30 Apr 2020
الدرس الأول: مقدمات في التفسير البياني
عناصر الدرس:
(1) البرهان على تمام بيان القرآن.
(2) التعريف بالتفسير البياني.
(3) عناية السلف ببيان القرآن.
(4) طبقات علماء التفسير البياني من السلف.
(5) تنوّع التأليف في التفسير البياني.
(6) السبيل إلى التمكّن في التفسير البياني.
(7) أبواب التفسير البياني.
(8) وصايا وإرشادات لدارسي التفسير البياني.
(1) البرهان على تمام بيان القرآن:
الحمد الله الذي أنزل القرآن العظيم بياناً للعالمين، وهدى للمؤمنين،
وجعله بلسان عربي مبين، فصّل فيه كلّ شيء، وضرب فيه من كلّ مثل، وبارك في
ألفاظه ومعانيه، وأودع فيه من اللطائف البديعة، ما لا يُحاط به كثرة
وتنوّعاً، فبهر الفصحاء بيانه، وأدهش العلماء كثرة خزائنه؛ وتفاضلوا في
فهمه وإدراك معانيه ولطائفه تفاوتاً كبيراً.
ولا يزال أهل كل علم ينهلون من معينه، ويستخرجون من كنوزه ولطائفه، ما لا
ينفد كثرة، ولا يُملّ تَكراره، وتلك آية بيّنة على أنّه لا يتأتّى لبشر أن
يأتي بمثله.
فإنّ ألفاظ القرآن في غاية الحسن والحلاوة والبهاء، ومعانيه أجلّ المعاني وأسماها، وأعظمها بركة.
وكلّ مفردة من مفردات القرآن قد اختارها الله تعالى على علم، ووضعها في موضعها الأحسن بها.
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}.
ولذلك قال ابن عطية رحمه الله في مقدمة تفسيره: (كتاب الله لو نُزِعَت منه لفظةٌ ثم أديرَ لسانُ العربِ في أن يوجدَ أحسنَ منها لم يوجد).
وهذا القول صحيح، وبرهانه أن الله تعالى له القدرة المطلقة؛ فلا يعجزه
شيء، وله العلم التامّ الواسع المحيط بكلّ شيء؛ فلا يخفى عليه شيء؛ ومن ذلك
إحاطته بجميع المفردات والأساليب ودلائلها وآثارها، وقدرته على حسن البيان
بما لا يطيقه المخلوقون كلّهم ولو اجتمعوا؛ فالله تعالى أقدر منهم على حسن
البيان، بل لو جُمع بيان الخلق كلّهم ونُسب إلى بيان الله عزّ وجلّ لكان
أقلّ من نسبة شمعة إلى ضوء الشمس، كما أنّ نسبة علمهم إلى علمه أقلّ من
نسبة قطرة إلى ماء البحر، وهكذا في سائر صفات الله تعالى الجليلة العظيمة.
فإذا اجتمع تمام العلم وتمام القدرة؛ فلا يُمكن أن يأتي أحد من الخلق
ببيان أحسن من بيان الله تعالى، وكلّ مفردة اختارها الله في كتابه فلا
يستطيع أحد من الخلق أن يأتي بأحسن منها؛ لأنه ما من لفظة يدركها علم
المخلوق إلا والله تعالى أعلم بها منه من قبل أن يُخلق، ولا تخطر خاطرة على
ذهن مخلوق إلا بإذن الله تعالى وعلمه.
وهذا اليقين يقطع الطريق على كلّ دعوى طاعنة في بيان القرآن، ويسمها
بميسم الردّ، بل لا يزيد الطاعنون في بيان القرآن مهما بلغ حرصهم واجتهادهم
إلا أن يقدّموا أدلّة جديدة على حسن بيان القرآن.
قال الله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ
الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا
يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)}
وقال تعالى: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)}
(2) التعريف بالتفسير البياني:
التفسير البياني هو التفسير الذي يُعنى فيه بالكشف عن حسن التعبير
القرآني، والتعريف بسمو ألفاظه، وسعة معانيه، وائتلافها وعدم اختلافها،
وتناسب الألفاظ والمعاني، واستخراج الحكم من اختيار بعض المفردات والتراكيب
والأساليب على بعض.
والعناية ببيان القرآن مزامنة لنزوله؛ فمنذ أن نزل القرآن وهو يبهر
العرب بحسن بيانه، وسموّ ألفاظه واتساقها، وسعة معانيه، وحسن دلالاته.
وذلك أن القرآن نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وقد بعث إلى قوم
بلغوا منزلة عالية في العناية بلسانهم العربي وتفننهم في الخطاب؛ فكانوا
يدركون بما يعرفون من فنون الخطاب من معاني القرآن ودلائله ما لا يتحصّل
لمن بعدهم إلا بكثير من الدراسة والتعلّم.
وأخبارهم في ذلك كثيرة مشتهرة.
قال عكرمة مولى ابن عباس: (جاء الوليد بن المغيرة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له: اقرأ علي، فقرأ عليه: {إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى
وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)}.
قال: أعد، فأعاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: « والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما يقول هذا بشر»).
رواه البيهقي في دلائل النبوة من حديث حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة، وهذا
إسناد جيد مع إرساله فإنّ عكرمة كان من علماء التابعين في السير مع تقدّمه
في التفسير، وأصل هذه الحادثة مشهور عند علماء السير.
وقد فسّرت الطلاوة بالحسن والبهجة والوضاءة.
- وذكر جماعة من العلماء أنّ أعرابياً سمع رجلاً يقرأ: {فلمّا استيأسوا منه خلصوا نجيّا} فأقسم أنّه لا يقوله بشر.
وذلك أنّ أهل كلّ صنعة أدرى بحدود ما يبلغه البشر في تلك الصنعة؛ فإذا
رأوا أمراً خارقاً للعادة في تلك الصنعة انبهروا له، ودهشوا منه.
وضعيف الملًكة في تلك الصنعة لا يدرك ما يدركه أهلها وحذاقها.
ونحن قد نقرأ بعض الآيات مراراً ولا نُدرك كثيراً مما فيها من حسن
البيان لقصور الآلة العلمية وضعف الملكة، ومن أدرك شيئاً منها فبمبلغه من
المعرفة والفطنة والإدراك والذوق.
ولفهم ذلك انظر إلى ما يقابله كحال من لا يحسن النحو إذا سمع خطبة من
خطيب كثير اللحن؛ فإنه لا يتفطن للحنه، وربما تأثر بخطبته واعتقد في الخطيب
من الكمال وحسن الخطابة ما ليس له بأهل؛ لأن المعرفة إذا ضعفت ضعفت أدوات
التقويم فيها.
وكذلك من لا يحسن معرفة الشعر إذا سمع قصيدة فيها إخلال بالوزن
والقافية فإنها ربما اعتقد فيها الصحة والجزالة؛ فإذا تعلّم الشعر والعروض
والنحو عرف ما في القصيدة من خلل، وما في الخطبة من لحن.
ويقال نظير ذلك في إدراك جوانب الإجادة والإحسان إذا كانت القصيدة حسنة بديعة والخطبة جيدة بليغة.
وكذلك الذين أحرزوا حظا من المعرفة وكانت لهم ملكة جيّدة في علوم
التفسير واللغة يتفاوتون في معارفهم وملَكاتهم، فيتفاوت إدراكهم للطائف
البيان القرآني تفاوتاً كثيراً.
- قال أبو منصور الأزهري: (نزلَ القرآنُ الكريمُ
والمخاطَبون بِهِ قومٌ عَرَبٌ، أولو بَيانٍ فاضلٍ، وفهمٍ بارع، أنزلهُ
جَلّ ذِكْره بلسانهم، وَصِيغَة كَلَامهم الَّذِي نشؤوا عَلَيْهِ، وجُبِلوا
على النُّطْق بِهِ، فتدَرّبوا بِهِ يعْرفُونَ وُجُوه خطابه، ويفهمون فنون
نظامه، وَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى تعلُّم مُشْكِلِه وغريب أَلْفَاظه حاجةَ
المولَّدين الناشئين فِيمَن لَا يعلم لسانَ الْعَرَب حَتَّى يُعَلَّمَه،
وَلا يَفهم ضُروبه وَأَمْثَالَه، وطُرَقه وأساليبَه حتّى يُفَهَّمَها)ا.هـ.
والعرب الذي عاصروا التنزيل لم يكونوا على مرتبة واحدة في العربية؛ بل
كان بعضهم أعرب من بعض، ولأفذاذ منهم مزيد عناية وتقدّم في علوم العربية،
وكانوا يتعلمون فنون الخطاب بما يناسب أحوالهم.
(3) عناية السلف ببيان القرآن:
مما ينبغي أن ينبَّه إليه ويؤكد عليه عناية السلف بعربية القرآن
والتفقه في بيانه، وحسن طريقتهم في ذلك، فقد كانوا أقرب القرون إلى معرفة
أحوال العرب حين نزول القرآن وما كانوا عليه في الجاهلية، وكان أكثرهم من
أهل عصر الاحتجاج اللغوي؛ فكانوا أقرب إلى السلامة من اللحن ممن أتى بعدهم.
وكان من الصحابة والتابعين مبرَّزون في المعرفة بالعربية، وكان منهم
من يُعنى بحفظ الأشعار لتفسير القرآن، ويعرف لغات قبائل العرب، وتفننهم في
الخطاب، وما يستعملونه في كلامهم من ضروب الكنايات والاستعارات والتوريات
ولطائف المخاطبات.
وكان علماء الصحابة يحثون الناس على تعلّم العربية، والانتفاع بها في التفقه في القرآن.
قال عمر بن زيد: كتب عمر [بن الخطاب] إلى أبي موسى [الأشعري]: « أما بعد فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآن فإنه عربي، وتمعددوا فإنكم معديون». رواه ابن أبي شيبة.
وعمر بن زيد هذا ذكره البخاري في تاريخه وابن أبي حاتم، وذكرا روايته
لهذا الخبر، ولم يذكرا فيه جرحاً ولا تعديلاً، غير أنّ ابن أبي حاتم ذكر عن
أبيه أنّ خبره هذا مرسل.
وقد وقع في رواية أخرى عند ابن أبي شيبة عمرُو بن دينار مكانَ عمرَ بنِ زيد، ولعله تصحيف؛ فإنَّ الإسناد واحد.
لكن الذي يظهر أنّ خبر كتابة عمر لأبي موسى في شأن العربية كان
مشتهراً عند التابعين؛ فقد روى عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة
عن أبي رجاء البصري واسمه محمد بن سيف الحُدَّاني وهو تابعي أدرك أنس بن
مالك، وكان من أصحاب الحسن البصري وابن سيرين وممن كتب في التفسير، له
تفسير يرويه عنه ابن علية ويزيد بن زريع.
قال أبو رجاء: سألت الحسن عن المصحف ينقط بالعربية قال: أوما بلغك كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن «تفقهوا في الدين، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وتعلموا العربية».
- وقال قتادة: سمعت أبا عثمان النهدي يقول: أتانا كتاب عمر بن الخطاب، ونحن بأذربيجان مع عتبة بن فرقد: (أما بعد: فائتزروا، وارتدوا، وانتعلوا،.. ) رواه ابن الجعد في مسنده، وأبو عوانة في مستخرجه.
وفي رواية عندهما من طريق عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه نحوه، وزاد فيه: "وتعلموا العربية " واقتصر البيهقي في السنن الكبرى على هذه الرواية، وإسنادها صحيح.
وهو كتاب آخر غير ُكتاب عمر لأبي موسى.
ولا يُستبعد أن يكون عمر قد تعاهد أمراء الأمصار بوصاياه، ووقع في وصاياه شيء من التكرار للحاجة.
وكان جلساء عمر من أهل القرآن، وكانوا يتدارسون القرآن ويتدبرونه ويتفقهون في أحكامه ومعانيه.
وكان يقرّب ابن عبّاس لعلمه بالقرآن وحسن استنباطه وبيانه، ويدخله مع أشياخ بدر.
قال عبد الله بن دينار: كان عمر بن الخطاب يسأل ابن عباسٍ عن الشيء من القرآن ثم يقول: «غُصْ غَوَّاص» رواه الإمام أحمد في فضائل الصحابة.
وابن عباسٍ قد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فظهرت بركات دعوته عليه.
- قال عبد الله بن عثمان بن خثيم: أخبرني سعيد بن جبير، أنه سمع ابن
عباس، يقول: وَضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده بين كتفي - أو قال: على
منكبي - فقال: (( اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل )). رواه أحمد وابن أبي شيبة والطبراني.
وقال خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ضمني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «اللهم علمه الكتاب» رواه البخاري في صحيحه، وفي رواية في الصحيح: ((اللهم علّمه الحكمة)).
وكان ابن عباس فصيحاً بليغاً حسن الفهم والبيان شديد الذكاء قويّ الحجة إذا تكلّم في أمر شفى فيه وكفى، وقد قال فيه حسان بن ثابت:
إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه ... رأيت له في كل مجمعةٍ فضلا
إذا قال لم يترك مقالاً لقائل ... بملتقطات لا ترى بينها فصلا
كفى وشفى ما في الصّدور ولم يَدَعْ ... لذي إربة في القول جدّا ولا هزلا
وهذا لا يتأتّى إلا لمن كان له تمكن في أدوات البيان وحسن المعرفة بها وثراء المخزون العلمي واللغوي. لا يرهب ابنُ العمّ ما عشت صولتي .. ولا أختتي من خشية المتهدد رواه ابن بطة العكبري في الإبانة، والبيهقي في شعب الإيمان، والخطيب البغدادي في تاريخه، وغيرهم.
كان ابن عباس يفسّر القرآن للناس في الموسم تفسيراً حسناً يأخذ بالألباب من حسنه وبهائه.
- قال أبو وائل شقيق بن سلمة: حججت أنا وصاحبٌ لي، وابنُ عباس على الحجّ، فجعل يقرأ سورة النور ويفسّرها؛ فقال صاحبي: (يا سبحان الله، ماذا يخرج من رأسِ هذا الرجل، لو سمعت هذا التركُ لأسلمت). رواه الحاكم في المستدرك وصححه.
- وروى البخاري في صحيحه في كتاب تفسير القرآن عن المنهال بن عمرو
الأسدي عن سعيد بن جبير، قال: قال رجل لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياء
تختلف علي ...
فذكر جملة من المسائل منها ما هو وثيق الصلة بالتفسير البياني.
ومنها قوله: (وقال [الله]: {وكان الله غفورا رحيما} {عزيزا حكيما} ، {سميعا بصيرا} فكأنه كان ثم مضى؟
فقال له ابن عباس: (وأما قوله تعالى: {وكان الله}؛
فإن الله كان لم يزل كذلك، وهو كذلك عزيز حكيم قدير، لم يزل كذلك؛ فما
اختلف عليك من القرآن فهو شِبْهُ ما ذكرتُ لك؛ فإنَّ الله لم يُنزِل شيئاً
إلا وقد أصاب به الذي أراد، ولكن الناس لا يعلمون).
- وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: «شهدت ابن عباس، وهو يُسأل عن عربية القرآن، فينشد الشعر» رواه الإمام أحمد في فضائل الصحابة، وأبو عبيد في فضائل القرآن.
قال أبو عبيد: (يعني أنه كان يستشهد به على التفسير).
- وقال أسامة بن زيد الليثي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر، فإنه ديوان العرب» رواه الحاكم والبيهقي.
- وروى يحيى بن عقيل، عن يحيى بن يعمُر، عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه أنه قال: « تعلَّموا العربيَّةَ في القرآن كما تتعلَّمون حفظه ». رواه ابن وهب وابن أبي شيبة.
وتعلّمهم للعربية لأجل الاستعانة به على تفسير القرآن هو من صميم عنايته بالتفسير البياني.
والصحابة والتابعون مع كونهم من أهل عصر الاحتجاج إلا أنّهم يتفاضلون في العلم بالعربية، ويقع لبعضهم ما يحتاج إلى السؤال عنه.
- قال عاصم بن أبي النجود: (كان زرُّ بن حبيش أعربَ الناس، وكان عبد الله [بن مسعود] يسأله عن العربية). رواه ابن سعد.
- وقال يحيى بن عتيق الطُّفَاوي: قلت للحسن أي البصري: يا أبا سعيد، الرجل يتعلم العربية يلتمس بها حسن المنطق، ويقيم بها قراءته؟
فقال: حسن يا ابن أخي، فتعلَّمْها، فإنَّ الرجلَ ليقرأ الآية فيعيا بوجهها، فيهلِك فيها). رواه أبو عبيد في فضائل القرآن، وسعيد بن منصور في سننه، والبيهقي في شعب الإيمان.
والعيّ داء من أدواء القلوب، ولا سيّما إذا كان في مسائل لها آثار
تردّد العبد بين الهدى والضلال، وشفاء العيّ سؤال أهل العلم والإيمان،
واتّباع سبيلهم، لكن من الناس من يقع له عيّ في بعض المسائل فيكون له فتنة؛
فيستنكف عن السؤال، ويظهر له معنى يُعجب به وهو خطأ ولا يتفطّن لخطَئِه؛
فيفتتن به، فإذا استحكمت فتنته عزّ عليه الرجوع إلى السنّة، وهذا شأن كثير
من أهل الأهواء والبدع.
- قال عبيدة بن زيد النميري: سمعت الحسن يقول: (أهلكتهم العُجمة، يتأولون القرآن على غير تأويله). رواه ابن وهب وابن أبي شيبة.
وقد كان في بعض أصحاب الحسن البصري من اعتزل مجلسه لما افتتنوا ببعض
الأهواء، وكان من أسباب ذلك جهلهم بلسان العرب، وإعجابهم بآرائهم، وتنكّبهم
سبيل أهل العلم والإيمان.
- قال الأصمعي: جاء عمرو بن عبيد إلى أبي عمرو بن العلاء، فقال: يا أبا عمرو يخلف الله وعده؟
قال: لا
قال: أفرأيت إن وعده الله على عمل عقابا يخلف وعده؟
فقال أبو عمرو بن العلاء: من العجمة أتيت يا أبا عثمان، إن الوعدَ
غيرُ الوعيد، إن العرب لا تعدّ خُلْفا ولا عارا أن تَعِدَ شرا ثم لا
تفعلَه، ترى أنَّ ذاك كرما وفضلا، إنما الخلف أن تعد خيرا ثم لا تفعلَه.
قال: فأوجدني هذا في كلام العرب.
قال: أما سمعت قول الأول:
وإني وإن أوعدته أو وعدته .. لمخلف إيعادي ومنجز موعدي ).
- قال أبو عبيدة: (كان أبو عمرو أعلم الناس
بالقراءات، والعربية، والشعر، وأيام العرب، وكانت دفاتره ملءَ بيتٍ إلى
السقف، ثم تنسَّك فأحرقها، وكان من أشراف العرب ووجوهها، مدحه الفرزدق
وغيره).
- وقال الأصمعي: (قال لي أبو عمرو بن العلاء: لو
تهيأ أن أفرغ ما في صدري من العلم في صدرك لفعلت، ولقد حفظت في علم القرآن
أشياء لو كُتبت ما قدر الأعمش على حملها).
وكان متواضعاً مع سعة علمه، سهلَ الحديث مع فصاحته لا يتكلّف غريب الألفاظ، ولا عسف المعاني، ولا يتمدّح بعلمه ولا يتفاخر به.
- قال الأصمعي: (كان أبو عمرو بن العلاء يُحسن
علوماً إذا أحسن إنسانٌ فنًّا منها قال: من مثلي! ولا يعتدّ أبو عمرو بذلك،
وما سمعته يتمدّح قط، إلا أنَّ إنساناً لاحاه مرة فقال له: "والله يا هذا
ما رأيتُ أحداً قطّ أعلمَ بأشعارِ العرب ولغاتها منّي، فإن رضيتَ ما قلتُ
لك، وإلا فأوجدني عمَّن تروي). رواه الزجاجي في مجالس العلماء.
ولم يكن أبو عمرو بن العلاء وحيداً في هذه المعرفة، وقد اشتهر عنه أنه كان يقول: (إنما نحن فيمن مضى كبَقْل في أصول نخل طوال).
والمقصود التنبيه إلى سعة معرفة كثير من علماء السلف بعلوم العربية،
وحفظهم لأشعار العرب وأخبارهم، وتبصّرهم بفنون كلامهم، ودلائل مخاطباتهم.
والفرق بين معرفتنا ومعرفتهم أشبه بالفرق بين معرفة من يذوق الشيء ويستمتع به، وبين من يوصف له طعمه وحال من يتطعّمه.
(4) طبقات علماء التفسير البياني من السلف:
كان في كلّ طبقة من طبقات السلف جماعة من العلماء الذين اشتهرت عنايتهم بعلوم العربية مع علمهم بالقراءات والتفسير.
فمن الصحابة: عليّ بن أبي طالب وعائشة وأبيّ بن كعب وابن عباس رضي
الله عنهم، وغيرهم، وقد روي عنهم مسائل كثيرة تعدّ من التفسير البياني.
ومن التابعين: أبو الأسود الدؤلي(ت:69هـ)، وزر بن حبيش(ت:82هـ)، ونصر
بن عاصم الليثي(ت:89هـ)، ويحيى بن يعمُر العدواني(ت: نحو 90هـ)، والحسن
البصري(ت:110هـ)، وعبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي(ت:117هـ) وقيل:
(ت:129هـ)، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج(ت:117هـ) وغيرهم.
ومن تابعي التابعين: عيسى بن عمر الثقفي(ت:149هـ)، وأبو عمرو بن
العلاء المازني(ت:154هـ)، وحماد بن سلمة البصري (ت: 167هـ) والمفضَّل بن
محمَّد الضَّبِّي (ت:168هـ)، والخليل بن أحمد الفراهيدي (ت:170هـ)، وهارون
بن موسى الأعور (ت:170 هـ)، والأخفش الأكبر عبد الحميد بن عبد المجيد (ت:
177هـ )، وسيبويه عمرو بن عثمان بن قنبر مولى بن الحارث(ت: 180 هـ)، ويونس
بن حبيب الضبي (ت:183 هـ)، وأضرابهم.
والمقام يضيق عن الاستكثار من أمثلة التفسير البياني المروي عنهم، لكن
كان من عادة السلف أنهم يختصرون العبارة؛ فيفتحون الباب للمتأمّل، ويبينون
له السبيل، ويكتفون بالتنبيه عن التطويل.
ومن أمثلة ذلك: ما رواه ابن جرير بإسناد صحيح عن قتادة في تفسير قول الله تعالى: {إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ}: قال: (أي من هذه الأمّة، يعني بذلك القلب: القلب الحيّ).
وروى عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {لمن كان له قلبٌ} قال: (قلبٌ يعقل ما قد سمع من الأحاديث الّتي عذّب اللّه بها من عصاه من الأمم).
وهذا التفسير مبناه على أنّ العرب تُسمّي من لا ينتفع بالآلة باسم
فاقدها؛ فيقال لمن لا يبصر الحق مع وضوحه: أعمى، وإن كان له عينان ينظر
بهما، وتسمّي من لا يسمع الحقّ أصمّ، وإن كان له أذنان يسمع بهما.
وقد قال الله تعالى في الكفار: {صمّ بكم عمي فهم لا يعقلون}.
وهذا المعنى أخذه جماعة من العلماء المعتنين بالتفسير البياني بعدهم فحبّروه وأسهبوا في بيانه.
قال عبد القاهر الجرجاني: (قوله تعالى: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب}
أي لمن أعملَ قلبَه فيما خُلق القلب له من التدبر والتفكر والنظر فيما
ينبغي أن ينظر فيه. فهذا على أن يجعل الذي لا يعي ولا يسمع ولا ينظر ولا
يتفكر، كأنه قد عُدِم القلب من حيث عدم الانتفاع به، وفاته الذي هو فائدة
القلب والمطلوب منه كما يجعل الذي لا ينتفع ببصره وسمعه ولا يفكر فيما
يؤديان إليه، ولا يحصل من رؤية ما يرى وسماع ما يسمع على فائدة، بمنزلة من
لا سمع له ولا بصر) ا. هـ.
وقال ابن القيّم رحمه الله في كتاب الفوائد: (وقوله {لمن كان له قلب} .. المراد به القلب الحي الذي يعقل عن الله كما قال تعالى: {إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا} أي حيّ القلب .. ).
وقال في مدراج السالكين: (وقال تعالى في آياته المشهودة {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}.
والناس ثلاثة:رجل قلبه ميت، فذلك الذي لا قلب له، فهذا ليست هذه الآية ذكرى في حقه.
الثاني: رجل له قلب حي
مستعد، لكنه غير مستمع للآيات المتلوة التي يخبر بها الله عن الآيات
المشهودة إما لعدم ورودها، أو لوصولها إليه ولكن قلبه مشغول عنها بغيرها،
فهو غائب القلب، ليس حاضرا، فهذا أيضا لا
تحصل له الذكرى مع استعداده ووجود قلبه.
الثالث: رجل حي القلب مستعد، تليت عليه الآيات، فأصغى بسمعه، وألقى
السمع وأحضر قلبه، ولم يشغله بغير فهم ما يسمعه، فهو شاهد القلب، ملق
السمع، فهذا القسم هو الذي ينتفع بالآيات المتلوة والمشهودة.
فالأول: بمنزلة الأعمى الذي لا يبصر.
والثاني: بمنزلة البصير الطامح ببصره إلى غير جهة المنظور إليه، فكلاهما لا يراه.
والثالث: بمنزلة البصير الذي قد حدق إلى جهة المنظور، وأتبعه بصره، وقابله على توسط من البعد والقرب، فهذا هو الذي يراه.
فسبحان من جعل كلامه شفاء لما في الصدور)ا.هـ
وانتقد عبد القاهر من اقتصر على تفسير القلب في هذه الآية بالعقل.
ثم قال: (ومن عادة قوم ممن يتعاطى
التفسير بغير علم، أن يتوهموا أبدا في الألفاظ الموضوعة على المجاز
والتمثيل، أنها على ظواهرها، فيفسدوا المعنى بذلك، ويبطلوا الغرض، ويمنعوا
أنفسهم والسامع منهم العلم بموضع البلاغة، ومكان الشرف. وناهيك بهم إذا هم
أخذوا في ذكر الوجوه، وجعلوا يكثرون في غير طائل، هناك ترى ما شئت من باب
جهل قد فتحوه، وزند ضلالة قد قدحوا به، ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق) ا. هـ.
وهذا هو أصل هذا القول إلا أنّ عبد القاهر الجرجانيّ حبّره ببيانه، ثمّ زاده ابن القيّم رحمه الله شرحاً وتحبيراً.
والمسائل البيانية في تفاسير السلف كثيرة
(5) تدرّج التأليف في التفسير البياني:
التأليف في التفسير البياني لم يُفرد إلا في العصور المتأخرة، لكن أصل
تناول مسائل التفسير البياني وتدوينها قديم قدم الكتابة في التفسير وعلوم
القرآن.
فكانت مسائل التفسير البياني متفرقة في أنواع المؤلفات:
1: كتب تفاسير السلف
وكان لكثير من التابعين وتابعيهم صحف في
التفسير فمنها ما بلغنا علمه، ومنها ما لم يبلغنا، ومن كان يظنّ أن كتب
التفسير التي في عصر التابعين وتابعي التابعين قليلة فهو مخطئ في ظنه؛
فالذي أحصيته منها نحو سبعين تفسيراً.
وهي لا تخلو من مسائل يصحّ أن تصنّف في التفسير البياني، فلو جُمعت ودرست
لكشفت عن جوانب مهمة من عناية السلف ببيان القرآن، وفوائد قيّمة في تأصيل
البحث في التفسير البياني.
وكثير من هذه الصحف قد تضمنتها كتب التفسير المسندة كتاب التفسير من جامع
ابن وهب، وكتاب التفسير من سنن سعيد بن منصور، وكتب التفسير في بقية
دواوين السنة، وتفسير عبد الرزاق، وابن جرير الطبري، وابن المنذر، وابن أبي
حاتم، وغيرهم.
ولابن جرير مزيد عناية بدراسة المسائل وتحريرها، وعنايته بالإعراب وعلوم العربية ظاهرة في تفسيره.
2: كتب الوقف والابتداء
وهو علم جليل يعين على فهم القرآن وإيضاح مقاصده.
- قال علم الدين السخاوي: (ففي معرفة الوقف
والابتداء الذي دوَّنه العلماء تبيينُ معاني القرآن العظيم، وتعريفُ
مقاصده، وإظهارُ فوائدِه، وبه يتهيَّأ الغوصُ على دُرره وفرائده)ا.ه
- وقال ابن مجاهد فيما ذكره عنه أبو جعفر النحاس: (لا يقوم بالتمام في الوقف إلا نحوي عالم بالقراءات عالم بالتفسير والقصص وتخليص بعضها من بعض، عالم باللغة التي نزل بها القرآن)ا.هـ.
وهذه المعارف والعلوم التي ذكروها كان أحسن اجتماعها في القراء
المتقدّمين، وقد ظهر التأليف في هذا العلم مبكراً، فأوّل من عُرف عنه أنه
كتب في الوقوف إمام أهل المدينة في القراءة شيبة بن نصاح المدني، وهو تابعي
أدرك أمّ سلمة رضي الله عنها، وروى أبو عبيد أنها مسحت على رأسه ودعت له
بالبركة، وقد قرأ على عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة رضي الله عنهما، وهو
شيخ نافع بن أبي نُعيم القارئ.
ثم كتب في الوقوف بعده جماعة من العلماء منهم: ابن سعدان الضرير، وابن
الأنباري، وأبو جعفر النحاس، وأبو عمرو الداني، وابن الطحان، وابن طيفور
السجاوندي، والعَمَّاني صاحب المرشد، وأبو العلاء الهمذاني، وعلَم الدين
السخاوي، وزكريا الأنصاري، وغيرهم.
وفي كتب الوقوف مسائل لها صلة بالتفسير البياني.
3: كتب متشابه القرآن
وهو من ألصق الكتب المتقدمة بالتفسير
البياني، وقد ذكر ابن المنادِي في مقدّمة كتابه متشابه القرآن أن أول من
ابتكر التأليف في "متشابه القرآن" موسى الفراء، وكان مقرئ أهل الكوفة في
زمانه، أخذ القراءة عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلي عن أبي
عبد الرحمن السلمي، ومات في خلافة أبي جعفر المنصور.
والأقرب أنه أبو محمد موسى بن قيس الحضرمي الفراء المعروف عند المحدثين بعصفور الجنة، وقد وثقه يحيى بن معين وأبو نعيم..
ثمّ كتب بعده خلف بن هشام البزار(ت:229هـ) كتابا في "متشابه القرآن" بسبب
محاورة جرت بينه وبين الإمام المقرئ عبد الله بن إدريس الأودي.
وخلف بن هشام من ثقات رواة التفسير، وهو أحد القراء العشرة.
وكان غرضهم من التأليف إعانة القراء على ضبط ما قد يلتبس عليهم عند القراءة، وإدراك الفروق بين ما يقع من التشابه بين الآيات.
ثم كتب بعدهم جماعة من القراء كتبا متفرقة حصّلها أبو الحسين ابن
المنادي(ت:336هـ) فأنعم النظر فيها ورتبها وبينها وشرحها في كتابه"متشابه
القرآن".
وأبواب كتابه يمكن تقسيمها إلى قسمين:
- قسم ذكر فيه ما تحصّل له من مواضع الآيات المتشابهات، وحاول ضبطها.
- وقسم جعله للرد على انتقاد بعض الزنادقة ما في القرآن من تكرار، وما توّهموه من اختلاف.
وهذا من ثمرات التفسير البياني.
ثم توالى التأليف في متشابه القرآن، ومن أشهر ما ألف فيه:
- درة التنزيل للخطيب الإسكافي(ت:431هـ)
- والبرهان في متشابه القرآن للكرماني(ت:505هـ)
- وملاك التأويل لابن الزبير الغرناطي(ت:708هـ)
- وكشف المعاني لابن جماعة(ت:733هـ)
- وفتح الرحمن لزكريا الأنصاري(ت:926هـ)
4: كتب الوجوه والنظائر
وقد ظهر التأليف فيها مبكراً؛ فكتب فيها جماعة من العلماء، منهم: مقاتل
بن سليمان، وهارون بن موسى النحوي(ت:170هـ)، ويحيى بن سلام البصري(ت: بعد
200هـ)، وإسماعيل بن أحمد الحيري(ت:431هـ)، والقاضي أبو عبد الله
الدامغاني(ت:478هـ)، وغيرهم.
5: كتب معاني القرآن
وقد كتب فيه جماعة من علماء اللغة، منهم:
- علي بن حمزة الكسائي (ت:189 هـ)، وكتابه مفقود.
- ويحيى بن سلام البصري(ت:200هـ)، أصله من البصرة ثمّ هاجر إلى إفريقية.
- ويحيى بن زياد الفرَّاء (ت:207 هـ)
- وأبو عبيدة معمر بن المثني (ت:209 هـ)، وهو أسنّ من الفراء لكن مات بعده، واسم كتابه "مجاز القرآن"، وهو مطبوع.
- ومحمد بن المستنير البصري المعروف بقطرب (ت: بعد 211 هـ)، وقد طبع بعضه حديثاً.
وسعيد بن مسعدة المعروف بالأخفش الأوسط (ت: 215 هـ) ، وكتابه مطبوع.
- وأبو عبيد القاسم بن سلام الهروي (ت:224 هـ)، وهو أوّل من ألّف في
القراءات، وله كتاب جليل القدر في معاني القرآن، وكلاهما مفقود.
- ثم جاء بعدهم أبو إسحاق الزجاج(ت:311هـ) فكتاب كتابه الكبير "معاني
القرآن وإعرابه" وهو أكبر كتب المتقدمين في التفسير اللغوي وأجمعها.
- ثم جاء بعده أبو جعفر النحاس(ت:338هـ) فكتب كتباً كثيرة جامعة منها
كتاب إعراب القرآن، ومعاني القرآن، والقطع والائتناف، والناسخ والمنسوخ،
وغيرها، وفيها مسائل كثيرة في التفسير البياني.
6: كتب إعراب القرآن
وقد كتب فيه جماعة من العلماء منهم: أبو إسحاق الزجاج، وأبو جعفر النحاس،
وابن خالويه، وعلي بن إبراهيم الحوفي، ومكي بن أبي طالب القيسي، وابن
الأنباري، والخطيب التبريزي، وعلي بن الحسين الباقولي، وأبو البقاء
العكبري، وغيرهم.
7: كتب مشكل القرآن
ثمّ جاء بعدهم ابن قتيبة الدينوري(ت:276هـ) فكتب كتابه "تأويل مشكل
القرآن" وفيه بيان لكثير من المسائل التي قد تشكل على بعض العلماء، ومنها
مسائل في التفسير البياني، والرد على شبهات الطاعنين في بيان القرآن.
8: كتب توجيه القراءات
وهو علم جليل لا ينهض به إلا ضليع في علوم اللغة،
وقد كتب فيه جماعة من العلماء منهم: أبو منصور الأزهري، وابن خالويه، وأبو
علي الفارسي، وابن جنّي، وابن زنجلة، ومكي بن أبي طالب، وابن أبي مريم
الفسوي، وغيرهم.
9: كتب معاني الحروف
وقد ألّف فيه جماعة من العلماء منهم: أبو حاتم السجستاني(ت:255هـ)، وأبو
الحسن علي بن الفضل المزني(ت:ق4) وكان معاصراً لابن جرير الطبري، وابن شقير
البغدادي(ت:317هـ)، وأبو القاسم الزجاجي(ت:340هـ)، وأبو الحسن علي بن
محمد الهروي(ت:415هـ)
ثم كتب فيه جماعة منهم: أبو جعفر المالقي(ت:702هـ)، وأبو إسحاق
الصفاقسي(ت:742هـ)، وابن أمّ قاسم المرادي، وابن هشام الأنصاري، وغيرهم.
10. كتب إعجاز القرآن
وقد كتب فيه جماعة من العلماء منهم:
- أبو سليمان الخطابي(ت:388هـ) وله رسالة في إعجاز القرآن، هي كالتأصيل للبحث في التفسير البياني.
- وأبو منصور الثعالبي(ت:427هـ) له كتاب "الإعجاز والإيجاز" وقد جعله على عشرة أبواب، خصص الباب الأول للإعجاز البياني في القرآن.
- وعبد القاهر الجرجاني(ت:471هـ) في كتابه "دلائل الإعجاز" وهو من أجلّ الكتب في تأصيل البحث في التفسير البياني.
- وابن أبي الإصبع المصري في كتابه ""تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن" وهو كتاب قيّم.
- والسيوطي في كتابه "معترك الأقران في إعجاز القرآن".
11: كتب بديع القرآن
- ومن أجمع الكتب فيه وأجودها كتاب "بديع القرآن" لأبي محمد عبد العظيم
بن عبد الواحد ابن أبي الأصبع المصري(ت:654هـ) وكان قد جعل البحث في البديع
وظيفة عمره، في شبابه ومشيبه، وذاكر أذكياء العلماء ونبلاء القراء، ومن له
عناية بتدبر القرآن، وجمع كتباً كثيرة في البلاغة والبديع، ولخّص أوجه
البديع منها، وزاد عليها ما تحصّل له بالنظر والتأمّل.
ذكر في مقدّمة كتابه "بديع القرآن" أنه تحصّل له مما جمع ممن تقدّمه خمسة
وستون نوعاً، واستنبط هو واحداً وثلاثين نوعاً؛ فبلغ المجموع مائة وستة
وعشرين نوعاً من أنواع البديع، ثمّ أفرد ما يختص بالقرآن منها فكان مائة
نوع وثمانية أنواع.
قال: (فاستنبطت واحداً وثلاثين باباً لم
أُسبق في غلبة ظنّي إلى شيء منها، إلا أن يوجد في زوايا الكتب شيء من ذلك
لم أقف عليه؛ فأكون أنا ومن سبقني متواردين عليه، وما إخال ذلك إن شاء الله
تعالى)ا.ه.
- قال صفيّ الدين الحلّي: (سُلّم له منها
عشرون، وباقيها مسبوق إليه أو متداخل عليه، وكتابه المسمّى "التحرير" أصحّ
كتاب أُلّف في هذا العلم لأنّه لم يتّكل على النقل دون النقد)ا.هـ.
وما ذكره من أنواع البديع منه ما هو معدود من علم البيان، ومنه ما هو
معدود من علم المعاني، ولم يشتهر فصل "علم البديع" عنهما إلا بعده بزمن؛ إذ
قصره المتأخرون على المحسّنات المعنوية واللفظية.
وكتاب التحرير الذي ذكره صفي الدين لابن أبي الإصبع هو الكتاب المتقدّم
ذكره "تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن".
وقد قال في مقدّمته: (ولقد وقفت من هذا العلم على أربعين كتاباً منها ما هو منفرد به، وما هذا العلم أو بعضه داخل في بعضه)ا.هـ.
ولابن أبي الإصبع كتاب آخر لم يطبع فيما أعلم سمّاه "الخواطر السوانح في
كشف أسرار الفواتح" أي فواتح القرآن، وقد لخّصه السيوطي في "الإتقان" وفي
"معترك الأقران في إعجاز القرآن".
ولجلال الدين السيوطي كتاب سماه "قطف الأزهار في كشف الأسرار" لخّص فيه
ما بلغه من أقوال العلماء في بيان القرآن وبديعه ورتّبه على السور، ووصل
فيه إلى سورة التوبة ولم يتمّه، وهو من آخر كتبه.
12: كتب التناسب بين الآيات والسور
وهو علم لطيف يكشف عن جوانب مهمّة من التفسير البياني، ويجيب على إشكالات.
ذكر بدر الدين الزركشي في البرهان عن أبي الحسن الشهراباني أنه قال: (أول
من أظهر ببغداد علم المناسبة ولم نكن سمعناه من غيره هو الشيخ الإمام أبو
بكر النيسابوري، وكان غزير العلم في الشريعة والأدب، وكان يقول على الكرسي
إذا قرئ عليه الآية: لم جعلت هذه الآية إلى جنب هذه؟
وما الحكمة في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة؟
وكان يزري على علماء بغداد لعدم علمهم بالمناسبة)ا.هـ.
وأبو بكر النيسابوري(ت:324هـ)
وقد كتب في التناسب جماعة من العلماء كتباً منها:
1: البرهان في تناسب سور القرآن، لأبي الزبير الغرناطي، وهو كتاب قيّم لطيف.
2: نظم الدرر في تناسب الآي والسور، لأبي الحسن البقاعي، وكتابه أجمع الكتب في هذا العلم، لكن وقع فيه تكلّف كثير.
3: تناسق الدرر في تناسب السور لجلال الدين السيوطي.
4: مراصد المطالع في تناسب المقاطع لجلال الدين السيوطي
5: جواهر البيان في تناسب سور القرآن لعبد الله بن الصديق الغماري.
13: كتب علوم القرآن
وقد ذكر جماعة من العلماء المؤلفين في علوم القرآن أبواباً وثيقة الصلة
بالتفسير البياني، وذكروا فيها أمثلة كثيرة للطائف بيان القرآن، ومن هذه
الكتب:
1: البرهان في علوم القرآن لبدر الدين الزركشي(ت:794هـ).
2: تحبير التفسير لجلال الدين السيوطي(ت:911هـ)
3: الإتقان في علوم القرآن، له أيضاً.
4: الزيادة والإحسان لابن عقيلة المكي(ت:1150هـ)
14: كتب التفسير التي اعتني فيها بالتفسير البياني
وقد كان لجماعة من المفسّرين عناية ظاهرة ببلاغة القرآن والكشف عن لطائفه وحسن بيانه،
ومنهم: الزمخشري في كشّافه إلا أنّه كان معتزليّا جلداً مفتخراً
باعتزاله، مجتهداً في نصر بدعته بما أمكنه من أدوات البلاغة والبيان، ولذلك
وقع في تفسيره خطأ كثير تعقّبه فيه جماعات من العلماء، وأجاد في مسائل
أخرى كثيرة.
وللكشاف حواشٍ كثيرة من أجودها حاشية الطيبي المسمّاة "فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب".
وكشاف الزمخشري نقل منه جماعة من المفسرين واختصروا بعض عباراته ومنهم من
زاد عليها كما فعل الرازي في التفسير الكبير، والخازن، ونظام الدين
النيسابوري، والنسفي، والبيضاوي، وغيرهم.
ومن المفسرين الذين لهم عناية ظاهرة بالتفسير البياني: أبو السعود،
والشهاب الخفاجي والآلوسي، وابن عاشور وكتابه من أجود التفاسير البيانية بل
لا أعلم أجمع منه وأجود في تحرير مسائل التفسير البياني.
ولجماعة من العلماء المحققين كلام محرر في بعض مسائل التفسير البياني لا
يكاد يوجد نظيره في كتب التفسير، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن
القيّم.
15: رسائل التفسير البياني
وهذا النوع هو ألصق الأنواع بالتفسير البياني، وأكثرها عناية بتطبيقه.
وقد كتب جماعة من العلماء رسائل وفصولاً في تفسير بعض الآيات والسور
أبانوا فيها عن براعة في الإبانة عن لطائف البيان القرآني، وذكروا ما يدهش
ويبهر من مسائل وفوائد.
فمن تلك الرسائل ما هو مفرد مستقل، ومنها ما هو مضمّن في بعض كتبهم.
وقراءة هذه الرسائل والتمعّن فيها من أعظم ما يعين على اكتساب ملكة التفسير البياني بعد دراسة أصوله وقواعده وضوابطه.
ومن هذه الرسائل:
1: رسالة في تفسير قول الله تعالى: {قد أفلح من زكاها} لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أبان فيها عن براعة وتمكّن في علوم العربية.
2: فصل في تفسير قول الله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم ... } الآية لابن القيم ذكر فيه عشرين مسألة عامّتها من المسائل البيانية.
3: رسالة في تفسير قول الله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} للحافظ ابن رجب الحنبلي(ت:795هـ).
4. كفاية الألمعي في تفسير قول الله تعالى: {وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي ... } للحافظ ابن الجزري(ت:833هـ)، وهي رسالة طويلة بديعة ذكر فيها خمساً وأربعين مسألة.
5. فتح الجليل للعبد الذليل، لجلال الدين السيوطي(ت:911هـ)، وهي رسالة في تفسير قول الله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ... } الآية، استخرج منها نحو مائة وعشرين وجها بلاغياً.
.....
(6) السبيل إلى التمكّن في التفسير البياني:
من يريد دراسة التفسير البياني والتمكنَ فيه يحتاج إلى ثلاثة أمور مهمة:
الأمر الأول: التأسيس العلمي في جملة من
العلوم من أهمها: النحو، والصرف، والاشتقاق، ومعاني المفردات، والبلاغة
بفروعها الثلاثة البيان والمعاني والبديع.
وأن يأخذ بحظّ من المعرفة بالقراءات وتوجيهها والوقف والابتداء.
فهذه العلوم لا غنى لطالب التفسير البياني عنها، وتقصيره في أحدها له
أثره في ضعفه في التفسير البياني وإدراك جماليات الخطاب القرآني.
وتحصيل ما يصل به طالب العلم إلى مرحلة المتوسّطين في هذه العلوم ليس
بالأمر الشاق على الطالب المجتهد إذا أتاه من بابه، وسلك سبيله؛ فإنه يكفيه
أن يدرس مختصرات في هذه العلوم بإشراف علمي، ثم يقرأ في كتب مختارة منها
ويعتني بالأمثلة التطبيقية على مسائل التفسير البياني.
فإذا فعل ذلك واجتهد في إتقان ما يدرس وكانت له ملَكة تساعده تيسّر له سلوك سبيل التمكن في التفسير البياني بإذن الله.
مع العناية بأخذ نصيب وافر من دراسة أصول التفسير والعقيدة حتى لا
يخرج به نظره في التفسير البياني إلى أقوال مخالفة لأصول التفسير أو لمنهج
أهل السنة في التفسير.
وهذه العلوم هي بمثابة التأسيس للنظر في التفسير البياني.
الأمر الثاني: القراءة في أمثلة التفسير
البياني مما كتبه العلماء من الرسائل المفردة في التفسير البياني، وفي كتب
التفسير التي يعتني أصحابها بالتفسير البياني، وما يتيسر له من ذلك في كتب
الأنواع التي تقدّم ذكره.
وليحرص في قراءته على استكشاف جوانب الإجادة والإحسان في تلك المسائل؛
ومحاولة تطبيق أمثلة ما يقرأ على نظائره؛ فالقراءة المنظّمة الواعية تثري
صاحبها بمخزون علمي حسن يعينه على تحصيل أدوات التفسير البياني وتحسين ملكة
التفسير؛ ليجد في نفسه بعد مدّة من القراءة المنظمة استعداداً لمحاكاة
أقوال المفسرين في التفسير البياني.
الأمر الثالث: دراسة أصول التفسير البياني واستعمالُ أدواته تحت إشراف علمي، دراسة يُعنى فيها بالأمثلة التطبيقية.
والاستكثار من هذه الأمثلة التطبيقية يسهّل كثيراً على الدارس معرفة
طرق تحرير مسائل التفسير البياني، ومسالك العلماء فيها، وتعينه على تطبيق
نظير ما درس من المسائل على ما لم يدرس.
والتأصيل العلمي في أيّ علم من العلوم يختصر على طالب العلم كثيراً من
الجهد والوقت، فلو فرضنا أن باباً من أبواب التفسير البياني أمثلته في
القرآن الكريم نحو مائتي مثال أو أكثر، ودرس الطالب هذا الباب دراسة
تأصيلية وأدّى تطبيقاتها على نحو عشرة أمثلة تحت إشراف علمي؛ فإن بقية
المسائل تكون واضحة له بإذن الله تعالى دون عناء.
فإذا أضاف إلى هذا الباب نحو عشرين باباً بأمثلتها وتطبيقاتها؛ فإنّه
سيكتسب معرفة جيدة وتأصيلاً نافعاً جداً في التفسير البياني بإذن الله
تعالى.
وهذه الدروس هي مقصود هذه الدورة التي أسأل الله تعالى أن ينفع بها
ويبارك فيها، وأن يتقبل من معدّها ودارسيها، وأن يوفقنا جميعاً للعلم
النافع والعلم الصالح إنه هو السميع العليم.
(7) أبواب التفسير البياني:
التفسير البياني عمدته فهم الدلالات اللغوية على المعاني القرآنية، واستخراج اللطائف والأوجه التفسيرية.
ولذلك فإنّ مسائل التفسير البياني لا يمكن حصرها، لتفاوت القرائح
والفهوم في إدراكها، ولذلك لا يُستغرب أن يكون في آية واحدة نحو ثلاثين أو
أربعين مسألة بيانية، ولا يكاد يوجد في كتب التفسير منها سوى بضع مسائل.
ولو سئل أحد من علماء التفسير البياني أن يستخرج تلك المسائل لاستخرجها أو أكثرها من غير نظر في كتب التفسير.
وسبب ذلك تمكّنه من الأدوات البيانية التي تُستخرج بها المسائل واللطائف والأوجه التفسيرية.
وهذا من الأسباب التي تبيّن لك تعسّر كتابة تفسير بياني تامّ للقرآن
الكريم؛ فإنّه مما تفنى الأعمار دون بلوغه إذا رام عالم من العلماء التصدي
له.
ولذلك كان أمام العلماء المتقدمين مسلكان في ذلك:
أحدهما: الاقتصار على بعض الأوجه البيانية في تفاسيرهم الكبيرة؛ لغرض التمثيل وفتح الباب لفهم نظائرها الكثيرة.
والآخر: كتابة رسائل تفسيرية مفردة في بعض الآيات؛ ليسهبوا في التعريف بمسائلها البيانية.
وتوسّط جلال الدين السيوطي في محاولة له لجمع التفسير البياني فلخّص
ما بلغه من أقوال العلماء في بيان القرآن، على تجوّز كبير وفوات كثير، في
كتابه "قطف الأزهار في كشف الأسرار" وبلغ في ذلك إلى سورة التوبة ولم
يتمّه، ولم يستوف المسائل البيانية فيما ذكر ولم يقارب، لكنه تلخيص ينتفع
به طالب العلم، وجهد مشكور يضاف إلى جهوده الكثيرة المباركة في تيسير علوم
القرآن وتقريبها.
ولذلك فإنّ الأنفع لطالب العلم أن يدرس أصولاً في التفسير البياني
ليضبط قواعده، ويدرس أمثلته، ويتمرّن على استعمال أدواته حتى ينفتح له
الباب، ويكتسب ملكة علمية يتمكّن بها من استخراج المسائل البيانية
وتحريرها.
فكان من أوجه الحاجة العلمية تذليل السبيل للراغبين في دراسة التفسير
البياني بجمع أصول تعينهم على ضبط مسائله، وتفهّم قواعده وضوابطه، واكتساب
أدواته؛ على ترتيب يكون الأصل فيه مراعاة حال المفسّر، ومناسبة ما يدرسه
فيه لما درسه من قبل في أصول التفسير وطرقه؛ ليتصل التفسير البياني بتفاسير
السلف، فيتعرّف طرق الكشف عن التخريج البياني لأقوال السلف في التفسير.
وهذا مما يعينه على إحسان فهم أقوال السلف في التفسير، ويفتح له أبوابا من الجمع والترجيح بينها.
ولذلك فإني سأسلك في هذه الدورة العلمية مسلكاً في ترتيب المسائل قد
لا يوافق ترتيب بعض المباحث في بعض العلوم التي ألّفت الكتب فيها لأغراض
روعي فيها حال دارسي تلك العلوم.
والعلماء في تختلف مناهجهم في تناول المسائل، ويختلفون في ترتيب
أبوابها، بل أهل كلّ علم لهم طرائق متنوّعة في ترتيب الأبواب وعرض المسائل
ودراستها.
وتتبّع المسائل والمباحث البيانية في تلك الكتب قد يشقّ على طالب العلم؛ لكثرتها وتشعبها، واختلاف المناهج في دراستها.
وقد اجتهدت في جمع ما أرجو أن يعين طلاب علم التفسير على اكتساب قدر
مهم من التأسيس في التفسير البياني يتمكنون به من الانطلاق في كتابة
الرسائل التفسيرية، واستخراج الأوجه واللطائف القرآنية.
والذي تلخّص لي مما يمكن للدارس البدء به من أبواب التفسير البياني ثلاثة أبواب:
الباب الأول: دلالات المفردات القرآنية.
الباب الثاني: دلالات تراكيب الجمل.
الباب الثالث: دلالات الأساليب اللغوية
فإذا أحكم طالب العلم دراسة هذه الأبواب تيسّر له البحث في التفسير البياني بإذن الله، وأمكنها استكمال بقية الأبواب التي يحتاجها.
والله الموفق والمستعان.
(8) وصايا وإرشادات لدارسي دورة أصول التفسير البياني:
أوصي دارسي دورة أصول التفسير البياني بجملة من الوصايا:
الوصية الأول: أن يعتنوا بتصحيح النيّة وتعاهد القلب عند دراسة مسائل القرآن،
وأن يعلموا أن صلاح الشأن من صلاح القلب، وأصل ذلك ما يكون فيه من الخير الذي يحبّه الله ويعطي عليه {إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم}
والعلم عطاء من الله؛ والمعاصي آفات يسلب بها العبد بعض النعم، فمن وعى
هذه الوصية علم ميدان التنافس بين الصالحين، ومتعلَّق إيتاء الخير والفضل
من الله؛ وعلم أنه كلما كان نصيب قلبه من الخير أكبر كان رجاؤه لعطاء الله
أعظم.
والوصية الثانية: أن يأخذوا
هذه الدروس بقوّة وعزيمة، وأن يجتهدوا في تفهّم هذه الأصول ودراسة أمثلتها،
وأداء تطبيقاتها، فإنّ المقصود من وضع هذه التطبيقات أن يتعلّم بها الدارس
كيف يحاكي علماء التفسير البياني في تحريرهم للمسائل العلمية؛ فإذا أحسن
تحريرها فتلك علامة بيّنة على جودة فهمه وحسن ملكته العلمية.
والوصية الثالثة: أن يحرص
الدارس على التأدّب مع القرآن الكريم فيما يكتبه من عبارات، وما ينطق به
لسانه؛ فإن القرآن كلام الله تعالى، ولا ينبغي لطالب العلم أن يجزم بما لا
دليل عليه، وليختر العبارات التي فيها مندوحة عن التورط في الجزم بلا دليل.
كأن يقول: يظهر لي أن الحكمة كذا وكذا، بدلاً من قوله: الحكمة هي كذا وكذا.
وكذلك كلّ ما يُفهم منه تعيين مراد الله تعالى من غير دليل بيّن سوى
اجتهاد يقدّمه الدارس في مقام الدراسة؛ فإنّ له مندوحة في العبارة يخرج بها
عن التضييق على نفسه بعبارة يجزم فيها بالمراد إلا أن يكون له في ذلك دليل
صحيح يستند إليه.
وكثيراً ما يغيب عن بعض المتدبرين مخالفة ما يستخرجونه بتدبرهم الناقص
لنصّ صحيح أو إجماع، وكل تفسير خالف نَصّاً أو إجماعاً فهو تفسير باطل.
والوصية الرابعة: أن لا يستصعب الطالب
دراسة هذا العلم وأداء التطبيقات فيه، وأن لا يملَّ من طول ما يمكث في
تحرير المسائل؛ فإنه في طلبٍ للعلم فليحتسب أجر المشقة وطول الوقت؛ فيجمعَ
بين الأجر وبلوغ مراده بإذن الله.
ولتعلموا أنّ طالب العلم لا يختصر على نفسه الجهد والوقت بمثل إتقان ما يدرس، وضبط المسائل، ومداومة البحث والتحرير.
فإذا تمكّن الدارس من إحسان استعمال الأدوات العلمية وجد من نفسه سرعة
فهم وإدراك تعينه على حفظ كثير من الأوقات التي تذهب على بعض الباحثين
بسبب جهلهم ببعض الأدوات العلمية.
فتتحقق له السرعة التي ينشدها من بابها الذي ينبغي أن تُطلب به وهو
ضبط الأصول العلمية؛ فالوقت الذي كان يمضيه في أداء التطبيقات الأولى يكفيه
بعد ذلك أن يدرس في مثله أضعاف ما كان يدرسه من المسائل.
والوصية الخامسة: أن يحذر
اليأس والإحباط من يرى من نفسه ضعفاً في البداية؛ فإن الاجتهاد والمداومة
يبلغ بهما الطالب مراده ولو طال عليه الوقت، ولقي مشقة في الطلب؛ ولا ينبغي
أن يوازن بين حاله وهو في أوّل الدراسة وبين حال العلماء الماهرين الذين
أمضوا سنوات طويلة في دراسة المسائل وتحريرها؛ لأنّ البدايات لا يقاس
عليها؛ وليتبيّن لك الفرق بالمثال انظر إلى حال المتمرّن على الجري والسباق
وشدة احتماله، وحال من يريد أن ينافسه وهو لم يتدرّب بعد، ولم يهيّء جسده
لما هيّأ له العدّاء الماهر جسده.
فكيف يطالب نفسَه أن يكون كمثله وهو في أوّل الأمر.
وتحصيل المهارة إنما يكون بالصبر على التكرار المنتظم المتقن حتى
ترتاض النفس لها، وتصبح تلك المهارة لها كالسجية التي لا تتكلفها، فحينئذ
يكون اكتسابه للمهارة اكتساباً صحيحاً.
وكثير من طلاب العلم إنما يعوّقهم عن تحصيل كثير من المهارات ضعف
الصبر على احتمال التكرار، واكتفاؤهم بالمعرفة الأولية التي لا تُكسب
مهارة، ولا تفيد رسوخاً، وإنما هي معرفة سهلة التحصيل سريعة الرحيل.
وكثير من العلماء لو انصرفوا عن طلب العلم لما كان يعرضهم لهم من
الملل ومشاقّ البدايات لما بلغوا ما بلغوا من المرتبة العالية في العلم،
ولكنّهم أخذوا أنفسهم بالاجتهاد والمداومة حتى وصلوا.
ومن سلك سبيلهم نال كما نالوا.
وقديما قيل: من جدّ وجد، ومن سار على الدرب وصل.
تنبيه:
وأختم هذه المقدمات بالتنبيه على أنّ هذه الدروس التي سندرسها في هذه الدورة هي جزء من دروس دورة السبيل إلى فهم القرآن
وهي دورة عامة اجتهدت فيها في جمع ما يعين
الدارس على فهم القرآن من الدلالات الأصولية واللغوية وطرق استخراج المسائل
التفسيرية والبيانية والسلوكية ودراستها، لكنّني لما رأيت دروسها قد طالت
قسمتها إلى دورتين:
الدروة الأول: أصول تدبّر القرآن، وقد مضى القسم الأول منها وبقي القسم الثاني.
والدورة الثانية: أصول التفسير البياني.
أسأل الله تعالى أن يعين على إتمام هذه الدروس، وأن ينفع بها ويبارك فيها إنه حميد مجيد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.