2 Sep 2024
الدرس الثامن: المحكم والمتشابه
عناصر الدرس:
- التعريف بمبحث المحكم والمتشابه
- أقوال السلف في المراد بالآيات المحكمات والآيات المتشابهات
- الراجح في معنى المتشابهات
- التشابه المطلق والتشابه النسبي
- لا يصحّ إطلاق القول بأنّ آيات الصفات من المتشابه
- أسباب التشابه
- الحكمة من نزول المتشابه
- التحذير من طريقة أهل الزيغ
- التحذير من إلقاء الشيطان وتشبيهه
- الأحاديث والآثار الواردة في النهي عن اتباع المتشابه
- إطلاقات الإحكام والتشابه في النصوص
- تلخيص الواجب عند التشابه
- أمثلة ردّ المتشابه إلى المحكم من كلام أهل العلم
- التطبيقات
التعريف بمبحث المحكم والمتشابه
من الأصول المهمة لتدبر القرآن حمل المتشابه على المحكم، وذلك أنّ المتدبّر قد تُشكل عليه معاني بعض الآيات؛ فإذا حمل ما تشابهتْ عليه معانيه، وأشكل عليه فهمه على المحكم من الآياتِ وجدَ القرآن يصدّق بعضه بعضاً، وتأتلف معانيه ولا تختلف.
ومن شأنِ أهل الزيغ والضلال أنّهم يتبعون المتشابه، ويعرضون عن المحكم؛ ويحملون المتشابه على ما يوافق أهواءَهم ليبتغوا بذلك تحقيق ما فَتنوا به أنفسهم، وأرادوا أن يفتنوا به غيرهم، وليوهموا أتباعهم أنّهم استندوا في بِدَعهم وضلالاتهم على أدلّة من القرآن الكريم.
- قال عبد الله بن أبي مليكة: حدثني القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)}.
قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمّى الله فاحذروهم ». رواه أحمد، والبخاري، ومسلم، وغيرهم.
ورواه سعيد بن منصور وأحمد وابن ماجة وغيرهم من طرق عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يا عائشة! إذا رأيتم الذين يجادلون فيه؛ فَهُمُ الذين عناهم الله؛ فاحذروهم ».
- قال الترمذي: (وقد سمع [ابن أبي مليكة] من عائشة أيضاً).
فطريقة الراسخين في العلم الذين أثنى الله عليهم أنّهم يؤمنون بكلّ ما أنزل الله تعالى، ويوقنون بأنّ القرآن حقّ لا اختلاف فيه، ولا تناقض ولا تعارض، ولا يبتغون إثارة الشُّبَه ونصب الاختلاف بين آيات الكتاب؛ وضرب بعضه ببعض، بل يحملون ما تشابه عليهم منه على المحكم فيجدونه يصدّق بعضه بعضاً، ويأتلف ولا يختلف، ويزدادون بذلك إيماناً ويقيناً، وعلماً وهدى.
وحمْلُ المتشابه على المحكم عِصمةٌ من الضلالة بإذن الله؛ فإذا اشتبه على الناظر معنى آية فوجدها تحتمل معنيين أو أكثر، ووجد بعض تلك المعاني تُعارض آيات محكمات عرف أن كلَّ معنى يعارض تلك الآيات المحكمات فهو باطلٌ متوهَّمٌ لا يمكن أن تدلَّ الآية عليه، وأنّ القرآن لا اختلاف فيه، ولا يعارض بعضه بعضاً، وأنّ من عرض له هذا المعنى إنما عرض له لقصوره أو تقصيره في تعرّف المعنى الصحيح.
فقول الله تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب}
أي: أصله وما ترجع إليه معانيه، ويُردّ إليه ما تشابه منه.
وقوله: {هنّ أمّ الكتاب} ولم يقل أمّهات الكتاب كما جمعهنَّ في ضمير {هنّ} لبيان أنّ مجموع الآيات المحكمات هو أصل الكتاب ومعظمه؛ فهو محكم بيّن لا يكاد يشتبه على أحد.
- قال ابن جرير: (وقد قال: {هنّ} لأنه أرد أن جميع الآيات المحكمات أمّ الكتاب، لا أن كل آية منهن أمّ).
وهذا يدلّ عليه النظر أيضاً فإنّ الأمَّ في هذا الموضع الأصلُ الجامع؛ وكونه جامعاً يفيد معنى الضمّ والاشتمال على آيات كثيرة.
{وأخر متشابهات} أي: تتشابه معانيها، فيصدّق بعضها بعضاً، وتوافق المحكمات ولا تخالفها؛ لكنها حمّالة أوجه تشتبه على بعض الناس دون بعض؛ وتشكل عليهم، وقد جعلها الله فتنةً لهم؛ فمن وُفّق لاتباع هدى الله عرف أن ما تشابه عليه لا يخالف المحكم، وآمن بها كلّها؛ وذلك أرجى أن يتبيّن له معنى ما اشتبه عليه، ويستقيم له فهمه.
أقوال السلف في المراد بالآيات المحكمات والآيات المتشابهات
وقد اختلف السلف في المراد بالآيات المحكمات والآيات المتشابهات على أقوال يصعب تخليص بعضها من بعض لتداخلها، لكنها اشتملت على أوجه من التفريق:
الوجه الأول: الآيات المحكمات هي الثابتة التي لم تُنسخ، والمتشابهات هي المنسوخة التي تُتلى ولا يُعمل بها.
وهو قول الضحاك والسدي، ورواية عن قتادة.
- قال هشيم، عن جويبرٍ، عن الضّحّاك، في قوله: {آياتٌ محكماتٌ هنّ أمّ الكتاب} قال: « النّاسخات » {وأخر متشابهاتٌ} قال: « ما نُسخ وتُرك يتلى ». رواه ابن جرير.
- وقال سفيان بن وكيع، عن أبيه، عن سلمة بن نبيطٍ، عن الضّحّاك بن مزاحمٍ قال: « المحكم ما لم ينسخ، وما تشابه منه: ما نسخ ». رواه ابن جرير.
- وقال السدي: « أمّا الآيات المحكمات: فهنّ النّاسخات الّتي يعمل بهنّ؛ وأمّا المتشابهات: فهنّ المنسوخات ». رواه ابن جرير.
- وقال يزيد بن زريع: حدثنا سعيد، عن قتادة قال: « المحكمات: النّاسخ الّذي يُعمل به ما أحلّ اللّه فيه حلاله وحرّم فيه حرامه؛ وأمّا المتشابهات: فالمنسوخ الّذي لا يُعمل به ويؤمن ».
الوجه الثاني: المحكمات التي لا تحتمل إلا وجهاً واحداً بيّنا في التأويل، والمتشابهات ما احتملت أوجها من التأويل.
وهذا القول مروي عن محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام، وكان فقيهاً مفسراً من أصحاب ابن الزبير، مات شاباً فلم تكثر الرواية عنه، وقال بنحو قوله الإمام أحمد.
- قال محمّد بن إسحاق: حدّثني محمّد بن جعفر بن الزّبير قال: « {هو الّذي أنزل عليك الكتاب منه آياتٌ محكماتٌ} فيهنّ حجّة الرّبّ وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لها تصريفٌ ولا تحريفٌ عمّا وضعت عليه، وأخر متشابهاتٌ في الصّدق لهنّ تصريفٌ وتحريفٌ وتأويلٌ ابتلى اللّه فيهنّ العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام، لا يصرفن إلى الباطل ولا يحرّفن عن الحقّ ». رواه ابن جرير من طريق ابن حميد، عن سلمة بن الفضل عن ابن إسحاق به.
- وقال ابن هانئ: قلت لأبي عبد اللَّه [أحمد بن حنبل]: كيف للرجل أن يعرف المتشابه من المحكم؟
قال: « المتشابه: الذي يكون في موضعٍ كذا، وفي موضعٍ كذا، مختلف، والمحكم: الذي ليس فيه اختلاف ».
- وقال أبو يعلى الفراء: (ظاهر كلام أحمد رحمه الله: أن "المحكم": ما استقل بنفسه، ولم يحتج إلى بيان، و"المتشابه": ما احتاج إلى بيان).
الوجه الثالث: المحكمات هي التي يعرف العلماءُ تأويلَها، والمتشابهات هي التي استأثر الله بتأويلها
وهذا القول ذكره ابن جرير ورجّحه، واستدلّ له بأثر مروي عن الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله بن رئاب الأسلمي الأنصاري، وهذا إسناد واهٍ.
والأولى أن يستدلّ له بقول الله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله}؛ فإنّه كالتنبيه على التفريق على أحد الوجهين في تفسيره.
- قال ابن جرير: (وذلك أنّ جميع ما أنزل اللّه عزّ وجلّ من آي القرآن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فإنّما أنزله عليه بيانًا له ولأمّته وهدًى للعالمين، وغير جائزٍ أن يكون فيه ما لا حاجة بهم إليه، ولا أن يكون فيه ما بهم إليه الحاجة، ثمّ لا يكون لهم إلى علم تأويله سبيلٌ، فإذا كان ذلك كذلك، فكلّ ما فيه لخلقه إليه الحاجة وإن كان في بعضه ما بهم عن بعض معانيه الغنى، وإن اضطرّته الحاجة إليه في معانٍ كثيرةٍ، وذلك كقول اللّه عزّ وجلّ: {يوم يأتي بعض آيات ربّك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا} فأعلم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أمّته أنّ تلك الآية الّتي أخبر اللّه جلّ ثناؤه عباده أنّها إذا جاءت لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ذلك، هي طلوع الشّمس من مغربها، فالّذي كانت بالعباد إليه الحاجة من علم ذلك هو العلم منهم بوقت نفع التّوبة بصفته بغير تحديده بعدٍّ السّنين والشّهور والأيّام، فقد بيّن اللّه ذلك لهم بدلالة الكتاب، وأوضحه لهم على لسان رسول صلّى اللّه عليه وسلّم مفسّرًا، والّذي لا حاجة لهم إلى علمه منه هو العلم بمقدار المدّة الّتي بين وقت نزول هذه الآية ووقت حدوث تلك الآية، فإنّ ذلك ممّا لا حاجة بهم إلى علمه في دينٍ ولا دنيا، وذلك هو العلم الّذي استأثر اللّه جلّ ثناؤه به دون خلقه، فحجبه عنهم، وذلك وما أشبهه هو المعنى الّذي طلبت اليهود معرفته في مدّة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وأمّته من قبل قوله: الم، والمص، والر، والمر ونحو ذلك من الحروف المقطّعة المتشابهات الّتي أخبر اللّه جلّ ثناؤه أنّهم لا يدركون تأويل ذلك من قبله، وأنّه لا يعلم تأويله إلاّ اللّه.
فإذا كان المتشابه هو ما وصفنا، فكلّ ما عداه فمحكمٌ؛ لأنّه لن يخلو من أن يكون محكمًا بأنّه بمعنًى واحدٍ لا تأويل له غير تأويلٍ واحدٍ، وقد استغنى بسماعه عن بيانٍ يبيّنه، أو يكون محكمًا، وإن كان ذا وجوهٍ وتأويلاتٍ وتصرّفٍ في معانٍ كثيرةٍ، بالدّلالة على المعنى المراد منه إمّا من بيان اللّه تعالى ذكره عنه أو بيان رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم لأمّته، ولن يذهب علم ذلك عن علماء الأمّة لما قد بيّنّا)ا.هـ.
الوجه الرابع: الآيات المحكمات هي التي يُؤمَن بها ويُعمل بها، والآيات المتشابهات هي التي يُؤمَن بها ولا يُعمل بها.
وهو قول الربيع بن أنس البكري، ورواية عن قتادة.
وهذا الوجه لا يعارض ما قبله على التحقيق لأنه تفريق عائد إلى الحكم الواجب تجاه الآيات المحكمات والآيات المتشابهات، والذي لا يُعمل به إما لكونه منسوخاً وإن كان معناه بيّناً ظاهراً، وإما لكونه مما لا يتبيّن معناه للناظر فلا يمكنه العمل به قبل معرفة معناه.
- قال معمر، عن قتادة: « المحكم ما يُعمل به ». رواه عبد الرزاق.
- وقال عبد الله بن أبي جعفرٍ الرازي، عن أبيه، عن الرّبيع بن أنس قال: {هو الّذي أنزل عليك الكتاب منه آياتٌ محكماتٌ هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهاتٌ} قال: « المحكمات: الّذي يعمل به ». رواه ابن جرير.
تنبيه
هذا وقد روي عن ابن عباس ومجاهد ما يشتمل على أكثر الوجوه السابقة إجمالاً.
- قال معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ}، قال: « المحكمات: ناسخه، وحلاله وحرامه، وفرائضه، وما يؤمن به ويعمل به، والمتشابهات: منسوخه، ومقدمه ومؤخره، وأمثاله، وأقسامه، وما يؤمن به ولا يعمل به ». رواه أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ، وابن جرير، وابن أبي حاتم.
- وقال مجاهد: « {منه آياتٌ محكماتٌ}: الحلال والحرام، {وأخر متشابهاتٌ} يصدّق بعضه بعضًا ». علّقه البخاري في صحيحه.
- وقال عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قوله: « {منه آياتٌ محكماتٌ} ما فيه من الحلال والحرام وما سوى ذلك، فهو متشابه يصدّق بعضه بعضًا وهو مثل قوله: {وما يضلّ به إلاّ الفاسقين} ومثل قوله: {كذلك يجعل اللّه الرّجس على الّذين لا يؤمنون} ومثل قوله: {والّذين اهتدوا زادهم هدًى وآتاهم تقواهم} ». رواه ابن جرير.
قوله: « الحلال والحرام » لا يُقصر على آيات الأحكام في عرف الفقهاء، بل يشمل الآياتِ الخبرية أيضاً؛ لأنها تستدعي عملاً بالتصديق والاعتقاد والاعتبار.
وقوله: « ولا يعمل به » أي: في حال الاشتباه؛ لأنّ العمل إنما يكون بما تبيّن؛ ولا يتأتّى العمل ما تشابه حتى يتبيّن معناه، ولذلك عدَّ الحلال والحرام والفرائض من المحكمات؛ ثمّ ذكر ضابط المحكمات وهو "ما يُؤمن به ويُعمل به".
تنبيه آخر:
وروي عن ابن عباس تعيين بعض الآيات المحكمات:
- فقال أبو إسحاق السبيعي، عن عبد الله بن قيس، قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما، يقول: « إن في الأنعام آيات محكمات هنَّ أم الكتاب، ثم قرأ {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} الآية). رواه سعيد بن منصور، وابن أبي حاتم، والحاكم.
- وقال هشيم بن بشير: أخبرنا العوام بن حوشب، عمن حدثه عن ابن عباس، في قوله: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب} قال: « هي الثلاث الآيات في سورة الأنعام: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا} إلى ثلاث آيات، والتي في بني إسرائيل: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا} إلى آخر الآيات ». رواه أبو عبيد في فضائل القرآن، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
وهذا كالتمثيل للآيات المحكمات لأنها دلّت على أصول أحكام الشريعة، ولا يقتضي حصر الآيات المحكمات فيها؛ بل كلّ ما تبيّن معناه فهو محكم.
الراجح في معنى المتشابهات
والذي يترجح في معنى المتشابهات في قوله تعالى: {وأخر متشابهات} وجهان صحيحان لا تعارض بينهما:
أحدهما: أنّ الآيات المتشابهات هي ما لا يعلم تأويله إلا الله من حقائق الغيبيات؛ مثل كيفية ما أخبر الله به عن نفسه من الصفات الذاتية والفعلية، ومتى تقوم الساعة، وتفصيل ما يكون في اليوم الآخر.
وعلى هذا الوجه يوقف على قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله}، وتكون الواو في قوله تعالى: {والراسخون في العلم يقولون آمنا به} استئنافية، ويؤيد هذا المعنى قراءة صحيحة عن ابن عباس.
- قال معمر، عن عبد الله بن طاووس، عن أبيه قال: « كان ابن عباس يقرأها: [وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به] ». رواه عبد الرزاق، وابن جرير.
- وذكر ابن جرير وابن الأنباري والبغوي قراءة عن عبد الله بن مسعود: [إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ]، لكن لم أقف على إسناد هذه القراءة.
وأسندها ابن أبي داوود في كتاب المصاحف من طريق خلاد بن خالد بن يزيد، عن حسين الجعفي، عن زائدة، عن الأعمش، ولفظها: [إنْ حقيقة تأويلِه إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به].
- قال نافع بن عمر الجمحي، عن ابن أبي مليكة قال: قرأتْ عائشة هؤلاء الآيات: {هو الذي أنزل عليك الكتاب..} إلى قوله: {آمنا به} قالت: « كان من رسوخهم في العلم أن آمنوا بمحكمه ومتشابهه ولا يعلمونه ». رواه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
- وقال ابن وهب: أخبرني ابن أبي الزناد قال: قال هشام بن عروة: كان أبي يقول في هذه الآية: « {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم} إنّ الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله، ولكنهم يقولون:{آمنا به كل من عند ربنا} ». رواه ابن جرير.
والواجب في هذا النوع من المتشابهات الكفّ عن ابتغاء تأويلها وتكلّف تفصيلها والقول فيها بغير علم.
والوجه الآخر: هي ما احتمل وجوها من المعاني تشتبه على الناظر، ولا يتبيّن المراد بها لكثير من الناس؛ أما الراسخون في العلم فإنهم يردّون المتشابه إلى المحكم فيتبيّن المراد لمن وفّق منهم للصواب في الاجتهاد.
- قال ابن كثير: ({وأخر متشابهاتٌ} أي: تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئًا آخر من حيث اللّفظ والتّركيب، لا من حيث المراد)ا.هـ.
وعلى هذا الوجه تكون الواو في قوله تعالى: {والراسخون في العلم يقولون آمنا به} عاطفة؛ لأنهم يعلمون تأويله بما أرشدهم الله إليه من ردّ المحكم إلى المتشابه، وإن وقع بينهم تفاضل في ذلك العلم.
- قال عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال: « أنا ممن يعلم تأويله ». رواه ابن جرير، وابن المنذر.
- وقال عيسى بن ميمون، وشبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: « {والراسخون في العلم} يعلمون تأويله، ويقولون: آمنا به ».
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (صنف أحمد كتابا في " الردّ على الزنادقة والجهمية " فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأولوه على غير تأويله، وفسّر تلك الآيات كلّها، وذمّهم على أنهم تأوّلوا ذلك المتشابه على غير تأويله، وعامّتها آيات معروفة قد تكلَّم العلماء في تفسيرها؛ مثل الآيات التي سأل عنها نافع بن الأزرق ابن عباس.
قال الحسن البصري: "ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم فيم أنزلت؟ وماذا عني بها".
ومن قال من السلف: إن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله؛ فقد أصاب أيضاً، ومراده بالتأويل ما استأثر الله بعلمه، مثل وقت الساعة، ومجيء أشراطها، ومثل كيفية نفسه، وما أعدَّه في الجنة لأوليائه).ا.هـ
وقوله تعالى في الآيات المحكمات {هنّ أمّ الكتاب} دليل على أنّ أكثر الآيات محكمات، وأنّ المتشابه قليل في جنب المحكم.
- قال أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات: (المتشابه لو كان كثيراً لكان الالتباس والإشكال كثيراً، وعند ذلك لا يطلق على القرآن أنه بيان وهدى؛ كقوله تعالى: {هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين}، وقوله تعالى: {هدى للمتقين}، {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم}، وإنما نزل القرآن ليرفع الاختلاف الواقع بين الناس، والمشكل الملتبس إنما هو إشكال وحيرة، لا بيان وهدى، لكن الشريعة إنما هي بيان وهدى؛ فدلَّ على أنه ليس بكثير، ولولا أن الدليل أثبت أن فيه متشابهاً لم يصحَّ القول به، لكن ما جاء فيه من ذلك فلم يتعلق بالمكلفين حكم من جهته زائد على الإيمان به وإقراره كما جاء، وهذا واضح).ا.هـ
الأحاديث والآثار الواردة في النهي عن اتباع المتشابه
صحت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن اتباع المتشابه والإعراض عن المحكم، وتواترت على ذلك وصايا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأئمة التابعين من بعدهم:
- قال داوود بن أبي هند، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنَّ نفراً كانوا جلوساً بباب النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟! وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟!
فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فخرج كأنما فُقئ في وجهه حبّ الرمان فقال: « بهذا أُمرتم! - أو بهذا بعثتم! أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، إنما ضلَّت الأمم قبلكم في مثل هذا، إنكم لستم مما هاهنا في شيء، انظروا الذي أُمرتم به فاعملوا به، والذي نهيتم عنه فانتهوا ». رواه أحمد.
- وفي رواية في فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام من طريقين عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغداة، فتنحَّى ناس من أصحابه في بعض حُجَر أزواجه يقرأون القرآن؛ فتنازعوا في شيء منه، وأنا منتبذ عنهم؛ فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُغضباً؛ فقال: « إنَّ القرآن يصدّق بعضه بعضا؛ فلا تكذبوا بعضه ببعض، ما علمتم منه فاقبلوه، وما لم تعلموا منه فكِلوه إلى عالمه »
قال عبد الله بن عمرو: « فما اغتبطتْ نفسي بشيء اغتباطي بانتباذي عنهم إذ لم تصبني عُتبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ».
- وقال معمر، عن الزهري، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوما يتدارَءُون فقال: « إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضاً، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكِلوه إلى عالمه ». رواه أحمد في المسند، والبخاري في خلق أفعال العباد، والطبراني في المعجم الأوسط.
قال البخاري: (وكلّ من اشتبه عليه شيء فأولى أن يكله إلى عالمه، كما قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: « وما أشكل عليكم فكلوه إلى عالمه » ولا يدخل في المتشابهات إلا ما بيّن له).
- وقال شعيب عن الزهري قال: حدثني أنس بن مالك، قال: قرأ عمر بن الخطاب: {فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا} فقال: كل هذا قد علمنا به فما الأبّ؟
ثم قال: « هذا لَعَمْرُ الله التكلف، اتبعوا ما بُيّن لكم من هذا الكتاب، وما أشكل عليكم فَكِلُوه إلى عالمه ». رواه الطبراني في مسند الشاميين، وأصله في صحيح البخاري مختصراً بلفظ: « نهينا عن التكلف ».
- وقال شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سَلِمة عن معاذ بن جبل رضي الله عنها قال: « إنَّ للقرآن مناراً كمنار الطريق لا يكاد يخفى على أحد، فما عرفتم فتمسّكوا به، وما أشكل عليكم فكِلوه إلى عالمه ». رواه وكيع في الزهد، وأبو داوود في الزهد، والطبراني في الأوسط، أبو نعيم في الحلية، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله.
- وقال إسماعيل بن أبي خالد، عن زبيد اليامي قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: « إنَّ للقرآن منارا كمنار الطريق؛ فما عرفتم منه فتمسكوا به، وما شُبّه عليكم فكلوه إلى عالمه » رواه أبو عبيد، والمستغفري في فضائل القرآن.
- وقال عبد الله بن مسعود لمّا بلغه قول رجلٍ في مسألة في التفسير: « من علم علماً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من فِقْهِ الرجل أن يقول لما لا يعلم: "الله أعلم" ». والأثر في صحيح مسلم في خبر طويل.
- وقال سفيان الثوري، عن أسلم المنقري، قال: سمعت عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى يحدّث عن أبيه قال: لما وقع الناس في أمر عثمان رضي الله عنه قلت لأبيّ بن كعب: أبا المنذر! ما المخرج من هذا الأمر؟
قال: « كتاب الله وسنة نبيه، ما استبان لكم فاعملوا به، وما أشكل عليكم فكِلُوه إلى عالمه ». رواه الحاكم في المستدرك، وهذا لفظه، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه مختصراً قال أبي: « كتاب الله ما استبان منه فاعمل به، وما اشتبه عليك فآمن به، وكِلْه إلى عالمه ».
- وقال عبد الملك ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: « لا تضربوا كتابَ الله بعضَه ببعض، فإنَّ ذلك يوقع الشكَّ في قلوبكم ». رواه أبو عبيد في فضائل القرآن، ومسدد كما في المطالب العالية، ورواه ابن أبي شيبة من طريق ليث بن أبي سليم عن عطاء بنحوه.
- وقال وكيع، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن البصري في تفسير قول الله تعالى: {يتلونه حقّ تلاوته} قال: « يعملون بمُحْكَمِه، ويؤمنون بمتشابهه، ويَكِلون ما أشكل عليهم إلى عالمه ». رواه محمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة، وابن جرير، وابن أبي حاتم.
- وقال محمد بن إسماعيل البخاري في كتابه "خلق أفعال العباد": (وكل من اشتبه عليه شيء فأولى أن يكله إلى عالمه؛ كما قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: « وما أشكل عليكم فكلوه إلى عالمه »).
التشابه المطلق والتشابه النسبي
التشابه منه مطلق، ومنه إضافي نسبي.
- فأمّا التشابه المطلق فهو الذي لا يعلم تأويله إلا الله، ومن حاول تكلّف معرفته وجده مشتبهاً عليه لا يصل فيه إلى علمٍ محكم، وهو مما لا يتعلق به عملٌ ولا علم يُحتاج إلى معرفته.
- وأما التشابه النسبي الإضافي فهو ما يشتبه على أحد دون أحد من معاني الآيات؛ ومهما كان الكلام محكماً بيّناً؛ فإنه قد يشتبه بعضه على بعض الناس.
فالتشابه في القرآن منه ما هو ناشئ عن قصور المكلّف أو تقصيره في طلب الهدى ومعرفة المعنى الصحيح، وبذلك كان في حقّه متشابها، وإن كان محكماً عند آخرين.
ومنه ما كان مما استأثر الله تعالى بعلمه، وهو التشابه المطلق.
ومن أهل العلم من يخرج التشابه المطلق من القِسمة لظهور المراد بأنه ليس مما يُتطلّب علمُه، بل منهم من لا يقرّ بتسميته متشابهاً لأنَّ ما يتعلق به مما كلّف به العبد محكم غير متشابه وهو الإيمان والتسليم.
وهؤلاء يُطلقون القول في المتشابه في القرآن بأنه نسبي إضافي لأنّ مرادهم من المتشابه هو ما يحتمل وجوها من المعاني تشكل على الناظر، ويقع في بعضها ما يفهم منه بعض الناس مخالفة للآيات المحكمات.
ومما يبيّن أن التشابه نسبي ما في المسند والصحيحين من حديث عامر الشعبي عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إنّ الحلال بيّن، وإنّ الحرام بيّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهنَّ كثير من الناس؛ فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإنَّ لكل ملك حمى، ألا وإنَّ حمى الله محارمه، ألا وإنَّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب».
فهذا الحديث كالبيان لهذه الآية؛ فإنّ البيّن من الحلال، والبيّن من الحرام من المحكم الذي لا اختلاف فيه، ولا يكاد يشتبه على أحد.
والأمور المشتبهات هي التي لا يجزم الناظر بحكمها لاشتباهها عليه.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: « لا يعلمهنَّ كثير من الناس » يدلّ على أنّ التشابه نسبي إضافي؛ فما يشتبه على بعض الناس لا يشتبه على آخرين، ولا سيما خاصة أهل العلم والراسخون فيه؛ فإنّهم يردّون المتشابه إلى المحكم فيستبين لهم حكمه، ومن لم يستبن له الحكم مع اجتهاده وَكَل ما أشكل عليه إلى عالمه.
وبهذا يُعرف أنّ بعض الآيات المحكمات لدى أناسٍ قد تكون مشتبهة على آخرين، وأنّ الواجب على من اشتبه عليه شيء من الآيات أن يردّها إلى الآيات المحكمات اللاتي هنّ أمّ الكتاب؛ فيأتمّ بها ، ويحمل عليها المتشابه، فيجد أن القرآن لا يكذب بعضه بعضاً، بل يصدّق بعضه بعضاً، كما في حديث أبي حازم الأعرج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إنَّ القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضاً، بل يصدق بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردّوه إلى عالمه ». رواه أحمد.
وردّ المحكم إلى المتشابه داخل في معنى الإنابة إلى الله تعالى، والمنيب موعود بالهداية كما في قول الله تعالى: {قل إنّ الله يضلّ من يشاء ويهدي إليه من أناب}، وقوله تعالى: {الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب}.
وهو داخل في بذل الأسباب المشروعة لطلب الهدى، وقد قال الله تعالى كما في الحديث القدسي: [يا عبادي كلكم ضالّ إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ]
ومن ردّ المتشابه إلى المحكم، وأبصر المعنى الصحيح زال عنه وصف التشابه، وعاد ما كان مشتبهاً عليه محكماً.
لا يصحّ إطلاق القول بأنّ آيات الصفات من المتشابه
اشتهر عند بعض المفسرين والأصوليين وبعض من كتب في العقيدة أنّ آيات الصفات من المتشابه، وهذا الإطلاق غير صحيح؛ والواجب التفصيل؛ فإنّ آيات الصفات معلومة المعنى، ولم يعدّها السلف الصالح من المتشابه، ولا أُثر ذلك عنهم.
وإن أريد أنّ كيفية صفات الله تعالى مما استأثر الله تعالى بعلمه، وأنّنا لا ندرك تلك الكيفية فهذا حقّ، لكن هذا لا يسوّغ إطلاق القول بأنّ آيات الصفات من المتشابه؛ لأنّ تلك الآيات تشتمل على مسائل عدة محكمة غير متشابهة، ومن ذلك معاني أسماء الله تعالى وصفاته؛ فإنها محكمة غير متشابهة؛ فإذا أثير سؤال عن كيفية صفات الله تعالى أجبنا بما أجاب به السلف الصالح: المعنى غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
- قال ابن القيم رحمه الله: (قد تنازع الناس في المحكم والمتشابه تنازعا كثيراً، ولم يعرف عن أحد من الصحابة قط أن المتشابهات آيات الصفات، بل المنقول عنهم يدلّ على خلاف ذلك؛ فكيف تكون آيات الصفات متشابهة عندهم وهم لا يتنازعون في شيء منها؟! وآيات الأحكام هي المحكمة وقد وقع بينهم النزاع في بعضها؟! وإنما هذا قول بعض المتأخرين)ا.هـ.
- وقال محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: (آيات الصفات لا يطلق عليها اسم المتشابه بهذا المعنى من غير تفصيل، لأنَّ معناها معلوم في اللغة العربية وليس متشابهاً، ولكن كيفية اتصافه جل وعلا بها ليست معلومة للخلق، وإذا فسّرنا المتشابه بأنه هو ما استأثر الله بعلمه دون خلقه كانت كيفية الاتصاف داخلة فيه لا نفس الصفة، وإيضاحه أن الاستواء إذا عُدّي بعلى معناه في لغة العرب: الارتفاع والاعتدال، ولكن كيفية اتصافه جل وعلا بهذا المعنى المعروف عند العرب لا يعلمها إلا الله جل وعلا، كما أوضح هذا التفصيل إمام دار الهجرة مالك بن أنس تغمّده الله برحمته، بقوله: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول".
فقوله رحمه الله: "الاستواء غير مجهول" يوضّح أنَّ أصلَ صفة الاستواء ليست من المتشابه، وقوله: "والكيف غير معقول" يبين أنَّ كيفية الاتصاف تدخل في المتشابه بناء على تفسيره بما استأثر الله تعالى بعلمه)ا.هـ.
أسباب التشابه
ترجع أسباب التشابه إلى أسباب سلوكية وأسباب معرفية:
فأمّا الأسباب السلوكية فترجع إلى نوعين:
أحدهما: فساد القصد والإرادة، ويكون من ذلك ما يقدح في أصل الإخلاص والانقياد لله أو كمالهما الواجب، ويقع بسبب ذلك الصدّ عن سبيل الله، والمراءاة، والمباهاة، وطلب الدنيا بعمل الآخرة، وصرف وجوه الناس إليه، ونحو ذلك من المقاصد الفاسدة التي يُحرم بها العبد من التوفيق للحق، والبصيرة في الدين.
والآخر: فساد التصوّر؛ وذلك بأنّ يرى الحقّ باطلاً، والباطل حقاً، ويقع ذلك بسبب اعتقادِ اعتقادات باطلة، أو تكذيب ببعض الحق، أو كبر عن الانقياد للحق.
وفساد الإرادة يؤدي إلى فساد التصور، والأهواء تستجري بأهلها حتى يستحكم البلاء، وتستحوذ عليهم الشياطين؛ فتُطمس البصيرة، ويُطبع على القلب، والعياذ بالله.
والسبب الجامع لكل ذلك هو الإعراض عن ذكر الله تعالى والامتناع عن الإنابة إليه، والإمعان في اتباع الهوى، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)}.
ومن جملة ما يضلّ به الشيطان أتباعه التشبيه عليهم بما يعارض به المحكم.
و{ابتغاء الفتنة} قد يقع قصداً أو لزوماً.
وأما الأسباب المعرفية فترجع إلى نوعين:
أحدهما: القصور عن إدراك المعنى المراد وفهم الخطاب على وجهه، إما لضعف الأدوات العلمية المعينة التي يُعرف بها المعنى، وإما لكون حقيقة المعنى مما استأثر الله بعلمه، ومن رام تكلّف تأويل ما استأثر الله بعلمه وقع في التشابه ولم يدرك ما حُجب عنه.
والثاني: تقصيره في طلب المعنى من وجهه الصحيح، وترك سؤال الراسخين في العلم.
ويتركب من هذه الأنواع الأربعة أسباب تفصيلية هي من أكثر ما يوقع أهل الزيغ في التشابه، ومن ذلك:
1: الإعراض عن السنة وبيانها للقرآن.
وهو من أصول الضلال، وعامّة من وقعوا في الفتنة بالمتشابهات كان من أكثر أسباب وقوعهم فيها إعراضهم عن السنة وترك التمسّك بها، وفيها عصمة من الضلالة.
2: الإعراض عن سبيل المؤمنين
ولا سيما السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، وأئمة أهل السنة الراسخين في العلم، وقد قال الله تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)}.
وقد جعل الله تعالى إيمان الصحابة رضي الله عنهم علامة بيّنة على الهدى؛ فقال تعالى: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا}؛ فدلّ ذلك على أنّ من خالفهم فيما آمنوا به اعتقاداً وسلوكاً فقد ضلّ.
ومن ورث الصحابة في علمهم وإيمانهم فهو قائم مقامهم، وما آمنوا به علامة على الهدى.
3: ضعف المعرفة باللسان العربي مفرداته وأساليبه ودلالاته
وهو باب واسع من أبواب التشابه، وقد ضلّ به طوائف وأفراد لا يُحصون، يفهمون من بعض الآيات ما يعلم أهل المعرفة باللسان العربيّ بُعده عن المراد.
- قال عبيدة بن زيد النميري: سمعت الحسن [البصري] يقول: « أهلكتهم العُجمة، يتأوَّلون القرآن على غير تأويله ». رواه ابن وهب، وابن أبي شيبة، وابن جرير.
- وقال يحيى بن عتيق الطُّفَاوي: قلت للحسن أي البصري: يا أبا سعيد! الرجل يتعلم العربية يلتمس بها حسن المنطق، ويقيم بها قراءته؟
فقال: « حسنٌ يا ابن أخي! فتعلَّمْها، فإنَّ الرجلَ ليقرأ الآية فيعيا بوجهها، فيهلِك فيها ». رواه أبو عبيد في فضائل القرآن، وسعيد بن منصور في سننه، والبيهقي في شعب الإيمان.
ورواه ابن وهب لكن وقع اللفظ عنده: « فإنَّ الرجل يقرأ بالآية فيعيها بوجوهها فيهلك».
فإن كان هذا اللفظ محفوظاً فمعناه أن الناظر في معنى الآية قد يرى لها وجوها متعددة من المعاني، وليس له من المعرفة بالعربية ما يصحّ له به تمييز المعنى الصحيح من غيره، فيفهم من الآية غير ما أريد بها فيحمله ذلك على اعتقاد باطل أو عمل سيّء لا يُعذر فيه فيهلك، وسبب الهلاك هو اتباع المتشابه والإعراض عن المحكم.
ومن أمثلة ذلك معارضة القدرية للنصوص المحكمة في مغفرة الله تعالى لمن يشاء من أصحاب الكبائر دون الشرك، وفي إخراج من يشاء من عصاة الموحدين من النار، وتمسكهم ببعض نصوص الوعيد.
- قال سوار بن عبد الله القاضي: حدثنا عبد الملك الأصمعي، قال: كنا عند أبي عمرو بن العلاء قال: فجاء عمرو بن عبيد، فقال: يا أبا عمرو يخلف الله وعده؟
قال: « لا ».
قال: أرأيت مَن وعده الله على عمل عقاباً، أليس هو منجزه له؟
فقال له أبو عمرو: « يا أبا عثمان! من العُجمة أُتيت!! إنّ العربَ لا تعدّ عاراً ولا خُلفاً أن تعدَ شراً ثم لا تفي به، بل تعدّه فضلاً وكرماً، إنما العار أن تَعِدَ خيراً ثم لا تفي به ».
قال: ومعروف ذلك في كلام العرب؟
قال: « نعم ».
قال: أين هو؟
قال أبو عمرو: « قال الشاعر:
لا يرهبُ ابنُ العم ما عشت صولتي ... ولا أَخْــــــــتَتِي من صَـــــــــــوْلَةِ المتهدد
وإني وإن أوعــــدته أو وعـــــــــــــــــــــــــــدته ... لمخـلــف إيعـــــادي ومنجز موعدي ».
رواه ابن بطة العكبري في الإبانة، وابن أبي زمنين في السنة، والبيهقي في شعب الإيمان، والخطيب البغدادي في تاريخه، وغيرهم.
4: الأخذ بإطلاق غير مراد دون مراعاة ما قيّده.
- قال أبو إسحاق الشاطبي: (من اتباع المتشابهات الأخذ بالمطلقات قبل النظر في مقيداتها، أو بالعمومات من غير تأمل: هل لها مخصصات أم لا؟ وكذلك العكس؛ بأن يكون النص مقيداً فيطلق، أو خاصاً فيعمّ بالرأي من غير دليل سواه، فإنَّ هذا المسلك رَمْيٌ في عماية، واتباع للهوى في الدليل، وذلك أنَّ المطلق المنصوص على تقييده مشتبه إذا لم يقيد، فإذا قيّد صار واضحاً).
5: الأخذ بعموم غير مراد دون تمييز لما يخصصه
6: الأخذ بمجمل دون إدراك ما يبينه.
7: الأخذ بالمنسوخ والغفلة عن الناسخ.
8: فهم الآية بمعزلٍ عن سبب نزولها، وسياقها، ومقصدها.
9: إعمال المفهوم في غير محلّه
10: التزام ما لا يلزم
وقد تركت شرح أكثر هذه الأسباب وذكر أمثلتها لوضوح أثرها وحتى لا يطول المقام بشرحها.
الحكمة من نزول المتشابه
في تقدير وجود التشابه في القرآن حِكَم بديعة، وثمرات جليلة:
- منها: أنها ابتلاء من الله لعباده ليتبيّن صحيح القلب ممن في قلبه زيغ عن طلب الهدى، وميل إلى اتباع الهوى.
- ومنها أنّ المؤمن إذا تشابهت عليه بعض الآيات وكل الأمر إلى عالمه، واعترف بجهله وضعف علمه، وسارع إلى طلب العلم وما يزيل عنه ما يشكل عليه غير مستكبر ولا متكلف.
- ومنها: ظهور التفاضل في العلم والمعرفة وصلاح القلوب، وتبيّن فضل الراسخين في العلم على غيرهم.
- ومنها: ما يحصل بردّ المتشابه إلى المحكم من زيادة إيمان وعلم وهدى للمؤمنين.
- ومنها: ما يحصل من تبيين لحال الذين في قلوبهم زيغ؛ فإنّهم إذا سمعوا المتشابهات سارعوا إلى اتباعها على فهمهم وإظهارها ليستدلوا بها على باطلهم، ويدعوا الناس إليها؛ فيقيّض الله تعالى من الراسخين في العلم من يدحض حجتهم، ويبيّن باطلهم، وسوء فهمهم، وانحراف قصدهم، ويقوم بذلك سوق من الدعوة إلى الله تعالى والجهاد في سبيله ونصرة كتابه ودينه، كما قال الله تعالى: {ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض}.
- قال ابن قتيبة: (ولو كان القرآن كله ظاهراً مكشوفاً حتى يستوي في معرفته العالم والجاهل، لبطل التفاضل بين الناس، وسقطت المحنة، وماتت الخواطر.
ومع الحاجة تقع الفكرة والحيلة، ومع الكفاية يقع العجز والبلادة.
وقالوا: "عيب الغنى أنه يورث البَلَه، وفضيلة الفقر أنه يبعث الحيلة".
وقال: أكثم بن صيفي: "ما يسرني أني مكفي كل أمر الدنيا. قيل له: ولم؟ قال: أكره عادة العجز".
وكلُّ باب من أبواب العلم: من الفقه والحساب والفرائض والنحو، فمنه ما يجل، ومنه ما يدق، ليرتقي المتعلم فيه رتبة بعد رتبة، حتى يبلغ منتهاه، ويدرك أقصاه ولتكون للعالم فضيلة النظر، وحسن الاستخراج، ولتقع المثوبة من الله على حسن العناية.
ولو كان كلُّ فنٍّ من العلوم شيئاً واحداً: لم يكن عالم ولا متعلم، ولا خفي ولا جلي لأن فضائل الأشياء تعرف بأضدادها، فالخير يعرف بالشر، والنفع بالضر، والحلو بالمر، والقليل بالكثير، والصغير بالكبير، والباطن بالظاهر)ا.هـ.
إطلاقات الإحكام والتشابه في النصوص
ورد وصف الكتاب العزيز بأنه:
- كله محكم كما في قوله الله تعالى: {كتاب أحكمت آياته} ، وقول تعالى: {تلك آيات الكتاب الحكيم}
- وأنه كله متشابه كما في قوله تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابه}.
- وأن بعضه محكم وبعضه متشابه كما في قوله تعالى: {منه آيات محكمات وآخر متشابهات}.
والجمع بين هذه الآيات ينبني على معرفة إطلاقات الإحكام والتشابه في النصوص:
فالإحكام: يطلق في مقابل المتشابه، ويطلق في مقابل المنسوخ، ويطلق مفرداً.
- فإذا أفرد كان معناه الإتقان والإحسان كما قال تعالى: {كتاب أحكمت آياته} أي أُتقنت آياته وبلغت غاية الحسن والتمام، فلا يأتيها الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذا الوصف يعمّ جميع آي القرآن الكريم.
- وإذا أطلق في مقابل المنسوخ دلَّ على أن حكمه ثابتٌ لم ينسخ، وهذا الإطلاق يَرِد كثيراً في كلام السلف، يقولون: هذه الآيات محكمة، يريدون أنها غير منسوخة.
- وإذا أطلق التشابه كما في قوله تعالى: {كتاباً متشابهاً} فالمراد أنه يشبه بعضه بعضاً في الحسن والفضل؛ ويصدّق بعضه بعضاً، فلا اختلاف فيه ولا تناقض.
- وإذا أطلق المُحكم في مقابل المتشابه، كان المحكم هو البيّن الذي لا تتشابه وجوه معانيه على سامعه ولا يشكل عليه فهمه، والمتشابه هو الذي أشكل عليه، وتشابهت عليه وجوه معانيه؛ فلم يتبيّن له أيّها المراد.
تلخيص الواجب عند التشابه
التشابه على نوعين:
أحدهما: توهّم الاختلاف والتعارض بين آيات القرآن، أو معارضة ما فهم منها لما حصلت معرفته بدليل قطعي.
والآخر: أن تحتمل الآية وجوهاً من المعاني تشتبه على الناظر فلا يعرف أيّها المراد.
ومن عرض له ما يشتبه عليه من آيات القرآن وجب عليه:
1: أن يؤمن بها، ويقرّ بأنها حق من الله تعالى.
2: وأن يتّهم فهمَه إن فهم منها ما يعارض المحكم من الآيات أو توهّم منها معنى باطلاً.
3: وأن ويردّ المتشابه إلى المحكم، وله بعد ذلك حالان:
- إما أن يتبيّن له المعنى فيكون ممن اجتهد فأصاب.
- وإما أن يُشكل عليه الجمع بين المتشابه والمحكم، ويكون هذا مبلغه من العلم؛ فيقف عند حدود ما يعلم، ويَكِلُ علمَ ما أشكل عليه إلى الله تعالى، ويسأل أهل العلم الراسخين فيه؛ فإنّه قَمنٌ أن يجد منهم من يعلم ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: « شفاء العِيّ السؤال ». صحّ ذلك من حديث من حديث ابن عباس، وجابر، وعليّ بن أبي طالب، وزيد بن أنيس.
وفي مستدرك الحاكم من حديث عبد الله بن رجاء الغداني قال: أنبأنا عمران القطان، عن عبيد الله بن معقل بن يسار المزني، عن أبيه رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اعملوا بكتاب الله ولا تكذبوا بشيء منه، فما اشتبه عليكم منه، فاسألوا عنه أهل العلم يخبروكم ».
- وقال الليث بن سعد: حدثني يزيد ابن أبي حبيب، عن عمر بن الأشج أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: « إنه سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله عز وجل ». رواه الدارمي، وأبو بكر الآجري في كتاب الشريعة، وابن بطة في الإبانة، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله.
وقد دلَّ قول الله تعالى: {والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلّ من عند ربنا} على فائدتين مهمّتين في هذا الباب:
الأولى: أنّ علة عدم اختلاف الآيات أنها كلَّها من عند الله؛ فيمتنع أن يكون فيها اختلاف وتناقض، وذلك لكمال علم الله تعالى وقدرته وبيانه؛ وكلّ ما أوهم الاختلاف فسببه قصور الناظر أو تقصيره.
ولو قدّر على سبيل الافتراض المحض للإفهام أنّ في القرآن اختلافاً لكان أوّل من يعلم ذلك الاختلاف هو الله عزّ وجلّ، ويمتنع أن يسبقه إلى معرفته أحد من خلقه، ولا أقدرَ من الله تعالى على إزالة الاختلاف، ولا أحسن بياناً منه لمراده؛ فلكمال علم الله تعالى وكمال قدرته وكمال بيانه يمتنع وجود اختلاف في القرآن، {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}.
والثانية: التنويه بطريقة الراسخين في العلم إرشاداً لسلوك سبيلهم، وأنّ من سلك سبيلهم كان أرجى أن يُكشف عنه ما اشتبه عليه، وأن يزداد إيماناً وتسليماً.
التحذير من طريقة أهل الزيغ
قال الله تعالى: {فأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله}.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمّى الله فاحذروهم»
فتبيّن بذلك أنّ اتباع المتشابهات والإعراض عن الآيات المحكمات أو معارضتها بالمتشابهات علامة بيّنة على زيغ في القلب؛ وأنّ الحذر من ذلك واجب.
ومما ينبغي التنبه له أنّ كلّ طائفة من أهل الأهواء يجعلون ما يذهبون إليه محكماً، وما يخالف مذهبهم من الآيات متشابهاً يبتغون تأويله، فيفهمون من بعض الآيات معنى باطلاً يوافق أهواءهم، ويجعلونه أصلاً يردّون به الآيات المحكمات التي فيها بيان ما يبطل مذهبهم، ويتأولونها على غير تأويلها الصحيح.
- قال حماد بن زيد: سمعت أيوب [السختياني] يقول: « لا تلقى أحداً من أهل البدع إلا وهو يجادلك بالمتشابه من القرآن ». رواه الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه.
وذلك كما فهم المعطلة من قول الله تعالى: {ليس كمثله شيء} نفي الصفات أو بعضها عن الله عزّ وجلّ؛ فجعلوا هذه الآية أصلاً يردون به آيات الصفات، وهي آيات محكمات.
بل وصل الأمر ببعضهم إلى أنّ جعل المحكم هو ما لا يخالف الدليل العقلي عندهم، والمتشابه ما خالفه؛ فآل الأمرُ عندهم إلى ردّ النقل إلى العقل، وليس ردّ المتشابه من الآيات إلى المحكم من الآيات؛ كما فعل ذلك الرازي وقرره في بعض كتبه، وأطال شيخ الإسلام ابن تيمية في الردّ عليه، وقال: (ولهذا استقرَّ أمرُه على أنَّ جميع الأدلة السمعية القولية متشابهة لا يحتجّ بشيء منها في العلميّات؛ فلم يبقَ على قوله لهذه الآية: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} معنى بحيث يردّ المتشابه إليها، ولكن المردود إليه هو العقل فما وافقه أو لم يخالفه فهو المحكم، وما خالفه فهو المتشابه، وهذا من أعظم الإلحاد في أسماء الله تعالى وآياته)ا.هـ.
- وقال ابن تيمية أيضاً: (كلّ طائفة من أهل الكلام والأهواء والبدع يجعلون ما خالف مذهبهم من القرآن والحديث متشابهاً وما وافقه محكماً).
- قال: (وغرضهم بذكر لفظ المتشابه ألا يؤمن بما دلَّ عليه اللفظ، بل إمّا أن يُعرَض عنه، وإمّا أن يحال إلى معنى آخر بعيد عن دلالة اللفظ).
- وقال أبو إسحاق الشاطبي: (ولأجل ذلك عُدَّت المعتزلة من أهل الزيغ حيث اتبعوا نحو قوله تعالى: {اعملوا ما شئتم}، وقوله: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}، وتركوا مبينه وهو قوله: {وما تشاءون إلا أن يشاء الله}.
واتبع الخوارج نحو قوله تعالى: {إن الحكم إلا لله}، وتركوا مبينه وهو قوله: {يحكم به ذوا عدل منكم هديا}، وقوله: {فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها}.
واتبع الجبرية نحو قوله: {والله خلقكم وما تعملون}، وتركوا بيانه وهو قوله: {جزاء بما كانوا يكسبون} وما أشبهه)ا.هـ.
التحذير من إلقاء الشيطان وتشبيهه
مما يتصل ببحث المحكم والمتشابه أن الشيطان قد يشبّه على بعض الناس؛ فيلبس عليهم قراءتهم وفهمهم لبعض الآيات، ويُلقي في قلوبهم الشُّبَهَ والأغاليطَ فيفتن من في قلبه مرض وقُساةَ القلوب الذين لا ينيبون إلى الله ولا يفزعون إليه لطلب الهدى.
وأما المؤمنون الموفقون فيردّون المتشابه إلى المحكم، وينيبون إلى الله فيهديهم الله، وينسخُ ما يلقي عليهم الشيطان من الشبَّه والتلبيس والتخليط فيبصرون الحقّ محكماً لا ريب فيه، ويُحكم الله آياتِه فيعود ما كان مشتبهاً عليهم محكماً، ويزدادون علماً وهدى وإيماناً وتسليماً.
- قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (٥٣)}
تمنَّى: أي تلا وقرأ على أحد الأقوال في تفسير هذه الآية.
قال الشاعر:
تمنَّى كتاب الله أوّل ليله ... وآخره لاقى حِمام المقادر
- قال ابن القيم رحمه الله: (جعل سبحانه إحكامَ آياته في مقابلة ما يلقي الشيطان بإزاء الآياتِ المحكمات في مقابلة المتشابهات؛ فالإحكامُ ههنا بمنزلة إنزال المحكمات هناك، ونسخ ما يلقي الشيطان ههنا في مقابلة ردّ المتشابه إلى المحكم هناك، والنسخ ههنا رَفْعُ ما ألقاه الشيطان، لا رفع ما شرَعَه الربُّ سبحانه.
وللنسخ معنى آخر هو النسخ من أفهام المخاطبين ما فهموه مما لم يُرِدْه ولا دلَّ اللفظ عليه وإن أوهمه كما أطلق الصحابة النسخ على قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} قالوا نسختها قوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} الآية؛ فهذا نسخٌ من الفهم لا نسخ للحكم الثابت فإنَّ المحاسبةَ لا تستلزم العقاب في الآخرة ولا في الدنيا أيضاً، ولهذا عمَّهم بالمحاسبة ثم أخبر بعدها أنه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء؛ فَفَهْمُ المؤاخذة التي هي المعاقبة من الآية تحميل لها فوق وُسْعِها؛ فرفع هذا المعنى ممن فهمه بقوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} إلى آخرها؛ فهذا رفعٌ لِفَهْمِ غيرِ المراد من إلقاء الملك، وذاك رفع لما ألقاه غيرُ الملك في أسماعهم أو في التمني)ا.هـ.
أمثلة ردّ المتشابه إلى المحكم من كلام أهل العلم
المثال الأول: أثر ابن عباس رضي الله عنهما في جواب ما تشابه على رجل سأله.
- قال المنهال بن عمرو الأسدي، عن سعيد بن جبير، قال: قال رجلٌ لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليَّ! فقد وقع في صدري!
فقال ابن عباس: أتكذيب؟
فقال الرجل: ما هو تكذيب، ولكن اختلاف.
قال: فهلمَّ ما وقع من ذلك في نفسك!
* فقال الرجل: أسمع الله عزَّ وجل يقول: {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} ، وقال في آية أخرى: {وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون}.
* وقال في آية أخرى: {ولا يكتمون الله حديثا}، وقال في آية أخرى: {والله ربنا ما كنا مشركين}؛ فقد كتموا في هذه الآية.
* وقوله: {أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها}؛ فذكر في هذه الآية خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال في آية أخرى: {قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين إلى قوله: طائعين} فذكر في هذه الآية خلق الأرض قبل خلق السماء.
* وقوله عز وجل: {وكان الله غفورا رحيما} ، {وكان الله عزيزا حكيما} ، {وكان الله سميعاً بصيراً}؛ فكأنه كان ثم مضى.
فقال ابن عباس: هاتِ ما وقع في نفسك من هذا!
قال السائل: إذا أنبأتني بهذا فحسبي
فقال ابن عباس:
أما قوله: {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} فهذا في النفخة الأولى، يُنفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون، ثم إذا كان في النفخة الأخرى قاموا {فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون}.
وأمّا قوله: {والله ربنا ما كنا مشركين}، وقوله: {ولا يكتمون الله حديثا}؛ فإنَّ الله عزَّ وجلَّ يغفر يوم القيامة لأهل الإخلاص ذنوبهم، ولا يتعاظم عليه ذنبٌ أن يغفره، ولا يغفر شركاً، فلما رأى المشركون ذلك قالوا: إن ربنا يغفر الذنوبَ، ولا يغفر الشركَ، فقالوا: نقول: إنما كنا أهلَ ذنوب، ولم نكن مشركين، فقال الله عز وجل: أما إذ كتمتم الشرك فاختموا على أفواههم، فختم على أفواههم فتنطق أيديهم، وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون، فعند ذلك عرف المشركون أن الله لا يُكتم حديثاً، فعند ذلك { يودّ الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا}.
وأما قوله: {السماء بناها رفع سمكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها، والأرض بعد ذلك دحاها}؛ فإنه خلق الأرض في يومين قبل خلق السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهنَّ في يومين آخرين، ثم نزل إلى الأرض فدحاها، ودحاها أن أخرج فيها الماء والمرعى، وشقَّ فيها الأنهار، فجعل فيها السبلَ، وخلق الجبال والرمال والآكام وما بينهما في يومين آخرين، فذلك قوله: {والأرض بعد ذلك دحاها}، وقوله {أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين . وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين}، فجعلت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام، وجعلت السماوات في يومين.
وأما قوله: {وكان الله غفوراً رحيماً}، {وكان الله عزيزاً حكيماً}، {وكان الله سميعاً بصيراً}، فإنَّ الله عزَّ وجلَّ سمَّى نفسَه ذلك، ولم ينحلْه غيره، وكان الله أي لم يزلْ كذلك.
ثم قال للرجل: « احفظ عني ما حدثتك، واعلم أنَّ ما اختلف عليك من القرآن أشياء ما حدثتك، فإنَّ الله عزَّ وجل لم ينزل شيئاً إلا قد أصاب به الذي أراد، ولكن الناس لا يعلمون، فلا يختلفَنّ عليك؛ فإنَّ كلا من عند الله». رواه البخاري في صحيحه، وابن المنذر في تفسيره، والطبراني في المعجم الكبير، وبعضهم أتمّ سياقة من بعض.
المثال الثاني: بيان ضلال الخوارج باتباعهم المتشابه وإعراضهم عن المحكم.
- قال عكرمة بن عمار اليمامي: حدثني أبو زميل الحنفي قال: حدثني عبد الله بن عباس قال: لما خرجت الحرورية اعتزلوا في دارٍ على حِدَتهم، وكانوا ستة آلاف.
فقلت لعلي: يا أمير المؤمنين! أبرِدْ بالصلاة، لعلي أكلم هؤلاء القوم.
قال: «إني أخافهم عليك».
قلت: كلا، فلبست أحسنَ ما أقدر عليه من هذه [الحلل] اليمانية، وترجَّلتُ، ودخلتُ عليهم في دارٍ نصف النهار وهم يأكلون.
قال: فدخلتُ على قومٍ فلم أرَ قوماً قط أشدّ اجتهاداً منهم، أيديهم كأنها ثفن الإبل، ووجوههم معلمة من آثار السجود؛ فقالوا: «مرحبا بك يا ابن عباس! فما جاء بك؟»
قلت لهم: أتيتكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار، ومن عند ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وصهرِه، وعليهم نزل القرآن؛ فهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم منهم أحدٌ، لأبلغكم ما يقولون، وأبلغهم ما تقولون.
فانتحى لي نفر منهم.
قلتُ: هاتوا ما نقمتم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمّه.
قالوا: «ثلاث».
قلتُ: ما هن؟
قال: «أما إحداهنّ فإنَّه حكَّم الرجال في أمر الله»، وقال الله: {إن الحكم إلا لله} ما شأن الرجال والحكم؟
قلت: هذه واحدة.
قالوا: وأما الثانية فإنّه قاتل ولم يسْبِ ولم يغنم، إن كانوا كفاراً لقد حلَّ سِباهم، ولئن كانوا مؤمنين ما حلَّ سِبَاهم ولا قتالهم.
قلت: هذه ثنتان؛ فما الثالثة؟
وذكر كلمة معناها قالوا: محى نفسَه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين!!
قلت: هل عندكم شيء غير هذا؟
قالوا: «حسبنا هذا».
قلتُ لهم: أرأيتكم إن قرأت عليكم من كتاب الله جل ثناؤه وسنة نبيّه ما يردّ قولكم أترجعون؟
قالوا: «نعم».
قلت: أما قولكم: «حكَّم الرجالَ في أمر الله؛ فإني أقرأ عليكم في كتاب الله أن قد صيَّر الله حكمَه إلى الرجال في ثمن ربع درهم! فأمر الله تبارك وتعالى أن يحكّموا فيه، أرأيت قول الله تبارك وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم} وكان من حكم الله أنه صيرَّه إلى الرجال يحكمون فيه، ولو شاء لحكم فيه، فجاز من حكم الرجال، أنشدكم بالله أحكم الرجال في صلاح ذات البين وحقن دمائهم أفضل أو في أرنب؟
قالوا: بلى، هذا أفضل.
وفي المرأة وزوجها: {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها}
فنشدتكم بالله حكم الرجال في صلاح ذات بينهم وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في بضع امرأة؟! خرجت من هذه؟!
قالوا: نعم.
قلت: وأما قولكم قاتل ولم يَسْبِ ولم يغنم، أفتَسْبون أمَّكم عائشة تستحلّون منها ما تستحلّون من غيرها وهي أمّكم؟ فإن قلتم: إنا نستحل منها ما نستحل من غيرها فقد كفرتم، وإن قلتم: ليست بأمّنا فقد كفرتم: {النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم} فأنتم بين ضلالتين؛ فأتوا منها بمخرج، أفخرجتُ من هذه؟
قالوا: نعم.
وأما محي نفسه من أمير المؤمنين؛ فأنا آتيكم بما ترضون، إنَّ نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية صالح المشركين فقال لعليّ: «اكتبْ يا علي!: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله».
قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «امح يا علي! اللهم إنَّك تعلم أني رسول الله، امح يا عليّ! واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله».
والله لَرسول الله صلى الله عليه وسلم خيرٌ من علي، وقد محى نفسه، ولم يكن محوه نفسه ذلك محاه من النبوة، أخرجت من هذه؟
قالوا: «نعم، فرجع منهم ألفان، وخرج سائرهم، فقتلوا على ضلالتهم، فقتلهم المهاجرون والأنصار». رواه عبد الرزاق، والنسائي في السنن الكبرى، والطبراني في المعجم الكبير، والحاكم في المستدرك.
- وقال أبو غالب البصري واسمه حزوّر وأصله من أصبهان، وهو صاحب أبي أُمامة الباهلي رضي الله عنه: لما أُتي برؤوس الأزارقة فنُصبت على درج دمشق جاء أبو أمامة رضي الله عنه؛ فلما رآهم دمعت عيناه، ثم قال: «كلاب النار! كلاب النار! هؤلاء لشرّ قتلى قُتلوا تحت أديم السماء، وخير قتلى تحت أديم السماء الذين قتلهم هؤلاء».
قلت: فما شأنك دمعت عيناك؟
قال: رحمة لهم، إنهم كانوا من أهل الإسلام.
قال: قلت: أبرأيك قلتَ: كلاب النار أو شيء سمعته؟
قال: إني إذاً لجريء، بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا اثنتين ولا ثلاثاً فعدَّد مراراً، ثم تلا: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} حتى بلغ {هم فيها خالدون} وتلا: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات} حتى بلغ: {أولو الألباب} ثم أخذ بيدي فقال: «أما إنهم بأرضك كثير؛ فأعاذكَ الله تعالى منهم». رواه عبد الرزاق، وأبو داوود الطيالسي، والحميدي، وأحمد واللفظ له.
وقد روى هذا الخبر عن أبي غالب جماعة منهم: حماد بن زيد، وحماد بن سلمة، ومعمر بن راشد، وسفيان الثوري، وغيرهم.
وفي رواية في مصنف ابن أبي شيبة من طريق قطن بن عبد الله أبو مري، عن أبي غالب، قال: كنت في مسجد دمشق فجاءوا بسبعين رأساً من رءوس الحرورية فنصبت على درج المسجد؛ فجاء أبو أمامة فنظر إليهم فقال: (كلاب جهنم! شرّ قتلى قتلوا تحت ظلّ السماء، ومن قَتلوا خير قتلى تحت السماء، وبكى؛ فنظر إليَّ وقال: يا أبا غالب! إنّك من بلد هؤلاء؟
قلت: نعم.
قال: أعاذك الله منهم.
قال: تقرأ آل عمران؟
قلت: نعم.
قال: {منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم}). ثم ذكر باقي الخبر بنحوه.
- وقال معمر بن راشد: (كان قتادة إذا قرأ هذه الآية: {فأما الذين في قلوبهم زيغ} قال: إن لم تكن الحرورية أو السبئية فلا أدري مَن هم، ولعمري لقد كان في أصحاب بدر والحديبية الذين شهدوا مع رسول الله بيعة الرضوان من المهاجرين والأنصار خبر لمن استخبر، وعبرة لمن اعتبر، لمن كان يعقل أو يبصر، إن الخوارج خرجوا وأصحاب رسول الله يومئذ كثير بالمدينة وبالشام وبالعراق، وأزواجه يومئذ أحياء، والله إنْ خرج منهم ذكرٌ ولا أنثى حرورياً قط، ولا رضوا الذي هم عليه، ولا مالأُوهم فيه، بل كانوا يحدّثون بعيب رسولِ الله إيَّاهم، ونعته الذي نعتهم به، وكانوا يبغضونهم بقلوبهم، ويعادونهم بألسنتهم، ويشتدّ والله أيديهم عليهم إذا لقوهم، ولعمري لو كان أمر الخوارج هدى لاجتمع، ولكنه كان ضلالة فتفرق، وكذلك الأمر إذا كان من عند غير الله وجدتَ فيه اختلافاً كثيراً؛ فقد ألاصوا هذا الأمر منذ زمان طويل؛ فهل أفلحوا فيه يوماً قط أو أنجحوا؟! يا سبحان الله! كيف لا يعتبر آخرُ هؤلاء القوم بأوّلهم؟! إنهم لو كانوا على حقّ أو هدى قد أظهره الله وأفلجه ونصره، ولكنهم كانوا على باطل فأكذبه الله تعالى وأدحضه؛ فهم كلما رأيتم خرج منهم قرن أدحض الله حجتهم، وأكذب أحدوثتهم، وأهراق دماءهم، وإن كتموه كان قرحاً في قلوبهم، وغمّاً عليهم، وإن أظهروه أهراق الله دماءَهم، ذاكم والله دين سوء فاجتنبوه؛ فوالله إنَّ اليهودية لبدعة ما نزل بهن كتاب ولا سنهن نبي). رواه عبد الرزاق.
المثال الثالث: ضلال اليهود والنصارى لاتباعهم المتشابه وإعراضهم عن المحكم
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (أهل الكتاب بعد النسخ والتبديل ليسوا ممن آمن بالله ولا باليوم الآخر وعمل صالحاً، كما قال تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}
وقد تقدَّم أنه كفر أهل الكتاب الذين بدلوا دين موسى والمسيح، وكذبوا بالمسيح أو بمحمد صلى الله عليه وسلم في غير موضع، وتلك آيات صريحة، ونصوص كثيرة، وهذا متواتر معلوم بالاضطرار من دين محمد صلى الله عليه وسلم.
ولكن هؤلاء النصارى سلكوا في القرآن ما سلكوه في التوراة والإنجيل، يدعون النصوص المحكمة الصريحة البينة الواضحة التي لا تحتمل إلا معنى واحداً، ويتمسّكون بالمتشابه المحتمل، وإن كان فيه ما يدلّ على خلاف مرادهم، كما قال تعالى فيهم وفي أمثالهم: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب}.
- وقال أيضاً: (والمقصود هنا بيان بطلان احتجاج النصارى وأنه ليس لهم في ظاهر القرآن ولا باطنه حجة في سائر كتب الله، وإنما تمسكوا بآيات متشابهات وتركوا المحكم، كما أخبر الله عنهم بقوله: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله}، والآية نزلت في النصارى، فهم مرادون من الآية قطعاً، ثم قال: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا}).
- وقال أيضاً: (وكان من أسباب نزول الآية احتجاج النصارى بما تشابه عليهم كقوله: (إنا) و (نحن) وهذا يعرف العلماء أن المراد به الواحد المعظَّم الذي له أعوان؛ لم يردْ به أن الآلهة ثلاثة؛ فتأويل هذا الذي هو تفسيره يعلمه الراسخون ويفرقون بين ما قيل فيه: "إنّي"، وما قيل فيه: "إنا" لدخول الملائكة فيما يرسلهم فيه؛ إذ كانوا رسله، وأما كونه هو المعبود الإله فهو له وحده، ولهذا لا يقول: فإيانا فاعبدوا، ولا إيانا فارهبوا، بل متى جاء الأمر بالعبادة والتقوى والخشية والتوكل ذكر نفسه وحده باسمه الخاص، وإذا ذكر الأفعال التي يرسل فيها الملائكة قال: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا} {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} {نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق} ونحو ذلك، مع أنَّ تأويل هذا وهو حقيقة ما دلَّ عليه من الملائكة وصفاتهم وكيفية إرسال الرب لهم لا يعلمه إلا الله كما قد بُسط في غير هذا الموضع).
المثال الرابع: ضلال الجهمية باتباعهم المتشابه والإعراض عن المحكم
- قال الإمام أحمد في كتابه "الرد على الجهمية": (وكذلك الجهم وشيعته دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث، فضلوا وأضلوا بكلامهم بشرًا كثيرًا. فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله أنه كان من أهل خرسان، من أهل ترمذ، وكان صاحب خصومات وكلام، وكان أكثر كلامه في الله تعالى، فلقي أناسًا من المشركين يقال لهم: السمنية؛ فعرفوا الجهم فقالوا له: نكلمك، فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا، وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك، فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له: "ألست تزعم أن لك إلَهًا؟
قال الجهم: نعم.
فقالوا له: فهل رأيت إلهك!.
قال: لا.
قالوا: فهل سمعت كلامه؟
قال: لا.
قالوا: فشممت له رائحة؟
قال: لا.
قالوا: فوجدت له حسًّا؟
قال: لا.
قالوا: فوجدت له مجسًّا؟
قال: لا.
قالوا: فما يدريك أنه إله؟!
قال: فتحيَّر الجهم فلم يدرِ من يعبد أربعين يومًا.
ثم إنه استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى، وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هو روح الله من ذات الله، فإذا أراد أن يحدث أمرًا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه، فيأمر بما يشاء وينهى عما يشاء، وهو روح غائبة عن الأبصار.
فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة، فقال للسمني:
ألست تزعم أن فيك روحًا؟
قال: نعم.
فقال: هل رأيت روحك؟
قال: لا.
قال: فسمعت كلامه؟
قال: لا.
قال: فوجدت له حسًّا؟
قال: لا.
قال: فكذلك الله لا يرى له وجه، ولا يسمع له صوت، ولا يشم له رائحة، وهو غائب عن الأبصار، ولا يكون في مكان دون مكان. ووجد ثلاث آيات من المتشابه:
قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ}، وقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ}
فبنى أصل كلامه على هذه الآيات، وتأوَّل القرآن على غير تأويله، وكذَّب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزعم أنَّ من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو حدّث عنه رسوله كان كافرًا، وكان من المشبهة، فأضلَّ بكلامه بشرًا كثيرًا، وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة، وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة، ووضع دين الجهمية، فإذا سألهم الناس عن قول الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} يقولون: ليس كمثله شيء من الأشياء، وهو تحت الأرضين السبع كما هو على العرش، ولا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، ولم يتكلم ولا يتكلم، ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يوصف ولا يعرف بصفة، ولا يفعل ولا له غاية، ولا له منتهى، ولا يدرك بعقل، وهو وجه كله، وهو علم كله، وهو سمع كله، وهو بصر كله، وهو نور كله، وهو قدرة كله، ولا يكون فيه شيئان، ولا يوصف بوصفين مختلفين، وليس له أعلى ولا أسفل، ولا نواحي ولا جوانب، ولا يمين، ولا شمال، ولا هو خفيف ولا ثقيل، ولا له لون، ولا له جسم، وليس هو بمعلوم ولا معقول، وكلّ ما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه.
قال أحمد: وقلنا: هو شيء؟
فقالوا: هو شيء لا كالأشياء.
فقلنا: إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء.
فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يؤمنون بشيء، ولكن يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون من العلانية).
المثال الخامس: ضلال غلاة الصوفية باتباعهم المتشابه وإعراضهم عن المحكم
- قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: (جواب أهل الباطل من طريقين: مجمل، ومفصل.
أما المجمل فهو الأمر العظيم والفائدة الكبيرة لمن عقلها وذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم» . مثال ذلك إذا قال بعض المشركين: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} وأن الشفاعة حق، أو أن الأنبياء لهم جاه عند الله، أو ذكر كلاماً للنبي صلى الله عليه وسلم يستدلّ به على شيء من باطله وأنت لا تفهم معنى الكلام الذي ذكره فجاوبه بقولك: إنَّ الله ذكر في كتابه أن الذين في قلوبهم زيغ يتركون المحكم ويتبعون المتشابه، وما ذكرته لك من أن الله ذكر أن المشركين يقرون بالربوبية وأن كفرهم بتعلقهم على الملائكة والأنبياء والأولياء مع قولهم: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} هذا أمرُ محكم بين لا يقدر أحد أن يغير معناه.
وما ذكرت لي أيها المشرك من القرآن أو كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا أعرف معناه، ولكن أقطع أن كلام الله لا يتناقض، وأنَّ كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يخالف كلام الله، وهذا جوابٌ جيّد سديد، ولكن لا يفهمه إلا من وفقه الله فلا تستهن به؛ فإنه كما قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.
وأما الجواب المفصل: فإنَّ أعداء الله لهم اعتراضات كثيرة على دين الرسل يصدون بها الناس عنه، منها قولهم: "نحن لا نشرك بالله، بل نشهد أنه لا يخلق ولا يرزق ولا ينفع ولا يضر إلا الله وحده لا شريك له، وأنَّ محمداً عليه السلام لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلا عن عبد القادر أو غيره ولكن أنا مذنب، والصالحون لهم جاه عند الله وأطلب من الله" فجاوبه بما تقدم وهو: إنَّ الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرّون بما ذكرت، ومقرّون أنَّ أوثانهم لا تدبر شيئاً، وإنما أرادوا الجاه والشفاعة، واقرأ عليه ما ذكره الله في كتابه ووضحه).
التطبيقات
س1: بيّن ضلال القدرية والجبرية باتباعهم المتشابه وإعراضهم عن المحكم.
س2: بيّن فساد استدلال المعتزلة بقول الله تعالى: {الله خالق كلّ شيء} على أنّ القرآن مخلوق.
س3: كيف تجمع بين قول الله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} وقوله تعالى: {إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون . لا يسمعون حسيسها}.
س4: بيّن فساد استدلال المعطلة بقول الله تعالى: {ليس كمثله شيء} على نفي بعض صفات الله تعالى.
س5: كيف تردّ على احتجاج بعض مشركي العرب لما نزل قول الله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنّم} بما عُلم من أنّ الملائكة وعيسى بن مريم وعزيراً من العباد الصالحين الذين كتب الله لهم النجاة من النار، وأنّ آلهتهم خير من أولئك.