الدروس
course cover
الدرس الثاني: دلالات المفردات اللغوية (دلالة الوضع اللغوي )
2 May 2020
2 May 2020

8522

0

0

course cover
أصول التفسير البياني

القسم الأول

الدرس الثاني: دلالات المفردات اللغوية (دلالة الوضع اللغوي )
2 May 2020
2 May 2020

2 May 2020

8522

0

0


0

0

0

0

0

الدرس الثاني: دلالات المفردات اللغوية
( دلالة الوضع اللغوي )


عناصر الدرس:
أنواع دلالات المفردات القرآنية.
أولا: دلالة الوضع اللغوي.
...- المثال الأول: معنى القنوت في قول الله تعالى: {وقوموا لله قانتين}.
...- المثال الثاني: "سامدون" في قول الله تعالى: {وأنتم سامدون}.
...- المثال الثالث: معنى الصريم في قول الله تعالى: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)}.
...- المثال الرابع: معنى "أطوار" في قول الله تعالى: {وقد خلقكم أطواراً}.
...- تنبيه: ليس كل ما تحتمله المفردة من معانٍ في اللغة تفسّر به في الآية.
...- مثال على استبعاد ما لا تحتمله الآية من معاني المفردات.
...- سبيل معرفة معاني المفردات.
أمثلة من أقوال المفسرين في بيان معاني المفردات:
...- المثال الأول: معنى الإلّ في قول الله تعالى: {كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبولا فيكم إلا ولا ذمة}.
...- المثال الثاني: معنى الثياب في قول الله تعالى: {وثيابك فطهّر}.
...- المثال الثالث: معنى "سُخريا" في قول الله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)}.
تطبيقات الدرس الثاني

عبد العزيز بن داخل المطيري

#2

2 May 2020

أنواع دلالات المفردات القرآنية:
المفردات جمع مفردة، فتعمّ أنواع الكلمة: الاسم والفعل والحرف؛ فكلّ نوع من هذه الأنواع الثلاثة يُعدّ الواحد منه مفردة لغوية؛ مثل: زيد، وقام، وإلى.
سمّيت مُفردة لمّا نُظر إليها نظراً مجرداً عن تركيبها في الجملة؛ فكأنّها أُفردت بالنظر عن موضعها في الجملة.
وقد بُنيت المعاجم اللغوية وكثير من كتب غريب القرآن وغريب الحديث على المفردات اللغوية.
واللغة العربية تمتاز بثراء مفرداتها وسعة دلالاتها وتنوّع معانيها بحسب السياق الذي جاءت فيه، ولذلك قد تحتمل المفردة الواحدة معاني عدة بأوجه متنوعة من الدلالات: فتدلّ بدلالة وضعها اللغوي، وبدلالة المراد بها في الآية، وبدلالة محلها الإعرابي، وبدلالة تصريفها، وبدلالة اشتقاقها، وبدلالة تناسب حروفها.

واجتماع هذه الدلالات كلّها في المفردات القرآنية كثير جداً، وقد يكون في بعض المفردات بعض هذه الدلالات دون بعض؛ كالمفردات الجامدة غير المتصرّفة، والمفردات التي لا محلّ لها من الإعراب.

وهذه الدلالات المتنوعة تفتح للمتدبّر أبواباً من فهم القرآن، والوقوف على سعة معانيه وتنوّع دلالاته، وعظيم بركة ألفاظه وهداياته.
وسنتناول هذه الدلالات بالشرح، والله المستعان، وبه التوفيق.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#3

2 May 2020

1: دلالة الوضع اللغوي
المفردة الواحدة قد تُطلق في لسان العرب على معانٍ متعددة، واستقراء هذه المعاني يفيد المفسّر في اختيار أقرب تلك المعاني إلى المراد بالمفردة في الآية.
وقد تحتمل دلالة المفردة في الآية معاني متعددة كلها صحيحة يصحّ حمل الآية عليها.
وسأورد أمثلة لتوضيح المقصود بعون الله.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#4

2 May 2020

المثال الأول: معنى القنوت في قول الله تعالى: {وقوموا لله قانتين}
القنوت من المفردات التي تحمل معاني متعددة فتطلق على: الطاعة، والسكوت، والخشوع، والقيام الطويل، والدعاء، والعبادة، والصلاة.

وهذه المعاني متقاربة من جهة الأصل، وتدلّ على وجوه من التعبّد داخلة في معنى القنوت، ولذلك تنوعت أقوال المفسرين في المراد بالقنوت في هذه الآية بحسب ما ظهر لهم من المعاني:
المعنى الأول: الطاعة، {وقوموا لله قانتين} أي: مطيعين، وهو قول الشعبي، وعطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جبير، وطاووس، والضحاك، وعباية بن رفاعة بن رافع بن خديج الأنصاري، وروي عن ابن عباس والحسن، واختاره البخاري في صحيحه.

والمعنى الثاني: السكوت وترك الاشتغال بغير ما قنت له، وهو قول إبراهيم النخعي، وعكرمة، والسدي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وروي عن ابن مسعود وزيد بن أرقم استخراجاً.
- قال زيد بن أرقم رضي الله عنه: «كنّا نتكلّم في الصّلاة، يكلّم أحدنا أخاه في حاجته» حتّى نزلت هذه الآية: {حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى وقوموا للّه قانتين} «فأمرنا بالسّكوت» رواه البخاري ومسلم من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الحارث بن شبيل عن أبي عمرو الشيباني عن زيد بن أرقم.
- وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فيرد علينا السلام، حتى قدمنا من أرض الحبشة، فسلمت عليه فلم يرد علي، فأخذني ما قرب وما بعد؛ فجلست حتى إذا قضى الصلاة، قال:« إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وقد أحدث من أمره أن لا يُتكلَّم في الصلاة» رواه الشافعي والحميدي وعبد الرزاق وأحمد وابن أبي شيبة والنسائي كلّهم من طريق سفيان بن عيينة عن عاصم بن أبي النجود عن زرّ عن عبد الله، وإسناده صحيح.
ورواه ابن جرير من طريق الحكم بن ظهير عن عاصم به، وزاد: (ونزلت هذه الآية:{وقوموا للّه قانتين}).
والحكم بن ظهير ضعيف، وهذه الزيادة معلولة.
وفي مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم من حديث الفضيل بن مرزوق عن شقيق بن عقبة عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: ( نزلت هذه الآية: [حافظوا على الصلوات وصلاة العصر] فقرأناها ما شاء الله، ثم نسخها الله، فنزلت:{حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى}).
فقال رجل كان جالساً عند شقيق له: هي إذن صلاة العصر!
فقال البراء: (قد أخبرتك كيف نزلت، وكيف نسخها الله، والله أعلم).
والبراء بن عازب من صغار الأنصار من طبقة زيد بن ثابت وأنس بن مالك وأبي سعيد الخدري، ردّه النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد لصغر سنّه، وأجازه في الخندق.
وللعلماء أقوال في الجمع بين الحديثين ليس هذا محلّ بسطها.

والمعنى الثالث: الخشوع بالقلب والجوارح، وهو قول مجاهد، والربيع بن أنس البكري.
- قال ليث عن مجاهد في قوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} قال: (من القنوت: الركوع، والخشوع، وغض البصر، وخفض الجناح من رهبة الله).
قال: (وكانت العلماء إذا قام أحدهم إلى الصلاة هاب الرحمن أن يشد بصره إلى شيء، أو يلتفت، أو يقلب الحصى، أو يعبث بشيء، أو يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا -إلا ناسيًا- ما دام في الصلاة). رواه ابن المبارك في الزهد، وسعيد بن منصور في سننه، ومحمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة، وابن جرير في تفسيره، وابن أبي حاتم في تفسيره، وفي رواية عند ابن جرير عن مجاهد أنه قال: (إنّ من القنوت الرّكود ثمّ ذكر نحوه).
والركود في هذا الموضع سكون الجوارح وهو في معنى خشوعها.

المعنى الرابع: القيام الطويل، وهو قول ابن عمر رضي الله عنهما.
- روى نافع عن ابن عمر أنه كان إذا سئل عن القنوت، قال: «ما نعلم القنوت إلا طول القيام وقراءة القرآن» رواه ابن أبي شيبة وابن جرير من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع، وإسناده صحيح.
- وقال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصلاة طول القنوت» رواه مسلم.
وقال النووي: (المراد بالقنوت هنا القيام باتفاق العلماء فيما علمت).
- وفي سنن أبي داوود من حديث ابن جريج قال: أخبرني عثمان بن أبي سليمان، عن علي الأزدي، عن عبيد بن عمير عن عبد الله بن حبشي الخثعمي رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سُئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: (طول القيام).
- وفي صحيح مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما يعدل الجهاد في سبيل الله عزَّ وجل؟
قال: « لا تستطيعونه »
قال: فأعادوا عليه مرتين، أو ثلاثا كل ذلك يقول: « لا تستطيعونه »
وقال في الثالثة: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صيام، ولا صلاة، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله تعالى».

والمعنى الخامس: الدعاء، وهو رواية عن ابن عباس.
- قال عوف الأعرابي، عن أبي رجاءٍ العطاردي، قال: صلّيت مع ابن عبّاسٍ الغداة في مسجد البصرة، فقَنَتَ بنا قبل الرّكوع، وقال: (هذه الصّلاة الوسطى الّتي قال اللّه: {وقوموا للّه قانتين}). رواه ابن جرير.
ومن معاني القنوت في اللغة الانتصاب للدعاء، ومنه قول دِعْبل الخزاعي يرثي الحسين بن علي رضي الله عنهما ويذكر دعاءه على قاتليه:

سأقنتُ طولَ الدهرِ ما هبَّت الصَّبا ... وأقنتُ بالآصالِ والغدواتِ

وهذا الدعاء منه ما هو في غير أوقات الصلوات.
- قال أبو إسحاق الزجاج: (المشهور في اللغة والاستعمال: أن القنوت الدعاء في القيام، وحقيقة القانت أنه القائم بأمر اللّه، فالداعي إذا كان قائما خصَّ بأن يقال له قانت؛ لأنه ذاكر الله عزّ وجلّ وهو قائم على رجليه. فحقيقة القنوت العبادة والدعاء لله في حال القيام.
ويجوز أن يقع في سائر الطاعة، لأنه إن لم يكن قياماً بالرجلين فهو قيام بالشيء بالنية)ا.هـ.

والمعنى السادس:العبادة والصلاة، {وقوموا لله قانتين} أي مصلين متعبّدين، وهذا القول مروي عن ابن عباس وابن عمر فيما ذكره ابن أبي حاتم، واستدلّ له بعض المفسرين بقول الله تعالى في شأن مريم: {وكانت من القانتين} أي المتعبدين بالصلاة.
وبه فُسّر قول الله تعالى: {أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً}

قال ابن جرير: (والقنوت: أصله الطّاعة للّه، ثمّ يستعمل في كلّ ما أطاع اللّهَ به العبدُ).

فتبيّن بذلك أنّ القنوت وصف جامع لأنواع من العبادات بعضها أعمّ من بعض:
- فالطاعة قنوت لأن المطيع قانت للمطاع منقادٌ له مستكين لأمره.
- والعبادة قنوت لما فيها من الذلّ والانقياد للمعبود.
- والصلاة نفسها قنوت لأنها من أظهر شعائر العبادة والقيام بواجب الطاعة لله.
- والقيام في الصلاة قنوت لأن القائم منتصبٌ لعبادة ربّه جلّ وعلا منقطع عن غيره.
- والخشوع في الصلاة قنوت لأنه من تمام القيام بالطاعة لله تعالى والإقبال عليه.
- والسكوت عن الكلام بغير الذكر في الصلاة قنوت لأنه من واجبات الطاعة.
- والدعاء قائما قنوت لأن من يدعو قائماً في الصلاة أو خارجها منتصب لسؤال الله تعالى والتعبد له بأعظم العبادات وهي الدعاء، وكذلك المصلي رغباً ورهباً قانت بصلاته لأنها تؤول إلى معنى الدعاء؛ فهو يتقرب إلى الله تعالى بالصلاة ويسأله بلسان حاله ومقاله رغبة ورهبة.

وقول أبي إسحاق الزجاج: (ويجوز أن يقع في سائر الطاعة، لأنه إن لم يكن قياماً بالرجلين فهو قيام بالشيء بالنية) فيه تنبيه على أنّ من قام بأمر الله تعالى في أيّ شأن من الشؤون كالدعوة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مخلصاً لله تعالى فهو قانت؛ لأنه قائم بطاعة الله تعالى منتصبٌ لذلك كما قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ}

والمقصود أنّ هذه المفردة الواحدة دلّت على معانٍ جليلة عظيمة كلها مما يصحّ أن تندرج في أمر الله تعالى لعباده بقوله: {وقوموا لله قانتين}

عبد العزيز بن داخل المطيري

#5

2 May 2020

المثال الثاني: "سامدون" في قول الله تعالى: {وأنتم سامدون}
سامدون جمع سامد، ولهذه المفردة في لسان العرب معانٍ متعددة، بين بعضها تقارب، فتطلق على الغناء، وعلى القيام الطويل، والسير الشديد الدائم، والغفلة والذهول، واللهو، والعبوس والوجوم، والشموخ بالرأس تكبراً، وهذه المعاني المتعددة في اللغة لها شواهدها ودلالاتها.
وقد فسّر المفسرون من الصحابة والتابعين وتابعيهم قول الله تعالى: {وأنتم سامدون} بعامّة هذه المعاني، وهي معانٍ صحيحة تحتملها الآية، وظاهر حال المشركين في وقت النزول وسائر المخالفين إلى وقتنا الحاضر أنهم لا يخلون من حالة منها؛ فدلّت الآية بهذه المفردة على كلّ هذه الحالات من غير تعارض.

فالمعنى الأول: وهو الغناء؛ هو تفسير ابن عباس رضي الله عنهما، ومولاه عكرمة.
- قال عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {سامدون} قال: (هو الغناء، كانوا إذا سمعوا القرآن تغنَّوا ولعبوا، وهي بلغة أهل اليمن، يقول اليماني إذا تغنَّى: اسْمُد). رواه عبد الرزاق وابن جرير من طرق عن عكرمة.
- وقال عكرمة: {وأنتم سامدون} قال: (يعني تتغنون، وهي بالحِمْيرية) رواه ابن جرير وعلّقه البخاري في صحيحه.
والأظهر أن هذه اللغة لا تختص بأهل اليمن؛ فقد قال أبو زبيد الطائي من قصيدة له:

فتخالُ العزيفَ فيها غِناءً ... للندامَى من شاربٍ مسمودِ

"العَزِيف" فعيل بمعنى مفعول، يريد به الأصوات التي تُسمع بالليل في الخلاء كأنّها عزفُ ألحان، ومن العرب من ينسبها للجنّ،كما قال الأعشى:

وبَلْدَةٍ مثلِ ظَهْرِ التُّرْسِ موحشة ... للجنّ بالليل في حافاتها زَجَلُ
وقال جران العود:
حَمَلْنَ جِرَانَ العَوْدِ حتى وَضَعْنَه ... بعَلْياءَ في أرجائها الجنّ تَعْزِفُ

فشبَّه أبو زبيد ما سمعه من الأصوات بالغناء الذي يُغنَّى به شاربُ الخمر المسمود؛ فالمسمود هو المغنَّى له، والسامد الذي يغنّي.
وأبو زبيد من قبيلة طيء، وكانت منازلها في حائل وما جاورها في شمال جزيرة العرب، وهو شاعر نصراني أدرك الجاهلية والإسلام ولم يسلم، وكان في العراق زمن خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه.

وهذا المعنى يؤيده ما دلّ من الأدلة على أنّ من الكفار من كان يعارض القرآن باللغو فيه، كما قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}
- قال ابن أبي نجيح والقاسم بن أبي بزة عن مجاهد: «المكاء والتصفير، وتخليط من القول على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ، قريش تفعله» رواه ابن جرير.
فالسمود الذي وقع من المشركين عند سماع القرآن ضرب من اللغو فيه.

والمعنى الثاني: القيام الطويل، والانتصاب للشيء، يقال: سمدت له أي قمت له.
- قال أبو خالد الوالبي: خرج علينا عليّ رضي الله عنه ونحن قيام أي: ننتظر الصلاة، فقال: (مالي أراكم سامدين؟) رواه ابن جرير.
- وقال إبراهيم النخعي: (كانوا يكرهون أن ينتظروا الإمام قياما ولكن قعودا، ويقولون: ذلك السمود). رواه أبو عبيد وابن جرير.
ولذلك نُسب إلى إبراهيم النخعي أنه فسر آية النجم بهذا المعنى.
وهذا يصدق على حال بعض المشركين الذين كانوا ينتصبون قائمين لسماع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم قياماً طويلاً، يتعجّبون منه، وتجذبهم حلاوة ألفاظه وعذوبة معانيه، وعجائب أخباره، وحسن بيانه الذي لا يضاهيه بيان، ثم يمنعهم الكبر من الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم واتّباعه.
وهذا المعنى يؤيّده قول الله تعالى قبلها: {أفمن هذا الحديث تعجبون}.
فهم يسمدون أنفسهم قياماً لاستماع القرآن وتعجّبا منه ثمّ لا يؤمنون، وهذا توبيخ لهم، وتعريض بضعف عقولهم وسوء اختيارهم لأنفسهم.

والمعنى الثالث: السير الشديد الدائم ، يقال لمن أدأب نفسه في السير: سَمَدَ نفسه، وسمد دابّته، وهو سامد إذا ألزمها السير الشديد الطويل الذي فيه عنت ومشقة، قال ذو الرمّة:

وبعد سَمْدِ القَرَبِ المسْمُود ... يخرجْن من ذي ظُلَمٍ منضودٍ

- قال أبو نصر الباهلي: ("السمد": سير الليل، يسمدون عليها إلى الصباح، يبيتون على إبلهم، "القرب": إذا كان بينك وبين الماء ليلةٌ تصبح من غدها على الماء، و"المنضود": المتراكب).
وقال أبو نخيلة:

وَقلت للعيسِ اعتلي وجدّي ... فَهِيَ تخْدِى أحسنَ التخَدّي
قدِ ادَّرَعْن فِي مسيرٍ سَمْدِ ... لَيْلًا كلون الطيلسان الجرْدِ

وقال رؤبة بن العجاج:

ما زال إسآد المطايا سمدا ... تستلب السير استلابا مسدا

وهذا المعنى من أشهر معاني هذا اللفظ عند العرب، وبينه وبين الذي قبله تناسب.
وتفسير الآية على هذا المعنى له ما يؤيّده من دلالة الأدلّة الكثيرة على تبكيت المشركين وتوبيخهم على ما أمعنوا فيه من الغواية والضلال، وأدأبوا أنفسهم عليه وسمدوها له، في مسيرهم الشديد الدائم في طرق الباطل.
ومن شأن السامد في مسيره أنه لا يلوي على شيء؛ ولا يلتفت إلى غير غايته، فوصف حالهم أحسن الوصف إذ شبّه السير المعنوي بالسير الحسي.

والمعنى الرابع: الغفلة والذهول عن الشيء، ومنه قول عبد الله بن الزبير الأسدي من أسد بن خزيمة:

رمى الحَدَثَانُ نسوةَ آلِ حربٍ ... بمقدارٍ سَمَدْنَ له سمودا
فردَّ شعورهنَّ السودَ بيضاً ... وردَّ وجههنَّ البيضَ سُودا

والمقدار مفرد المقادير، وهو الأمر الذي قدّر من المصائب التي أصابتهنّ فأذهلتهنّ، وأعقبتهنّ الغفلة عن شؤونهن.
فالسمود حالة تعتري الإنسان تذهله عما حوله، وهذا الوصف يصدق على بعض من كان يسمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين، وحال أشباههم إلى قيام الساعة.
وعلى هذا المعنى قول الحسن وقتادة وعبد الرحمن بن زيد في تفسير آية النجم {سامدون}: أي غافلون.

والمعنى الخامس: اللهو، وهو قريب من المعنى الذي قبله وبينهما فرق.
قال الضحاك في تفسير قول الله تعالى: ({وأنتم سامدون} قال: لاهون معرضون). رواه ابن جرير، وهو رواية عن ابن عباس.

والمعنى السادس: الوجوم والعبوس.
- قال مجاهد: ({وأنتم سامدون} قال: (البرطمة). رواه ابن جرير، وقدّمه البخاري في صحيحه، وفي رواية عند ابن جرير قال: «كانوا يمرّون على النبي صلى الله عليه وسلم غضابا مبَرْطِمين»
والبرطمة من آثار العبوس بالوجه، وهو وصف لحال بعض المشركين عند سماع القرآن.
وهذا المعنى يدلّ له قول الله تعالى: { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)}

والمعنى السابع: الشموخ والاستكبار، وهو رواية عن الضحاك.
الشامخ الذي يرفع رأسه، وقال الخليل بن أحمد: (كل رافع رأسه فهو سامد).
وفي تفسير ابن جرير من طريق سفيان الثوري عن حكيم بن الديلم، عن الضحاك، عن ابن عباس، {وأنتم سامدون} قال: «كانوا يمرون على النبي صلى الله عليه وسلم شامخين، ألم تروا إلى الفحل في الإبل عَطِنا شامخا».
وهذا وصف يصدق على طائفة منهم.

فانظر كيف دلّت مفردة واحدة على معانٍ متعددة تصدق على طوائف كثيرة من الكفار والمشركين، وكيف دلَّت على تبكيتهم وتوبيخهم بأسلوب عربيّ مبين.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#6

2 May 2020

المثال الثالث: معنى الصريم في قول الله تعالى: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)}
وقد اختلف فيها المفسرون على أقوال:
القول الأول: الليل، وهو قول الفراء، وروي عن ابن عباس ولا يصحّ عنه.
والقول الثاني: الصبح، ذكره الأصمعي وقطرب وغيرهما.
وتوجيه هذين القولين أنّ الصريم من الأضداد فيطلق على الليل وعلى النهار، فكل واحد منهما يتصرّم من الآخر، ولكل واحد من الوصفين مناسبة؛ فالليل دالّ على سواد الجنّة بعد احتراقها، والصبح المتصرم دالٌّ على الفوات، كما تقول العرب فيما فات: كأنه أمس الذاهب، أي فات ولا يُرجى عوده.
والقول الثالث:كالزرع إذا حُصد، أي هشيماً يابساً، وهو قول الثوري والسدي فيما حكاه ابن كثير.
وتوجيهه أنّ الصريم بمعنى المصروم، وصَرْم الزرع حصاده؛ فكأنّ جنَّتهم مصرومة لخلوّها من الثمار.
والقول الرابع: الرمل المتصرّم من معظم الرمل، ذكره أبو عبيدة وغيره.
وهو دالٌّ على الفوات أيضاً.
والقول الخامس: أرض باليمن تُدعى الصريم، قيل إنها لا تنبت شيئاً، وهو قول سعيد بن جبير.
وهذه الأرض إن كانت معروفة عند العرب وقت النزول فهي مما يحتمله معنى الآية.

وهذه المعاني ذكر أكثرها البخاري في صحيحه فقال: (قال ابن عباس: {لضالون} «أضللنا مكان جنتنا» وقال غيره: {كالصريم}: " كالصبح انصرم من الليل، والليل انصرم من النهار، وهو أيضا: كل رملة انصرمت من معظم الرمل، والصريم أيضا: المصروم، مثل قتيل ومقتول)ا.هـ.

فهذه المفردة الواحدة دلّت على معانٍ كثيرة صالحة للتشبيه، وهذا قدر معجزٌ في التشبيه، وهو من أوجه إعجاز القرآن، لا يُعرف له نظير بهذه الكثرة في كلام العرب.
- قال ابن عاشور : (وإيثار كلمة الصريم هنا لكثرة معانيها وصلاحية جميع تلك المعاني لأن تراد في الآية).

عبد العزيز بن داخل المطيري

#7

2 May 2020

تنبيه: ليس كل ما تحتمله المفردة من معانٍ في اللغة تفسّر به في الآية
ويجب التنبّه إلى أنه ليس كل ما تحتمله المفردة من معان في اللغة تفسّر به في الآية، فيُستبعد منها ما يأباه التركيب والسياق وما خالف مقصد الآية وما خالف نصاً صحيحاً أو إجماعاً لأهل العلم.
ومن مزالق أهل الأهواء التفسير بالاحتمال اللغوي من غير نظر إلى الأصول الضابطة؛ فليتُفطّن لذلك.
- قال عُبيدة بن زيد النميري قال: سمعت الحسن [البصري] يقول: (أهلكتهم العجمة يتأوَّلون القرآن على غير تأويله). رواه ابن وهب في جامعه وابن جرير الطبري في تفسيره.
- وقال يحيى بن عتيق: قلت للحسن: أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم بها لسانه ويصلح بها منطقه؟
قال: (نعم، فليتعلَّمْها، فإنَّ الرجل يقرأ بالآية فيعيها بوجوهها فيهلك). رواه ابن وهب.
قوله: (فيعيها بوجوهها) هكذا ضبط اللفظ في الكتاب، ومعناه أن الناظر في معنى الآية قد يرى لها وجوها متعددة من المعاني، وليس له من المعرفة بالعربية ما يصحّ له به تمييز المعنى الصحيح من غيره، فيفهم من الآية غير ما أريد بها فيحمله ذلك على اعتقاد باطل أو عمل سيّء لا يُعذر فيه فيهلك.
وسبب الهلاك هو اتباع المتشابه والإعراض عن المحكم، وهو نوع من الزيغ.
والرواية المشهورة عن الحسن: (فيعيا وجهها فيهلك). وقد تقدّم شرحها.

والمقصود أن المفردة وإن كانت تحتمل معاني متعددة في اللغة في سياقات مختلفة فلا يقتضي ذلك أن تكون كلّ تلك المعاني مقبولة في سياق الآية.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#8

2 May 2020

مثال على استبعاد ما لا تحتمله الآية من معاني المفردات:
لفظ "الفلق" يستعمل في لسان العرب لمعانٍ متعددة صحيحة ولها شواهد كثيرة:
أحدها: الصبح، وهو استعمال مشهور، ومنه قول ذي الرمّة:

حتى إذا ماجلا عن وجهه فلقٌ ... هاديه في أخريات الليل منتصب

والمعنى الثاني: الخلق كله فلق.
وهذا المعنى ذكره جمع من علماء اللغة، كالزجاج والنحاس والجوهري وأبي منصور الأزهري وابن فارس وابن منظور وغيرهم وهو إطلاق صحيح.
قال أبو إسحاق الزجاج (ت:311هـ): (إذا تأملت الخلق تبين لك أن خلقه أكثره عن انفلاق؛ فالفلق جميع المخلوقات، وفلق الصبح من ذلك).

والمعنى الثالث: بيان الحق بعد إشكال، ذكره أبو منصور الأزهري وابن منظور.
فكأن الإشكال كالغشاوة على البصيرة؛ فإذا انفلقت الغشاوة انفتحت عين البصيرة، وقريب من هذا المعنى قول مسكين بن عامر الدارمي:

يا رُبَّ أمرين قد فرّقت بينهما .. من بعد ما اشتبها في الصدر واعتلجا
أُديم ودي لمن دامت مودّته .. وأمزج الودَّ أحياناً لمن مزجا

والمعنى الرابع: المكان المطمئن بين ربوتين
قال أوس بن حَجَر:

وبالأدْم تُحدى عليها الرحال ... وبالشول في الفلق العاشب

وقال زهير بن أبي سلمى:

ما زلت أرمقهم حتى إذا هبطت ... أيدي الركاب بهم من راكس فَلَقَا

وراكس: واد معروف بين الحجاز وعالية نجد.

والمعنى الخامس: مقطرة السجَّان
- قال الخليل بن أحمد: (والقِطارُ: جماعة القَطْر، واشتق اسم المِقْطَرةِ منه لأن من حبس فيها صار على قِطارٍ واحد، مضموم بعضها إلى بعض، ويقال لها: الفَلَق، تُجْعَل أرجلهم في خروق، وكل خرق على قدر ساق).
وقد ذكر هذا المعنى جمع من علماء اللغة كأبي منصور الأزهري وغلام ثعلب وابن دريد والجوهري وابن خالويه.

والمعنى السادس: اللبن المتفلّق الذي تميز ماؤه
- قال الفيروزآبادي في تعداد ما يطلق عليه اسم الفلق: (وما يَبْقَى من اللَّبَنِ في أسْفَلِ القَدَحِ، ومنه يقالُ: يا ابنَ شَارِبِ الفَلَقِ).
- وقال أبو منصور الأزهري في (تهذيب اللغة): (سمعت أعرابياً يقول لِلَبَنٍ كانَ مَحقُونًا في السقَاء، فضرَبَه حَرُّ الشمسِ فتقَطَّع: "إنَّه لَلَبَنٌ مُتَفَلِّقٌ ومُمْذَقِرٌّ" وهو أن يصير اللبن ناحية، والماء ناحية، ورأيتهم يكرهون شرب الماء المتفلق).

فهذه المعاني اللغوية يؤخذ منها ما يناسب السياق بعد الاطلاع على أقوال أئمة المفسرين، وقد اختلفوا فيها على أقوال:
القول الأول: الفلق الصبح، وهو قول سعيد بن جبير، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد.
وقال به من أهل اللغة: الخليل بن أحمد، وأبو عبيدة معمر بن المثنى، وغيرهما.
وروي عن جابر وابن عباس، ولا يصحّ عنهما.

والقول الثاني: الفلق هو الخلق، وهو أقوى الروايتين عن ابن عباس، ونسبه الثعلبي للضحاك أيضاً، وقريب منه قول محمد بن كعب القرظي.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية عن الحسن أنّ الفلق هو كلّ ما انفلق من الخلق.

والقول الثالث: الفلق جبّ في جهنّم، وهو قول كعب الأحبار، والسدي، ورُوي فيه حديث منكر لا يصحّ.

والقول الرابع: الفلق هي جهنّم، وهذا قول أبي عبد الرحمن الحبّلي وهو من أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه.

فأما القول الثالث والرابع فليس المستند فيهما الدلالة اللغوية، وإنما هو خبر مأثور عن كعب الأحبار، وهو معدود من الإسرائيليات، وقد روي فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يصحّ؛ فلذلك ليس لهذين القولين حجة لغوية ولا دليل صحيح يُعتمد عليه، وقد ضعّفهما شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فقال: (وأما من قال: إنه واد في جهنم أو شجرة في جهنم أو أنه اسم من أسماء جهنم فهذا أمر لا تعرف صحته، لا بدلالة الاسم عليه، ولا بنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في تخصيص ربوبيته بذلك حكمة).

بقي قولان مأثوران في كتب التفسير المسندة: الصبح، والخلق كلّه.

وهما قولان صحيحان في اللغة، ومأثوران عن السلف، ويجمعهما المعنى اللغوي لمفردة "الفلق"
فالفلق مصدر يعمّ كلّ مفلوق، فالله تعالى فالق الإصباح، وفالق الحبّ والنوى، وفالق الأرض بالنبات، وفالق الأرحام بالأجنّة، وفالق الحجارة بالماء والعيون الجارية، وكلّ ما احتيج فيه إلى مخرج فالله تعالى وحده هو الذي يفلق له مخرجه، لا فالق له إلا الله.
فتبيّن بذلك أنّ الفلق عامّ في الخلق كلّه، وأن القول بأنّ الفلق هو الصبح إنما هو تفسير بالمثال، وهو مسالك من مسالك التفسير المعتبرة، لكن لا يُحصر معنى الآية عليه.
وإذا نظرنا إلى الأمور المعنوية وجدنا أنّ العبد يحتاج فيها إلى فلق في أمور كثيرة، فالصدر إذا لم يفلق الله له ما ينشرح به لم ينشرح، والأمر المشكل إذا لم يفلق الله لعبده ما غسق عليه من الإشكال لم يهتدِ فيه إلى الحقّ، والهمّ الذي يجثم على صاحبه ويؤذيه لا فارج له إلا الله، وتفريج الله لعبده في كلّ أمر نزل به هو من آثار ربوبيته تعالى للفلق؛ فالفلق من خصائص الربوبية، وهو نظير اختصاص الربّ جلّ وعلا بالإحياء، والإماتة، والرزق، وكشف الضرّ، وغيرها من أفعال الربوبية.
فلا يكون فلق إلا بإذنه جلّ وعلا، وبهذا تظهر مناسبة الصفة المتوسّل بها إلى الله تعالى لغرض الاستعاذة.

- قال ابن تيمية: (الفَلَق فَعَل بمعنى مفعول، كالقَبَض بمعنى المقبوض، فكلّ ما فَلَقه الربُّ فهو فَلَق).
- وقال ابن القيم: (واعلمْ أنَّ الخلقَ كلَّه فَلَقٌ، وذلك أنَّ فَلَقًا فَعَلٌ بمعنى مَفعولٍ: كقَبَضٍ وسَلَبٍ وقَنَصٍ بمعنى مَقبوضٍ ومَسلوبٍ ومَقنوصٍ، واللهُ عزَّ وجَلَّ فالِقُ الإصباحِ وفالقُ الحَبِّ والنَّوى وفالِقُ الأرضِ عن النباتِ، والجبالِ عن العُيونِ، والسَّحابِ عن المطَرِ، والأرحامِ عن الأَجِنَّةِ، والظلامِ عن الإصباحِ، ويُسَمَّى الصبْحُ الْمُتَصَدِّعُ عن الظُّلْمَةِ: فَلَقًا وفَرَقًا، يُقالُ: هو أبيضُ من فَرَقِ الصُّبْحَ وفَلَقِه.
وكما أنَّ في خَلْقِه فَلْقًا وفَرْقًا؛ فكذلك أمْرُه كلُّه فُرْقَانٌ يَفْرُقُ الحقَّ والباطلَ فيَفْرُقُ بينَ ظلامِ الباطلِ بالحَقِّ كما يفْرُقُ ظلامَ الليلِ بالإصباحِ، ولهذا سَمَّى كتابَه الفُرْقَانَ، ونَصْرَه فُرْقَانًا لتَضَمُّنِه الفَرْقَ بينَ أوليائِه وأَعدائِه، ومنه فَلْقُه البَحْرَ لموسى فَلْقًا وسَمَّاهُ، فظَهَرَتْ حِكمةُ الاستعاذةِ برَبِّ الفَلَقِ في هذه الْمَواضعِ، وظَهَرَ بهذا إعجازُ القرآنِ وعَظَمَتُه وجَلالتُه، وأنَّ العِبادَ لا يَقْدِرون قَدْرَه، وأنه {تَنْزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}) ا. هـ.
وتفطَّن إلى أن قولَ ابن القيم فيه أن الفلق يعمّ الخلق والأمر، وهذا له ما يؤيده من الإطلاق اللغوي كما سبق نقله عن أبي منصور الأزهري، وقد تقدّم شرح ذلك.
بل شيخ الإسلام ابن تيمية له كلام في أن الفلق يعمّ الخلق والأمر.

والمقصود من هذا المثال أنّ معاني "الفلق" في اللغة متعددة، وما يصحّ أن تفسّر به الآية ثلاثة معانٍ، لها أدلتها وشواهدها.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#9

2 May 2020

سبيل معرفة معاني المفردات
وسبيل معرفة المعاني اللغوية للمفردات هو الرجوع إلى ما نُقل إلينا من كلام العرب شعره ونثره، وهو ما عُني به أهل اللغة في معاجمهم وكثير من كتبهم.
والتمييز بين المعاني المقبولة وغير المقبولة يُحتاج فيه إلى تأهيل لغوي يتمكن به الباحث من معرفة أصول الاجتهاد في تقرير معاني المفردات اللغوية في لسان العرب، وتمييز الشواهد التي يُحتجّ بها، ومعرفة مراتب أئمة أهل اللغة في هذا الشأن.
وهذه المعرفة تفيد طالب العلم فائدتين:
- إحداهما: تمييز ما يقبل من كلام أهل اللغة مما لا يُقبل؛ فمعاجم اللغة وإن كان الغالب عليها الصحة فليس كل ما تضمّنته يُسلَّم به، بل فيها الصحيح المقبول، وفيها ما هو دون ذلك، وفيها الخطأ المردود، كما أنه ليس كلّ ما تضمنته دواوين السنة من الأحاديث والآثار يكون صحيحاً.
والخطأ في المعاجم اللغوية قد يكون لأسباب:
- منها ما يتعلق بالشواهد ودخول الخطأ في روايتها والنحل والصناعة وغيرها من العلل.
- ومنها ما يتعلّق بفهم تلك المفردات في السياق الذي وردت فيه.
وهذه الأخطاء منها ما هو بيّن ظاهر، كما قال أحد أصحاب المعاجم: (ويقال للجلدة التي بين العين والأنف: سالم)
أخذ ذلك من قول الشاعر:

يديرونني عن سالم وأديرهم ... وجِلْدةُ بين العين والأنف سالم

وسالم هنا إنما هو اسم رجل، أراد أنه لمحبته إياه وعزّته عنده وحميّته دونه بمنزلة الجلدة التي بين العين والأنف، وهي من أعزّ ما في الوجه.
ومن الأخطاء ما يُحتاج فيه إلى نظر دقيق وبصر بعلل المعاجم وعلل الشواهد.
وهذه الأخطاء عامّتها مما نبّه عليه كبار أهل اللغة في المعاجم والمستدركات عليها؛ ولا يكاد يوجد معجم لغوي ذو شأن عند أهل العلم إلا وعليه استدراكات وتعقبات تنقده وتمحّصه؛ فلذلك يحتاج الباحث الناقد إلى النظر في جملة من المعاجم، وإلى معرفة مناهج أصحابها وما كتب عليها من استدراكات حتى يكون نظره في المعنى أجود وأقرب إلى السلامة والصحة.
وسبب هذا التنبيه أني خشيت أن يغترّ مغترٌّ بكلمة يجدها في أي معجم يتّفق له فيأخذها على التسليم، ويفسّر بها القرآن، وقد لا يعلم ما فيها من العلل.

والفائدة الأخرى: أنّ من تأهّل للنظر اللغوي في معاني المفردات وأمعن في استعمال أداوت أهل اللغة في استخراج المعاني وتمييز الشواهد ونقدها أمكنه أن يستخرج جملة من المعاني مما فات أصحاب المعاجم؛ وذلك أنّ المعاجم اللغوية غير محيطة بلسان العرب، وقد أُلّف في فوائت المعاجم كتب كثيرة، ولم يستوعبوا.
والمفسّر بحاجة إلى التمكّن من أدوات الاجتهاد اللغوي حتى تكون دراسته لمعاني المفردات والتراكيب والأساليب القرآنية مبنية على أصول لغوية صحيحة ومتينة.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#10

2 May 2020

أمثلة من أقوال المفسرين في بيان معاني المفردات


المثال الأول: معنى الإلّ في قول الله تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً}

- قال محمد الأمين الشنقيطي(ت:1393هـ): (اعلموا أن المراد بـ (الإلّ) هنا فيه لعلماء التفسير أقوالٌ متقاربة:
القول الأول: قال بعض العلماء: (الإلُّ) اسم الله بالعبرانية. واستأنسوا لهذا ببعض القراءات الشاذة: (لا يرقبوا فيكم إِيْلاً ولا ذمة) والإيل من أسماء الله بالعبرية. فجبرائيل معناه: عبد الله، وإسرافيل: عبد الله، وإسرائيل: عبد الله. وهذا القول قال به جماعة من العلماء، أن (الإيل والإلّ) تطلق على الله، ومعروفٌ في قصة أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) أنه لما جاءه قوم من أصحاب مسيلمة الكذَّاب وقال لهم: اقرؤوا علي مما يدّعي أنه ينزل عليه. فقرءوا عليه شيئاً مِنْ تُرَّهَاتٍ مسيلمة الكذَّاب، فقال: أنتم تعلمون أن هذا لم يخرج من إلّ، أن هذا كلام لم يصدر من الله. وعلى هذا القول فالمراد: إن يظهروا عليكم ويغلبوكم لا يراقبوا فيكم الله، ولا يراعوا فيكم الله، ولا العهود. هذا قال به قوم.

القول الثاني: وقالت جماعات من العلماء: (الإلّ) هنا المراد به القرابة، أي: لا يراعون فيكم قرابة، بل يقتلونكم وإن كنتم من قراباتهم. وبهذا قال جماعات من علماء التفسير، وإطلاق الإلِّ على القرابة
معنى معروف في كلام العرب مشهور، ومنه قول تميم بن مقبل:

أَفْسَدَ النَّاسَ خُلُوفٌ خَلَفُوا ... قَطَّعُوا الإِلَّ وأَعْرَاقَ الرَّحِمْ

أي: قطعوا القرابات ولم يصلوها، ومنه بهذا المعنى قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:

لَعَمْرُكَ إنَّ إلَّكَ في قُرَيْشٍ ... كَإِلِّ السَّقْبِ مِنْ رأْلِ النَّعَامِ


يعني: إنّ قرابتك في قريش كذب كقرابة السقب الذي هو الحوار -أعني ولد الناقة- من رألِ النعام، ولا قرابة بين أولاد الإبل وأولاد النعام، ومن هذا المعنى قول يزيد بن مفرغ الحميري في شعره الذي ينفي به نسب زياد بن أبيه عن قريش، ويعاتب معاوية في استلحاقه له؛ لما كان بينه وبين عبّاد بن زياد من العداوة، وما أهانه به عبّاد بن زياد كما هو معروف، قال يزيد بن مفرّغ الحميريُّ في ذلك أبياته المشهورة التي يقول فيها:

ألاَ أبْلِغْ معاويةَ بْنَ حَرْبٍ ... مُغَلْغَلَة مِنَ الرَّجُلِ اليَمَانِي
أَتَغْضَب أن يُقالَ أَبُوكَ عَفٌّ ... وَتَرْضَى أَنْ يُقَالَ أَبُوكَ زَانِي

إلى أن قال في ابن زياد:

فَأَشْهَدُ أَنَّ إِلَّكَ مِنْ قُرَيْشٍ ... كَإِلِّ الفيلِ مِنْ وَلَدِ الأَتَانِ

أَيْ: إِنَّ قَرَابَتَكَ فِي قُرَيْش، وهذا معنى معروف في كلام العرب، وعلى هذا القول {لاَ يَرْقُبُواْ} أي: لا يُرَاعُون ولا يحْفَظُون فيكم {إِلاًّ} أي: قرابة {وَلاَ ذِمَّةً} أي: لا قرابة ولا عهداً.

القول الثالث: وقال بعض العلماء: الإلّ هو الحِلْفُ، فالعَرَبُ تقول: بَيْنِي وبين فلانٌ إِلٌّ: إذا كان بَيْنَكُمَا حِلْفٌ.
قالوا: واشتقاق (الإِلُّ) أنهم كانوا إذا تَحَالَفُوا وتَمَاسَحُوا بالأَيْدِي عند الحلف رفعوا أصواتهم، والعرب تقول: «ألَّ، يَؤُلُّ» إِذَا صَرَخَ ورَفَعَ صوته، ومنه: أَلِيلُ المَرِيضِ؛ أي: أَنِينُ المَرِيضِ المُرْتَفِع، والعرب تقول: «دعت الجارية أَلَلَيْهَا» إذا وَلْوَلَتْ؛ لأن الأليل صراخٌ وصوت.
ومن قولهم: دَعَتِ الجارية ألليها إذا وَلْوَلَتْ قَولُ الكميت:

وأنتَ ما أنت في غَبْراءَ مُظْلمةٍ ... إذا دَعَتْ أَلَلَيْها الكَاعِبُ الفُضُلُ

القول الرابع: وقال قومٌ آخرون: إن (الإلّ) معناه العهد. وعلى هذا القول فهو شيءٌ معطوف على نفسه باختلاف اللفظين، وقد قدّمنا في هذه الدروس مراراً أن عطف الشيء على نفسه بلفظين مختلفين أنه أسلوبٌ عربي معروف؛ لأن المغايرة في اللفظ ربما نزلتها العرب كمغايرة المعنى.
وهذا الأسلوب في اللغة العربية وفي القرآن، فمن أشهر أمثلته في القرآن قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4)} لأن (الذي) و (الذي) كلها واقعة على شيء واحد هو الله (جلّ وعلا)، إلا أنه لما اختلفت الألفاظ صار العطف بسبب اختلافها، وهو أسلوب معروف في العربية، ومن شواهده المشهورة قول الشاعر:

إلى المَلِكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمَامِ ... ولَيْثِ الكَتِيبَةِ فِي المُزْدَحَم

وهو كثير في كلام العرب، ومما أنشده له صاحب اللسان قول الشاعر:

إِنِّي لأعظم في صدر الكَميِّ على ... ما كان في زَمَنِ التَّجْدِيرِ والقِصَرِ

وقول عنترة في معلقته:

حُيِّيتَ من طَلَلٍ تَقَادَمَ عَهْدُهُ ... أَقْوَى وأَقْفَرَ بَعْدَ أُمّ الهَيْثَمِ

لأن (الإقواء) و (الإقفار) معناهما واحد. و (التجدير) و (القصر) معناهما واحد.

واختار كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير الطبري -رحمه الله- أن هذه المعاني كلها يجب حمل (الإلِّ) عليها؛ لأنه شاملٌ لِلْعَهْدِ، والقرابة، والحِلْف؛ أي: لا يُرَاعُونَ فِيكُمْ عَهْداً، ولا قرابة، ولا حِلْفاً، ولا يُرَاعُونَ اللهَ فِيكُمْ.
وهَذَا الذي ذهب إليه هو مِنْ حَمْلِ المُشْتَركِ على مَعَانيه، وحمل المشترك على معنييه أو معانيه مما اخْتَلَفَ فِيهِ عُلَماء الأصُول، والذي حَرَّرَهُ المحققون من أصوليّي أصحاب المذاهب الأربعة هو جواز حمل المشترك على مَعْنَيَيْهِ أو معانيه، فيجوز أن تقول مثلاً: عدا اللصوص البارحة على عين زيد، تعني: أنهم عَوَّروا عَيْنَهُ الباصرة، وغَوَّروا عينه الجارية، وسَرقوا عينه التي هي ذهبه وفِضَّتُه؛ فتحمله على الجميع إذا قَصَدْتَ ذَلِكَ، وكان في كلامه ما يَدُلُّ عَلَيْهِ، وهذا معنى قوله: {لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً}).
[/color][/size][/font]

عبد العزيز بن داخل المطيري

#11

2 May 2020

المثال الثاني: معنى الثياب في قول الله تعالى: {وثيابك فطهّر}
قال إسماعيل بن عمر ابن كثير(ت:774هـ): ( وقوله: {وثيابك فطهر}
1: قال الأجلح الكندي، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه أتاه رجل فسأله عن هذه الآية: {وثيابك فطهر}
قال: لا تلبسها على معصية ولا على غدرة. ثم قال: أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي:

فإني بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من غدرة أتقنع

2: وقال ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس في هذه الآية {وثيابك فطهر} قال: في كلام العرب: (نقي الثياب).
وفي رواية بهذا الإسناد: (فطهر من الذنوب).
وكذا قال إبراهيم، الشعبي، وعطاء.
3: وقال الثوري، عن رجل، عن عطاء، عن ابن عباس في هذه الآية: {وثيابك فطهر} قال: (من الإثم).
وكذا قال إبراهيم النخعي.
4: وقال مجاهد: {وثيابك فطهر} قال: (نفسك، ليس ثيابه).
5: وفي رواية عنه: {وثيابك فطهر} عملك فأصلح.
وكذا قال أبو رزين.
6: وقال في رواية أخرى: {وثيابك فطهر} أي: لست بكاهن ولا ساحر، فأعرضْ عما قالوا.
7: وقال قتادة: {وثيابك فطهر} أي: طهرها من المعاصي، وكانت العرب تسمي الرجل إذا نكث ولم يف بعهد الله إنه لمدنس الثياب، وإذا وفى وأصلح: إنه لمطهر الثياب.
8: وقال عكرمة، والضحاك: لا تلبسها على معصية.
وقال الشاعر:

إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل

9: وقال العوفي، عن ابن عباس: {وثيابك فطهر} يعني: لا تك ثيابك التي تلبس من مكسب غير طائب.
10. ويقال: لا تلبس ثيابك على معصية.
11: وقال محمد بن سيرين: {وثيابك فطهر} أي: اغسلها بالماء.
وقال ابن زيد: كان المشركون لا يتطهرون، فأمره الله أن يتطهر، وأن يطهر ثيابه.
وهذا القول اختاره ابن جرير.
قد تشمل الآية جميع ذلك مع طهارة القلب، فإن العرب تطلق الثياب عليه، كما قال امرؤ القيس:

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل ... وإن كنت قد أزمعت هجري فأجملي
وإن تكُ قد سـاءتك مني خليقة
... فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل

12: وقال سعيد بن جبير: {وثيابك فطهر} وقلبك ونيتك فطهر.
13: وقال محمد بن كعب القرظي، والحسن البصري: وخلقك فحسن).

- وقال محمد الطاهر ابن عاشور(ت:1393هـ):({وثيابك فطهر (4)} هو في النظم مثل نظم {وربك فكبر} أي لا تترك تطهير ثيابك.
وللثياب إطلاق صريح وهو ما يلبسه اللابس، وإطلاق كنائي فيكنى بالثياب عن ذات صاحبها، كقول عنترة:

فشككت بالرمح الأصم ثيابه
كناية عن طعنه بالرمح.

وللتطهير إطلاق حقيقي وهو التنظيف وإزالة النجاسات وإطلاق مجازي وهو التزكية قال تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}
والمعنيان صالحان في الآية فتحمل عليهما معا فتحصل أربعة معان لأنه مأمور بالطهارة الحقيقية لثيابه إبطالا لما كان عليه أهل الجاهلية من عدم الاكتراث بذلك. وقد وردت أحاديث في ذلك يقوي بعضها بعضا وأقواها مارواه الترمذي «إن الله نظيف يحب النظافة». وقال: هو غريب.
والطهارة لجسده بالأولى.
ومناسبة التطهير بهذا المعنى لأن يعطف على وربك فكبر لأنه لما أمر بالصلاة أمر بالتطهر لها لأن الطهارة مشروعة للصلاة.
وليس في القرآن ذكر طهارة الثوب إلا في هذه الآية في أحد محاملها وهو مأمور بتزكية نفسه.
والمعنى المركب من الكنائي والمجازي هو الأعلق بإضافة النبوءة عليه. وفي كلام العرب: فلان نقي الثياب. وقال غيلان بن سلمة الثقفي:

وإني بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من غدرة أتقنع

وأنشدوا قول أبي كبشة وينسب إلى امرئ القيس:

ثياب بني عوف طهارَى نقيّة ... وأوجههم عند المشاهد غرَّان

ودخول الفاء على فعل فطهر كما تقدم عند قوله: {وربك فكبر}.
وتقديم ثيابك على فعل (طهر) للاهتمام به في الأمر بالتطهير).

عبد العزيز بن داخل المطيري

#12

2 May 2020

المثال الثالث: معنى "سُخريا" في قول الله تعالى:{نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّاوَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)}

قال محمد الطاهر ابن عاشور(ت:1393هـ): (والسّخْري بضم السين وبكسرها، وهما لغتان، ولم يقرأ في القراءات المشهورة إلا بضم السين، وقرأ ابن محيص في الشاذ بكسر السين: اسم للشيء المسخر، أي المجبور على عمل بدون اختياره، واسم لمن يُسخر به، أي يستهزأ به كما في «مفردات» الراغب و «الأساس» و «القاموس» .
وقد فسر هنا بالمعنيين كما قال القرطبي.
وقال ابن عطية: هما لغتان في معنى التسخير، ولا تدخّل لمعنى الهزء في هذه الآية.
ولم يقل ذلك غيره وكلام الراغب محتمل.
واقتصر الطبري على معنى التسخير.
فالوجه في ذلك أن المعنيين معتبران في هذه الآية، وإيثار لفظ سخريا في الآية دون غيره لتحمله للمعنيين، وهو اختيار من وجوه الإعجاز؛ فيجوز أن يكون المعنى ليتعمل بعضهم بعضاً في شؤون حياتهم فإن الإنسان مدني، أي محتاج إلى إعانة بعضه بعضا، وعليه فسر الزمخشري وابن عطية وقاله السدي وقتادة والضحاك وابن زيد، فلام {ليتخذ} لام التعليل تعليلا لفعل قسمنا، أي قسمنا بينهم معيشتهم، أي أسباب معيشتهم ليستعين بعضهم ببعض فيتعارفوا ويتجمعوا لأجل حاجة بعضهم إلى بعض فتتكون من ذلك القبائل والمدن.
وعلى هذا يكون قوله: {بعضهم بعضا} عاما في كلِّ بعضٍ من الناس؛ إذ ما من أحد إلا وهو مستعمل لغيره وهو مستعمل لغير آخر.
ويجوز أن تكون اسما من السخرية وهي الاستهزاء، وحكاه القرطبي ولم يعيّن قائله وبذلك تكون اللام للعاقبة مثل {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا} ، وهو على هذا تعريض بالمشركين الذين استهزؤوا بالمؤمنين كقوله تعالى: {فاتخذتموهم سخريا} في سورة قد أفلح المؤمنون.
وقد جاء لفظ السخري بمعنى الاستهزاء في آيات أخرى كقوله تعالى: {فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون}، وقوله: {أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار}.
ولعل الذي عدل ببعض المفسرين عن تفسير آية سورة الزخرف بهذا المعنى استنكارهم أن يكون اتخاذ بعضهم لبعض مسخرة علة لفعل الله تعالى في رفعه بعضهم فوق بعض درجات، ولكن تأويل اللفظ واسع في نظائره وأشباهه. وتأويل معنى اللام ظاهر).

عبد العزيز بن داخل المطيري

#13

2 May 2020

التطبيقات:
اختر ثلاث المفردات من المفردات التالية وبيّن معانيها وما يصحّ أن تفسّر به في الآيات المذكورة:
1: معنى البلاء في قول الله تعالى: {وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم}
2. معنى التكوير في قول الله تعالى: {إذا الشمس كوّرت}
3: معنى "الغاسق" في قول الله تعالى: {ومن شرّ غاسق إذا وقب}
4: معنى النحر في قول الله تعالى: {فصلّ لربّك وانحر}
5: معنى العصر في قول الله تعالى: {والعصر إن الإنسان لفي خسر}

عبد العزيز بن داخل المطيري

#14

2 May 2020

المثال الرابع: معنى "أطوار" في قول الله تعالى: {وقد خلقكم أطواراً}

في تفسير الأطوار ثلاثة أوجه صحيحة:
الوجه الأول: أي: خلقاً من بعد خلق، نطفة ثم علقة ثمّ مضغة، وهو قول مجاهد وقتادة والضحاك وغيرهم.
والوجه الثاني: أطواراً أي: أصنافاً، في ألسنتكم وألوانكم وأخلاقكم وأعمالكم، وهذا الوجه ذكره بمعناه ابن قتيبة ومكي بن أبي طالب.
والوجه الثالث: أي على أحوال مختلفة، من الصحة والمرض، والشدة والرخاء، والسرور والحزن، والهم والانشراح، إلى ما لا يحدّ من أحوال الابتلاء بالخير والابتلاء بالشرّ.

والقرآن يدلّ على صحة هذه المعاني الثلاثة:
1: أما المعنى الأول فقد تكرر ذكره في آيات كثيرة في القرآن، منها قوله تعالى: {هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخاً}
2: وأما المعنى الثاني فيدلّ عليه قول الله تعالى: {وخلقناكم أزواجا} أي أصنافاً على أحد الوجهين في التفسير، وقوله تعالى: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} أي أمثالهم وأشباههم وضُرباءهم؛ فكل صنف من الظالمين زوجٌ، وقوله تعالى: {وإذا النفوس زوّجت} أي ألحق النظير بنظيره من أهل كل عمل.
ومن هذا الوجه قول العرب: (الناس أطوار) أي أصناف، وقد قيل:

لا تحسب الناسَ سواءً متى ... ما اشتبهوا فالناس أطوار

وقد ذكر أبو حيان التوحيدي في "البصائر والذخائر" أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال لصعصعة بن صوحان وكان من حكماء العرب: صف لي الناس
فقال: (خلق الله الناس أطواراً: فطائفة للعبادة، وطائفة للسياسة، وطائفة للفقه والسنة، وطائفة للبأس والنجدة، وطائفة للصنائع والحِرَف، وآخرون بين ذلك يكدرون الماء، ويغلون السعر).
وقد جُمع المعنيان الأول والثاني في قوله تعالى: {اللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا}
3: وأما المعنى الثالث فقد ورد في مواضع من القرآن منها قوله تعالى: {لتركبنّ طبقاً عن طبق} أي حالاً بعد حال، على أحد الأوجه في تفسيرها.
قال الأقرع بن حابس:

إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره ... وساقني طبق منها إلى طبق

وقال آخر:

كذلك المرء إن ينسأ له أجل ... يركب على طبق من بعده طبق

واستعمال الأطوار في معنى التحول من حال إلى حال كثير شائع في كلام العرب، ومن شواهد الخليل بن أحمد:

ما سمي القَلْبُ إلا من تقلّبه ... والرأي يُصرف والإنسان أطوار

وقال النابغة الذبياني:

لولا حبائل من نُعْمٍ علقت بها ... لأقصر القلبُ عنها أيّ إقصار
فإن أفاق لقد طالت عمــــــــــــايتُه ... والمرء يُخلق طوراً بعد أطـــــــــــوار

أي ُتصرّف مقاديره من طور إلى طور.
وقالت الخنساء:

لا بدَّ من ميتةٍ في صرفِها غِيَرٌ ... والدهر في صرفه حَول وأطوار

وقال عروة بن أذينة:

نعالج العيش أطواراً تقلبه ... فيه أفانين تطوى عن أفانين

وقال آخر:

فطورا تراه ضاحكا فى ابتسامة ... وطورا تراه قد علاه قطوب

وقال عبد العزيز بن زرارة الكلابي:

قد عشتُ في الناس أطواراً على طُرُق .. شتَّى وقاسيتُ فيها اللين والفظعــــــــا
كلا بلوتُ فلا النعمـــــــــــــــــــــــــاء تبطرني .. ولا تخشَّعتُ من لأوائها جزعـــــــــــــــــــــــــا
لا يمـــــــلأ الــــــــــهولُ صدري قبل موقِعِهِ .. ولا أضيق به ذرعاً إذا وقعـــــــــــــــــــــــــــــا
ما سُدّ لي مطلعٌ ضــــــــــــــــــــــــــــــاقت ثنيّتُه .. إِلَّا وجدتُ وراء الضيق متّسعـــــــــــــــــــا

والمقصود أن مفردة "الأطوار" في قوله تعالى: {وقد خلقكم أطواراً} قد جمعت هذه المعاني الثلاثة جمعاً بديعاً حسناً؛ فلو قُلّب لسانُ العرب كلّه كلمة كلمة لم توجد مفردة أحسن من هذه المفردة في هذا الموضع ولا أجمع للمعاني المرادة منها؛ فسبحان اللطيف الخبير الذي بهر العقولَ حُسنُ بيانه.