26 Aug 2024
وقد يجتمع في دليل واحد دلالة نصيّة على حكمٍ،
ودلالة ظاهرة على حكم آخر.
الظاهر هو ما دلّ عليه الدليل باحتمال راجح مع قيام احتمال مرجوح، والظاهر حجة ملزمة، فلا يُعدل عنه إلا بدليل صحيح يدلّ على خلافه.
- قال بدر الدين الزركشي في البرهان: (قد يكون اللفظ محتملاً لمعنيين وهو في أحدهما أظهر؛ فيسمى الراجح ظاهراً، والمرجوح مؤولاً).
- قال محمد بن إدريس الشافعي: (ولا يجوز أن يقال بغير ظاهر الآية إلا بخبر لازم).
- وقال محمد بن الأمين الشنقيطي: (وحكم الظاهر ألا يُعدل عنه إلا بدليل على قصد المحتمل المرجوح، وذلك هو التأويل).
لدلالة الظاهر أمثلة عديدة منها:
ظاهر الآية يدلّ على أنّ مرجع الضمير إلى الذكر وهو القرآن، وهو أقرب مذكور، وهذا قول جمهور المفسرين، وهو القول المأثور عن السلف.
وذهب بعض المفسرين إلى أنه راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو خلاف ظاهر الآية، واستدلوا بقول الله تعالى: {والله يعصمك من الناس} ، وهذا القول وإن كان صحيحاً في نفسه إلا أنه خلاف ظاهر الآية.
الظاهر أنه مرجع الضمير إلى الإنسان المذكور في قوله تعالى: {فلينظر الإنسان مم خُلق}، وأن المراد برَجْعه هو بعثه بعد موته كما قال تعالى: {إنّ إلى ربّك الرجعى}.
وروي عن مجاهد وعكرمة أن مرجع الضمير إلى الماء المذكور في قوله تعالى: {ماء دافق}، وأن المراد عود الماء في الإحليل أو الصلب.
فالظاهر أرجح لموافقته نصّ آية العلق، ولأنه أقرب إلى مقصد السورة من تقرير البعث والنشور الذي هو محلّ الخصومة بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين.
وهو قول مالك والشافعي، ورواية عن أحمد.
وقال أبو حنيفية، ورواية عن أحمد: يجب عليه القضاء لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قضى هو وأصحابه عمرة الحديبية.
- قال الشافعي رحمه الله تعالى: (قال اللَّه عز وجل: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ...} الآية؛ فلم أسمع ممن حفظتُ عنه من أهل العلم بالتفسير مخالفاً في أنَّ هذه الآية نزلت بالحديبية حين أُحصر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فحال المشركون بينه وبين البيت، وأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نحر بالحديبية، وحلق ورجع حلالاً، ولم يصل إلى الببت، ولا أصحابه، إلا عثمان بن عفان رضي الله عنه وحده...).
قال: (وظاهر الآية أنَّ أمْرَ اللَّه عز وجل إياهم ألا يحلقوا حتى يبلغ الهدي محله، وأمْرَه من كان به أذى من رأسه بفدية سمّاها، وقال اللَّه عز وجل: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ..} الآية، وما بعدها: يشبه - واللَّه أعلم - ألا يكون على المحصر بعدوّ قضاء؛ لأنّ الله تعالى لم يذكر عليه قضاء، وذكر فرائض في الإحرام بعد ذكر أمْرِه)ا.هـ.
ظاهر الآية قد يُختلف فيه؛ فيذهب بعض العلماء إلى حكم من الأحكام أخذاً بما يظهر لهم من دلالة الآية، وقد يكون الظاهر لغيرهم غيره، ولذلك أمثلة منها:
اختلف العلماء في القدر الواجب من مسح الرأس في الوضوء واستدلّت كلّ طائفة بظاهر قول الله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم}
- فذهب مالك وأحمد وأبو عبيد والبخاري إلى وجوب مسح الرأس كله أخذاً بظاهر الآية، وأنّ قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} ظاهر في تعميم الرؤوس بالمسح، ويؤيد ذلك بيان النبي صلى الله عليه وسلم بفعله.
- وعن الإمام أحمد رواية أخرى ذكرها أبو الخطاب: يجزئ مسح أكثر الرأس، ورواية ثالثة: قدر الناصية، ذكرها أبو الوفاء ابن عقيل في التذكرة.
- وقال الأوزاعيّ: (يجزي أن تمسح مقدّم رأسك، وتعمّ رأسك بالمسح إلى القفا أحبّ إليّ).
- وقال اللّيث بن سعد: (يمسح مقدم الرّأس).
- وقال الشافعي: (قال الله تعالى {وامسحوا برءوسكم} وكان معقولاً في الآية أن من مسح من رأسه شيئاً؛ فقد مسح برأسه، ولم تحتمل الآية إلا هذا، وهو أظهر معانيها، أو مسح الرأس كله، ودلَّت السنة على أن ليس على المرء مسح الرأس كله، وإذا دلت السنة على ذلك؛ فمعنى الآية أن من مسح شيئاً من رأسه أجزأه).
- وبوّب البخاري في صحيحه: (باب مسح الرأس كله لقول الله تعالى: {وامسحوا برءوسكم})، واستدلّ بحديث عمرو بن يحيى بن عمارة المازني، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري رضي الله عنه في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح رأسه بيديه، فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه.
والحديث رواه مسلم أيضاً من هذا الطريق.
- قال البخاري في صحيحه: (سئل مالك: «أيجزئ أن يمسح بعض الرأس؟» فاحتج بحديث عبد الله بن زيد).
- وروى ابن القاسم وأشهب عن مالك أنه قال: (من ترك مسح بعض رأسه فهو بمنزلة من ترك بعض وجهه أو بعض ذراعيه)
- قال أبو بكر الصقلي(ت:451هـ) من فقهاء المالكية: (والدليل لمالك، قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ}؛ فهو كقوله في التيمم: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ}؛ فلما لم يجز أن يقتصر على مسح بعض الوجه باتفاق وجب ألا يقتصر على مسح بعض الرأس، وكقوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} الذي لا يجوز الاقتصار فيه على بعض الطواف)ا.هـ.
- وعن أبي حنيفة رواياتٍ: أشهرها ربع الرّأس، وعليها المذهب، والثانية: يجزئه أنه يمسح الناصية، والثالثة: قدر ثلاث أصابع.
والمقصود أنّ العلماء اختلفوا في دلالة ظاهر قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم}، فمنهم من يرى أنّ الظاهر مسح الرأس كلّه كما هو قول البخاري ومن وافقه.
ومنهم من يرى أنّ ظاهرها مسح شيء منه كما هو قول الشافعي ومن وافقه.
والتحقيق أنّ المسح بالرأس يتفاضل فأدناه مسح شيء منه، وأتمّه مسحه كلّه، وكلّ ذلك مما يقع عليه وصف المسح بالرأس في لسان العرب.
فالأكمل في مسح الرأس أن يعمّه بالمسح بيديه يقبل بهما ويدبر على ما جاء في حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
وصحّ عن بعض الصحابة أنّهم مسحوا بعض رؤوسهم؛ فصحّ عن ابن عمر أنه كان يمسح مقدّم رأسه مرة واحدة. رواه ابن أبي شيبة وابن المنذر وغيرهما، وروى ابن أبي شيبة عن سلمة بن الأكوع أنه كان يمسح مقدم رأسه.
- قال النووي: (الواجب منه أن يمسح منه ما يقع عليه اسم المسح وإن قلَّ، والمستحبّ أن يمسح جميع الرأس).
لا خلاف بين العلماء في تحريم فعل الصيد على المحرم وكذلك الإعانة عليه، واختلفوا في أكل المحرم من صيد المحلّ على قولين:
القول الأول: يحرم على المحرم أكل الصيد مطلقاً، وذهبوا إلى أنّ هذا هو ظاهر الآية.
وهذا قول عليّ، وعائشة، وابن عمر، وطاووس بن كيسان، وجابر بن زيد، وسفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور.
القول الثاني: يحلّ للمحرم أكل ما صاده المحلّ بشرط ألا يكون قد أعان عليه أو صيد لأجله.
وهذا قول عمر، وعثمان، وطلحة بن عبيد الله، وأبي هريرة، وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد.
قالوا وهذا الذي يدلّ عليه ظاهر الآية لأن المحرَّم على المحرِم هو فعل الصيّد، وما كان بمعناه من الإعانة عليه أو أن يصاد لأجله، وهو الذي تدلّ عليه السنة.
- قال الإمام أحمد: (المحرم إذا صيد الصيد من أجله لا يأكله المحرم لأنه من أجله ويأكله غيره، ولا بأس أن يأكل المحرم من الصيد الذي لم يصده من أجله إذا صاده حلال).
وقال: (علي وعائشة وابن عمر كانوا يكرهون للمحرم أن يأكل لحم الصيد كأنهم ذهبوا إلى ظاهر الآية {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما}).
والتحقيق أنّ لفظ الصيد يقع على المصدر، وعلى اسم المفعول، فقول الله تعالى: {وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرما} يحتمل من جهة اللغة أن يُراد به أمران:
أحدهما: وحرم عليكم أن تصيدوا صيد البرّ ما دمتم حرماً.
والآخر: وحرّم عليكم أكل صيد البرّ ما دمتم حرماً.
وكلاهما يدلّ عليه ظاهر لفظ الآية لكن دلّت السنة على أنّ المحرم إذا لم يصد الصيد، ولم يُعِن عليه، ولم يُصَد لأجله أنه لا حرج عليه من الأكل منه.
- قال مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن الصعب بن جثامة الليثي، أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً وهو بالأبواء - أو بودان - فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فلما أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي، قال: «إنا لم نردَّه عليك إلا أنا حرم». رواه البخاري ومسلم.
- وقال أبو حازم المدني، عن عبد الله بن أبي قتادة السلمي، عن أبيه رضي الله عنه، قال: كنت يوماً جالساً مع رجالٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في منزلٍ في طريق مكة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم نازلٌ أمامنا، والقوم محرمون، وأنا غير محرم، فأبصروا حماراً وحشياً، وأنا مشغولٌ أخصف نعلي، فلم يؤذنوني به، وأحبّوا لو أني أبصرته، والتفتُّ فأبصرته فقمتُ إلى الفرس، فأسرجتُه، ثم ركبت ونسيت السوط والرمح، فقلت لهم: ناولوني السوط والرمح!
فقالوا: لا والله! لا نعينك عليه بشيء.
فغضبتُ، فنزلتُ، فأخذتهما، ثم ركبت فشددتُ على الحمار فعقرته، ثم جئتُ به وقد مات، فوقعوا فيه يأكلونه، ثم إنهم شكّوا في أكلهم إيّاه وهم حُرُم، فَرُحْنا وخبّأت العَضُدَ معي، فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألناه عن ذلك، فقال: «معكم منه شيء؟».
فقلت: نعم، فناولته العضدَ، فأكلَها حتى نفدها وهو محرم). رواه البخاري.
ورواه مسلم من طريق صالح بن كيسان، عن أبي أبا محمد مولى أبي قتادة، عن أبي قتادة، وفيه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هو حلال، فكلوه».
وفي رواية في صحيح مسلم من طريق أبي عوانة، عن عثمان بن عبد الله بن موهب، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه رضي الله عنه بنحوه وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هل منكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء؟» قال قالوا: لا، قال: «فكلوا ما بقي من لحمها».
- وقال سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن إبراهيم النخعي، عن الأسود بن يزيد أن كعباً سأل عمر رضي الله عنه عن الصيد يذبحه الحلال فيأكله الحرام؛ فقال عمر رضي الله عنه: (لو تركتَه لرأيتك لا تفقه شيئاً). رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار.
والمقصود من هذه الأمثلة أن دلالة الظاهر قد يُختلف فيها؛ فما يراه بعض أهل العلم ظاهر النص قد لا يراه غيرهم كذلك، بل ربما رأوا الظاهر غيره، والأقوال المختلفة تدرس ويُجرى عليها ما هو معروف من قواعد الجمع والترجيح.
مما ينبغي التنبّه له أنّه ليس كلّ ما يُدّعى أنه ظاهر الآية يكون كذلك، ودخول الخطأ والتوهم في فهم الظاهر وارد، وقد يتبادر إلى بعض الأذهان من الظاهر ما هو بعيد عنه جداً في حقيقة الأمر، ولكل ذلك أمثلة كثيرة جداً، وهي على نوعين:
النوع الأول: أخطاء تعرض لبعض أهل العلم؛ فيتوهّمون دلالة الظاهر على معنى لا تدلّ عليه اللغة ولا السياق لسببٍ أدّى بهم إلى ذلك التوهّم.
والنوع الثاني: بدعٌ وأصول خاطئة أدّت ببعضهم إلى أن يفهموا من ظواهر النصوص ما لا تدلّ عليه ألبتة، كما وقع في ذلك كثير من أهل الأهواء ومن تأثر ببعض أصولهم؛ فتوهموا دلالة ظواهر نصوص الصفات على تشبيه الله تعالى بخلقه، فتكلفوا تأويلها عن ظاهرها إلى معانٍ توافق أصولهم التي أصلوها وأخطأوا في ذلك.
واستجرتِ الأهواء ببعضهم حتى أساؤوا الظنّ بظواهر النصوص، إذ تبادر إلى أذهانهم منها ما هو باطلٌ بيّن البطلان، حتى صرّح بعض نظارهم أنّ ظواهر النصوص تدلّ على الضلال، بل ذكر الصاوي في حاشيته على الجلالين أنّ الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر.
وذكر السنوسي في شرحه على أمّ البراهين أنّ من أصول الكفر (التمسك في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غير بصيرة في العقل هو أصل ضلال الحشوية فقالوا بالتشبيه والتجسيم والجهة عملاً بظاهر قول الله تعالى: {على العرش استوى}...(.
وهذا على ما فيه من خطأ ظاهر فهو تقوّل على أهل السنة بأنهم يقولون بالتشبيه وكلامهم مستفيض معلوم في نفيه وتنزيه الله تعالى عنه.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والنفاة متفقون على أن ظواهر النصوص تجسيم عندهم).
- قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ردّاً على الصاوي: (وأما قوله: إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر، فهذا أيضا من أشنع الباطل وأعظمه، وقائله من أعظم الناس انتهاكا لحرمة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، سبحانك هذا بهتان عظيم!
والتحقيق الذي لا شك فيه، وهو الذي كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعامة علماء المسلمين أنه لا يجوز العدول عن ظاهر كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حالٍ من الأحوال بوجهٍ من الوجوه حتى يقوم دليل صحيح شرعي صارف عن الظاهر إلى المحتمل المرجوح.
والقول بأن العمل بظاهر الكتاب والسنة من أصول الكفر لا يصدر البتة عن عالم بكتاب الله وسنة رسوله، وإنما يصدر عمن لا علم له بالكتاب والسنة أصلاً؛ لأنه لجهله بهما يعتقد ظاهرهما كفراً، والواقع في نفس الأمر أن ظاهرهما بعيد مما ظنه أشدَّ من بعد الشمس من اللمس)ا.هـ.
والمقصود أنّه ليس كلّ ما يُدّعى أنه ظاهر النصّ يكون كذلك، وسأذكر أمثلة من النوعين يتّضح بهما المقصود إن شاء الله تعالى:
وهذا الخطأ عرض لبعض التابعين لخفاء مقصد الآية وسبب نزولها عليهم.
- قال ابن شهاب الزهري: أخبرني عروة بن الزبير قال: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما}، فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة!
قالت: بئس ما قلت يا ابن أختي! إنَّ هذه لو كانت كما أوَّلتها عليه كانت: [لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما] ولكنها أنزلت في الأنصار، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المشلَّل، فكان مَن أهلَّ يتحرَّج أن يطوف بالصفا والمروة، فلما أسلموا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قالوا: يا رسول الله! إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} الآية.
قالت عائشة رضي الله عنها: «وقد سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما». رواه البخاري ومسلم.
- قال أبو بشر اليشكري، عن سعيد بن جبير قال: كنا في حجرة ابن عباس، ومعنا عطاء بن أبي رباح ونفر من الموالي، وعبيد بن عمير، ونفر من العرب؛ فتذاكرنا اللماس؛ فقلتُ أنا وعطاء: اللمس باليد.
وقال عبيد بن عمير والعرب: هو الجماع.
فقلت: إنَّ عندكم من هذا لفصلٌ قريب، فدخلت على ابن عباس وهو قاعد على سرير، فقال لي: مَهْيَم؟
فقلت: تذاكرنا اللمس، فقال بعضنا: هو اللمس باليد، وقال بعضنا: هو الجماع.
قال: مَن قال: هو الجماع؟
قلت: العرب.
قال: فمن قال: هو اللمس باليد؟
قلت: الموالي.
قال: فمن أي الفريقين كنت؟
قلت: مع الموالي.
فضحك، وقال: غُلبت الموالي، غُلبت الموالي - ثلاث مرات - ثم قال: (إن اللمس، والمسَّ، والمباشرة إلى الجماع ما هو، ولكن الله عز وجل يكني ما شاء بما شاء). رواه سعيد بن منصور وابن جرير.
حيث توهم بعضهم دلالة ظاهر الآية على وصف ذات الله تعالى بأنه النور المشاهد في السموات والأرض؛ فالتمس الفرار من هذا الظاهر بتأويلات بعيدة باطلة.
وهذا التوهم خطأ محض، وزعم باطل لم يقل به عالم، ولا تدل عليه اللغة، حتى يلتمس الفرار منه.
وكان الأولى بمن عرض له هذا التوهم أن ينزّه الله تعالى عنه، وأن يدرك أنّ كلام الله تعالى لا يمكن أن يدلّ على ما توهّمه، وأنّ هذا الأسلوب في اللسان العربي بعيد كلّ البعد عما توهّموه، وذلك لم يفهم مشركو العرب من هذه الآية خلاف مقتضى اللسان العربي، ولم يجدوا فيها مطعناً ولا سبيلاً إلى التشغيب والاعتراض.
لكن من أصّل أصولاً باطلة وحاكم النصوصَ إليها واستمرأ تأويل نصوص الصفات لم يُستغرب أن تعرض له ألوان من الفهم الخاطئ البعيد عن ظواهر الآيات، ثم يزعم أنّ ظواهر النصوص تدلّ على الضلال والباطل.
ومن العجيب ما ذكره أبو القاسم الهذلي عن ثابت بن أبي حفصة، وإبراهيم القورسي، ومسلمة بن عبد الملك عن أبي جعفر أنهم قرأوا: [الله نوَّر السموات والأرضَ] بفتح النون وتشديد الواو، ونصب الأرض.
قال أبو القاسم الهذلي: (وهو الاختيار كي لا يوصف الباري بالتشبيه).
وهذه القراءة لا تثبت، وتعليله لاختياره فيه طعن على القراءة المتواترة المشهورة، المؤيدة بالأحاديث الصحيحة التي فيها هذه الجملة.
والذي حمله وغيره على سلوك مسلك التأويل ظنهم أنّ ظاهر قول الله تعالى: {الله نور السموات والأرض} يدلّ على وصف ذات الله تعالى بأنه هو ما يُرى من النور في السموات والأرض.
وهذه الأنوار المشاهدة مخلوقة، وليست هي كلّ نور السموات والأرض، بل ما ذكروه من نور الشمس والقمر والمصابيح والنيران وغيرها لا نسبة له إلى الكون الفسيح العظيم الذي لا يقدر قدره إلا الله جلّ وعلا؛ فلا تبلغ هذه الأنوار التي ذكروها أن تنوّر السموات والأرض.
وسبب وقوعهم في الخطأ أنهم ظنوا أن هذه الآية جاءت لوصف ذات الله تعالى، فلما استشنعوا ما تحصل لهم من الفهم الخاطئ عدلوا عنه إلى التأويل بما لا يدل عليه ظاهر النص.
ومقصد الآية ظاهر في تمجيد الله تعالى بأفعاله وآثارها، والإضافة في قوله تعالى: {نور السموات والأرض} إضافة معنوية على معنى اللام تفيد الاختصاص أي: نورٌ للسموات والأرض، وجملة المبتدأ والخبر تفيد الحصر، أي: الله وحده هو نور السموات والأرض؛ فلا نور للسموات والأرض إلا بالله ومن الله.
والنور منه حسي ومعنويّ، وكلا النوعين إنما أوجدهما الله تعالى، ولولا إيجاده وتقديره لما كان في الكون نور حسيّ ولا معنوي.
وأقوال السلف في تفسير هذه الآية ترجع إلى نوعي النور الحسي والمعنوي فيجمع بينها من غير تعارض.
وفي الصحيحين من حديث طاووس بن كيسان عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل: «اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض، ولك الحمد أنت قيّام السماوات والأرض، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن). الحديث، وهو صريح في معنى الحصر.
المؤوَّل مفعَّل من الأَوْل، وهو الرجوع إلى
المستقرّ، يقال: آل يؤول أوْلاً إذا رجع وعاد إلى مستقرّه، والتأويل تفعيل منه،
وهو تعريف حقيقة ما يؤول إليه الشيء.
قال الله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي
تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا
بِالْحَقِّ}
وقد فسّر التأويل في هذه الآية بالجزاء
والعاقبة لأنها هي حقيقة ما يؤول إليه ما أُخبروا به من قبل.
وقال الخضر فيما حكى الله عنه: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ
عَلَيْهِ صَبْرًا (78)}، أي: بحقيقة ما يؤول إليه معنى ما
أشكل عليك فلم تستطع عليه صبراً.
ومن هذا المعنى أُخذ تأويل النصوص، وهو بيان
حقيقة المعنى الذي تؤول إليه؛ فقد يكون الظاهر الذي يتبادر إلى بعض الأذهان ليس هو
حقيقة ما يؤول إليه معنى النص؛ فيحتاج إلى التأويل لبيانه.
وكذلك قد يشكل النصّ على بعض من يبلغه فيحتاج
إلى تأويله أي بيان حقيقة ما يؤول إليه معناه.
مما ينبغي أن يتنبّه له أنّ الحاجة إلى التأويل
نسبية؛ فقد يكون معنى النصّ ظاهراً لبعض الناظرين لا يحتاجون فيه إلى تأويل، وقد
تعرض الحاجة إلى التأويل لسببين:
أحدهما: خفاء المعنى وإشكاله على الناظر فيه؛ فيحتاج إلى التأويل للكشف عن
معناه وبيانه.
والآخر: أن يتبادر إلى ذهن الناظر ما يتوهّمه ظاهر
النص، وهو غير مراد في الحقيقة؛ فيحتاج إلى التأويل ليتبيّن المعنى الصحيح، وليدرك
أنّ ما كان يحسبه ظاهر النص أنّه غير مراد، ولا يصحّ أن يعدّ ظاهراً، وإنما توهّمه
هو ظاهراً لعارض عرض له.
وقد جعل كثير من
الأصوليين التأويل في مقابل الظاهر، وجعلوا دلالته مقصورة على المعنى المرجوح،
وهذا الإطلاق لم يكن معروفاً عن السلف، بل كان سبباً في إشكالات علمية.
وذلك أنّ دلالة النصّ
على معناه لا يمكن أن تكون إلا بدلالة غالبة إما نصّية وإما ظاهرة، والتأويل الصحيح
هو بيان كون هذا المعنى نصاً أو ظاهراً.
وإذا احتمل النص
معنيين أحدهما ظاهر والآخر غير ظاهر فالمعنى الصحيح هو الظاهر في حقيقة الأمر، لكن
فيما يراه بعض الناظرين قد يختلف الأمر؛ فيكون ما يظهر له هو إنما هو المعنى
المرجوح، ويشكل عليه المعنى الظاهر في حقيقة الأمر.
فتقسيم الناظر للمعنيين
إلى راجح ومرجوح إنما هو باعتبار ما تحصّل له من النظر في معنى النص لا باعتبار حقيقة
الأمر، ولذلك يقع الاختلاف والتنازع في دلالة الظاهر.
وكثيراً ما يكون
الظاهر لشخصٍ ما غير الظاهر لغيره؛ وإذا كان المعنى الصحيح هو ما يراه بعضهم غير
ظاهر؛ فإنَّ عدم ظهوره إنما هو لتقصير الناظر أو قصوره، فإذا أُوّل له النصّ وتبيّن
معناه عرف أنه هو الظاهر.
وتقرير هذا الأمر أنّ
نصوص الكتاب والسنة في غاية الفصاحة، وقد أصاب الله ما أراد، وأصاب رسوله صلى الله
عليه وسلم ما أراد، ووقع البيان عن المعاني في الكتاب والسنة بأقوم طريق وأحسن
دلالة؛ فمن عرف مراد الله ورسوله بدلالة النص أو الظاهر لم يحتج إلى التأويل،
وإنما يحتاج إلى التأويل من أشكل عليه فهم المعنى أو تبادر إلى ذهنه غيره ولا سيما
مما يُعلم أنه باطل.
وإذا كان التأويل
صحيحاً كان مبيناً لكون المعنى الصحيح نصاً أو ظاهراً.
وكثير من أهل الأهواء
إنما اضطرهم إلى التأويل ما تبادر إلى أذهانهم من معاني النصوص مما هو باطل قطعاً،
ولذلك أساؤوا الظنّ بظواهر النصوص واتهموها بأنها موهمة، وهذا فيه سوء ظنّ بالله
ورسوله صلى الله عليه وسلم.
واحتاجوا إلى أن يقعّدوا
قواعد ينطلقون منها لصرف معاني النصوص عن ظواهرها التي لا توافق أصولهم.
والذي نعتقده من أصول
الدين اعتقاداً جازماً كمالُ بيان القرآن، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلّغ
البلاغ المبين الذي يحبّه الله ويرضاه، وتقوم به الحجة، وتتضح به المحجة فلا يزيغ
عنها إلا هالك كما قال الله تعالى: {وَأَطِيعُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا
الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12)}
وهذا حقّ على كلّ
رسول كما قال تعالى: {فَهَلْ عَلَى
الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)}
وفي صحيح مسلم ومسند
الإمام أحمد وغيرهما من حديث زيد بن وهب، عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة، عن عبد
الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إنه
لم يكن نبيٌّ قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدلَّ أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم
شر ما يعلمه لهم)).
ومن لوازم الدلالة
على خير ما يعلمه لهم أن تكون تلك الدلالة بأحسن ما يعرف من الدلالات اللفظية لبيان
المراد، وألا يكون في كلامه إيهام لغير الهدى، أو تعقيد يجعل المعنى مشكلاً لا
يعرف.
فالبلاغ المبين هو
الذي يبيّن المعنى ويُفهم منه مراد المتكلم، والبيان التام يقتضي ثلاثة أمور
متلازمة:
الأمر الأول: العلم التام بكل ما يلزم بيانه مما تتعلق به الحاجة
إلى معرفة الهدى.
والأمر الثاني: النصح والأمانة.
والأمر الثالث: الفصاحة وحسن البيان، وذلك بأداء المعاني
بالألفاظ الدالة عليها من غير تعقيد لفظي ولا معنوي.
ولا ريب أنّ النبي
صلى الله عليه وسلم قد كمَّل هذه المقامات أحسن التكميل؛ فهو أعلم الناس بالله
وبدينه، وأنصح الناس للناس وأعظمهم أمانة، وهو أفصح الناس وأحسنهم بياناً، والله
تعالى أعلم حيث يجعل رسالته.
فمن قدح في أمر من
هذه الأمور فقد قدح في بيان النبي صلى الله عليه وسلم وتبليغه آيات ربّه جلّ وعلا.
ومن ادّعى أنّ النصوص
تدلّ على خلاف ظاهرها وحقيقة معناها؛ فإنما هو لتقصيره في النظر أو قصوره عن إدراك
المعنى الصحيح المدلول عليه بالنصّ أو الظاهر.
- قال ابن القيم رحمه
الله: (مع كمال علم المتكلم، وفصاحته وبيانه، ونصحه يمتنع عليه أن يريد بكلامه
خلاف ظاهره وحقيقته).
وذكر في
"الصواعق المرسلة" مناظرة أخبره بمضمونها عبد الله بن عبد الحليم ابن
تيمية أخو شيخ الإسلام مع معطّل من أهل الأهواء يتأوّل الصفات؛ وخلاصتها أنّ
المتأوّل الذي يسوّغ تأويل معاني نصوص الصفات إلى معانٍ غير ظاهرة قد أساء الظنّ
بالله ورسوله، وذلك أنّ الحقّ إما أن يكون في المعاني الظاهرة المدلول عليها
باللسان العربي أو في غيرها؛ فإن كان في غيرها فإما أن يعلم الشارع أنّ كلامه يدلّ
على غير الحق أو لا يعلم:
فإن قال: لا يعلم
فهذا تجهيل وكفر.
وإن قال يعلم: فيقال:
إما أن ينصح للناس ويريد بيان الحق لهم أو لا يريد ذلك:
فإن قال: لا يريد
فهذا ضلال وكفر.
وإن قال: يريد ؛
فيقال: هل كان يحسن بيان ما يريده من الحق أو لا يحسن؟
فإن قال: لا يحسن؛
فهذا قدح في الفصاحة والبيان.
وإن قال: يحسن؛
فيقال: فيمتنع أن يكون الحقّ في غير المعاني الظاهرة من كلامه.
وقد أعجبني هذا
التأصيل فقلتُ في نظمه:
وكلُّ حمْلٍ قاصـــــــرِ .. على خلاف الظاهـــرِ
فالحامل المقــــــــصّرُ .. أو قاصرٌ لا يبـصِـــــــــــــرُ
تأويلــه لمـــــن نظـــــرْ .. توهّــــــــــــــــــــــم لا يعــــــــــتـبرْ
بل مقتضٍ للقدحِ .. في العـلـم أو في النصــحِ
أو أنه يعـــــــــــيـــــــــــيهِ .. بيـان ما يعــــــــــــــــــــنــــــــــــــيــهِ
وكلّ ذاك باطــــــــلُ .. لا يرتــضــيه عــــــــــــاقـــــــــــلُ
فالخلاصة أنّ دلالة
النص على معناه لا بدّ أن تكون في حقيقة الأمر بدلالة غالبة إما بالنصّ أو
بالظاهر، ومن عرض له ما يحتاج معه إلى تأويل فإنما ذلك لقصوره أو تقصيره.
وقد احترز بعض
الأصوليين لذلك فقالوا في تعريف التأويل الصحيح: هو حمل النص على معنى مرجوح لدليل
يصيّره راجحاً.
ولا يخفى ما في هذا
الاحتراز من التكلف فإن الحكم بأنّ المعنى الصحيح كان مرجوحاً حكم غير صحيح؛ فإنّ
المعنى الصحيح لم يتغيّر لكن كان غير ظاهر لبعض الناظرين فلما أوّل لهم النصّ ظهر
لهم المعنى.
بين التفسير والتأويل تقارب وتناسب، وقد يجتمعان،
ويفرّق بينهما بأنّ التفسير يُعنى فيه بالكشف عن معنى اللفظ بذكر ما يوضّحه
ويبيّنه.
والتأويل أقرب إلى بيان ما يؤول إليه المعنى،
ولا سيما المعنى البعيد الذي لا يُدرك إلا بالنظر والتدبر.
- قال الراغب الأصفهاني في تفسيره: (أكثر ما
يستعمل التفسير في الألفاظ، والتأويل: في المعاني).
ومن المفسّرين من لا يفرّق بينهما في
الاستعمال، ويقع هذا غالباً فيما إذا اجتمع التفسير والتأويل بأن يتضمن الكلام توضيح
الألفاظ وتفصيل معناها، وبيان ما يؤول إليه المعنى.
فلو قيل لك ما الهِزَبر والأغلب في
قول الشاعر: هزبراً أغلباً لاقى هزبرا؟
فقلتَ: الهزبر هو الأسد، والأغلب ذو
الرقبة الغليظة القصيرة.
فهذا تفسير للفظ، ولا يعدّ تأويلاً.
وإذا قيل لك فما تأويل البيت؟
قلت: يريد الشاعر أن الأسد لاقاه في
طريقه فنازله لشجاعته وإقدامه.
فهذا تأويل باعتبار أنه بيان لما
يؤول إليه معنى البيت.
والتفريق في الاستعمال بين التفسير
والتأويل أولى من اعتبارهما كاللفظين المترادفين.
- قال القاضي أبو يوسف: سألني الأعمش عن مسألة
فأجبته فيها، فقال لي: من أين قلت هذا؟
فقلت: لحديثك الذي حدثتناه أنت، ثم ذكرت له
الحديث.
فقال لي: (يا يعقوب! إني لأحفظ هذا الحديث قبل
أن يجتمع أبواك فما عرفت تأويله حتى الآن). رواه الخطيب البغدادي في تاريخه.
التأويل على
أربعة أقسام: صحيح، ومحتمَل، وفاسد، وباطل.
فالتأويل الصحيح هو الذي يبين معنى
النصّ بياناً جلياً يتّضح به المراد، ويزول به الإشكال إن وجد.
والتأويل المحتمَل: هو الذي يكون له
حظّ من النظر، ومساغ في الاجتهاد، لكن لا تتحقق الطمأنينة لصحته؛ ولا يكاد يسلم من
معارضة إما بإيراد يقاومه أو وجه آخر يزاحمه، وهذا يقع في المسائل التي تختلف فيها
تأويلات العلماء.
والتأويل المحتمل منه قريب وبعيد، وكلاهما مما
يقع التعبير عنه في كلام أهل العلم، والوصف بالقرب والبعد نسبي.
فالتأويل القريب والمقارب ما كان أقرب إلى
الصحّة، والبعيد ما كان أبعد عن الصحة وإن كان لا يجزم ببطلانه.
والتأويل الفاسد: هو الذي يتبيّن خطؤه
في صنعة الاستدلال أو في مخالفة مؤداه لدليل صحيح من نصّ أو إجماع أو حجة مقبولة.
وتسميته بالفاسد لأجل عدم صحته؛ فالفساد يقابل
الصحة، وإن كان هذا النوع من التأويل قد يقع في كلام بعض أهل العلم فمنهم من يكون
مجتهداً مخطئاً له أجر اجتهاده وخطؤه مغفور؛ فقد يخفى عليه خطؤه في الاستدلال،
ويغيب عنه ما يخالف ما أدّاه إليه اجتهاده من نصّ أو إجماع.
ومن أهل الأهواء من يكون عالماً بصنعة
الاستدلال ولغة أهل العلم لكن يقع منه التأويل الفاسد تقليداً لمعظّم أو نصرة لمذهب
أو اتباعاً للهوى؛ فيكون مذموماً بذلك غير معذور.
والتأويل الباطل: هو الذي لا دليل عليه إلا التحكم واتباع الهوى؛ ولا يحكى إلا على
التحذير والتعجب، كتأويلات الباطنية وغلاة الشيعة.
- قال الحسن بن عمرو التميمي: (لولا أني على
وضوء لأخبرتكم بما تقول الشيعة). رواه ابن سعد في الطبقات، وأبو نعيم في الحلية.
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الذين أدخلوا
في دين الله ما ليس منه وحرفوا أحكام الشريعة ليسوا في طائفة أكثر منهم في
الرافضة، فإنهم أدخلوا في دين الله من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يكذبه غيرهم، وردوا
من الصدق ما لم يرده غيرهم، وحرفوا القرآن تحريفاً لم يحرفه غيرهم، مثل قولهم: إن
قوله تعالى: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون
الزكاة وهم راكعون} نزلت في علي لما تصدق بخاتمه في الصلاة.
وقوله تعالى: {مرج البحرين} علي وفاطمة {يخرج
منهما اللؤلؤ والمرجان} الحسن والحسين، {وكل شيء أحصيناه في إمام مبين} علي بن أبي
طالب، {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران} هم آل أبي طالب، واسم أبي
طالب عمران، {فقاتلوا أئمة الكفر} طلحة والزبير {والشجرة الملعونة في القرآن} هم
بنو أمية، {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} عائشة، و{لئن أشركت ليحبطن عملك} لئن
أشركت بين أبي بكر وعلي في الولاية، وكلّ هذا وأمثاله وجدته في كتبهم)ا.هـ.
- وقال أيضاً: (وقد شاركهم في نحو هذه
التحريفات طائفة من الصوفية وبعض المفسرين كالذين يقولون: {والتين والزيتون} {وطور
سينين} {وهذا البلد الأمين} أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وكذلك قوله:
{كزرع أخرج شطأه} أبو بكر {فآزره} عمر {فاستغلظ} هو عثمان {فاستوى على سوقه} هو
علي.
وقول بعض الصوفية: {اذهب إلى فرعون إنه طغى} هو
القلب {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} هي النفس، وأمثال هذه التحريفات)ا.هـ.
- وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي فيما إذا
كان صرف اللفظ عن ظاهره لا لدليل أصلاً: (هذا يسمى في اصطلاح الأصوليين لعبا، كقول
بعض الشيعة: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} يعني عائشة رضي الله عنها، وأشار في "مراقي
السعود" إلى حد التأويل، وبيان الأقسام الثلاثة بقوله معرفا للتأويل:
حملٌ لظاهرٍ على المرجوح ... واقسمه للفاسد
والصحيح
صحيحه وهو القريب ما حمل ... مع قوة الدليل عند
المستدل
وغيره الفاسد والبعيد ... وما خلا فلعبا يفيد)ا.ه.
ولكل هذه الأقسام أمثلة كثيرة في كتب التفسير
وشروح الأحاديث وكلام الفقهاء.
وقع كثير من أهل الأهواء في فتنة التأويل وصرف
ألفاظ النصوص عن ظاهرها حيث توهموا دلالتها على ما يستنكرونه، ولذلك حالان:
أحدها: أن يكون الظاهر صحيحاً، واستنكارهم له إنما هو لسوء فهمهم وتوهّمهم
لوازم لا تصح.
والآخر: أن يكون ما توهّموه ظاهراً مستنكراً ليس بظاهر على الحقيقة، ولا نكارة
فيه.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إذا قال القائل:
ظاهر النصوص مراد، أو ظاهرها ليس بمراد.
فإنه يقال: لفظ "الظاهر" فيه إجمال
واشتراك، فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين، أو ما هو من
خصائصهم، فلا ريب أن هذا غير مراد.
ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمّون هذا
ظاهرا، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفرًا وباطلا، والله سبحانه وتعالى
أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر وضلال.
والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين:
تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ، حتى
يجعلوه محتاجًا إلى تأويل يخالف الظاهر، ولا يكون كذلك.
وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ،
لاعتقادهم أنه باطل.
فالأول: كما قالوا في قوله: (عبدي جعت فلم
تطعمني ... ) الحديث، وفي الأثر الآخر: (الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن
صافحه وقبَّله فكأنما صافح الله وقبَّل يمينه) ، وقوله: (قلوب العباد بين إصبعين
من أصابع الرحمن) .
فقالوا: قد عُلم أن ليس في قلوبنا أصابع الحق.
فيقال لهم: لو أعطيتم النصوص حقها من الدلالة
لعلمتم أنها لا تدل إلا على حق.
أما الحديث الواحد فقوله: (الحجر الأسود يمين
الله في الأرض، فمن صافحه وقبَّله فكأنما صافح الله وقبَّل يمينه) صريح في أنَّ
الحجر الأسود ليس هو صفة لله، ولا هو نفس يمينه، لأنه قال: (يمين الله في الأرض) ،
وقال: (فمن قبَّله وصافحه فكأنما صافح الله وقبَّل يمينه) ومعلوم أن المشبّه غير
المشبَّه به، ففي نصّ الحديث بيان أن مستلمه ليس مصافحًا لله، وأنه ليس هو نفس
يمينه، فكيف يجعل ظاهره كفرًا، وأنه محتاج إلى التأويل! مع أن هذا الحديث إنما
يعرف عن ابن عباس.
وأما الحديث الآخر: فهو في الصحيح مفسَّرًا:
(يقول الله: عبدي جعت فلم تطعمنى. فيقول: ربِّ كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟!.
فيقول: أما علمت أن عبدي فلانًا جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي. عبدي مرضت فلم
تعدني. فيقول: ربِّ كيف أعودك وأنت رب العالمين؟!. فيقول: أما علمت أن عبدي فلانًا
مرض، فلو عدته لوجدتني عنده) .
وهذا صريح في أن الله سبحانه وتعالى لم يمرض
ولم يجع، ولكن مرض عبده وجاع عبده، فجعل جوعه جوعه، ومرضه مرضه، مفسِّرًا ذلك بأنك
(لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، ولو عدته لوجدتني عنده) . فلم يبق في الحديث لفظ يحتاج
إلى تأويل.
وأما قوله: (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع
الرحمن) ، فإنه ليس في ظاهره أن القلب متصل بالأصابع، ولا مماس لها، ولا أنها في
جوفه. ولا في قول القائل: هذا بين يدَيّ. ما يقتضي مباشرته ليديه. وإذا قيل:
{وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} لم يقتض أن يكون مماسًا
للسماء والأرض. ونظائر هذا كثيرة)ا.هـ.
-
قال بدر الدين الزركشي(ت:794هـ) في البرهان: (مثال المؤول
قوله تعالى: {وهو معكم أينما كنتم} فإنه يستحيل حمل المعية على القرب بالذات فتعين
صرفه عن ذلك وحمله إما على الحفظ والرعاية أو على القدرة والعلم والرؤية كما قال
تعالى: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد})ا.هـ.
وهذا التأويل مردود؛ لأنّ معيّة الله تعالى
ليست كمعية غيره؛ فالله تعالى هو الكبير المتعال لا يحويه الكون ولا يحيط به شيء،
وهو على عرشه ومع خلقه لا يعارض علوّه معيّته ولا تعارض معيّته علوّه، لا يخفى
عليه شيء، ولا يفوته سماع صوت، ولا إدراك قصد، ولا إبصار ذرة من خلقه.
والعرب تقول: ما زلنا نسير والقمر معنا، فلم
يمنع بُعْد القمر في حقيقة الأمر عن كونه معهم، ولم يلزم من تحقق وصف المعية أن
يكون القمر صغير الحجم تتناوله أيديهم.
والله تعالى له المثل الأعلى؛ فهو مع خلقه وهو
عليّ على جميع خلقه، لا يفوته من شأنهم شيء.
فصرفهم لفظ الآية عن ظاهره إنما كان لتوهمهم
دلالة الظاهر على ما فيه نقص يدرك كلّ عارف بالله تنزّه الله تعالى عنه، وأن ما
فهموه بعيد جداً عن أن يكون هو ظاهر الآية، بل هو باطل مردود، وإذا ثبت بطلانه
وأنه ليس ما يدلّ عليه ظاهر الآية لم تبق حاجة إلى التأويل.
- قال ابن عطية(ت:542هـ): (قاعدة الكلام في هذه
الآية أن حلول الله تعالى في الأماكن مستحيل وكذلك مماسته للأجرام أو محاداته لها
أو تحيز لا في جهة لامتناع جواز التقرب عليه تبارك وتعالى، فإذا تقرر هذا فبين أن
قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ} ليس على حد
قولنا زيد في الدار، بل هو على وجه من التأويل آخر).
وذكر غيره أوجهاً من التأويل فراراً مما توهموه
من هذا المعنى الباطل؛ فمنهم من زعم أنّ الوقف على قوله تعالى: {وهو الله في
السموات} واجب، ثم يبتدئ {وفي الأرض يعلم سركم وجهركم}
وقال بعضهم: المعنى على تقدير: هو الله المدبر
للأمر في السماوات وفي الأرض.
والجواب أنّ من تبادر إلى ذهنه من هذه الآية
أنّ الله تعالى حالّ في السموات أو في الأرض فإنما هو لقصوره أو تقصيره، ولا ينبغي
أن يتبادر هذا المعنى الباطل إلى الذهن، فمن عرف الله تعالى بأسمائه وصفاته علم
أنّ هذا المعنى الباطل لا يمكن أن يكون هو ظاهر كلام الله تعالى في هذه الآية.
بل المعنى أنّ الله تعالى هو الإله المعبود الذي
يعرفه أهل السموات وأهل الأرض، بل هو أعرف المعارف.
فلو قيل: لأهل السموات من هو الله؟ وقيل لأهل
الأرض: من هو الله؟
لكان الجواب واحداً معروفاً لا يجهل عند
جميعهم، ولا ينكر معرفته إلا مكابر.
ومقصد الآية ظاهر في تقبيح نظر الكفار وتبكيتهم
بسوء اختيارهم بعبادتهم غير الله تعالى؛ وقد عرّفهم بهذه الآية أنه ما ليس لأحد
مما يُعبد من دون الله ما يقارب هذه المنزلة في المعرفة ولا ما يدانيها؛ فكيف يُعبد
من دون الله!!
ولم تسق الآية لبيان محلّ الله تعالى الله عن
ذلك علواً كبيراً، فلا يلزم من ظاهر الآية أنّ الله تعالى حالّ في السموات وحالّ
في الأرض، بل هذا بعيد جداً عن مقصد الآية، وعن عن أن يكون هو ظاهرها.
وقريب من هذا المعنى قول الله تعالى: {وَهُوَ
الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ
الْعَلِيمُ (84)}
أي: هو الذي يألهه أهل السماء وأهل الأرض، بل
هو الإله الحق، وما يُعبد من دونه فليس بإله على الحقيقة، ولا يستحق من العبادة
شيئاً.
وقال تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ
إِلَهٍ غَيْرُهُ}
وقال تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا
اللَّهُ}
وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ
وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ}
وقال تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا
اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65)}.
- قال عبد الله بن عمر البيضاوي(ت:685هـ): ({مَثَلُ
نُورِهِ} صفة نوره العجيبة الشأن، وإضافته إلى ضميره سبحانه وتعالى دليل على أنَّ
إطلاقه عليه لم يكن على ظاهره).
وقد فهم جماعة من المفسرين المتأخرين أن ظاهر
الآية يدلّ على أنّ الإضافة في قوله تعالى: {نوره} إضافة صفة إلى موصوف، وهذا
الفهم غير صحيح؛ لأنَّ الله تعالى ليس كمثله شيء، ونور الله تعالى الذي هو صفة
ذاته لا يقوم له شيء كما في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد وغيرهما من حديث أبي
معاوية الضرير قال: حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة عن أبي موسى رضي
الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات
وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه).
ومن المعلوم أنّ الله تعالى لا يعزب عن بصره شيء من خلقه.
فإضافة النور إلى الضمير العائد إلى الله جلّ
وعلا في قوله تعالى: {مثل نوره} إضافة تشريف، لأنه نورٌ منَ الله هدى له من شاء من
عباده فأبصروا به الحق.
وهو النور المذكور في قول الله تعالى: {ويجعل
لكم نورا تمشون به} ، وقوله تعالى: {وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس}
وإضافة هذا النور إلى الله تعالى لأنه هو مانحه
جلّ وعلا، والمانّ به، لا يمكن لأحد أن يكون له نور إلا بأن يجعل الله تعالى له
نوراً كما قال تعالى: {ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور}.
وقد دلّت النصوص على أنّ لروح المؤمن نوراً لا
يدركه الناس بأبصارهم، ومركزه من روح الإنسان قلبُه الذي هو محلّ الإيمان واليقين،
كما دلّت النصوص أيضاً على أنّ القلوب تستنير وتظلم؛ وأنّ الجوارح تتأثر بها
استنارة وظلمة، فاستنارتها بالعلم والإيمان والأعمال الصالحة، وظلمتها بالجهل
والكفر والفسوق والعصيان.
وهذا مما يدلّ على تفاضل المؤمنين في هذا النور
على درجاتهم في العلم والإيمان والأعمال الصالحة.
والمثل الذي ذكره الله عزّ وجلّ في قوله تعالى:
{كمشكاة فيها مصباح} إلى آخر الآية مطابق لحال النور الذي يجعله الله في قلب كلّ
مؤمن، ولا يناله إلا من جعل الله له نوراً.
وهذا النور لا يدركه الناس بأبصارهم فوصفه الله
تعالى لنا لنتحقق من وجوده وأثره، ونرغب إلى الله في الاستزادة من نوره، وهذا ظاهر
في أنه من مقاصد الآية.
والآثار المروية عن السلف ترجع إلى هذا المعنى؛
وهو معنى ظاهر لا حاجة معه إلى التأويل، ولم يزعم أحد من السلف أن ظاهر الآية يدلّ
على أنّ النور المراد في قوله تعالى: {مثل نوره} هو نور ذات الله، تعالى الله عن
ذلك.
ومن توهّم أنّ هذا هو ظاهر الآية فإنما ذلك لقصوره أو تقصيره، وقد فهم فهماً بعيداً عن مقصد الآية.
الاختلاف في دلالة الظاهر واقع في مسائل كثيرة،
ولذلك يقع بين أهل العلم اختلاف معتبر في التأويل فيكون منه تأويل حسن مقبول،
وتأويل خطأ معلول، والتأويل الحسن هو الذي يوفّق فيه المجتهد لموافقة المعنى
لدلالة الظاهر.
وأمثلة الاختلاف في التأويل في كلام المفسرين
وشرّاح الأحاديث كثيرة جداً؛ فيحسن أن يوقف الطالب على أمثلة للاختلاف في التأويل
يدرسها دراسة حسنة تكون عوناً له بإذن الله تعالى على إحسان دراسة ما سواها.
قال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ
أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ
وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا
تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا
مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}
- قال ابن عاشور: (واتفق علماء الإسلام على
أن ظاهر الآية غير مراد إذ لا قائل بوجوب نفقة المرضِع على وارث الأب، سواء كان
إيجابها على الوارث في المال الموروث بأن تكون مبدَّاةً على المواريث للإجماع على
أنه لا يبدأ إلا بالتجهيز ثم الدين ثم الوصية، ولأنَّ الرضيع له حظه في المال
الموروث، وهو إذا صار ذا مال لم تجب نفقته على غيره، أم كان إيجابها على الوارث لو
لم يسعها المال الموروث فيكمل من يده، ولذلك طرقوا في هذا باب التأويل إما تأويل
معنى الوارث وإما تأويل مرجع الإشارة وإما كليهما)ا.هـ.
قلتُ: ما ذكره ابن عاشور عفا الله عنه من حكاية
الاتفاق على أنّ ظاهر الآية غير مراد لا يصحّ بهذا الإطلاق، لأنه فهم من دلالة الظاهر
فهماً خاصاً لا يوافق فهم جمهور العلماء ثمّ حكى الاتفاق على أنه غير مراد، ودلالة
ظاهر الآية هنا قد وقع الاختلاف في تعيينها، وقد حكى ابن جرير الخلاف في دلالة
ظاهر هذه ا لآية فقال: (غير جائزٍ أن يقال في تأويل كتاب اللّه تعالى ذكره قولٌ
إلاّ بحجّةٍ واضحةٍ على ما قد بيّنّا في أوّل كتابنا هذا، وإذ كان ذلك كذلك، وكان
قوله: {وعلى الوارث مثل ذلك} محتملاً ظاهره: وعلى وارث الصّبيّ المولود مثل الّذي
كان على المولود له، ومحتملاً وعلى وارث المولود له مثل الّذي كان عليه في حياته
من ترك ضرار الوالدة ومن نفقة المولود).
فهذا ابن جرير حكى قولين فهمهما من دلالة ظاهر
الآية، وبقيت أقوال أخر تحتملها دلالة الظاهر؛ فكيف يقال باتفاق علماء الإسلام على
أنّ ظاهر هذه الآية غير مراد.
وهذه الآية على وجازة ألفاظها قد استوعبت أحكام
نفقة رضاع الصبي في حال حياة والديه أو موت أحدهما أو موتهما، وفي حالي التنازع
على كفالته وتدافعها، وحدّ الحدود التي يُحفظ بها حقّ الرضيع؛ فأوجب على الوالدة
إرضاعه حولين كاملين ما لم يتراضيا على فصاله قبل ذلك.
{وعلى المولود له} وهو الأب أو من يقوم مقامه
عند فقده {رزقهنّ وكسوتهن بالمعروف لا تكلّف نفس إلا وسعها}
وحرّم المضارّة على الطرفين الأب والأم ومن
يقوم مقام كلّ واحد منهما {لا تضارّ والدة بولدها ولا مولود له بولده}
والفعل {تضارّ} يحتمل أن يكون أصله [ لا
تضارِرْ] وأن يكون أصله [ لا تضارَر} على البناء لما لم يسمّ فاعله، والوجهان
صحيحان.
فهذا كله في حال حياة الأب.
وقوله: {وعلى الوارث مثل ذلك} أي: مثل ما مضى
من الالتزام على كلّ بحسبه من تحريم المضارة، ونفقة المرضع وكسوتها مدة الرضاعة.
وفي المراد بالوارث قولان مشهوران للسلف:
القول الأول: الوارث هو وارث الولد، وهذا قول
عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عتبة، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وغيرهم.
وقد ألزم عمر عصبة الولد الذي مات أبوه نفقته،
وهذا هو مقتضى العدل؛ فإنه لو قدّر أن الولد رُزق مالاً ثم مات فإنَّ ماله يؤول
إلى عصبته؛ فقيامهم عليه في حال حاجته وعجزه واجب عليهم.
وإطلاق الوارث للحيّ على تقدير موته إطلاق
صحيح، وفي صحيح البخاري من حديث محمد بن المنكدر قال: سمعت جابراً يقول: جاء رسول
الله صلى الله عليه وسلم يعودني، وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ وصبَّ علي من وضوئه،
فعقلت، فقلت: (يا رسول الله لمن الميراث؟ إنما يرثني كلالة، فنزلت آية الفرائض).
فهذا قاله جابر وهو حيّ يسأل عن وارثه بعد
موته.
وذكر "الوارث" هنا يدلّ بدلالة
الإيماء على الحقوق المالية المتبادلة بين الولد وعصبته، وتنبيه لهم على سبب وجوب
نفقته عليهم بأنهم يرثونه إذا كان له مال.
القول الثاني: الوارث هو الولد نفسه، وهو قول
قبيصة بن ذؤيب، والضحاك بن مزاحم، وهو
إطلاق صحيح باعتبار وفاة الأب، فتكون النفقة في مال الولد الوارث، والقيّم على ماله
هو كفيله، ويكون العدول عن لفظ "وعلى المولود" إلى قوله: {وعلى الوارث}
لأن المولود ليس محلاً للتكليف، وإنما الذي يكلَّف كفيله؛ فهو مؤتمن عليه، وضامن
حقّ المرضعة وكسوتها أن يؤديها لها من مال الولد إلا أن يتطوع.
وهذان القولان ليس بينهما تعارض، ويمكن الجمع
بينهما، ولذلك قال الضحاك: (إن مات أبو الصّبيّ وللصّبيّ مالٌ أخذ رضاعه من المال،
وإن لم يكن له مالٌ أخذ من العصبة، فإن لم يكن للعصبة مالٌ أجبرت عليه أمّه). رواه ابن جرير.
وذُكر في المراد بالوارث قولان آخران:
أحدهما: المراد وارث المولود له الذي هو الأب،
من الرجال والنساء فتجب نفقة الرضيع عليهم، وهذا القول ذكره ابن جرير، ولا يصحّ عن
أحد من السلف، واستدلّ له بإلزام عمر عصبة الولد بنفقته، وليس في ذلك دليل على هذا
القول، بل هو من أدلة القول الأول.
وهذا هو ما فهمه ابن عاشور من ظاهر الآية ولا
يصحّ أن يكون هو ظاهر الآية، لأن المولود له قد يكون المراد به الأب، وقد يكون
المراد به وليّ المولود من عصبته، وليس كلّ ورثة المولود له يكونون من عصبته.
والقول الآخر: الوارث هو من كان ذا رحم محرم
للمولود، فإن لم يكن محرماً كابن العمّ فليس عليه نفقته، وهذا قول أبي حنيفة
وصاحبيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن، وهو تأويل غير صحيح، ولا حجة له.
فقوله تعالى: {وعلى الوارث مثل ذلك} له وجهان
صحيحان في التفسير يشملان حالي التنازع والتدافع في كفالته، وحالي غنى الصبي
وعدمه.
وذلك أنّ الصبي قد يتنازع أقاربه على كفالته،
وقد يتدافعونها، وقد يكون ذا مال من إرثه لأبيه، وقد يكون معدماً لا مال له،
والآية بيّنت الأحكام في ذلك كلّه بأوجز عبارة.
فإذا تنازعوا الكفالة فمن تقع له الكفالة فعليه
ما يلزم الكفيل، ويكون معنى {الوارث} هنا وارث الصبيّ كفالة.
وإن تدافعوا كفالته ألزمت بذلك عصبته حفظاً
لحقّه حتى يدرك، وعلى من يرث هذا الالتزام ما كان على الأب من تحمّل النفقة، وترك
المضارة.
هذه الآية ذكر بعض أهل العلم أنّها من المؤوَّل
لأنهم فهموا من ظاهرها ما يقتضي إنفاذ الجزاء بالخلود الأبدي في النار على كل من
تعمّد قتل مؤمن، ووجدوا هذا الظاهر يعارض ما ثبت في نصوص كثيرة من قبول توبة
القاتل، وجواز مغفرة الله له، وخروج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان؛ فلذلك
سلكوا مسلك التأويل الذي فيه صرف اللفظ عن هذا الظاهر، حتى أوّلها بعضهم بالمستحلّ،
لأنّ من يستحلّ قتل مؤمن فهو كافر والكافر خالد مخلّد في نار جهنّم لا يخرج منها.
ومنهم من قصرها على ما روي في سبب نزولها وأن
مقيس بن صبابة قتل رجلاً مؤمناً من بني فهر ثمّ ارتدَّ ولحق بالمشركين؛ وأنشد:
قتلت به فهراً وحمّلتُ عقله ... سراة بني
النجار أربابَ قارعِ
وأدركتُ ثأري واضطجعت موسداً ... وكنت إلى
الأوثان أول راجعِ
وهذا الخبر من روي من مرسل عكرمة، ومن طرق لا
تخلو من ضعف، لكن صحّ أن مقيس بن صبابة ممن أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم
يوم فتح مكة، وأمر بقتلهم ولو تعلّقوا بأستار الكعبة؛ فقتل في سوق مكة يوم الفتح.
فقال بعض أهل العلم: إنّ الآية نزلت فيه؛
فحكمها مختصٌّ به، وبمن كان في مثل حاله.
وهذه التأويلات فيها قصرٌ للمعنى عن عمومه، ومخالفة
لمقصد الآية من الترهيب والزجر الشديد عن قتل المؤمن، لأنَّ الوعيد إذا قُصر على
المستحلّ والمرتد لم يكن في ذلك زجر لغيرهما.
ومما يزول به الإشكال التبصير بأمور:
الأمر الأول: أنّ الآية لم يذكر فيها التأبيد، وإنما ذكر فيها الخلود، وهو المكث
الطويل مطلقاً، فالخلود قد يكون معه تأبيد، وقد لا يكون معه تأبيد، وإنما يستفاد
التأبيد من دليل إضافي زائد على مجرد الخلود.
ومن ذلك أنّ العرب تسمّى حجار الأثافي خوالد، وهي
ثلاثة أحجار يوقد بينها النار، وتطبخ عليها القدور، فسميت خوالد لأنّها تمكث في موضعها
مكثاً طويلاً، بل ربما رحلوا وتركوها.
قال لبيد:
فوقفتُ أسألها وكيف سؤالنا ... صمّاً خوالد ما
يبين كلامها
ويُروى: سُفعاً، والسُّفعة لون يضرب إلى
السواد.
وقال المخبّل السعدي:
وأرى لها دارا بأغدرة الســـــــــــــــــــــــــــــــــــــيدان
لم يدرس لها رسم
إلا رماداً هامداً دفعت ... عنه الرياحَ خوالدٌ
سُحْمُ
وقال زهير بن أبي سلمى:
غشيت دياراً بالبقيع فثهمد ... دوارس قد أقوين
من أمّ معبد
أربت بها الأرواح كل عشية ... فلم يبق إلا آل
خيم منضد
وغير ثلاث كالحَمام خوالدٍ ... وهابٍ مُحيلٍ
هامدٍ متلبدِ
وهذه الحجار الثلاث الخوالد هي الأثافي التي
قال فيها في معلقته:
وقفت بها من بعد عشرين حجة ... فلأيا عرفت
الدار بعد توهم
أثافي سُفعاً في معرَّس مرجلٍ ... ونؤيا كجذم
الحوض لم يتثلم
ومن المعلوم أنّ خلود الأثافي في موضعها لا
يقتضي التأبيد.
وقال لبيد بن ربيعة:
للحنظلية أصبحت آياتها ... يبرقن تحت كنهبل الغُلان
خَلَدَتْ ولم يخلدْ بها من حلَّها ... وتبدّلت
خيطا من الأحدان
كنهبل الغلان شجر الأودية، والخيط جماعة
النعام، والأحدان المفاريد التي تأتي واحداً بعد واحد.
والشاهد قوله: خلدت، أي: آيات محلّها وما تركه
أهلها بعد رحيلهم من علامات نزولهم؛ فوصفها بالخلود لأنه مكث طويل، ولا يقتضي ذلك انتفاء
طروء ما يغيّرها ويعفّيها.
وقال جؤية بن النضر:
إنا إذا اجتمعت يوما دراهمنا ... ظلَّت إلى طرق
المعروف تستبق
ما يألفُ الدرهمُ الصيَّاح صُرَّتنا ... لكن
يمرّ عليها وهو منطلق
حتى يصير إلى نذلٍ يخلّده ... يكاد من صّرّه
إياه ينمزق
يريد أنّ البخيل يخلّد دراهمه في صُرّتها فتمكث
فيها مكثاً طويلاً؛ ولا يقتضي ذلك التأبيد لأنّه لو أمسكها إلى موته فمصيرها إلى تقسّم
الميراث.
إذا تبيّن ذلك فالخلود المذكور في الآية يدلّ
على تضمّن الجزاء للمكث الطويل في النار من غير اقتضاء للتأبيد فيها.
الأمر الثاني: أنّ الآية لم يخصص فيها قاتل دون قاتل، وإنما ذكر الجزاء عامّاً لكلّ
قاتل، ومن المعلوم أنّ أكثر قَتَلةِ المؤمنين إنما هم الكفار، وأما المؤمن فالأصل
فيه أنه لا يقدم على قتل مؤمن عمداً، ولذلك قال الله تعالى: {وما كان لمؤمن أن
يقتل مؤمناً إلا خطأ}
واعتبار غالب الجناة في ذكر العقوبة له وجه، وكون
القاتل مؤمناً من النادر إذا نُسب إلى عموم القَتلة، ويبقى الوعيد شديداً عليه
باعتبار مشابهته لأعداء الله من الكفار في قتلهم بعض المؤمنين، ويكون لذكر الخلود في
الآية وجهان:
أحدهما: خلود أبدي عام للقتلة من الكفار، لأنهم
ليس لهم سبب ينجون به من الخلود فيها، ولفظ الآية لا ريب أنه يشملهم.
والآخر: خلود غير مؤبّد، وهذا مختص بالقتلة من المسلمين.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (في قوله: {ومن يقتل
مؤمنا متعمدا فجزآؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما}
ولم يذكر: [أبدا]، وقد قيل: إن لفظ "التأبيد" لم يجئ إلا مع الكفر).
والأمر الثالث: أنّ هذا النصّ في الوعيد كسائر نصوص الوعيد في عصاة الموحدين؛ يبيّن
الله فيها الجزاء؛ فإن شاء تعالى أمضاه ونفذ في المستحقّ له، وإن شاء خففه، وإن
شاء عفا عنه، وقد بيّن الله تعالى أنّه يغفر ما دون الشرك لمن يشاء من عباده، والقتل
دون الشرك فهو داخل في المشيئة، وما دام داخلاً في المشيئة فلا يجزم باستيفاء
العقوبة؛ لأن العبد بين أن يعاقب العقوبة المنصوص عليها، وبين أن يخفف عنه منها،
وبين أن يعفو الله عنه لأسباب معتبرة ذكرها الله في نصوص كثيرة منها ما يدفع
العذاب، ومنها ما يرفعه، وقد أوصلها بعض أهل العلم إلى عشرة أصناف، وهي نصوص محكمة
لا يجوز إغفالها؛ والجمع بين النصوص واجب.
وقد ثبت في النصوص الصحيحة أنّ الله تعالى يخرج
من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، كما في الصحيحين من حديث عمرو بن
يحيى بن عمارة المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: « إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، يقول الله: [من
كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه]، فيخرجون قد امتحشوا وعادوا حمماً،
فيلقون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحِبَّة في حميل السيل، ألم تروا أنها
تنبت صفراء ملتوية ».
وفي الصحيحين أيضاً من حديث شعبة، عن قتادة،
أنه سمع أبا الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «
أنَّ رجلاً قتل تسعة وتسعين نفساً، فجعل يسأل هل له من توبة؟ فأتى راهباً، فسأله
فقال: ليست لك توبة، فقتل الراهب، ثم جعل يسأل، ثم خرج من قرية إلى قرية فيها قومٌ
صالحون، فلما كان في بعض الطريق أدركه الموت فنأى بصدره، ثم مات، فاختصمت فيه
ملائكة الرحمة وملائكة العذاب؛ فكان إلى القرية الصالحة أقرب منها بشبر فجُعل من
أهلها ».
-وقال سليمان
التّيميّ، عن أبي مجلزٍ لاحق بن حميد في قوله: {ومن يقتل مؤمنًا متعمّدًا فجزاؤه
جهنّم} قال: «هي جزاؤه، فإن شاء أن يتجاوز عن جزائه فعل» رواه ابن أبي شيبة، وأبو
داوود، وابن جرير.
- وقال شعبة، عن يسار، عن أبي صالح قال: (جزاؤه
إن جازاه). رواه ابن أبي شيبة وابن جرير، ويسار تصحيف، وصوابه: سيّار بن وردان
العنزي الواسطي من كبار أصحاب الشعبي.
- قال ابن القيم رحمه الله: (الحكم إنما يتم
بوجود مقتضيه وانتفاء مانعه، وغاية هذه النصوص الإعلام بأنَّ كذا سبب للعقوبة
ومقتض لها، وقد قام الدليل على ذكر الموانع، فبعضها بالإجماع، وبعضها بالنص،
فالتوبة مانع بالإجماع، والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة التي لا مدفع لها،
والحسنات العظيمة الماحية مانعة، والمصائب الكبار المكفرة مانعة، وإقامة الحدود في
الدنيا مانع بالنص، ولا سبيل إلى تعطيل هذه النصوص فلا بدَّ من إعمال النصوص من
الجانبين.
ومن هاهنا قامت الموازنة بين الحسنات والسيئات
اعتبارا بمقتضي العقاب ومانعه وإعمالا لأرجحها)ا.هـ.
- وقال ابن كثير رحمه الله: (ومعنى هذه
الصّيغة: أنّ هذا جزاؤه إن جوزي عليه، وكذا كلّ وعيدٍ على ذنبٍ، لكن قد يكون كذلك
معارض من أعمالٍ صالحةٍ تمنع وصول ذلك الجزاء إليه، على قولي أصحاب الموازنة أو
الإحباط. وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد، واللّه أعلم بالصّواب.(
- وقال أبو حيّان الأندلسي رحمه الله: (إذا
كانت عامة فيكون ذلك على تقدير شرط كسائر التوعدات على سائر المعاصي، والمعنى:
فجزاؤه إن جازاه، أي: هو ذلك ومستحقه لعظم ذنبه، هذا مذهب أهل السنة. ويكون الخلود
عبارة في حق المؤمن العاصي عن المكث الطويل، لا المقترن بالتأبيد، إذ لا يكون كذلك
إلا في حق الكفار)ا.هـ.
قلت: لا حاجة لتقدير الشرط، لأنّ تسمية الجزاء
لا تقتضي إنفاذه حتماً، وإن ذكر من باب التفسير فحسن.
وأما قول من قال من السلف: لا توبة لقاتل،
فإنما يراد بذلك عدم سقوط حقّ المقتول، فإنه لا يمكنه أن يتحلل منه، وفي صحيح
البخاري من حديث سعيد بن عمرو الأموي، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: «لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما».
- قال يزيد بن هارون الواسطي: أخبرنا أبو مالك
الأشجعي، عن سعد بن عبيدة، قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: لمن قتل مؤمنا توبة؟
قال: «لا إلا النار » فلما ذهب قال له جلساؤه: ما هكذا كنت تفتينا، كنت تفتينا أن لمن قتل مؤمنا توبة مقبولة، فما بال اليوم؟ قال: «إني أحسبه رجل مغضب يريد أن يقتل مؤمنا»
قال: فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك). رواه ابن أبي شيبة.
- وقال سعيد بن منصور: حدثنا سفيان بن عيينة،
قال: ( كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا: لا توبة له، وإذا ابتلي رجل قالوا له: تب).
رواه سعيد بن منصور في سننه، والبيهقي في السنن الكبرى.
وأهل السنة وسط في هذه النصوص بين الوعيدية من
الخوارج والمعتزلة الذين يقولون بخلود أصحاب الكبائر في النار، وبين المرجئة الذين
يقولون: لا يضرّ مع الإيمان ذنب.
- قال هشام بن حسان القردوسي: كنا عند محمد بن
سيرين، فتحدثنا عنده، فقال: له رجل من القوم: {من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم} حتى
ختم الآية قال: فغضب محمد وقال: أين أنت عن هذه الآية {إن الله لا يغفر أن يشرك به
ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}؟ قم عني، اخرج عني. قال: فأخرج). رواه البيهقي.
- وقال إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد البصري:
حدثنا قريش بن أنس [ الأنصاري] قال: سمعت عمرو بن عبيد يقول: يؤتى بي يوم القيامة
فأقام بين يدي الله فيقول لي: أقلت إن القاتل في النار؟ فأقول: أنت قلته، ثم تلا
هذه الآية: {ومن يقتل مؤمنا متعمداً فجزاؤه جهنم} حتى إذا فرغ من الآية فقلت: وما
في البيت أصغر مني: أرأيت إن قال لك: أنا قلت: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر
ما دون ذلك لمن يشاء} من أين علمت أني لا أشاء أن أغفر لهذا؟ فما ردَّ علي شيئاً).
رواه ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث، والعقيلي في الضعفاء.
وقال سوار بن عبد الله القاضي: حدثنا عبد الملك
الأصمعي، قال: كنا عند أبي عمرو بن العلاء قال: فجاء عمرو بن عبيد، فقال: يا أبا
عمرو يخلف الله وعده؟
قال: لا.
قال: أرأيت من وعده الله على عمل عقاباً، أليس
هو منجزه له؟
فقال له أبو عمرو: يا أبا عثمان من العُجمة
أُتيت! إنّ العربَ لا تعدّ عاراً ولا خلفاً أن تعد شراً ثم لا تفي به، بل تعده
فضلاً وكرماً، إنما العار أن تَعِدَ خيراً ثم لا تفي به.
قال: ومعروف ذلك في كلام العرب؟
قال: نعم.
قال: أين هو؟
قال أبو عمرو: قال الشاعر:
لا يرهب ابنُ العم ما عشت صولتي ... ولا أختتِي
من صَوْلَةِ المتهدد
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي
ومنجز موعدي). رواه ابن بطة العكبري في الإبانة، وابن أبي زمنين في السنة، والبيهقي
في شعب الإيمان، والخطيب البغدادي في تاريخه، وغيرهم.
- وقال أبو محمد البغوي: (حُكي أنَّ عمرو بن
عبيد جاء إلى أبي عمرو بن العلاء فقال له: هل يخلف الله وعده؟ فقال: لا، فقال:
أليس قد قال الله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها فقال أبو
عمرو بن العلاء: من العجمة أتيت يا أبا عثمان! إن العرب لا تعد الإخلاف في الوعيد
خلفا وذما وإنما تعد إخلاف الوعد خلفا وذماً...). ثم أنشد البيتين.
- قال ابن القيّم: (ولهذا مدح به كعب بن زهير
رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: نبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند
رسول الله مأمول).
هذه الآية كثر الاختلاف في تأويلها في كتب التفسير حتى ذكر فيها نحو عشر
تأويلات، وسبب ذلك توهم دلالة ظاهر الآية على تعليق الأمر بالتذكير بشرط الانتفاع،
وقد تقرر في نصوص كثيرة عموم الأمر بالتذكير.
- فأوَّلها بعضهم على الحذف، والتقدير عنده:
فذكر إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع، وهذا تأويل الفراء، وقد أنكره عليه جداً الإمام
أحمد لما فيه من مصادمة للفظ الآية.
- وأوَّلها بعضهم بالتماس معنى لحرف "إن"
غير معنى الشرط؛ فقيل: هي بمعنى "قد"، وقيل: بمعنى "إذ" ، وقيل:
بمعنى "ما" الشرطية، وقيل: هي "إن" المخففة من الثقيلة، وقد
قال بكلّ تأويل واحد أو جماعة من المفسرين.
- وأوّلها بعضهم بمظنّة الانتفاع، لأنّ تحقق الانتفاع لا يمكن الوقوف عليه قبل التذكير؛ وما لا يمكن التحقق من عينه علّق الحكم بمظنته؛ فالتقدير عندهم: فذكّر إن رأيت أن الذكرى تنفع، كما قال تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات}.
- وأوّل بعضهم التذكير في قوله تعالى: {فذكّر}
بالتذكير الخاص لأنّ التذكير في القرآن منه عامّ وخاص؛ فالعام لعموم المكلفين
وتقوم به الحجة، والخاص لأهل الخشية والإنابة كما قال تعالى: {وما يتذكر إلا من
ينيب} وقال: {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى}
- وأوّل بعضهم الأمر التذكير على معنى القدر الزائد على البلاغ
الأصلي؛ فالحجة قامت بالبلاغ الأصلي، والتذكير قدر زائد غير واجب.
وقيل غير ذلك من التأويلات.
والتحقيق أنه لا حاجة إلى تأويل يصرف الآية عن ظاهرها الصحيح؛ فالآية على
ظاهر صحيح باهر البيان، وقد أفردت رسالة في تفسير هذه الآية فليراجعها من يريد
الاستزادة في تفصيل الأقوال والحجج فيها.
وخلاصة القول فيها أنّ قوله تعالى: {فذكر} ليس
متعلقاً بالشرط {إن نفعت الذكرى}، بل هو مفرَّع على ما قبله {ونيسرك لليسرى فذكر}؛
وترتيب التذكير على التيسير في هذه الآية نظير ما في قول الله تعالى: {ولقد يسرنا
القرآن للذكر فهل من مدّكر}.
و"إن" في قوله تعالى: {إن نفعت الذكرى} شرطية، والجملة مستأنفة استئنافاً بياناً، وجواب الشرط محذوف لإفادة العموم في تقدير ما يصلح له.
ولا يصحّ تعليق الأمر بالتذكير بشرط الانتفاع، وليس
في تفاسير السلف ما يدلّ على ذلك، لأنَّ الأمر بالتذكير عامّ كما هو متقرر من
أدلّة كثيرة، ولأن الانتفاع بالتذكير لا يُعلم إلا بعد التذكير؛ فكيف يُعلَّق
به؟!!
والتحقيق أنّ جواب الشرط هنا محذوف، كما حذف في
مواضع كثيرة من القرآن، وحذفه أبلغ بياناً، وأوفى معنى، لتعلّق الشرط بأصناف من
المخاطبين، منهم المتّبع والمخالف، ومنهم الداعي والمدعو، ولكلّ صنف تقدير يناسبه
في الجواب.
ثم إن مبلغ النفع وآثاره ومبلغ الإعراض عن
الانتفاع وآثاره من الأمور التي لا يستوفيها ذهن الإنسان، ولا يبلغ منتهى التفكّر
فيها؛ فحذف الجواب لتذهب النفس في تقديره كلّ مذهب ممكن.
وحذف الجواب مناسب أيضاً لحذف مفعول {فذكّر}
ومتعلَّقه ليعمّ المذكَّرين وما يُذكّر به.
فتناولت الآية معانيَ واسعة، وقَسمت الناس إلى
قسمين:
- قسم ينتفع بالذكرى فاكتفي بالنصّ على النفع
دون ذكر متعلّق النفع؛ لكثرة المنافع وعظمتها وتنوّعها.
- وقسم لا ينتفع بالذكرى، وهم المعرضون الذين
يأبون الانتفاع بالذكرى تكبّراً وعناداً، ولإعراضهم عن الانتفاع آثار كثيرة عظيمة
متنوّعة في الدنيا والآخرة.
وانتفاع بعض المذكَّرين بالذكرى حجة على من لم
ينتفع بها، وذلك أنّ عدم انتفاعهم إنما هو لعلّة فيهم، فالمورد واحد لكن شتَّان ما
بين وارد فمنتفع، ومعرض لا ينتفع.
وفي إسناد النفع إلى الذكرى لطيفة أخرى، وهي
أنّ الذكرى تنفع المذكِّرَ والمذكَّر.
فالمذكِّر ينفعه تذكيره فيُعذر عند الله، ويقيم
الحجَّة على المدعوّ، وينتفع بمن يستجيب لتذكيره فيُكتب له مثل أجره، كما في قول
الله تعالى: {وإذ قالت أمّة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً
شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من
دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا )).
رواه أحمد ومسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه.
والمذكَّر ينتفع بالذكرى إن آمن وأناب؛ كما قال
الله تعالى: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} ، وقال تعالى: {قل إن الله يضل من
يشاء ويهدي إليه من أناب}.
وفي التعبير بالذكرى لطيفة أخرى، وهي أن هذا
اللفظ يشمل التذكُّرَ والتذكير؛ فكلاهما يصحّ أن يوصَف بالذكرى.
- فالذكرى بمعنى التذكير كما في قول الله
تعالى: {إن هو إلا ذكرى للعالمين} ، وقوله تعالى: {ذلك ذكرى للذاكرين} ، وقوله
تعالى: {ذكرى وما كنا ظالمين}، وقوله تعالى: {تبصرة وذكرى لكل عبد منيب}.
- والذكرى بمعنى التذكّر كما في قول الله
تعالى: {إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار} ، وقوله تعالى: {أنى لهم الذكرى}، وقوله
تعالى: {يومئذ يتذكر الإنسان وأنّى له الذكرى}، وقوله تعالى: {فأنّى لهم إذا
جاءتهم ذكراهم}.
وقد يجتمع المعنيان كما في قول الله تعالى:
{فذكر إن نفعت الذكرى}، وقوله تعالى: {وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} وقوله
تعالى: {أو يذكر فتنفعه الذكرى}.
وهذه الآيات فيها النص على نفع الذكرى لا
التشكيك فيه ولا استبعاده كما ذهب إليه بعض المفسرين في تفسير قول الله تعالى: {إن
نفعت الذكرى}.
فالشرط في هذه الآية جارٍ مجرى تأكيد نفع
الذكرى وأنّه لا شكّ في نفعها لمن استمع إليها بقلب منيب كما هو منصوص قول الله
تعالى: {إنَّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}.
والعرب تستملح الإتيان بالشرط لغرض التأكيد كما
قال سويد بن أبي كاهل في مدح قومه:
بُسُطُ الأيدي إذا ما سُئلوا ... نُفُع النائل
إن شيء نفع
وقال المرّار بن منقذ التميمي يفخر بنفسه
ومكانها من قبيلته:
وأنا المذكور من فتيانها ... بفعال الخير إنْ
فِعْلٌ ذُكِر
وجواب الشرط في البيتين محذوف لدلالة ما تقدّمه
عليه، وحذف الجواب أبلغ في التأكيد.
فقول سويد في معنى قول القائل: إنْ قدّر نفعٌ
لشيءٍ فإنَّ نائلهم عظيم النفع.
ومن المعلوم بداهة وجود نفع لأشياء كثيرة؛
فأخرج الشرط مخرج التأكيد لعظم نفعهم، وأنه إذا ذُكر النفع فهم من أوّل ما ينتفع
بنائلهم، وأنّه إذا جُحد نفعُهم فالأولى جحد جميع المنافع.
وكذلك معنى بيت المرار بن منقذ.
وكذلك في قوله تعالى: {فذكّر إن نفعت الذكرى} فالذي
لا ينتفع بالتذكير بآيات ربه فهو أجدر ألا ينتفع بشيء غيره.
والانتفاع بالذكرى دليل على أثر عظيم يحصل
للمنتفع بالذكرى بسبب استجابته لربّه جلّ وعلا وطاعته لرسوله صلى الله عليه وسلم؛
فيحيا حياة أخرى غير الحياة التي كان فيها كما قال الله تعالى: {أومن كان ميتاً
فأحييناه} وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}.
فالصواب أن جواب الشرط محذوف، وحذفه أبلغ في
البيان؛ ليصلح التقدير لكلّ معنى يناسب المذكَّرين على اختلاف درجاتهم ومواقفهم.
ولذلك لا يُقدَّر الجوابُ بتقدير إلا كان
المعنى أعمّ منه، وحذف جواب الشرط كثير في القرآن، ومنه قول الله تعالى: {فَإِنِ
اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ
فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ}.
وقوله تعالى: {فلما أسلما وتلّه للجبين
وناديناه أن يا إبراهيم }.
وقوله تعالى: {ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم
ما كان يغني عنهم من الله من شيء} فجملة {ما كان يغني عنهم} اعتراضية وليست جواب
"لمّا".
وقوله تعالى: {لولا أن رأى برهان ربّه}
وقوله تعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن
الله تواب حكيم}
وهذه الأمثلة وغيرها لا يقدّر جواب الشرط فيها بتقدير
إلا كان المعنى أعمّ منه، فتذهب النفس في تقدير الجواب كلّ مذهب ممكن، ولا تقف على
معنى صحيح إلا وجدته داخلاً في جواب الشرط.
ثم جاء تقرير الانتفاع بالذكرى في قوله تعالى
بعدها: {سيذكر من يخشى}؛ فالأمر بالتذكير عام، والانتفاع بالذكرى إنما هو لأهل
الخشية.
- قال بدر الدين الزركشي في البرهان: (وكقوله
تعالى: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} فإنه يستحيل حمله على الظاهر لاستحالة أن
يكون آدمي له أجنحة فيحمل على الخضوع وحسن الخلق).