسرين في معنى "المسحَّرين" في قول الله تعالى: {قالوا إنما أنت من المسحّرين}
فإنّهم اختلفوا فيه على أقوال كثيرة:
القول الأول: من المخلوقين، رواه ابن جرير والخطيب البغدادي كلاهما من طريق موسى بن عمير القرشي عن أبي صالح عن ابن عباس، وموسى بن عمير متروك الحديث.
وقال بهذا القول: الخليل بن أحمد، وجماعة من أهل اللغة.
القول الثاني: المسحورين، وهو قول مجاهد رواه عنه ابن جرير.
القول الثالث: الساحرين، وهو قول قتادة رواه عنه عبد الرزاق وابن أبي حاتم.
والقول الرابع: من المخدوعين، وهو رواية عن مجاهد أخرجها ابن الأنباري في "إيضاح الوقف والابتداء" من طريق الكلبي عن أبي صالح وعبد الوهاب عن مجاهد.
والقول الخامس: المسحَّر المجوَّف، وهو قول الفراء.
والقول السادس: المسحَّر الذي ليس له شَيء ولا مُلك، وهو تفسير الكلبي فيما ذكره يحيى بن سلام.
والقول السابع: المسحَّرون المرزوقون الذين لا بدّ لهم من الغذاء، ذكره ابن دريد في الجمهرة، وفي مجاز القرآن لأبي عبيدة نحوه.
قال أبو عبيدة: (كل من أكل من إنس أو دابة فهو مسحّر).
والقول الثامن: من المعلَّلين بالطعام والشراب، وهو قول ابن قتيبة.
والقول التاسع: ممن له سَحْر أي: رئة، والمقصد إنما أنت بشر مثلنا، وهذا قول الزجاج.
وقد حكى الماوردي أقوالاً أخرى لا أعلم لها أصلاً.

وهذه الأقوال المذكورة ترجع إلى معنيين في الاشتقاق:
المعنى الأول: أن يكون لفظ "المسحّرين" مشتقّا من السِّحْر، بكسر السين.
والمعنى الثاني: أن يكون مشتقّا من "السَّحْر" بفتح السين، وهو الراجح، لكن اختلف فيه على قولين:
القول الأول: أنّ المراد السَّحْر الذي بمعنى التغذية، وهو قول الخليل بن أحمد.
والقول الثاني: أن المراد السَّحْر الذي هو الرئة، وهو قول الفراء وأبي عبيدة والزجاج.

والذي يظهر لي أنّ هذين المعنيين يرجعان إلى اشتقاق واحد وهو الصَّرف، وأنّ المسحَّر هو المصروف عن شأنه وما ينفعه.
ومنه قوله تعالى: {فأنّى تُسحرون} أي "تُصرفون" في قول جمهور المفسّرين.
قال لبيد بن ربيعة:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسَحَّر
عبيد لِحَيَّيْ حميرٍ إن تملَّكوا ... وتظلمنا عُمَّالُ كسرى وقيصرِ
نحلُّ بلاداً كلّها حُلَّ قبلَنا ... ونرجو الفلاحَ بعد عادٍ وحِمْيَرِ


يقول نحن أمّة ضعيفة مستضعفة كالعصافير في ضعفها واشتغالها بطلب المأكل والمشرب حتى استذلّتنا الأمم الأخرى كملوك حِمير من الجنوب، والمناذرة الذي هم وكلاء كسرى على من يليهم من العرب من جهة المشرق، والغساسنة الذين هم وكلاء قيصر على من يليهم من العرب من جهة الشمال.
يقول: فلم نهتدِ لما ننجو به من هذا الذلّ، ولم نفق من سكرتنا بطلب المأكل والمشرب، وغفلنا عن مصيرنا وقد علمنا هلاك الأمم قبلنا؛ فكأنّنا مسحَّرون أي: مصروفون عن شأننا وسبيل عزّتنا، مقيمون على ضعفنا واشتغالنا بما نُلهى به مما لا ينفع.
وهذا من شعر لبيد في الجاهلية.

وقال لبيد أيضاً:
وإنا قد يُرى ما نحن فيه ... ونُسحر بالشراب وبالطعام
كما سُحرت به إرم وعاد ... فأضحوا مثل أحلام النيام


وقال امرؤ القيس بن حجر الكندي:
أرانا موضِعين لأمرِ غيبٍ ... وَنُسْحَرُ بالطعامِ وَبالشرابِ
عَصافيرٌ وَذُبَّانٌ وَدُودٌ ... وأجْرأُ مِنْ مُجَلِّحَةِ الذِّئابِ

يقول: نحن في ضعفنا وقعودنا عن طلب العزّة كالمخلوقات الضعيفة من العصافير والذبّان والدود، وفي الشرّ والمآثم وقطيعة الأرحام أجرأ من الذئاب الضارية.

والمقصود من هذه الشواهد أنّ "المسحَّر" هو المصروف عن شأنه وما ينفعه، المشتغل بما يُلهى به عما يراد له.
والتعبير بالتسحير فيه معنى زائد عن مجرّد الصرف؛ فهو صرف مصحوب بأمرين:
- غفلة عما أمامه من كيد يراد له أو عاقبة لم يستعدّ لها.

- واشتغال بما لا ينفع، وهذا المشتغَلُ به قد يُذكر وقد يُحذف احتقاراً له أو لعدم فائدة ذكره.


ومن هذا الاشتقاق سمّي السِّحْر سحراً؛ لأنّ المسحور مصروف عما ينفعه ويصلح شأنه مشتغل بما لا ينفعه.
قال أبو منصور الأزهري: ( والسحر سمي سحرا: لأنه صرف الشيء عن جهته، فكأن الساحر لما أرى الباطل في صورة الحق، وخيل الشيء على غير حقيقته، فقد سحر الشيء عن وجهه أي صرفه)ا.هـ.

وتقرير معنى الآية على هذا - والله تعالى أعلم - أنّهم أرادوا بقولهم: "إنما أنت من المسحَّرين" أي من المصروفين عن شأنهم وما ينفعهم، المتعلّلين بما زُيّن لهم مما التهوا به وشغلهم.
وفيه تكذيب بالرسالة، واتهام رسولهم بأنّ ما يدعوا إليه إنما هو لهوٌ تعلّل به فخُدع به وصرفه عما يرونه من صلاح الشأن الذي يزعمون أنهم يبصرون فيه سبيل الرشاد، وأنّ رسولهم مُسحَّرٌ عنه، ولتأكيد هذا المعنى قالوا: {ما أنت إلا بشر مثلنا} وفي الموضع الآخر: {وما أنت إلا بشر مثلنا}.

وبذلك يظهر أن لفظ "المسحَّرين" ينتظم أكثر الأقوال المذكورة في تفسيره؛ فكلٌّ قد عبّر ببعض المعنى ، وبعض تلك الأقوال لها علل يحسن التنبيه عليها.
1. فأما القول بأنّ "المسحّرين" هم المخلوقون؛ فنسبته إلى ابن عباس لا تصحّ من جهة الإسناد، وهو قول صحيح من جهة المعنى؛ لكنّه تفسير باللازم.
2. وأما القول بأنّ المسحّرين هم المسحورون الذي سُحروا مرّة بعد مرّة، فهو قول له وجهه في اللغة، من جهة أنّ مُفعَّلا يأتي لتأكيد معنى المفعولية في "مفعول" ، كما في "مغلوب" و"مُغلَّب" ؛ فالمغلوب يقع على من غُلب مرة واحدة، والمُغلَّب الذي يُغلب مراراً؛ فلا يكاد يُغالب إلا غُلب.
قال عمرو بن كلثوم:
فإنْ نَغلب فغلابون قدما وإنْ نُغلب فغير مُغَلَّبينا
ولذلك قال بعض أهل اللغة في تقريب هذا القول: المُسَحَّر المسحور مرّة بعد مرّة.
وهذا القول رواه ابن جرير من طرق عن مجاهد.

3. وأما القول بأنّ "المسحَّرين" هم الساحرون، فرواه عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن قتادة، ومن طريقه أخرجه ابن أبي حاتم.
وقد روى هذا القول ابن جرير في تفسيره من هذا الطريق لكن قال: (من المسحورين) وقرنه بقول مجاهد، ولعلّ الصواب من جهة الرواية ما في تفسير عبد الرزاق.


ولهذا القول تخريجان لغويان مقبولان:
أحدهما: أنّ المُسحَّر هو الذي عُلّم السِّحْرَ حتى صار ساحراً؛ فهو وإن كان اسم مفعول إلا أنّه يؤول إلى معنى اسم الفاعل كما في "مُسلَّم" و"سالم" و"مخلَّد" و"خالد"، و"مغلَّب" و"غالب".
والآخر: أن يكون المسحَّر بمعنى المتَّهم بالسحر؛ كالمكَّذب المتَّهم بالكذب، و"المبّخَّل" الموصوف بالبخل.

4. وأما تفسير "المسحّرين" بالمخدوعين، فلا يصحّ عن مجاهد من حيث الإسناد، لكنّه تفسير صحيح قائم على المعنى المتقدّم تقريره بشواهده.
5. وأما تفسير الفراء للمسَحَّر بالمجوَّف؛ فهذا مأخوذ من لازم التعليل بالطعام والشراب، والشارب والطاعم له جوف؛ لكن لا يقصر المعنى عليه.
6. وأما تفسير المسحَّر بالذي ليس له شَيء ولا مُلك، فهو تفسير صحيح باعتبار اللازم على المعنى المتقدم ذكره.
7. وأما تفسير المسحَّر بالمرزوق الذين لا بدّ له من الغذاء، فهو تفسير ببعض المعنى على ما تقدّم ذكره.
8. وأما تفسير المسحَّر بالمعلل بالطعام والشراب؛ فهو مأخوذ من الشواهد الشعرية عن لبيد وامرئ القيس لكن قصر المعنى عليه لا يصح، لأنّ هذا الوصف له مقصد.
9. وأما تفسير الزجاج للمسحَّر بالذي له سَحر وهو الرئة فهو تفسير أراد به التنبيه على اشتقاق اللفظ، وهو أحد الأقوال في الاشتقاق كما تقدّم، والأظهر خلافه
وقد ردّ ابن القيّم هذا القول في بدائع الفوائد فأحسن.