الدروس
course cover
الدرس السابع: المجمل والمبين
1 Sep 2024
1 Sep 2024

36

0

0

course cover
أصول تدبر القرآن

القسم الثاني

الدرس السابع: المجمل والمبين
1 Sep 2024
1 Sep 2024

1 Sep 2024

36

0

0


0

0

0

0

0

الدرس السابع: المجمل والمبين

عناصر الدرس:

تمهيد

-      أهمية باب المجمل والمبين

أنواع الدلالات في القرآن

تعريف المجمل والمبيّن

الواجب عند الإجمال

الفرق بين المجمل والمطلق

أنواع الإجمال والبيان

نقد عبارة "تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز"

أساليب الإجمال

الحكمة من ورود الإجمال في القرآن

هل بقي في القرآن نصّ مجمل لم يُبيّن؟

البيان المتصل والبيان المنفصل

السبيل إلى بيان المجمل

تجاوز أهل الأهواء في دعوى الإجمال

أمثلة على تبيين المجمل من أقوال المفسرين

دراسة لبعض أمثلة تبيين المجمل

تطبيقات

 

تمهيد

من أصول فهم القرآن وتدبّره معرفة المجمل والمبيّن، وأنواع الإجمال والبيان، والحكمة من ورود الإجمال في القرآن، والسبيل إلى معرفة بيان المجمل، وما يتصل بهذه المباحث.

 

والقرآن كلّه مبيّن باعتبار، وبعضه مجمل وبعضه مبيّن باعتبار آخر:  

- فمن الاعتبار الأول ما دلّ عليه قول الله تعالى: {حم . والكتاب المبين}، وقوله تعالى: {تلك آيات الكتاب المبين}، وقوله تعالى: {وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً} ، وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)}، ونحو ذلك من الآيات التي فيها وصف القرآن بما يقتضي أنه مبيَّن ومفصَّل.

ووصف القرآن بأنّه مُبِين يدلّ بالتضمن على أنه مبيَّن.

- ومن الاعتبار الثاني ما وقع في كثير من الآيات من الإجمال الذي لا يتبيّن به المراد إلا بدليل منفصل أو قرينة موضّحة.

وهذا لا يُخرج القرآن عن وصفه بأنه مبيّن بالاعتبار الأوّل؛ لأنّ الآيات التي فيها إجمال قد جاء في القرآن والسنة ما يبيّنها فعاد وصف القرآن بأنه مبيَّن وصفاً محقَّقاً.

وقد دلّ على ذلك قول الله تعالى: {ثم إنّ علينا بيانه} فلم يستثن منه شيئاً لم يبيّن؛ فالقرآن كلّه قد بيّنه الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم، وبيّنه النبي صلى الله عليه وسلم لأمّته؛ فمستقلّ من معرفة هذا البيان ومستكثر.  

- قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} و"ما" الموصولة تفيد العموم، وهي تفيد فائدتين:

إحداهما: أنّ قد حصل له صلى الله عليه وسلم من التبيّن ما رضيه الله عزّ وجلّ وأقرّه عليه ليبلّغه لأمّته.

والثانية: أنه بيّن للناس جميع ما نزّل إليهم فلم يبق شيء مما يحتاجون إلى بيانه إلا وقد بيَّنه لهم، وما كان بيانه يُعرف بتلاوته فتلاوته بيانه.

- وقال تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)}.

فبذلك يتقرَّر أنَّ القرآن كلّه قد بيّنه الله تعالى وفصّله، وجعله نوراً وهدى للناس، ويسّره للذكر والاتباع، وأنه لم يبق في القرآن شيء يحتاج الناس فيه إلى بصيرة وهدى إلا وقد بيّنه الله تعالى، وبيّنه رسوله صلى الله عليه وسلم.

وهذا لا يشكل عليه وجود آيات فيها بعض ما استأثر الله بعلمه من حقائق التأويل في المغيبات وغيرها لأنَّ العمل المترتب عليها هو التصديق والتسليم والأثر السلوكي، وهذا متحقّق وإن لم يُعرف تفصيل ما استأثر الله بعلمه من تلك الحقائق.

 

أنواع الدلالات في القران

تقدم التنبيه إلى أنّ الدلالات من حيث تعيين المراد على أربعة أنواع:

1: دلالة نصيّة، وهي التي تعيّن المراد تعييناً بيّناً لا يُحتاج معه إلى اجتهاد ونظر، ومثاله قول الله تعالى: {فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم}.  

2: دلالة ظاهرة، وهي دلالة النص على مرادٍ أظهر من غيره مع قيام الاحتمال لمراد غيره لكنه مرجوح لا يُقدّم على هذا الظاهر إلا بدليل منفصل أو قرينة مرجّحة.

3: دلالة مؤوَّلة، وهي دلالة النص على معنى مرجوح في مقابل ظاهر راجح.

4: دلالة مجملة، وهي التي يُعرف بها وجود مراد لكنَّه غير معيّن، ولا يمكن امتثاله على التفصيل إلا بما يبيّنه، كما في قول الله تعالى: {وآتوا الزكاة} ففيه أمر مجمل بإيتاء الزكاة، لكن تفصيل مقادير الزكاة ووقتها وصفة أدائها كلّ ذلك قد بيّنته أدلة منفصلة في الكتاب والسنة.

فقوله تعالى: {وآتوا الزكاة} مجمَل باعتبار، ومبيَّن باعتبار آخر، وهو أنه قد جاء بيانه في نصوص أخر، فهذا النصّ مبيَّن، وتلك النصوص مبيِّنة بكسر الياء.

والنصّ المبيِّن يصحّ أن يقال فيه: "مبيَّن" باعتبار أنّ الله تعالى قد بيّنه.

 

تعريف المجمل والمبيّن

المجمل هو النصّ الذي لا يتعيّن المراد به بما يمكن امتثاله على التفصيل حتى يرد ما يبيّنه،

ومن أمثلته:

1: قول الله تعالى: {وأقيموا الصلاة}، فهو أمر مجمل بإقامة الصلاة، ولا يمكن أن تقام الصلاة على التفصيل إلا بنصوص تبيّن ذلك، وقد ورد في السنة بيان كافٍ لما تتحقق به إقامة الصلاة، ففي صحيح البخاري من حديث أيوب، عن أبي قلابة، عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي).

وقد حفظ الصحابة صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وضبطوها ضبطاً متقناً، وأدَّوا بيان تلك الصفة لمن بعدهم حتى تواترت في الأمة وصفاً وفعلاً.

2: قول الله تعالى: {وأتموا الحجّ والعمرة لله} ، وهذا النصّ مجمل تبيّنه الآيات التي فيها صفة الحج، والأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان صفة الحج.

- قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير، أنه سمع جابراً رضي الله عنه يقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول: « لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه ». رواه أحمد، ومسلم، وأبو داوود، والنسائي، وغيرهم.

وفي رواية في المستخرج على صحيح مسلم لأبي نعيم: « لتأخذوا عني مناسككم».

وفي رواية في السنن الكبرى للنسائي: «يا أيها الناس! خذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحجّ بعد عامي».

- وقال سفيان الثوري، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه السكينة، وأمرهم بالسكينة وأوضع في وادي محسّر، وأمرهم أن يرموا الجمار مثل حصى الخذف وقال: ((خذوا عني مناسككم لعلي لا أراكم بعد عامي هذا)). رواه البيهقي في السنن الكبرى.

- وقال الحجاج بن أرطأة، عن عبادة بن نُسي الكندي قال: حدثني أبو زبيد قال: سمعتُ أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين الجمرتين عن رجلٍ حلق قبل أن يرمي قال: «لا حرج» وعن رجل ذبح قبل أن يرمي قال: «لا حرج » ثم قال: « عباد الله! وضع الله عز وجل الحرج والضيق، وتعلموا مناسككم فإنها من دينكم ». رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار، والطبري في تهذيب الآثار.

 

وقد تكون الآية مجملةً من وجه بيّنةً من وجه آخر، ومثاله قول الله تعالى: {وآتوا حقَّه يوم حصاده} فهو مجمل في مقدار الحقّ، بيّن في وقته.

 

الواجب عند الإجمال

الواجب في المجمل أمران:

أحدهما: الإيمان به والسمع والطاعة، وهذا جانب اعتقادي وسلوكي لا يتخلف بعدم معرفة بيان المجمل.

ثمّ إنّ الإجمال على درجات، ويتفاوت الناس في إدراك بيانه، فما أمكن معرفة بيانه منه لا يسقط بما لم تمكن معرفته، فتجب الطاعة والامتثال على قدر البيان.

والآخر: طلب بيان المجمل وتفسيره حتى تبرأ الذمة ويتأدّى الواجب.

وبذلك يكون العبد مؤمناً متقياً.

ومما يجب التنبه له قول بعض الأصوليين إنَّ المجمل يجبُ التوقف فيه حتى يرد ما يبينه بياناً قاطعاً؛ فهذا فيه إغفال لدرجات الإجمال، وإخلال بواجب العبودية لله تعالى من الجانب الاعتقادي والسلوكي، ومن الجانب الفقهي العملي.

والتساهل في هذا الأمر قد يفضي بالعبد إلى أن يُلحق بالمجمل ما ليس منه، كما وقع لبعض الأصوليين من إلحاق المطلق والمبهم بالمجمل.

وإذا تهاون العبد في هذا أفضى به تهاونه إلى التراخي والفتور في تلقّي الأوامر المجملة وإن كانت مبيَّنة في مواضع أخر؛ لأنّ نفسه لم تعد تنشط لطلب بيان المجمل، وهذا له أثر سيء على سلوك العبد وقلبه، بخلاف حال المؤمن المتقي المعظّم لشعائر الله؛ فإنّه يأخذ الكتاب بقوة، ويتلقى الأمر بالسمع والتسليم والتوكل على الله في إحسان القيام بأمره، والانقياد لطاعته.

وأوّل أَمْرٍ أُمر به النبي صلى الله عليه وسلم كان مجملاً؛ فقد نزل عليه أوّل ما نزل {اقرأ}؛ ولم يكن قارئاً ولا يعلم ما الذي يؤمر أن يقرأه؛ ثم أتى البيان بعد ذلك.

وقال الله تعالى: {فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه . ثمّ إنّ علينا بيانه} فالبيان قد يتأخر لكن الاتباع المجمل واجب على الفور، وهو حاصل بالإيمان والتسليم، وطلب البيان من وجهه.

 

الفرق بين المجمَل والمطلق

ومما ينبغي التنبّه له الفرق بين المجمل والمطلق، والحذر من طريقة اليهود ومن خالف قولُه عملَه من إلحاق المطلق بالمجمل ليتوصّل بذلك إلى ترك العمل والتهاون فيه، وقد ذمّ الله بني إسرائيل على ذلك، وحذر من مشابهتهم.

قال الله تعالى: { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)}

فطلبهم للتبيين مكر منهم لإظهار أنّ ما أُمروا به مجملٌ لا يمكن امتثاله، وهو في حقيقة الأمر بيّن غير مجمل، وكان مطلقاً ميسّراً توسعة عليهم، فلو ذبحوا أدنى بقرة تيسرت لهم لكانوا قد امتثلوا ما أُمروا به، لكنّهم ادّعوا الإجمال فيما هو بيّن، وشاقّوا فشقّ الله عليهم.

- قال الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لو أخذوا أدنى بقرة اكتفوا بها، لكنهم شددوا فشدد الله عليهم). رواه ابن جرير.

وصحّ نحوه عن عكرمة، ومجاهد، وعطاء بن أبي رباح.

- وقال معمر، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السَّلماني قال: (لو اعترضوا بقرة فذبحوها أجزأت عنهم؛ فسألوا وشددوا فشدد الله عليهم). رواه عبد الرزاق في تفسيره.

- وقال هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عَبيدة السلماني قال: (لو لم يعترضوا البقر لأجزأت عنهم أدنى بقرة، ولكنهم شددوا فشدد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها، فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها، فقال: والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهباً، فأخذوها بملء جلدها ذهباً، فذبحوها فضربوه ببعضها). رواه ابن أبي حاتم في تفسيره، والبيهقي في السنن الكبرى.

وقد أخطأ جماعة من الأصوليين في إلحاق المطلق بالمجمل والتمثيل بهذا المثال فقال بعضهم في أمثلة المجمل: (وكذَا قولُهُ تعالى: {أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} فهذَا اللَّفْظُ مجملٌ لجنسِ (البقرِ)، والمرادُ منَ الجنسِ (بقرةٌ) معيَّنةٌ تفتقرُ إلى لفظٍ آخرَ يخرجُها من حيِّزِ الإشكالِ إلى التجليِّ فبيَّنَهَا تعالى)ا.هـ.

وهذا المثال مما تكرر ذكره في مطولات أصول الفقه.

- قال ابن القيم في إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان في فوائد قصة البقرة: (ومنها: أنه لا ينبغي مقابلة أمر الله تعالى بالتعنت، وكثرة الأسئلة، بل يبادر إلى الامتثال، فإنهم لما أمروا أن يذبحوا بقرة كان الواجب عليهم أن يبادروا إلى الامتثال بذبح أي بقرة اتفقت فإن الأمر بذلك لا إجمال فيه ولا إشكال، بل هو بمنزلة قوله: أعتق رقبة، وأطعم مسكيناً، وصم يوماً، ونحو ذلك، ولذلك غلط من احتج بالآية على جواز ‌تأخير ‌البيان عن وقت الخطاب، فإنَّ الآية غنية عن البيان المنفصل، مبينة بنفسها، ولكن لما تعنتوا وشدودا شدد عليهم).

 

نقد عبارة "تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز"

اشتهرت عبارة "تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز" عند الأصوليين والفقهاء، ويكثر الاحتجاج بها في كتب متأخري الفقهاء؛ فيقال مثلاً في مسألة من المسائل: لو كان ذلك واجباً لبينه النبي صلى الله عليه وسلم للسائل، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز؛ فدلّ ذلك على عدم وجوبه.

ونحو تلك الاستدلالات التي عمدتها الاستدلال بسكوت النبي صلى الله عليه وسلم مع وقوع المسألة.

وهذه العبارة لا أعلم لها ذكراً لدى علماء القرون الفاضلة، وأوّل ما عرفت من قِبَل المتكلمين، ثم درجت إلى أهل السنة فاستعملها جماعة منهم على معنى صحيح فيه تخصيصٌ لألفاظ هذه العبارة.

ومن زعم أنّ أوّل من قالها الإمام مالك فقد أخطأ عليه، فليس عنه نصّ في ذلك.

قال ابن القصار المالكي في مقدّمته في أصول الفقه: (وليس عند مالك رحمه الله في ذلك نصّ قول، ولا لأصحابه المتقدمين).

وبين الأصوليين والمتكلمين خلاف فيها على أقوال، ومن الفقهاء مَن يذكر الإجماع عليها ثم يذهب في تقرير الإجماع إلى أدلة لا خلاف فيها لكنها لا تدلّ على هذه العبارة عند واضعيها.

وأصل صياغة المسألة صياغة اعتزالية لأنهم يقولون بوجوب فعل الأصلح على الله تعالى، ثم يختلفون في تفسير الأصلح.

فإذا قيل: إن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز؛ فمرادهم به أنه لا يجوز للشارع أن يؤخّر البيان عند الحاجة إليه، ولا يخفى ما في هذه الصياغة من سوء أدب مع الله ورسوله.

لكن أهل السنة الذين يستعملون هذه العبارة يريدون بالجواز الجواز العقلي والوقوع الفعلي، أي: يمتنع أن يؤخر الله تعالى ورسوله البيان عن وقت الحاجة إليه، ويقررون ذلك بما يفيد أنّ الله تعالى لا يخفى عليه شيء، وأنّه أمر رسوله بالبلاغ المبين، وأنّ النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من كتمان البلاغ، وأنّ الله قد رضي بلاغه وبيانه؛ فيمتنع مع كلّ ذلك أن يكون قد وقع منه تأخير للبيان عن وقت الحاجة.

فهذه الجُمل وما في معناها إذا أخذت على سبيل الإجمال فهي مقبولة باعتبار المقصد، لكن في التعبير بعبارة "لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة" لَبسٌ ينبغي توضيحه.

فإنّ البيان الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم هو ما يصدق عليه وصف البيان، وإن تفاوت الناس في معرفته وفهمه؛ فقد يبلغ نصٌّ من النصوص رجلين يجده أحدهما بيّنا لا إجمال فيه، ويراه الآخر مجملاً يحتاج فيه إلى بيان وتفصيل.

فالتفاوت بين المكلَّفين في التبين والإجمال واقع، ولما نزل قول الله تعالى: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} لم يكن هذا النص مجملاً عند بعض الصحابة، وإن كان قد أشكل على بعضهم حتى نزلت {من الفجر}.

كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن إدريس الأودي، عن حصين بن عبد الرحمن السلمي، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، قال: لما نزلت: {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} عمدتُ إلى عقالٍ أسود، وإلى عقال أبيض، فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي؛ فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت له ذلك فقال: «إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار».

وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي حازم الأعرج، عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: أُنزلت: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض، من الخيط الأسود} ولم ينزل {من الفجر}، فكان رجالٌ إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولم يزل يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد: {من الفجر} فعلموا أنه إنما يعني الليل والنهار).

 

ومن المعلوم كثرة المخاطبة بالمجمل في القرآن، وقد يتأخر بيانه حتى يُسأل عنه، أو يقع به حاجة بعضهم إلى بيان أو مزيد بيان، ويكون البيان على مراتب؛ فمن لم يبلغه البيان الخاص بالمسألة فقد بلغه البيان العام بأصول الشريعة التي لا تخرج أحكامها التفصيلية عنها، فيجتهد ويتحرّى الصواب إن كان أهلا للاجتهاد أو كان محتاجاً للاجتهاد لا مفرّ له منه، أو يسأل أهل العلم إن أمكنه السؤال.

فوقوع الإجمال عند بعض المكلفين وإن كان في وقت حاجة لا يقتضي أن يكون النصّ غير مبيّن.

والنبي صلى الله عليه وسلم لا يلزمه أن يبيّن لكلّ واحد من أمّته جميع ما أنزل الله إليه؛ فإنّ ذلك من تكليف ما لا يطاق، ولا مزية فيه على فرض ذلك لعالم على متعلم؛ لأنهم يكونون قد تساووا في معرفة ما نزّل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفهمه وبيانه.

وقد كان يأتيه من يبايعه على الإسلام فيقبل منه، ويخبره أنّ الإسلام يجبّ ما قبله، وقد يكون بعضهم مواقعاً لبعض المحرمات أو مخلاً ببعض الواجبات ولا يمكنه معرفة تفصيل كلّ ذلك في وقت إسلامه؛ فيحتاج إلى وقتٍ كافٍ حتى يتفقّه في الدين.

لكنَّه بإسلامه وانقياده لله تعالى واعتقاده وجوب طاعة الله ورسوله وعزمه على ذلك يكون قد حسُن إسلامه، فما يكون منه من مخالفة يجهل فيها الحكم فهو معذور فيها حتى يقع له العلم بها.

ولا يقول أحد من أهل العلم بوجوب أن يُعرض على من يريد الدخول في الإسلام أوامر الشريعة أمراً أمراً ونواهيها نهياً نهياً فيوقف على كل ذلك ويبيّن له ليقع له التبيّن لأنه قد يكون مواقعاً لبعض المحرمات أو مخلاً ببعض الواجبات.

ومن ادّعى ذلك فقد ادّعى دعوى باطلة لم يكن عليها عمل النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه.

وإنما المحفوظ في ذلك أنّه من كان مقارفاً لمحرمات ظاهرة فإنه ينهى عنها؛ كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم من أسلم وتحته عشر نسوة أن يمسك أربعاً ويفارق سائرهنّ، ونهى من أسلم واستأذنه في الزنا عن الزنا وبيّن له أنّه لا يحلّ له.

 

فالخلاصة أنّ هذه العبارة فيها نظر من أربع جهات:

الأولى: صيغتها مشتبهة؛ فيطلقها المعتزلة على مرادهم من وجوب فعل الأصلح على الله تعالى، ويطلقها الأشاعرة على مرادهم من التحسين والتقبيح العقليين، ويطلقها أهل السنة على مرادٍ صحيح غير مراد أهل الأهواء، وقد يشتبه الأمر على من لم يعلم ذلك.

الثانية: أنّ وصف الإجمال يتفاوت؛ كما أنّ البيان على مراتب؛ فقد يقع الإجمال لبعض المكلفين دون بعض.

الثالثة: أنَّ كثيراً من المسائل التي يحتجّ فيها بهذه العبارة لا يُسلَّم فيها للمحتجّ بها؛ ولا تقطع النزاع؛ لأنّ دعوى الإجمال لا تُسلَّم في بعضها، وكم من نصٍّ ادُّعي فيه الإجمال وهو بيّن.

ومن أشهر المسائل التي يعرف بها الاختلاف في الاستدلال بهذه العبارة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أمر المجامع في نهار رمضان بالكفارة ولم يأمره بالقضاء، فذهب الشافعي في أحد قوليه إلى أنه لا قضاء عليه، وذهب الأوزاعي إلى أنّه إذا كانت الكفارة صياماً فلا قضاء عليه.

وجمهور الفقهاء على وجوب القضاء عليه، وهو قول أبي حنيفة ومالك والثوري وأحمد وهو القول الآخر للشافعي.

والصواب قول الجمهور لأنّ المجامع في نهار رمضان قد أفطر يوماً منه، وهو مأمور بصيام الشهر كلّه، فإن أفطر فعليه إكمال العدة، فلا يكون جِماعه عذراً يبيح له ألا يكمل العدة.

وإذا كان الذي يفطر معذوراً يؤمر بالقضاء فالذي يفطر بلا عذرٍ أولى أن يقضي.

فالحديث عند جمهور الفقهاء بيّن غير مجمل، ولا يصحّ أن يستدلّ في هذه المسألة بعبارة "تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر المجامع في نهار رمضان بالقضاء؛ فيسقط عنه القضاء"

فإنّ الأمر بصيام الشهر كاملاً بيّن غير مجمل، وعامّ في المكلفين به لا مخصصَ له، ولا تقتضي حاجة البيان النصّ على حكم خاصّ يوافق العام.

ومما يدلّ على صحة قول الجمهور الإجماع على وجوب القضاء على المرأة المجامَعة في نهار رمضان سواء أكانت مطاوعة أم مكرهة.

الجهة الرابعة: الاختلاف في تفسير الحاجة؛ فإنّ مما يدَّعى فيه تأخر البيان عن وقت الحاجة يكون السكوت بياناً وليس كتماناً

ومن ذلك ما روي في سبب نزول قول الله تعالى: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله} وخلاصته أنّ المشركين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن مسائل تلقوها من اليهود فروي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: أخبركم غداً، ولم يستثن؛ فتأخر نزول الوحي عنه بضع عشرة ليلة، لم يخبرهم ببيان ما سألوا عنه، ثمّ نزلت سورة الكهف بالبيان التام.

وهذا الخبر وإن كان ليس له إسناد صحيح، وقد رواه ابن إسحاق بإسناد فيه رجل مجهول، وروى نحوه بعض أهل الحديث بأسانيد لا تقوم بها الحجّة، لكن قال بهذا السبب جماعة من المفسرين، واحتجّ به الشافعي.

فتأخُّر نزول الوحي هذه المدة لا يصحّ أن يُعدّ تأخيراً للبيان عن وقت الحاجة، بل هو بيان لحكم قد يُغفل عنه.

وقريب من ذلك ما في صحيح البخاري من حديث جويرية بن أسماء، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: (لا يصلين أحد ‌العصر ‌إلا ‌في ‌بني ‌قريظة). فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك. فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم).

فصلى بعضهم العصر في الطريق خشية فوات وقتها اعتباراً لمقصد النبي صلى الله عليه وسلم من الاستحثاث والتعجّل، وبعضهم لم يصلّ العصر إلا في بني قريظة بعد أن غربت الشمس وفات وقتها تمسّكاً بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم، ولم يعنّف النبي صلى الله عليه وسلم أحداً منهم، ولم يقع منه تأخير للبيان عن وقته، بل كان تقدير وقوع هذه القضية من أحسن البيان ليُعتبر بها في نظائرها.

 

وقد أطلق بعض أهل العلم القول بالإجماع على أنّه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ودعوى الإجماع على هذه العبارة لا تصحّ من أربعة أوجه:

أحدها: أنّ الإجماع لم يقع على هذه العبارة، وإنما وقع على الأصول التي بنيت عليها مع عدم التسليم بهذه العبارة إذا حملت على أصول أهل الأهواء.

والوجه الثاني: أنها عبارة غير معروفة فيما أُثر عن السلف الصالح، والإجماع الذي ينضبط هو الإجماع المأثور عن السلف الصالح.

والوجه الثالث: أنه قد نقل الخلافَ فيها غير واحد من الأصوليين، واحتجوا لذلك بحجج، بل من الأصوليين من قابل هذه العبارة بعبارة: "السكوت في موضع الحاجة إلى البيان بيان".

وهما تؤولان عند التحقيق إلى معنى واحد، لكن العبارة الثانية أسلم.

وذكر بدر الدين الزركشي في "تشنيف المسامع" عبارة مقاربة فقال: " يمتنع ‌تأخير ‌البيان الإجمالي، ولا يمتنع تأخير البيان التفصيلي".

- قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في المسودة لآل تيمية: (قولهم ‌تأخير ‌البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ونَقْل الإجماع على ذلك ينبغي أن يفهم على وجهه؛ فإنَّ الحاجة قد تدعو إلى بيان الواجبات والمحرمات من العقائد والإعمال لكن قد يحصل التأخير للحاجة أيضاً إمّا من جهة المبلِّغ أو المبلَّغ:

أما المبلِّغ فإنه لا يمكنه أن يخاطب الناس جميعاً ابتداء، ولا يخاطبهم بجميع الواجبات جملة، بل يبلّغ بحسب الطاقة والإمكان.

وأما المبلَّغ فلا يمكنه سمع الخطاب وفهمه جميعاً، بل على سبيل التدريج.

وقد يقوم السببُ الموجبُ لأمرين من اعتقادين أو عملين أو غير ذلك لكن يضيق الوقت عن بيانهما أو القيام بهما فيؤخر أحدهما للحاجة أيضاً، ولا يمنع ذلك أن الحاجة داعية إلى بيان الآخر.

نعم هذه الحاجة لا يجب أن تستلزم حصولَ العقاب على الترك؛ ففي الحقيقة يقال: ما جاز تأخيره لم يجب فعله على الفور، لكن هذا لا يمنع قيام الحاجة التي هي سبب الوجوب، لكن يمنع حصول الوجوب لوجود المزاحم الموجب للعجز، ويصير كالدَّين على معسر، أو كالجمعة على المعذور.

وأيضا فإنما يجب البيان على الوجه الذي يحصل المقصود فإذا كان في الإمهال  والاستثناء من مصلحة البيان ما ليس في المبادرة كان ذلك هو البيان المأمور به، وكان هو الواجب أو هو المستحب، مثل تأخير البيان للأعرابي المسيء في صلاته إلى ثالث مرة.

وأيضاً فإنما يجب التعجيلُ إذا خيف الفوت بأن يترك الواجب المؤقت حتى يخرج وقته ونحو ذلك)ا.هـ.

 

وقد ذكر بعض الأصوليين مسألة متصلة بهذه المسألة وهي مسألة تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة، وجمهور الأصوليين على جوازه ووقوعه، وخالف فيه بعض المعتزلة.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#2

1 Sep 2024

أساليب الإجمال والتبيين   

أساليب الإجمال والتبيين لا تُحصر، فكلّ ما لم يتعيّن المراد به فهو مجمَل، وكلّ ما أفاد تعيين المراد فهو مبيّن بكسر الياء. 

  

والإجمال يقع في الأحكام وفي الأخبار: 

- فأما الأخبار فإجمالها اختصارها وطوي تفصيلها، ويقع ذلك كثيراً في القرآن، فيذكر من الخبر من يناسب مقصد السورة. 

- وأما الأحكام فالإجمال فيها هو الخطاب بما لا يمكن امتثاله إلا ببيان صفته، أو قدره، أو وقته. 

والإجمال في النوعين يجب أن يُتلقى بالإيمان والتسليم، وكلما ازداد العبد تفصيلاً وتبييناً ازداد تصديقاً وانقياداً. 

  

والإجمال يقع بأساليب كثيرة منها: 

1: الأمر بما لا يمكن امتثاله إلا بورود ما يبيّنه؛ كالأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحج. 

2: والنهي عما لا يعرف المراد به إلا بورود ما يبينه؛ كما في قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ}، وقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} 

3: والتنكير؛ كما في قول الله تعالى: {ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه}، وقوله تعالى: {وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى}، وقوله تعالى: {وإذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه حديثا} 

4: والإضمار، كما في قول الله تعالى: {له معقبات}، وقوله: {فجعلناها نكالاً}، وقوله: {من قبل أن نبرأها} 

5: والإبهام؛ كما في قول الله تعالى: {وتخفي في نفسك ما الله مبديه}، وقوله تعالى: {قال بصرت بما لم يبصروا به}

  

وتقصي أساليب الإجمال يطول، لكن مما ينبغي التنبيه عليه أنه ليس كلّ ما ورد بتلك الأساليب يكون مجملاً؛ بل منه ما هو بيّن، وقد ذكر جماعة من الأصوليين ومن كتب في علوم القرآن أسباباً للإجمال وتوسّعوا فيها، وهي لا تعدو كونها من أساليب الإجمال والاختصار، ولا تقتضي أن كلّ ما يرد بها يكون مجملاً؛ فإنَّه من المتقرر أن المفردة القرآنية والأسلوب القرآني يدلان على معانٍ متعددة؛ وقد تكون جميعها بينة مرادة؛ فتعميم الإجمال بما يكون له أوجه من المعاني من المفردات والتراكيب والأساليب لا يصحّ، وإنما قد يكون في بعض المواضع إجمالٌ، وقد تكون كلّ معانيها بيّنة مرادة؛ فلا يتحقق في ذلك وصف الإجمال، ولذلك أمثلة منها: 

 

أولاً: المشترك اللفظي 

فذهب بعضهم إلى أنّه مجمل، لأنّ تعيين أحد المعاني يفتقر إلى دليل منفصل أو قرينة مرجحة، وهذا الإطلاق فيه نظر؛ لأنّ كثيراً مما يدخل في وصف المشترك اللفظي من المفردات القرآنية لا يكون مجملاً، إما لأنّ جميع معانيه مرادة، أو لأن ما يحتمله السياق منها مرادٌ، وإما لكون دلالته على أحد معانيه ظاهرة. 

وهذا ليس بإجمال على الحقيقة، وإن تعددت أقوال المفسرين فيه؛ لأنّ كثيراً من اختلاف المفسرين في هذا النوع هو من اختلاف التنوع، وليس من اختلاف التضادّ، ومن أمثلته قول الله تعالى: {ولا تمنن تستكثر} 

"تمنن" مشترك لفظي يرد لمعانٍ: 

أحدها: "تمنُنْ" أي تعطي، ومنه قوله تعالى: {فإمّا منّا بعد وإما فداء}

والمعنى: لا تعط عطية لتتكثَّر بما تُعطَى بها، وعلى هذا قول إبراهيم النخعي، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، وروي عن ابن عباس ولا يصحّ عنه، وهو إحدى الروايتين عن مجاهد. 

والثاني: "تمنن" على معنى "تمنّ"، بفكّ التضعيف، من المِنّة بالعطية، وهي ذكرها على جهة الاستعلاء، ومنه قول الله تعالى: {لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى}، وتستكثر: أي تستعظم ما عملت، فتراه كثيراً، وعلى هذا المعنى قول الحسن البصري، والربيع بن أنس البكري. 

والثالث: "تمنن" أي تضعف، ومنه قول امرئ القيس: 

بسَيرٍ يضجّ العَود منه يمنّه ... أخو الجهد لا يلوي على من تعذرا 

يمنّه: أي يُضعفه. 

والمعنى: ولا تضعف عن الاستكثار من الطاعات والحسنات الموعود بها أهل الطاعة، وعلى هذا المعنى الرواية الأخرى عن مجاهد. 

وروي عن ابن مسعود أنه قرأ: [ ولا تمنن أن تستكثر ] 

والرابع: تمنُن أي تقطع وتنقص، ومنه قوله تعالى: {فلهم أجر غير ممنون}، أي: غير مقطوع ولا منقوص. 

وقال لبيد:  

لمعفَّر قَهْد تنَازع شِلْوه ... غُبْس كواسب مَا يُمَنّ طعامُها 

أي: لا يُنقص ولا يُقطع. 

وهذا المعنى فيها وجهان في التفسير: 

أحدهما: لا تنقطع عن العمل تستكثر ما أُمرتَ به؛ فتراه كثيراً فيضعف عزمك. 

والآخر: لا تقطع الإنفاق لتُكثرَ مالك. 

وهذان وجهان صحيحان في أنفسهما، والدلالة اللغوية عليهما بيّنة. 

  

فهذه مفردة واحدة احتملت معاني عدّة كلها مما يصحّ حمل الآية عليها، وليس فيها إجمال ولا إشكال، وقد اختلفت اختيارات مفسري السلف من هذه المعاني، وهو اختلاف تنوع لا اختلاف تضادّ. 

  

ثانياً: تعدد احتمالات مرجع الضمير 

فقد يحتمل التركيب عود الضمير إلى أكثر من مرجع، وهذا ما جعل بعض الأصوليين يعدّه من المجمل، والتحقيق أن أكثره ليس من المجمل لصحة عود الضمير على أكثر من مرجع، ويقع ذلك كثيراً عند تعدد أوجه التفسير في المسألة الواحدة، ولذلك أمثلة في التفسير منها: 

  

المثال الأول: مرجع الضمير في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)} 

وقد اختلف فيه المفسرون على قولين: 

القول الأول: عائد على الجنّ، والمعنى أنّ الإنس زادوا الجنّ رهقاً أي إثماً وطغياناً، وهو معنى قول قتادة. 

والقول الثاني: عائد على الإنس، والمعنى أنّ الجنّ زادوا الإنس رهقاً أي فَرَقاً وخوفاً وذعراً وتضرراً بما أعنتَتْهم به الجنّ، وهو معنى قول الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. 

والمعنيان صحيحان، ولفظ "الرهق" صالح لهما، لأنه يطلق على حصول الضرر والعنت، وعلى الخوف والذعر، وعلى زيادة الإثم والإسراف في المعاصي. 

فتحصّل أنّ كلاً منهما قد أرهق نفسه بتعريضها لما لا يطيق من العذاب إما في الدنيا وإما في الآخرة، فأما المستعيذون من الإنس فكان عذابهم معجلاً بالخوف والذعر الذي يحصل لهم بجراءة الجنّ عليهم وتلعّبهم بهم. 

وأمّا الجنّ فزادهم الإنسُ رهقاً أي كانواً سبباً في ازديادهم من الإثم، وإمعانهم في الإضرار بالإنس، لأنهم باستعاذتهم بهم ورضا الجنّ بأن يُشرك بهم مع الله ازداد الجنّ طغياناً يستحقون به العذاب الشديد على إمعانهم في الإثم وإسرافهم على أنفسهم بالظلم والعدوان.   

فهذا التركيب بديع جداً لدلالته على المعنيين بأوجز عبارة، وتبيّن به صحة حمل الضمير على مرجعين لاختلاف وجهي التفسير. 

  

المثال الثاني: مرجع الضمير في قول الله تعالى: {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} 

وللمفسرين قولان في مرجع الضمير"ها"، في "زكاها" و"دساها": 

القول الأول:  قد أفلح من زكى نفسه بالعمل الصالح، وخاب من دسّى نفسه بالعمل السيء، أي: دسّسها وأخملها بالإثم والفجور، وهذا قول قتادة. 

والقول الثاني: قد أفلح من زكّى الله نفسه، وخاب من دسّى الله نفسه، أيّ خيّبها ووضعها، وهذا قول مجاهد، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وروي عن ابن عباس من طريق العوفيين، وروي عن الحسن البصري، واختاره ابن جرير الطبري. 

والقولان صحيحان، لا تعارض بينهما، وهما وجهان في تفسير هذه الآية، 

فأما القول الأول فيستدلّ لصحته بقول الله تعالى: {قد أفلح من تزكَّى}، والنسبة فيه إلى العبد نسبة عمل وتسبب. 

وأما القول الثاني فيستدل لصحته بقول الله تعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ولكن الله يزكّي من يشاء} 

وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (( اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها )) كما في صحيح مسلم وغيره من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه. 

والنسبة فيه إلى الله تعالى نسبة قضاء وتقدير. 

  

والقول الثاني ضعّفه شيخ الإسلام ابن تيمية لأنه يستلزم خلوّ الجملة من عائد على الموصول. 

والجواب عنه أنّ العائد محذوف، والأصل أن يقال: من زكاها الله له، ومن دساها الله له. 

وحذف العائد المجرور بحرف سائغٌ إذا أُمن اللبس، كما حُذف في قول الله تعالى: {ذلك الذي يبشّر الله عباده الذين آمنوا} والأصل: يبشّر به، وكما في قوله تعالى: {اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم}، والأصل: أنعمت بها. 

- قال أبو حيان الأندلسي: (والظاهر أنَّ فاعل زكى ودسى ضمير يعود على "مَنْ"، وقاله الحسن وغيره، ويجوز أن يكون ضمير الله تعالى، وعاد الضمير مؤنثاً باعتبار المعنى من مراعاة التأنيث، وفي الحديث ما يشهد لهذا التأويل، كان عليه السلام إذا قرأ هذه الآية قال: «اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها»). 

  

المثال الثالث: مرجع الضمير في قول الله تعالى: {والعمل الصالح يرفعه} 

وقد اختلف فيه على أقوال: 

القول الأول: يرجع إلى الكلم الطيب المذكور قبله في قول الله تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} أي: العمل الصالح يرفع الكلم الطيب. 

وهو قول مجاهد، والضحاك، والحسن البصري، وشهر بن حوشب، ورواية عن قتادة، وروي عن ابن عباس. 

القول الثاني: يرجع إلى الله، أي: إلى الله يصعد الكلم الطيب، وهو يرفع العمل الصالح. 

وهو قول قتادة، ورجحه ابن عطية. 

القول الثالث: يرجع إلى الكلم الطيب، وفاعل يرفعه هو الكلم الطيب، أي: العمل الصالح يرفعه الكلم الطيب. 

وتحصيل المعنى: أنَّ الكلم الطيب يصعد إلى الله تعالى، ويرفع العمل الصالح للعبد. 

وهذا القول قال به السدي، ويحيى بن سلام البصري، وهو رواية عن الحسن البصري، وذكره غير واحد من المفسرين. 

ويشهد لهذا القول قول الله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا (70) يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما (71)} 

وإذا أصلح الله عمل عبد رفعه إليه، ورفع العمل أمارة على قبوله. 

وقد لخص أبو إسحاق الزجاج هذه الأقوال الثلاثة فقال: (والضمير في {يرفعه} يجوز أن يكون أحد ثلاثة أشياء، وذلك قول أهل اللغة جميعاً: 

- فيكون: والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب. 

- ويجوز أن يكون: والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب، أي: لا يقبل العمل الصالح إلا من موحد. 

- والقول الثالث: أن يرفعه الله عز وجل) ا. هـ. 

  

المثال الرابع: مرجع الضمير في قول الله تعالى: {وجعلنا بينهم موبقاً} 

قال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)} 

اختلف في معنى "الموبق" على أقوال: 

القول الأول: الموبق: العدواة، وهو قول الحسن البصري. 

والقول الثاني: الموبق: المهلِك، وهو قول الضحاك، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وروي عن ابن عباس. 

واحتُجّ له بقول الله تعالى: {أو يوبقهن بما كسبوا}، وبشواهد من أشعار العرب. 

والقول الثالث: الموبق: الحاجز. 

قال غلام ثعلب: {موبقا} كل شيء حاجز بين شيئين، فهو موبق. 

وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص ونوف البكالي ومجاهد أنّ الموبق وادٍ في جهنم. 

والقول الرابع: الموبق: الموعد، وهو قول أبي عبيدة معمر بن المثنى، واحتج له بقول الشاعر: 

وجادَ شرَوْرَى والسّتارَ فلم يدع.......تِعَاراً له والواديين بموبق 

(جاد) أي: السيل، وشَرَوْرَى وتِعَار جبلان، والستار وادٍ، والواديان موضع ملازم التثنية، وكلها مواضع بأطراف الحجاز، قال توبة بن الحمير: 

حمامة بطن الواديين ترنمي .. سقاك من الغرّ الغوادي مطيرها  

وقال متمم بن نويرة: 

سقي الله أرضاً حلّها قبر مالك ... ذهاب الغوادي المدجنات فأمرعا 

وآثر سيـــل الواديـــــــــين بديمـــــــــــــة ... ترشّـــح وسميــــــاً من النـبت خـِـــرْوعا 

والبيت الذي استشهد به أبو عبيدة من قصيدة لخفاف بن ندبة مذكورة في الأصمعيات، ورواية البيت فيها: (بمودَق) من الودق.  

 

واختلف في مرجع الضمير في قوله تعالى: {بينهم} على ثلاثة أقوال: 

القول الأول: راجع إلى المشركين وشركائهم الذين كانوا يدعونهم من دون الله، والموبق العداوة. 

والقول الثاني: راجع إلى المشركين والمؤمنين، والموبق: وادٍ في جهنّم يحجز بين المؤمنين والكافرين، وهذا القول يروى عن عمرو البكالي، وأقرب منه أن يراد بالموبق هنا الموعد أو العداوة. 

والقول الثالث: راجع إلى أهل النار، يعادي بعضهم بعضاً، وهذا القول ذكره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان. 

  

والأقوال الثلاثة لها ما يدل على صحتها في القرآن: 

- فالقول الأول يدلّ لصحته قول الله تعالى: {ويوم نحشرهم جميعًا ثمّ نقول للّذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيّلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيّانا تعبدون فكفى باللّه شهيدًا بيننا وبينكم إن كنّا عن عبادتكم لغافلين هنالك تبلو كلّ نفسٍ ما أسلفت وردّوا إلى اللّه مولاهم الحقّ وضلّ عنهم ما كانوا يفترون}

- والقول الثاني يدلّ لصحته قول الله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)}، وقوله تعالى: {وامتازوا اليوم أيّها المجرمون}. 

- والقول الثالث يدلّ لصحته قول الله تعالى: { وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)}، وقوله تعالى: { هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61)} 

والآيات التي في محاجة أهل النار بعضهم بعضاً، وعداوة بعضهم لبعض كثيرة. 

- قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: (الضمير في قوله: {بينهم} 

قيل: راجع إلى أهل النار. 

وقيل: راجع إلى أهل الجنة وأهل النار معاً. 

وقيل: راجعٌ للمشركين وما كانوا يعبدونه من دون الله). 

والمقصود أنّ تعدد مرجع الضمير لا يقتضي الإجمال. 

  

ثالثاً: احتمال المفردة لأوجه من الإعراب 

وهذا يقع كثيراً في المفردات القرآنية، ويختلف به المعنى؛ فإن كان اختلاف وجوه الإعراب على معانٍ صحيحة فهي من أوجه التفسير التي يُجمع بينها، ولا يصحّ ادّعاء الإجمال فيها. 

ومن أمثلة ذلك الاختلاف في إعراب {والدة} في قول الله تعالى: {لا تضارّ والدة بولدها ولا مولود له بولده} 

وسبب الاختلاف أنّ "تُضار" مشترك صرفي يقع على الفعل المضارع المبني لما لم يسمَّ فاعله، ويقع على الفعل المضارع المسمّى فاعله؛ فيصحّ إعراب "والدة" فاعلاً، ونائب فاعل. 

- فإذا أُعربت فاعلاً فالمعنى أنه يحرم على الوالدة أن تضارّ الوالدَ وأولياء المولود بولدها. 

- وإذا أعربت نائباً عن الفاعل فالمعنى أنه يحرم أن يُضارَّ الوالدةَ بولدها أحدٌ سواء أكان الوالد أو أولياؤه أو غيرهم؛ فيحرم عليهم أن يضارّوا الوالدة بولدها. 

وهذا الإعراب كما يجري على الوالدة فهو كذلك على المولود له، فتحرم مضارّته بولده كذلك، ويحرم عليه أن يضارّ هو بولده، وبمثل هذا العدل قامت أحكام الشريعة. 

والمقصود أنّ اختلاف أوجه الإعراب لا يصحّ أنّ يُدّعى فيه أنه إجمال مطلقاً؛ بل يجري فيه ما جرى على ما قبله من الأساليب؛ فمن ما يكون فيه دلالة على سعة معاني القرآن وكثرة هداياتها وبركة ألفاظه، ومنه ما يقع فيه اختلاف معتبر عند النحاة لكن لا أثر له على المعنى، ومنه ما يكون له أثر على المعنى والاختلاف فيه اختلاف تضادّ فيرجّح بين الأقوال في الإعراب كما يرجّح بين أقوال المفسرين، وكلّ إعرابٍ أدّى إلى معنى غير صحيح فهو مردود. 

  

رابعاً: التردد في التخصيص بالصفة 

ومن ذلك الاختلاف في كون الصفة كاشفة أو مقيدة. 

ومن أمثلة ذلك: الاختلاف في قول الله تعالى: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} هل صفة العظيم مقيدة أو كاشفة؟ 

فيها قولان: 

أحدهما: صفة كاشفة، والمراد القرآن كلّه، وعلى هذا قول مجاهد بن جبر، والضحاك بن مزاحم، وقال به جماعة من علماء اللغة منهم: أبو عبيدة معمر بن المثنى، وأبو علي القالي. 

والقول الآخر: صفة مقيدة في هذا الموضع، والمراد سورة الفاتحة. 

وإطلاق لفظ القرآن على بعض آياته من باب إطلاق الكل على الجزء، كما لو سمعت رجلاً يقرأ سورةً ثمّ قلت: هو يقرأ القرآن، كان خبرُكَ عنه صادقاً؛ وإن لم يكن يقرأ القرآن كلّه، وعلى هذا قول جمهور المفسّرين لما صحّ من أحاديث أبي هريرة وأبيّ بن كعب وأبي سعيد بن المعلّى رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (({الحمد لله رب العالمين} هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته)). 

ومن أمثلته في الأحكام اختلاف الفقهاء في نكاح حليلة الابن من الرضاعة بعد مفارقته إياها؛ لاختلافهم في مفهوم الصفة من قوله تعالى: {وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم} مع دلالة السنة على أنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب. 

  

خامساً: اختلاف الوقف والابتداء 

والتردد في الوقف والابتداء لدى بعض المفسرين من أسباب وقوع الإجمال، ومن أمثلته قول الله تعالى: {فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض} فمن وقف على {محرمة عليهم} ذهب إلى أنّ التحريم مؤبد على المعنيين منهم في ذلك الوقت، ومن وقف على {أربعين سنة} ذهب إلى أنه مؤقت على بني إسرائيل عامة، والوجهان يأتلفان ولا يختلفان. 

  

سادساً: الإشارة إلى وجود البيان 

ومن أساليب الإجمال الاختصار وترك التفصيل والإشارة إلى وجود البيان عما أُجمل، ومن أمثلة ذلك: 

 

المثال الأول: قول الله تعالى: {أُحِلّتْ لكم بهيمة الأنعام إلا ما يُتلى عليكم} 

وبيانه في قول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}. الآية. 

وهو قول مجاهد وقتادة وابن قتيبة، واختاره ابن جرير وابن عطية وابن كثير، وغيرهم. 

وذهب الشافعي إلى أن البيان في قول الله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحي إليَّ محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم}

وليس بين الآيتين اختلاف في البيان، وقد قال الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} فالآيات التي فيها تفصيل ما حرّم علينا داخلة في ما أحيل إليه، والإتيان بالفعل المضارع {يُتلى} يفيد تعدد الآيات التي فيها تفصيل التحريم، ويقال مثل ذلك في قول الله تعالى في سورة الحج: { وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}. 

  

والمثال الثاني: قول الله تعالى: {وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل}. 

وبيانه في قول الله تعالى في سورة الأنعام: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفرٍ ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظمٍ ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون (146)}. 

  

المثال الثالث: قول الله تعالى: {كلا إنا خلقناهم مما يعلمون} 

فأجمل ذِكْرَ مَا خُلقوا منه وأحال في البيان على ما يعلمون، وقد بيّنه في آيات كثيرة، وقد قيل: إن الغرض من الإبهام هنا التحقير لأنها في مقابل استكبارهم في أنفسهم المشار إليه بقوله تعالى: {أيطمع كلّ امرئ منهم أن يُدخل جنّة نعيم}. 

  

سابعاً: الإبهام 

وذلك أنّ الإبهام في باب الأخبار إجمالٌ لما فيه من الاختصار وطوي التفصيل؛ فما تدعو الحاجة إلى بيانه فقد بيّنه الله تعالى لنا في موضع آخر أو بيّنه نبيه صلى الله عليه وسلم، وما لم يفصّل لنا فبيانه في ترك التفصيل لعدم تعلّق العمل به. 

  

ويقع في الأحكام تنكير قد يظنه بعضهم إبهاماً وهو غالباً ما يكون مطلقاً أو عاماً، وليس بمجمل، ومنه ما في قول الله تعالى: {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة}، وقوله تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فردوه إلى الله والرسول}. 

  

والإجمال بالإبهام له أمثلة منها: 

المثال الأول: قول الله تعالى: {‌فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧)} 

فنكّر الكلمات تنكيراً أبهمها، وقد بيّنها الله في موضع آخر؛ فقال تعالى في سورة الأعراف: {قَالَا رَبَّنَا ‌ظَلَمْنَا ‌أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٢٣)}  

  

المثال الثاني: قول الله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ ‌طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ}. 

فنكر الطيبات التي حرمها عليهم لإبهامها، ومن بيانها قول الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)}. 

وإنما قلنا: إن هذا من بيانها، ولم نقل هو بيانها؛ لأنا لا نجزم أنّ ذلك هو كلّ ما حرّم عليهم. 

  

المثال الثالث: قول الله تعالى: {وبشر المؤمنين بأنّ لهم من الله فضلاً كبيراً} 

فنكّر الفضل للإبهام، وبيانه في نصوص كثيرة ذُكرت فيها فضائل الإيمان، وقد كتبتُ رسالة في تفسير هذه الآية ذكرتُ فيها أنواع الفضائل التي وعد الله بها عباده المؤمنين. 

  

المثال الرابع: قول الله تعالى: {ويجعلون لله ما يكرهون} 

فأبهم ما يكرهون وبيّن في آيات أخر أنه البنات والشركاء، كما في قول الله تعالى: {ويجعلون لله البنات سبحانه} ، وقوله تعالى: {وجعلوا لله شركاء}، وقوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)}.  

هذا، وقد ذكرت في كتاب أصول التفسير البياني أمثلة عدة لمفردات وتراكيب وأساليب يصحّ حمل الآية على جميع معانيها أو أكثرها. 

عبد العزيز بن داخل المطيري

#4

1 Sep 2024

الحكمة من ورود الإجمال في القرآن 

ورود الإجمال في القرآن له حكم منها 

1: أنه امتحان وابتلاء؛ فالقلوب المؤمنة تصدّق وتنقاد لأمر الله، وتسلّم لله تعالى وإن لم تعلم تفصيل البيان، والقلوب التي فيها مرض يدخلها الريب والشك.  

2: أن الإجمال أدعى للإقبال على القرآن وتفهمه وتدبره، وطلب البيان؛ فيحصل بذلك من زيادة الإيمان واليقين، وزيادة العلم والعمل ما يرتفع به المؤمن.  

3: أن الإجمال في الأخبار وترك التفصيل في بعض جوانبها أبلغ بياناً لأنه أدعى لإقبال القارئ والمستمع على تفهم مقاصد الآيات وفقه هداياتها، بخلاف ما لو أخذ في ذكر تفصيل لا يتصل بالمقصد فإنه يشغل الذهن عما هو أولى بالعناية والاهتمام، ولذلك تتكرر القصص في القرآن ويكون في كلّ موضع إجمال في جوانب وعناية بجوانب. 

4: التأكيد على الرجوع إلى السنة، وطلب بيان القرآن منها، فكثير مما أجمل في القرآن نجد بيانه في السنة؛ فكلما كان المرء أعلم بالسنة كان أعلم ببيان القرآن.  

5: الإجمال تتحقق به أغراض بيانية منها: التعظيم، والتشويق، والتخويف، والكناية عما يُرغب عن التصريح به، وغيرها.   

6: ظهور تفاضل الناس في العلم والعمل؛ فإنهم يتفاوتون في إدراك بيان المجمل، وطرقهم في طلبه، ويتبيّن به فضل العلماء على من دونهم في العلم.  

 

هل بقي في القرآن نصّ مجمل لم يُبيّن؟  

تلخيص الجواب على هذه المسألة أنّ الإجمال يقع في الأخبار وفي الأحكام 

- فأما الإجمال في الأحكام فلم يبق حكم نُكلّف به إلا وقد بيّن لنا. 

- وأما الإجمال في الأخبار فمنه ما بيّن وفصّل ومنه ما أُجمل وبقي على إجماله، كما قال الله تعالى: { وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} 

وقوله تعالى: { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} 

وقوله تعالى: { قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)} 

فما يتعلق به عمل نُتعبَّد به فقد بيّن لنا، وما لا يتعلق به عملٌ فمنه ما بقي على إجماله، ولا يعود ذلك على كمال الدين ووصف القرآن بأنه مبين بالبطلان؛ لأن البيان الذي تتعلق به حاجة المكلفين هو ما يقرّبهم من الجنة ويباعدهم من النار مما يترتب عليه عمل، وهذا قد تمّ وكمل، كما قال الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}  

- وفي مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم من حديث الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم)). 

- وفي مصنف ابن أبي شيبة، وشعب الإيمان للبيهقي، وشرح السنة للبغوي من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن زبيد اليامي وعبد الملك بن عمير عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أيها الناس ليس من شيء يقربكم إلى الجنة، ويباعدكم من النار، إلا قد أمرتكم به، وليس شيء يقربكم من النار، ويباعدكم من الجنة إلا قد نهيتكم عنه». ورجاله ثقات، لكن فيه انقطاع، وله شواهد، وقد حسّنة الألباني في السلسلة الصحيحة. 

فهذا خلاصة ما في هذه المسألة، وللأصوليين فيها ثلاثة أقوال:  

القول الأول: أنه لم يبق في القرآن ولا السنة نصّ مجمل لم يُبيّن، واستدلوا بقول الله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزّل إليهم}  

والقول الثاني: في القرآن مجملات لا يعلمها إلا الله تعالى، وبقاؤها على إجمالها دليل على أنه ليس كلّ ما أُجمل في القرآن قد بيّن.  

القول الثالث: ما يتعلق به حكم تكليفي فقد بيّن، وما لا يتعلق به حكم تكليفي فمنه ما بقي على إجماله. 

 

البيان المتصل والبيان المنفصل 

بيان المجمل منه ما يكون متصلاً به أي في موضعه، ومنه ما يكون منفصلاً عنه في موضع آخر.  

فالمتصل له أمثلة منها:  

- قول الله تعالى: {القارعة . ما القارعة . وما أدراك ما القارعة . يوم يكون الناس كالفراش المبثوث ... } الآيات؛ فأبهمها ثم بيّنها في السورة نفسها.  

- وقول الله تعالى: {فكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} فقوله: {من الفجر} بيان لما كان مجملاً لدى بعض الصحابة من المراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود.  

 

والمنفصل له أمثلة منها:  

- قول الله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} المراد بالذين أنعم الله عليهم مبيّن في قول الله تعالى: { {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا}. 

- وقول الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} ، بيانه في قول الله تعالى:  {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)} 

- وقول الله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً}، بيانه في قول الله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى}. 

 

السبيل إلى بيان المجمل في القرآن  

ذكرنا أنّ الإجمال يتفاوت، فقد يقع الإجمال لأناس دون آخرين؛ بسبب تفاوتهم في الفهم وإدراك المعنى. 

وكذلك بيان الإجمال يقع فيه تفاضل كبير؛ فمنه ما يكون بيانه ظاهراً منصوصاً عليه في موضع أو مواضع معروفة من القرآن الكريم أو يكون بيانه معلوماً مشتهراً في السنة النبوية؛ فهذا مما لا يكاد يخفى سبيلُ علمه؛ كبيان المراد بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وغيرها.  

ومنه ما يتيسر إدراكه بالتدبر والبحث اليسير لتقارب الألفاظ أو المعاني في موضعي الإجمال والتبيين. 

ومنه ما يخفى حتى لا يُدرك إلا باستنباط دقيق، وبذلك يقع تفاضل كبير بين أهل العلم في إدراك بيان المجمل. 

ويقع بينهم في ذلك اختلاف ينظر فيه بحسب قواعد الجمع والترجيح.  

ويقع منهم اجتهاد يحتمل الإصابة والخطأ؛ فليس كلّ ما يُذكر من كلام العلماء في بيان المجمل يكون صواباً لا خطأ فيه.  

ومن أقرب مظانّ بيان المجمل الكتب المؤلفة في تفسير القرآن بالقرآن؛ فإنَّ أصحابها عنوا عناية بالغة ببيان المجمل 

ولو تصدّى باحثون مجيدون لجمع ما تفرق من أقوال العلماء في تفسير القرآن بالقرآن، ولا سيما الآثار المروية عن السلف الصالح في ذلك لكان عملاً جليلاً نافعاً.  

 

ومن النافع لطالب العلم أن يتعرف طرق العلماء في طلب بيان المجمل؛ وأن يتفهّم أمثلة لذلك؛ حتى إذا عرض له موضع فيه إجمال عرف السبيل إلى بيانه.  

وسأذكر في ذلك خلاصة نافعة بإذن الله، وأمثّل لها بأمثلة ليتدرّب بها طالب العلم.  

1: فمن المجمل ما يتبيّن بمعرفة القراءات والأحرف الواردة في الآية، وله أمثلة منها:  

أ: فمنه بيان تتابع الصيام في الكفارات بقراءة أبيّ ابن كعب [ثلاثة أيام متتابعات]. 

- قال مالك في الموطأ، عن حميد بن قيس أنه أخبره قال: كنت مع مجاهد وهو يطوف بالبيت؛ فجاءه إنسان فسأله عن صيام أيام الكفارة أمتتابعات أو يقطعها؟ 

قال حميد: فقلت له: نعم، يقطعها إن شاء. 

قال مجاهد: (لا يقطعها، فإنها في قراءة أبي بن كعب: ثلاثة أيام متتابعات). 

وقد رويت هذه القراءة عن ابن مسعود من طريق أبي إسحاق السبيعي، والأعمش، وإبراهيم النخعي.  

- وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية الرياحي قال: (كان أبيّ يقرؤها: [فصيام ثلاثة أيام متتابعات]). رواه ابن أبي شيبة، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في السنن الكبرى.  

ب: وبيان ما أُجمل من معنى الإضافة في قوله تعالى: {مثل نوره} بقراءة أبيّ بن كعب [مثل نور من آمن به] 

- قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: هي في قراءة أبي بن كعب [مثل نور من آمن به] أو قال: [مثل من آمن به]. رواه أبو عبيد القاسم بن سلام. 

ج: وبيان معنى "الفوم" في قول الله تعالى: {إِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} بقراءة ابن مسعود: [ثومها]. 

- قال هارون بن موسى الأزدي: حدثنا صاحبٌ لنا، عن أبي روق، عن إبراهيم التيمي، عن ابن عباس قال: (قراءتي قراءة زيد، وأنا آخذ ببضعة عشر حرفاً من قراءة ابن مسعود، هذا أحدها [من بقلها وقثائها وثومها وعدسها وبصلها]). رواه ابن أبي داوود في المصاحف، وقد رويت هذه القراءة عن ابن مسعود من طرق أخرى، وهذا أحد الوجهين في المراد بالفوم، والوجه الآخر: أنه الحنطة والخبز، وهو قول جمهور المفسرين.  

- قال سفيان بن عيينة، عن الأعمش، قال: قال مجاهد: (لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود لم أحتج أن أسأل ابن عباس عن كثير من القرآن مما سألت). رواه الترمذي.  

2: ومنه ما يتبيّن بمعرفة سبب النزول أو حاله، ومن أمثلته: 

- ما في صحيح البخاري وغيره من بيان سبب نزول قول الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما}.  

- وما في صحيح البخاري من حديث خالد بن أسلم، قال: خرجنا مع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فقال أعرابي: أخبرني عن قول الله: {والذين يكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله} قال ابن عمر رضي الله عنهما: «من كنزها، فلم يؤد زكاتها، فويل له، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طُهراً للأموال». 

3: ومنه ما يتبيّن بدلالة السياق، ومن أمثلته دلالة السياق في قوله تعالى: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} على أنّ مرجع الضمير إلى عيسى عليه السلام.  

- قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: (وإيضاح هذا أن الله تعالى قال: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ}، ثم قال تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ} أي عيسى، {وَمَا صَلَبُوهُ} أي عيسى، {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} أي عيسى، {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ} أي عيسى، {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} أي عيسى، {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} أي عيسى، {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)} أي عيسى، {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ} أي عيسى، {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} أي عيسى، {قَبْلَ مَوْتِهِ} أي عيسى، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيهِمْ شَهِيدًا (159)} أي يكون هو، أي عيسى شهيدًا. 

فهذا السياق القرآني الذي ترى ظاهر ظهورًا لا ينبغي العدول عنه، في أن الضمير في قوله: (قبل موته) راجع إلى عيسى).   

4: ومنه ما يتبيّن بدلالة السنة، وهذا أمر يقع فيه تفاضل كثير؛ لتفاوت الناس في المعرفة بالسنة، ومن أمثلته ما تقدم ذكره من بيان صفة الصلاة والحج، ومقادير الزكاة هي بيان لما أُجمل في القرآن من الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وحجّ البيت.  

ومن أمثلته أيضاً بيان السبيل الذي أُجمل في قول الله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)}، فقد بيّن فيما روي من طرق عن الحسن البصري، عن حطان بن عبد الله، عن عبادة بن الصامت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر، والثيب بالثيب: البكر، جلد مائة ونفي سنة، والثيب جلد مائة والرجم)). أخرجه أحمد، ومسلم، وأبوداوود، والنسائي، وغيرهم.  

5: ومنه ما يعرف باستقراء مفردات القرآن وأساليبه وتراكيبه، والاستقراء من الحجج المعتبرة، ومن ذلك بيان معنى المطر المذكور في قول الله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)} 

- قال سفيان بن عيينة: (ما سمى الله مطراً في القرآن إلا عذاباً) علّقه البخاري، وأسنده ابن حجر في تغليق التعليق، وهو من قول سفيان في تفسيره المفقود.  

وربما ينازع في قول الله تعالى: {إن كان بكم أذى من مطر} ولقوله وجه معتبر، وهو أنّ الأذى من العذاب.  

6: ومنه ما يعرف بدلالة مقاصد القرآن، ومن ذلك أنه روي عن السلف في تفسير قول الله تعالى: {إنه على رجعه لقادر} أقوال ترجع إلى معنيين 

أحدهما: أنه قادر على بعثه بعد موته.  

والآخر: أنه قادر على ردّ الماء في الإحليل، وإعادة الإنسان بعد الكبر إلى حال الصغر.  

لكن مقاصد القرآن تدلّ دلالة بيّنة على اعتبار المعنى الأول دون الثاني، وذلك أنّ الخصومة بين النبي صلى الله عليه وسلم وقومه كانت في الإيمان بالبعث والنشور، ومن مقاصد القرآن الجليلة إقامة البراهين على البعث والجزاء.  

ومما يؤيد هذا البيان أيضاً دلالة السياق في قوله تعالى: {يوم تبلى السرائر}.  

7: ومنه ما يعرف بدلالة تناسب الآيات والسور. 

8: ومنه ما يعرف بالدلالات اللغوية، وهي على أنواع كثيرة سبق بيانها في طرق التفسير، وفي أصول التفسير البياني، والتمثيل لها بأمثلة كافية.  

 

تجاوز أهل الأهواء في دعوى الإجمال 

ومما ينبغي التنبّه له ما وقع من تجاوز أهل الأهواء في دعوى الإجمال ليحيلوا في البيان على تأويلاتهم التي فيها صرف للنصّ عن معناه الظاهر إلى ما يوافق أهواءهم، كما ذكر بعضهم أنّ قول الله تعالى: {﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ ‌يَأْتِيَهُمُ ‌اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ ﴾ مجمل، وبيانه في قول الله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ ‌يَأْتِيَ ‌أَمْرُ رَبِّكَ} ليتوصلوا بذلك إلى نفي صفة الإتيان عن الله عزّ وجلّ، وقد روي في ذلك رواية عن الإمام أحمد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنّها غلط عليه، وقال: (لا ريب أنه خلاف النصوص المتواترة عن أحمد في منعه من تأويل هذا وتأويل النزول والاستواء ونحو ذلك من الأفعال). 

 

عبد العزيز بن داخل المطيري

#5

1 Sep 2024

أمثلة على تبيين المجمل من أقوال المفسرين 

المثال الأول: قول الله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} 

- قال محمد بن إدريس الشافعي: (ذكر الله عز وجل صيد البحر جملة ومفسرا، فالمفسر من كتاب الله عز وجل يدل على معنى ‌المجمل منه بالدلالة المفسرة المبينة والله أعلم، قال الله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} فلما أثبت الله عز وجل إحلال صيد البحر وحرم صيد البر ما كانوا حرما، دل على أن الصيد الذي حرم عليهم ما كانوا حرما، ما كان أكله حلالا لهم قبل الإحرام؛ لأنه - والله أعلم - لا يشبه أن يكون حرم بالإحرام خاصة إلا ما كان مباحا قبله، فأما ما كان محرما على الحلال فالتحريم الأول كف منه، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على معنى ما قلت وإن كان بينا في الآية والله أعلم. 

أخبرنا سفيان عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «خمس من الدواب لا جناح على من قتلهن في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور»). 

 

المثال الثاني: قوله تعالى: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ}. 

- قال محمد الأمين الشنقيطي: (لم يبين هنا ما هذه البينات ولكنه بينها في مواضع أخر كقوله: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} إلى غير ذلك من الآيات). 

 

المثال الثالث: قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}. 

- قال محمد الأمين الشنقيطي: (‌لم ‌يبين هنا هل أجاب دعاءهم هذا أو لا. ولم يبين الإصر الذي كان محمولا على من قبلنا، وبين أنه أجاب دعاءهم هذا في مواضع أخر كقوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} وقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} الآية. إلى غير ذلك من الآيات. وأشار إلى بعض الإصر الذي حمل على من قبلنا بقوله: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}؛ لأن اشتراط قتل النفس في قبول التوبة من أعظم الإصر، والإصر: الثقل في التكليف، ومنه قول النابغة: 

يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم … والحامل الإصر عنهم بعدما عرفوا). 

 

المثال الخامس: قول الله تعالى: {فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم (65)} 

- قال ابن عاشور: (وهذا الاختلاف أجمل هنا ووقع تفصيله في آيات كثيرة تتعلق بما تلقى به اليهود دعوة عيسى، وآيات تتعلق بما أحدثه النصارى في دين عيسى من زعم بنوته من الله وإلهيته). 

 

المثال الرابع: قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ}  

- قال محمد بن صالح العثيمين: (وقوله سبحانه وتعالى: {سَعَوْا فِي آيَاتِنَا} ‌لم ‌يُبيِّن بماذا سَعَوْا؛ لأنَّ هؤلاءِ يَسعَوْن في إبطال آيات الله تعالى أَحْيانًا بالصِّراع المُسلَّح، يَعنِي: يُهاجِمون الدِّيار ويُقاتِلونهم حتى يَردُّوهم عن دِينهم، وأحيانًا بالسِّلاح الفِكْري، فيَبُثُّون فيهم الشُّبُهاتِ؛ في دِينهم، في نَبيِّهم، في ربِّهم؛ ما استَطاعوا إلى ذلك سبِيلاً، وأحيانًا يَسعَوْن في ذلك بالشَّهَواتِ؛ فيَبُثُّون في الناس حُبَّ اللهو والشَّهْوة. 

ومن هذا ما تبُثُّه وسائِلُ الإعلام الخبيثة في الدُّوَل الكافِرة ومَن تَشبَّهَت بها فتَجِدهم يَدْعون إلى أَسافِل الأخلاق، يَدْعون بالقَلْم وبالصورة، فيُصوِّرون النِّساء الفاتِنات وعلى صِفة مُزرِية -والعِياذُ بالله تعالى-، وَيكتُبون أيضًا بالدَّعْوة إلى ذلك، وهذا الأمرُ يَمَسُّ العقيدة في الواقِع، وليس قاصِرًا على البدَن فقط؛ لأنَّ الإنسان إذا أَصبَح بَهيميًّا ليس له إلَاّ إِشْباعُ بَطْنه، وإشباعُ غَريزته؛ فإنه يَبقَى لا صِلةَ له بالله، أهمُّ شيءٍ عنده هذا الذي انغَمَس فيه من الشَّهَوات واللهوات، فتَجِده يُعرِض عن دِين الله ولا يَهتَمُّ به. 

ولذلك مِن أَضَرِّ ما يَكون على البِلاد الإِسلامية بعد بثِّ السُّموم الفِكْرية بثُّ السُّموم الشَّهْوانية؛ لأن الشَّهْوانية هذه يَميل إليها الإنسان بفِطْرته التي تمُلِيها عليه نَفْسُه الأمَّارة بالسُّوء، فيَدخُل فيها مُكرَهًا فإذا انغمَسَ -نَسأَل الله تعالى العافِيَة- فيها فإنه يَقِلُّ أن يَنتَشِل نفسه منها). 

عبد العزيز بن داخل المطيري

#6

1 Sep 2024

دراسة لبعض أمثلة تبيين المجمل 

مما يتكرر ذكره في كتب علوم القرآن وأصول الفقه التمثيل على الإجمال في القرآن بأمثلة ينبغي الوقوف عندها وبيانها 

المثال الأول: قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء} 

القرء في اللغة ما يأتي على وقت معتاد، يقال: أقرأت الرياحُ إذا هبّت لوقتها المعتاد الذي تُتحرَّى فيه، ومنه قول الشاعر:  

شنئتِ العقرَ عقرَ بني شليلٍ ... إذا هبّت لقارئها الرياحُ 

فهي رياح يتحرّون هبوبها كلّ سنة في وقت معتاد فينحرون ويُطعمون.  

والحيض والطهر كلاهما قرء لمجيء كلّ واحد منهما لوقته المعتاد.  

وقد اختلف الفقهاء والمفسرون في المراد بالقروء في هذه الآية على قولين:  

القول الأول: القروء الحِيَض، والمطلّق أحقّ بردّ مطلَّقته ما لم تتطهّر من الحيضة الثالثة، وهذا قول عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبيّ بن كعب، وأبي موسى الأشعري، ورواية عن ابن عمر، وحكاه مكحول عن معاذ وأبي الدرداء، وحكاه عمرو بن دينار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.  

وقال به من التابعين: الأسود بن يزيد، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، والسدي، والربيع بن أنس البكري.  

وهو مذهب أبي حنيفة، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وإسحاق بن راهويه، وأحمد.  

 

والقول الثاني: القروء الأطهار، فإذا دخلت المطلّقة في الحيضة الثالثة لم يملك مطلّقها أن يرجعها، وهذا قول عائشة، وزيد بن ثابت، ورواية عن ابن عمر 

وقال به من التابعين: سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبان بن عثمان، وسليمان بن يسار، وابن شهاب. 

وهو مذهب مالك بن أنس، والشافعي 

وعن الإمام أحمد رواية بأن القرء هو الطهر، لكن لا تنقضي عدّتها إلا بالاغتسال من الحيضة الثالثة. 

 

وإذ تقرر أنّ القرء يطلق على الحيض وعلى الطهر إطلاقاً صحيحاً؛ فلا ينبغي سلوك مسلك الترجيح بينهما من جهة الدلالة اللغوية؛ لأنه ما من فريق يحتجّ بحجج لغوية إلا احتجّ عليه الآخر بمثلها.  

 والذي يزول به الإشكال معرفة حال نزول هذه الآية؛ فإنّها نزلت في حال لم يكن فيه للطلاق عِدّة ولا عَدد، فكان من شاء أن يطلّق طلّق بلا عدد، وراجع متى شاء بلا عِدّة.  

- قال إسماعيل بن عياش الحمصي: حدثني عمرو بن مهاجر، عن أبيه، عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية رضي الله عنه (أنها طُلّقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‌ولم ‌يكن ‌للمطلّقة ‌عدّة؛ فأنزل الله عز وجل حين طُلّقَت أسماء بالعدة للطلاق، فكانت أوَّل من أنزلت فيها العدة للمطلقات). رواه أبو داوود، وابن أبي حاتم، والبيهقي.  

- وقال علي بن حسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ‌ثلاثة ‌قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن} الآية، وذلك أنَّ الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثاً؛ فنسخ ذلك، وقال: {الطلاق مرتان}). رواه أبو داوود.  

- وقال يزيد بن زريع: حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، قال: «كان أهل الجاهلية يطلّق أحدهم امرأته ثم يراجعها لا حدَّ في ذلك، هي امرأته ما راجعها في عدّتها، فجعل الله حدَّ ذلك يصير إلى ثلاثة قروء، وجعل حدّ الطلاق ثلاث تطليقات». رواه ابن جرير.  

- وقالعبد الأعلى بن عبد الأعلى السامي: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قال: (كان أهلُ الجاهليّة كان الرّجل يطلّق الثّلاث والعشر وأكثر من ذلك، ثمّ يراجع ما كانت في العدّة، فجعل اللّه حدّ الطّلاق ثلاث تطليقاتٍ). 

قلت: قوله: (ما كانت في العدّة) تقدّم في حديث أسماء بنت يزيد أنّه لم يكن قبل نزول هذه الآية عدّة على المرأة.  

- قال الشافعي رحمه الله: سمعت من أرضى من أهل العلم يقول: (إنَّ أول ما أنزل اللَّه عزَّ وجلَّ من العِدَد {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ}). 

ولما نزلت هذه الآية لم يكن مع نزولها تحريم لطلاق الحائضِ، ولا اشتراط أن يكون طلاق غير الحامل ومَن لا تحيض في طهر لم يجامعها فيه زوجها، فكانت دلالة هذه الآية ظاهرة في أنّ من طلّق امرأته وهي طاهرٌ فعدّتها ثلاث حِيَض، ومن طلّقها وهي حائضٌ فعدّتها ثلاثة أطهار.  

ثمّ نزل بعد ذلك تشريع بقية أحكام الطلاق؛ ونزلت سورة الطلاق وفيها قول الله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلّقتم النساء فطلّقوهنّ لعدّتهنّ وأحصوا العدّة} ، وكانت هذه الآية مجملة خفيت بعض أحكامها على بعض الصحابة رضي الله عنها، ولذلك وقع من بعضهم طلاق للحائض بعد نزول هذه الآية استصحاباً منهما لما كان عليه الحال قبل نزولها؛ كما فعل ابن عمر، ولو كان هذا التشريع ظاهراً مستفيضاً لم يخف على مثل ابن عمر، فلما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجع امرأته التي طلقها وهي حائض وأن يدعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلقها وإن شاء أمسكها وبيّن له أنّ ذلك هو المقصود بقول الله تعالى: {لعدّتهنّ} عُلم أنّ هذا البيان للمجمل قدر زائد على الدلالة اللغوية للفظ الآية، وأنه من خصائص البيان النبوي. 

- قال مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه طلق امرأته وهي حائض، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء». رواه مالك، وأحمد، والبخاري، ومسلم، وغيرهم. 

فقوله صلى الله عليه وسلم: (( فتلك العدة التي أمر الله أن تطلّق لها النساء )) بيان نبوي واجب القبول، وفيه زيادة على الدلالة اللغوية للفظ الآية.  

 

فنزول قول الله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء} والآيات التي بعدها كان لتشريع عدّة الطلاق وعدده، ثم نزلت الآيات التي في سورة الطلاق بعد ذلك بمدة وفيها تفصيل لبعض أحكام الطلاق، ومنها تحريم طلاق الحائض، ولو كان طلاق الحائض جائزاً لكانت العدة ثلاثة أطهار تامة. 

ولذلك كان من أقوى الحجج لأصحاب القول الأول أنّ المطلقة تعتد بثلاث حيض تامات، وهي ثلاثة قروء.  

وعلى القول الثاني تكون عدّة المرأة طهرين وبعض الثالث وهذا أقلّ من العدّة المأمور بها وهو ثلاثة قروء، ومفهوم العدد من أقوى المفاهيم؛ فلا يجزئ ما كان أقلّ منه.   

وقول ثلاثة من الخلفاء الراشدين بالقول الأول من غير معارض أقوى منه يصيّره سنّة واجبة الاتباع لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)). رواه أحمد، والدارمي، وأبو داود من حديث خالد بن معدان، عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، وله طرق أخر.  

وقول جماعة منهم بأنّ الأمد إلى أن تغتسل المرأة من الحيضة الثالثة قدر زائد على ما يدلّ عليه منطوق الآية، ولذلك ذهب سعيد بن جبير إلى أنّ الأمد إلى أن ينقطع الدم من الحيضة الثالثة، وقول الخلفاء ومن معهم من علماء الصحابة أولى بالاتباع؛ والظاهر أنهم ما قالوه وتوافقوا عليه وقضوا به إلا لأصل علموه من السنة يدلّ عليه.  

 

المثال الثاني: قوله تعالى: {إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} 

اختلف في المراد بالذي بيده عقدة النكاح على أقوال أشهرها قولان:  

أحدهما: هو الزوج، وهو قول عليّ بن أبي طالب، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، ومحمد بن سيرين، ومحمد بن كعب القرظي، والقول الجديد لشريح القاضي، ومجاهد، وطاووس. 

وقال به: أبو حنيفة، والأوزاعي، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، والشافعي في الجديد، وأبو ثور.  

 

والقول الآخر: هو وليّ المرأة، وهو قول علقمة بن قيس، والأسود بن يزيد، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري، والشعبي، وابن شهاب الزهري، وعكرمة، وزيد بن أسلم، والسدي، ورواية عن ابن عباس. 

والقول القديم لشريح، ومجاهد، وطاووس.  

وقال به: ربيعة الرأي، ومالك، والشافعي في القديم على اختلاف في تفصيل قولهم 

- فقال زيد بن أسلم وربيعة الرأي ومالك: الأب في ابنته البكر خاصة، وسيّد الأمة.  

- وقال ابن شهاب الزهري: (هي البكر الّتي يعفو وليّها، فيجوز ذلك، ولا يجوز عفوها هي). 

وهو ما يعبّر عنه شيخ الإسلام ابن تيمية بالولي المستقلّ.  

- قال رحمه الله: (وأما عفو الذي بيده ‌عقدة ‌النكاح؛ فقيل: هو عفو الزوج وأنه تكميل للصداق للمرأة، وعلى هذا يكون هذا العفو من جنس ذلك العفو فهذا العفو إعطاء الجميع، وذلك العفو إسقاط الجميع، والذي حمل من قال هذا القول عليه أنهم رأوا أن غير المرأة لا يملك إسقاط حقها الواجب كما لا يملك إسقاط سائر ديونها.  

وقيل: {الذي بيده ‌عقدة ‌النكاح} هو ولي المرأة المستقل بالعقد بدون استئذانها كالأب للبكر الصغيرة، وكالسيد للأمة، وعلى هذا يكون العفوان من جنس واحد، ولهذا لم يقل: إلا أن يعفون أو يعفوا هم، والخطاب في الآية للأزواج).ا.هـ. 

 

قلت: التحقيق والله تعالى أعلم أنّ في كلا القولين صواباً تحتمله دلالة الآية لاختلاف الأحوال وتعددها، ولذلك اختير التعريف بالاسم الموصول {الذي بيده عقدة النكاح} دون غيره مما يتعيّن به الزوج أو الوليّ أو غيرهما؛ فدلّ ذلك على أنه قد يقع على الزوج في أحوال، وقد يقع على غيره في أحوالٍ أخر.  

وبيان ذلك أنّ عقدة النكاح لا تعقد إلا بطرفين: 

أحدهما: الزوج أو وكيله. 

والآخر: الوليّ أو من يقوم مقامه مع اشتراط رضا الزوجة. 

وهؤلاء هم المعنيون بقول الله تعالى: {ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله}.  

ثمّ حلُّ هذه العقدة قد يكون من قِبَل الزوجِ وحدَه وذلك بالطلاق، وقد يكون من قِبَل الحكمين عند الشقاقِ، وقد يكون من قِبَل الحاكمِ في الفسخ،  وقد يكون من قِبَل الزوج والولي بالتراضي على الخلع 

فالذي بيده عقدة النكاح هو الذي يملك حلّها، ولّما لم تكن الزوجات ممن يملك هذه العقدة أفردن بالذكر في قوله تعالى: {إلا أن يعفون}. 

وشمل الوصف بقوله تعالى: {الذي بيده عقدة النكاح} كلّ من كان في مقام يملك فيه حلّ عقدة النكاح.  

فعفو النساء عما فرض لهنّ ظاهر لا إشكال فيه.  

وعفو الزوج هو تفضّله بإعطاء الصداق الذي فرضه كاملاً، وهذا ظاهرٌ لا إشكال فيه. 

وعفو غيره له ليس المراد به أنه يملك أن يتنازل له عن حقّ المرأة فيما وجب لها من الصداق، وإنما المراد أنه عفو حصله له بسبب حكم غيره، فأبيح له أخذه، وذلك قد يقع في أحوال التنازع والتخاصم.  

ومن هذا المعنى قول الله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان}  

أي: من أبيح له أخذ الدية بدلَ أخيه الذي قُتل؛ فهذا عفو من الله وتفضل منه بأن أباح له أخذ الدية، ويحتمل أن يكون المراد بقوله: {من أخيه} أي أبيح له أخذُ الدية من أخيه القاتل، وقد قال بكلّ وجهٍ طائفة من أهل العلم.  

- قال سفيان بن عيينة: حدّثنا عمرو [بن دينار]، قال: سمعت مجاهدًا، قال: سمعت ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما، يقول: «كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدّية؛ فقال اللّه تعالى لهذه الأمّة: {كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيءٌ}: فالعفو أن يقبل الدّية في العمد، {فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ}: يتّبع بالمعروف ويؤدّي بإحسانٍ، {ذلك تخفيفٌ من ربّكم ورحمةٌ}: ممّا كُتب على من كان قبلكم». رواه البخاري في صحيحه، وابن أبي شيبة في مصنفه، والنسائي في السنن الكبرى، وغيرهم. 

 

- وقال أبو منصور الأزهري: (ليس العفو في قوله: {فمن عفى له} عفواً من ولي الدم، ولكنه عفو من الله جل وعز، وذلك أنَّ سائر الأمم قبل هذه الأمة لم يكن لهم أخذ الدية إذا قُتل قتيل، فجعله الله لهذه الأمة عفواً منه وفضلاً، مع اختيار ولي الدم ذلك في العمد، وهو قول الله جل وعز: {فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف} أي من عفا الله جل وعز اسمه له بالدية حين أباح له أخذها بعدما كانت محظورة على سائر الأمم، مع اختياره إياها على الدم: اتباع بالمعروف أي مطالبة للدية بمعروف، وعلى القاتل أداء الدية إليه بإحسان، ثم بين ذلك فقال: {ذلك تخفيف من ربكم})ا.هـ. 

فكلام أبي منصور الأزهري كالشرح لتفسير ابن عباس.  

والمقصود أنّ قوله تعالى: {فمن عفي له من أخيه} أي أبيح له أخذه، وكذلك في قوله تعالى: {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} في الأحوال التي يكون المراد به غير الزوج؛ فأما إذا كان الزوج هو الذي يعفو؛ فالعفو منه هو تفضّله بالمهر كاملاً.  

وعفو غيره له هو أن يُترك له.  

وذلك أنَّ العفو في اللغة يختلف معناه باختلاف ما يُعدّى به. 

- قال أبو منصور الأزهري: (يقال: عفا فلان لفلان بماله إذا أفضل له، وعفا له عما عليه إذا تركه). 

وإذا حُذف حرف التعدية احتمل المعنيين، كما في قول الله تعالى: {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح}.  

 

المثال الثالث: المراد بعسعس في قول الله تعالى: {والليل إذا عسعس} 

اختلف المفسرون في المراد بعسعس في قول الله تعالى: {والليل إذا عسعس} على قولين:  

أحدهما: إذا أدبر وانجاب الظلام، وهذا قول الضحاك، وقتادة، وزيد بن أسلم، ورواية عن ابن عباس. 

واختاره البخاري في صحيحه، والفراء في معاني القرآن، ورجحه ابن جرير.  

واستشهد له بقول علقمة بن قرط التميمي: 

حـتّــى إذا الـصّـبــح لــهــا تـنـفّـسـا ....... وانجاب عنها ليلها وعسعسا 

والقول الآخر: إذا أقبل بظلامه، وهو قول مجاهد، والحسن البصري، وعطية العوفي، ورواية عن ابن عباس. 

واستُشهد له بما أنشده الأصمعي وقطرب:  

قوارباً من غير دجنٍ نسّسا ....... مدّرعات الليل لمّا عسعسا 

وقال غيره فيما أنشده ابن الأنباري:  

وردّت بأفراس عتاق وفتية ....... فوارط في أعجاز ليل معسعس 

وأنشد أيضاً:  

حتى إذا الليل عليها عسعسا ....... وادّرَعت منه بهيماً حندسا 

أي: أنّ الليل البهيم تغشاها بظلامه حتى كأنها لبست منه درعاً أسوداً ضافياً. 

 

والتحقيق أنّ اختيار لفظ "عسعس" على ما سواه معتبر، وهو جامع لمعنيي الإقبال والإدبار؛ فلا موجب لردّ أحد المعنيين مع صحة إرادتهما.  

- قال أبو إسحاق الزجاج: (يقال عسعس الليل إذا أقبل، وعسعس إذا أدبر، والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد، وهو ابتداء الظلام في أوله، وإدباره في آخره). 

- وقال ابن كثير: (وقال كثيرٌ من علماء الأصول: إنّ لفظة: {عسعس}؛ تستعمل في الإقبال والإدبار على وجه الاشتراك؛ فعلى هذا يصحّ أن يراد كلٌّ منهما). 

قلت: قد عدّ جماعة من الأصوليين هذه المسألة من المجمل، والصواب أنّها بيّنة لا إجمال فيها؛ فاختيار هذه المفردة على ما سواها، واحتمال السياق لإرادة معنييها دليل على أنّهما مرادان.  

عبد العزيز بن داخل المطيري

#7

1 Sep 2024

تطبيقات الدرس السابع 

استخرج الإجمال في الآيات التاليات واذكر ما يبيّنه:  

1: قول الله تعالى: { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)} 

2: قول الله تعالى: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)} 

3: قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)} 

4: قول الله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ} 

5: قول الله تعالى: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)}.