2 May 2020
الدرس الثاني: دلالات المفردات اللغوية
( دلالة الوضع اللغوي )
عناصر الدرس:
● أنواع دلالات المفردات القرآنية.
● أولا: دلالة الوضع اللغوي.
...- المثال الأول: معنى القنوت في قول الله تعالى: {وقوموا لله قانتين}.
...- المثال الثاني: "سامدون" في قول الله تعالى: {وأنتم سامدون}.
...- المثال الثالث: معنى الصريم في قول الله تعالى: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)}.
...- المثال الرابع: معنى "أطوار" في قول الله تعالى: {وقد خلقكم أطواراً}.
...- تنبيه: ليس كل ما تحتمله المفردة من معانٍ في اللغة تفسّر به في الآية.
...- مثال على استبعاد ما لا تحتمله الآية من معاني المفردات.
...- سبيل معرفة معاني المفردات.
● أمثلة من أقوال المفسرين في بيان معاني المفردات:
...- المثال الأول: معنى الإلّ في قول الله تعالى: {كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبولا فيكم إلا ولا ذمة}.
...- المثال الثاني: معنى الثياب في قول الله تعالى: {وثيابك فطهّر}.
...- المثال
الثالث: معنى "سُخريا" في قول الله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ
مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ
بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ
رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)}.
● تطبيقات الدرس الثاني
أنواع دلالات المفردات القرآنية:
المفردات جمع مفردة، فتعمّ أنواع الكلمة: الاسم والفعل والحرف؛ فكلّ
نوع من هذه الأنواع الثلاثة يُعدّ الواحد منه مفردة لغوية؛ مثل: زيد،
وقام، وإلى.
سمّيت مُفردة لمّا نُظر إليها نظراً مجرداً عن تركيبها في الجملة؛ فكأنّها أُفردت بالنظر عن موضعها في الجملة.
وقد بُنيت المعاجم اللغوية وكثير من كتب غريب القرآن وغريب الحديث على المفردات اللغوية.
واللغة العربية تمتاز بثراء مفرداتها وسعة
دلالاتها وتنوّع معانيها بحسب السياق الذي جاءت فيه، ولذلك قد تحتمل
المفردة الواحدة معاني عدة بأوجه متنوعة من الدلالات: فتدلّ بدلالة وضعها
اللغوي، وبدلالة المراد بها في الآية، وبدلالة محلها الإعرابي، وبدلالة
تصريفها، وبدلالة اشتقاقها، وبدلالة تناسب حروفها.
واجتماع هذه الدلالات كلّها في المفردات القرآنية كثير
جداً، وقد يكون في بعض المفردات بعض هذه الدلالات دون بعض؛ كالمفردات
الجامدة غير المتصرّفة، والمفردات التي لا محلّ لها من الإعراب.
وهذه الدلالات المتنوعة تفتح للمتدبّر أبواباً من فهم القرآن، والوقوف على سعة معانيه وتنوّع دلالاته، وعظيم بركة ألفاظه وهداياته.
وسنتناول هذه الدلالات بالشرح، والله المستعان، وبه التوفيق.
1: دلالة الوضع اللغوي
المفردة الواحدة قد تُطلق في لسان العرب على معانٍ متعددة، واستقراء
هذه المعاني يفيد المفسّر في اختيار أقرب تلك المعاني إلى المراد بالمفردة
في الآية.
وقد تحتمل دلالة المفردة في الآية معاني متعددة كلها صحيحة يصحّ حمل الآية عليها.
وسأورد أمثلة لتوضيح المقصود بعون الله.
سأقنتُ طولَ الدهرِ ما هبَّت الصَّبا ... وأقنتُ بالآصالِ والغدواتِ
وهذا الدعاء منه ما هو في غير أوقات الصلوات.
- قال أبو إسحاق الزجاج: (المشهور في اللغة
والاستعمال: أن القنوت الدعاء في القيام، وحقيقة القانت أنه القائم بأمر
اللّه، فالداعي إذا كان قائما خصَّ بأن يقال له قانت؛ لأنه ذاكر الله عزّ
وجلّ وهو قائم على رجليه. فحقيقة القنوت العبادة والدعاء لله في حال
القيام.
ويجوز أن يقع في سائر الطاعة، لأنه إن لم يكن قياماً بالرجلين فهو قيام بالشيء بالنية)ا.هـ.
والمعنى السادس:العبادة والصلاة، {وقوموا لله قانتين}
أي مصلين متعبّدين، وهذا القول مروي عن ابن عباس وابن عمر فيما ذكره ابن
أبي حاتم، واستدلّ له بعض المفسرين بقول الله تعالى في شأن مريم: {وكانت من القانتين} أي المتعبدين بالصلاة.
وبه فُسّر قول الله تعالى: {أمّن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً}
قال ابن جرير: (والقنوت: أصله الطّاعة للّه، ثمّ يستعمل في كلّ ما أطاع اللّهَ به العبدُ).
فتبيّن بذلك أنّ القنوت وصف جامع لأنواع من العبادات بعضها أعمّ من بعض:
- فالطاعة قنوت لأن المطيع قانت للمطاع منقادٌ له مستكين لأمره.
- والعبادة قنوت لما فيها من الذلّ والانقياد للمعبود.
- والصلاة نفسها قنوت لأنها من أظهر شعائر العبادة والقيام بواجب الطاعة لله.
- والقيام في الصلاة قنوت لأن القائم منتصبٌ لعبادة ربّه جلّ وعلا منقطع عن غيره.
- والخشوع في الصلاة قنوت لأنه من تمام القيام بالطاعة لله تعالى والإقبال عليه.
- والسكوت عن الكلام بغير الذكر في الصلاة قنوت لأنه من واجبات الطاعة.
- والدعاء قائما قنوت لأن من يدعو قائماً في الصلاة أو خارجها منتصب
لسؤال الله تعالى والتعبد له بأعظم العبادات وهي الدعاء، وكذلك المصلي
رغباً ورهباً قانت بصلاته لأنها تؤول إلى معنى الدعاء؛ فهو يتقرب إلى الله
تعالى بالصلاة ويسأله بلسان حاله ومقاله رغبة ورهبة.
وقول أبي إسحاق الزجاج: (ويجوز أن يقع في سائر الطاعة، لأنه إن لم يكن قياماً بالرجلين فهو قيام بالشيء بالنية) فيه
تنبيه على أنّ من قام بأمر الله تعالى في أيّ شأن من الشؤون كالدعوة
والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مخلصاً لله تعالى فهو قانت؛ لأنه
قائم بطاعة الله تعالى منتصبٌ لذلك كما قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ}
والمقصود أنّ هذه المفردة الواحدة دلّت على معانٍ جليلة عظيمة كلها مما يصحّ أن تندرج في أمر الله تعالى لعباده بقوله: {وقوموا لله قانتين}
"العَزِيف"
فعيل بمعنى مفعول، يريد به الأصوات التي تُسمع بالليل في الخلاء كأنّها
عزفُ ألحان، ومن العرب من ينسبها للجنّ،كما قال الأعشى:
ما زال إسآد المطايا سمدا ... تستلب السير استلابا مسدا
تنبيه: ليس كل ما تحتمله المفردة من معانٍ في اللغة تفسّر به في الآية
ويجب التنبّه إلى أنه ليس كل ما تحتمله المفردة من معان في اللغة
تفسّر به في الآية، فيُستبعد منها ما يأباه التركيب والسياق وما خالف مقصد
الآية وما خالف نصاً صحيحاً أو إجماعاً لأهل العلم.
ومن مزالق أهل الأهواء التفسير بالاحتمال اللغوي من غير نظر إلى الأصول الضابطة؛ فليتُفطّن لذلك.
- قال عُبيدة بن زيد النميري قال: سمعت الحسن [البصري] يقول: (أهلكتهم العجمة يتأوَّلون القرآن على غير تأويله). رواه ابن وهب في جامعه وابن جرير الطبري في تفسيره.
- وقال يحيى بن عتيق: قلت للحسن: أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم بها لسانه ويصلح بها منطقه؟
قال: (نعم، فليتعلَّمْها، فإنَّ الرجل يقرأ بالآية فيعيها بوجوهها فيهلك). رواه ابن وهب.
قوله: (فيعيها بوجوهها) هكذا ضبط اللفظ
في الكتاب، ومعناه أن الناظر في معنى الآية قد يرى لها وجوها متعددة من
المعاني، وليس له من المعرفة بالعربية ما يصحّ له به تمييز المعنى الصحيح
من غيره، فيفهم من الآية غير ما أريد بها فيحمله ذلك على اعتقاد باطل أو
عمل سيّء لا يُعذر فيه فيهلك.
وسبب الهلاك هو اتباع المتشابه والإعراض عن المحكم، وهو نوع من الزيغ.
والرواية المشهورة عن الحسن: (فيعيا وجهها فيهلك). وقد تقدّم شرحها.
والمقصود أن المفردة وإن كانت تحتمل معاني متعددة في اللغة في سياقات
مختلفة فلا يقتضي ذلك أن تكون كلّ تلك المعاني مقبولة في سياق الآية.
مثال على استبعاد ما لا تحتمله الآية من معاني المفردات:
لفظ "الفلق" يستعمل في لسان العرب لمعانٍ متعددة صحيحة ولها شواهد كثيرة:
أحدها: الصبح، وهو استعمال مشهور، ومنه قول ذي الرمّة:
حتى إذا ماجلا عن وجهه فلقٌ ... هاديه في أخريات الليل منتصب
والمعنى الثاني: الخلق كله فلق. يا رُبَّ أمرين قد فرّقت بينهما .. من بعد ما اشتبها في الصدر واعتلجا وبالأدْم تُحدى عليها الرحال ... وبالشول في الفلق العاشب ما زلت أرمقهم حتى إذا هبطت ... أيدي الركاب بهم من راكس فَلَقَا
وهذا المعنى ذكره جمع من علماء اللغة، كالزجاج والنحاس والجوهري وأبي منصور الأزهري وابن فارس وابن منظور وغيرهم وهو إطلاق صحيح.
قال أبو إسحاق الزجاج (ت:311هـ): (إذا تأملت الخلق تبين لك أن خلقه أكثره عن انفلاق؛ فالفلق جميع المخلوقات، وفلق الصبح من ذلك).
والمعنى الثالث: بيان الحق بعد إشكال، ذكره أبو منصور الأزهري وابن منظور.
فكأن الإشكال كالغشاوة على البصيرة؛ فإذا انفلقت الغشاوة انفتحت عين البصيرة، وقريب من هذا المعنى قول مسكين بن عامر الدارمي:
أُديم ودي لمن دامت مودّته .. وأمزج الودَّ أحياناً لمن مزجا
قال أوس بن حَجَر:
والمعنى الخامس: مقطرة السجَّان
- قال الخليل بن أحمد: (والقِطارُ: جماعة
القَطْر، واشتق اسم المِقْطَرةِ منه لأن من حبس فيها صار على قِطارٍ واحد،
مضموم بعضها إلى بعض، ويقال لها: الفَلَق، تُجْعَل أرجلهم في خروق، وكل
خرق على قدر ساق).
وقد ذكر هذا المعنى جمع من علماء اللغة كأبي منصور الأزهري وغلام ثعلب وابن دريد والجوهري وابن خالويه.
والمعنى السادس: اللبن المتفلّق الذي تميز ماؤه
- قال الفيروزآبادي في تعداد ما يطلق عليه اسم الفلق: (وما يَبْقَى من اللَّبَنِ في أسْفَلِ القَدَحِ، ومنه يقالُ: يا ابنَ شَارِبِ الفَلَقِ).
- وقال أبو منصور الأزهري في (تهذيب اللغة): (سمعت
أعرابياً يقول لِلَبَنٍ كانَ مَحقُونًا في السقَاء، فضرَبَه حَرُّ الشمسِ
فتقَطَّع: "إنَّه لَلَبَنٌ مُتَفَلِّقٌ ومُمْذَقِرٌّ" وهو أن يصير اللبن
ناحية، والماء ناحية، ورأيتهم يكرهون شرب الماء المتفلق).
فهذه المعاني اللغوية يؤخذ منها ما يناسب السياق بعد الاطلاع على أقوال أئمة المفسرين، وقد اختلفوا فيها على أقوال:
القول الأول: الفلق الصبح، وهو قول سعيد بن جبير، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد.
وقال به من أهل اللغة: الخليل بن أحمد، وأبو عبيدة معمر بن المثنى، وغيرهما.
وروي عن جابر وابن عباس، ولا يصحّ عنهما.
والقول الثاني: الفلق هو الخلق، وهو أقوى الروايتين عن ابن عباس، ونسبه الثعلبي للضحاك أيضاً، وقريب منه قول محمد بن كعب القرظي.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية عن الحسن أنّ الفلق هو كلّ ما انفلق من الخلق.
والقول الثالث: الفلق جبّ في جهنّم، وهو قول كعب الأحبار، والسدي، ورُوي فيه حديث منكر لا يصحّ.
والقول الرابع: الفلق هي جهنّم، وهذا قول أبي عبد الرحمن الحبّلي وهو من أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه.
فأما القول الثالث والرابع فليس المستند فيهما الدلالة اللغوية، وإنما
هو خبر مأثور عن كعب الأحبار، وهو معدود من الإسرائيليات، وقد روي فيه
حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يصحّ؛ فلذلك ليس لهذين القولين حجة
لغوية ولا دليل صحيح يُعتمد عليه، وقد ضعّفهما شيخ الإسلام ابن تيمية؛
فقال: (وأما من قال: إنه واد في جهنم أو شجرة
في جهنم أو أنه اسم من أسماء جهنم فهذا أمر لا تعرف صحته، لا بدلالة الاسم
عليه، ولا بنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في تخصيص ربوبيته بذلك
حكمة).
بقي قولان مأثوران في كتب التفسير المسندة: الصبح، والخلق كلّه.
وهما قولان صحيحان في اللغة، ومأثوران عن السلف، ويجمعهما المعنى اللغوي لمفردة "الفلق"
فالفلق مصدر يعمّ كلّ مفلوق، فالله تعالى فالق الإصباح، وفالق الحبّ
والنوى، وفالق الأرض بالنبات، وفالق الأرحام بالأجنّة، وفالق الحجارة
بالماء والعيون الجارية، وكلّ ما احتيج فيه إلى مخرج فالله تعالى وحده هو
الذي يفلق له مخرجه، لا فالق له إلا الله.
فتبيّن بذلك أنّ الفلق عامّ في الخلق كلّه، وأن القول بأنّ الفلق هو
الصبح إنما هو تفسير بالمثال، وهو مسالك من مسالك التفسير المعتبرة، لكن لا
يُحصر معنى الآية عليه.
وإذا نظرنا إلى الأمور المعنوية وجدنا أنّ العبد يحتاج فيها إلى فلق
في أمور كثيرة، فالصدر إذا لم يفلق الله له ما ينشرح به لم ينشرح، والأمر
المشكل إذا لم يفلق الله لعبده ما غسق عليه من الإشكال لم يهتدِ فيه إلى
الحقّ، والهمّ الذي يجثم على صاحبه ويؤذيه لا فارج له إلا الله، وتفريج
الله لعبده في كلّ أمر نزل به هو من آثار ربوبيته تعالى للفلق؛ فالفلق من
خصائص الربوبية، وهو نظير اختصاص الربّ جلّ وعلا بالإحياء، والإماتة،
والرزق، وكشف الضرّ، وغيرها من أفعال الربوبية.
فلا يكون فلق إلا بإذنه جلّ وعلا، وبهذا تظهر مناسبة الصفة المتوسّل بها إلى الله تعالى لغرض الاستعاذة.
- قال ابن تيمية: (الفَلَق فَعَل بمعنى مفعول، كالقَبَض بمعنى المقبوض، فكلّ ما فَلَقه الربُّ فهو فَلَق).
- وقال ابن القيم: (واعلمْ أنَّ الخلقَ كلَّه
فَلَقٌ، وذلك أنَّ فَلَقًا فَعَلٌ بمعنى مَفعولٍ: كقَبَضٍ وسَلَبٍ وقَنَصٍ
بمعنى مَقبوضٍ ومَسلوبٍ ومَقنوصٍ، واللهُ
عزَّ وجَلَّ فالِقُ الإصباحِ وفالقُ الحَبِّ والنَّوى وفالِقُ الأرضِ عن
النباتِ، والجبالِ عن العُيونِ، والسَّحابِ عن المطَرِ، والأرحامِ عن
الأَجِنَّةِ، والظلامِ عن الإصباحِ، ويُسَمَّى الصبْحُ الْمُتَصَدِّعُ عن
الظُّلْمَةِ: فَلَقًا وفَرَقًا، يُقالُ: هو أبيضُ من فَرَقِ الصُّبْحَ
وفَلَقِه.
وكما أنَّ في
خَلْقِه فَلْقًا وفَرْقًا؛ فكذلك أمْرُه كلُّه فُرْقَانٌ يَفْرُقُ الحقَّ
والباطلَ فيَفْرُقُ بينَ ظلامِ الباطلِ بالحَقِّ كما يفْرُقُ ظلامَ الليلِ
بالإصباحِ، ولهذا سَمَّى كتابَه الفُرْقَانَ، ونَصْرَه فُرْقَانًا
لتَضَمُّنِه الفَرْقَ بينَ أوليائِه وأَعدائِه، ومنه فَلْقُه البَحْرَ
لموسى فَلْقًا وسَمَّاهُ، فظَهَرَتْ حِكمةُ الاستعاذةِ برَبِّ الفَلَقِ في
هذه الْمَواضعِ، وظَهَرَ بهذا إعجازُ القرآنِ وعَظَمَتُه وجَلالتُه، وأنَّ
العِبادَ لا يَقْدِرون قَدْرَه، وأنه {تَنْزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}) ا. هـ.
وتفطَّن إلى أن قولَ ابن القيم فيه أن الفلق يعمّ الخلق والأمر، وهذا
له ما يؤيده من الإطلاق اللغوي كما سبق نقله عن أبي منصور الأزهري، وقد
تقدّم شرح ذلك.
بل شيخ الإسلام ابن تيمية له كلام في أن الفلق يعمّ الخلق والأمر.
والمقصود من هذا المثال أنّ معاني "الفلق" في اللغة متعددة، وما يصحّ أن تفسّر به الآية ثلاثة معانٍ، لها أدلتها وشواهدها.
سبيل معرفة معاني المفردات
وسبيل معرفة المعاني اللغوية للمفردات هو الرجوع إلى ما نُقل إلينا من
كلام العرب شعره ونثره، وهو ما عُني به أهل اللغة في معاجمهم وكثير من
كتبهم.
والتمييز بين المعاني المقبولة وغير المقبولة يُحتاج فيه إلى تأهيل
لغوي يتمكن به الباحث من معرفة أصول الاجتهاد في تقرير معاني المفردات
اللغوية في لسان العرب، وتمييز الشواهد التي يُحتجّ بها، ومعرفة مراتب أئمة
أهل اللغة في هذا الشأن.
وهذه المعرفة تفيد طالب العلم فائدتين:
- إحداهما: تمييز ما يقبل من كلام أهل
اللغة مما لا يُقبل؛ فمعاجم اللغة وإن كان الغالب عليها الصحة فليس كل ما
تضمّنته يُسلَّم به، بل فيها الصحيح المقبول، وفيها ما هو دون ذلك، وفيها
الخطأ المردود، كما أنه ليس كلّ ما تضمنته دواوين السنة من الأحاديث
والآثار يكون صحيحاً.
والخطأ في المعاجم اللغوية قد يكون لأسباب:
- منها ما يتعلق بالشواهد ودخول الخطأ في روايتها والنحل والصناعة وغيرها من العلل.
- ومنها ما يتعلّق بفهم تلك المفردات في السياق الذي وردت فيه.
وهذه الأخطاء منها ما هو بيّن ظاهر، كما قال أحد أصحاب المعاجم: (ويقال للجلدة التي بين العين والأنف: سالم)
أخذ ذلك من قول الشاعر:
يديرونني عن سالم وأديرهم ... وجِلْدةُ بين العين والأنف سالم
وسالم
هنا إنما هو اسم رجل، أراد أنه لمحبته إياه وعزّته عنده وحميّته دونه
بمنزلة الجلدة التي بين العين والأنف، وهي من أعزّ ما في الوجه.
ومن الأخطاء ما يُحتاج فيه إلى نظر دقيق وبصر بعلل المعاجم وعلل الشواهد.
وهذه الأخطاء عامّتها مما نبّه عليه كبار أهل اللغة في المعاجم
والمستدركات عليها؛ ولا يكاد يوجد معجم لغوي ذو شأن عند أهل العلم إلا
وعليه استدراكات وتعقبات تنقده وتمحّصه؛ فلذلك يحتاج الباحث الناقد إلى
النظر في جملة من المعاجم، وإلى معرفة مناهج أصحابها وما كتب عليها من
استدراكات حتى يكون نظره في المعنى أجود وأقرب إلى السلامة والصحة.
وسبب هذا التنبيه أني خشيت أن يغترّ مغترٌّ بكلمة يجدها في أي معجم
يتّفق له فيأخذها على التسليم، ويفسّر بها القرآن، وقد لا يعلم ما فيها من
العلل.
والفائدة الأخرى: أنّ من تأهّل للنظر
اللغوي في معاني المفردات وأمعن في استعمال أداوت أهل اللغة في استخراج
المعاني وتمييز الشواهد ونقدها أمكنه أن يستخرج جملة من المعاني مما فات
أصحاب المعاجم؛ وذلك أنّ المعاجم اللغوية غير محيطة بلسان العرب، وقد أُلّف
في فوائت المعاجم كتب كثيرة، ولم يستوعبوا.
والمفسّر بحاجة إلى التمكّن من أدوات الاجتهاد اللغوي حتى تكون دراسته
لمعاني المفردات والتراكيب والأساليب القرآنية مبنية على أصول لغوية
صحيحة ومتينة.
أمثلة من أقوال المفسرين في بيان معاني المفردات
ألاَ أبْلِغْ معاويةَ بْنَ حَرْبٍ ... مُغَلْغَلَة مِنَ الرَّجُلِ اليَمَانِي
أَتَغْضَب أن يُقالَ أَبُوكَ عَفٌّ ... وَتَرْضَى أَنْ يُقَالَ أَبُوكَ زَانِي
فَأَشْهَدُ أَنَّ إِلَّكَ مِنْ قُرَيْشٍ ... كَإِلِّ الفيلِ مِنْ وَلَدِ الأَتَانِ
إِنِّي لأعظم في صدر الكَميِّ على ... ما كان في زَمَنِ التَّجْدِيرِ والقِصَرِ
حُيِّيتَ من طَلَلٍ تَقَادَمَ عَهْدُهُ ... أَقْوَى وأَقْفَرَ بَعْدَ أُمّ الهَيْثَمِ
فإني بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من غدرة أتقنع
2: وقال ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس في هذه الآية {وثيابك فطهر} قال: في كلام العرب: (نقي الثياب). إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل أفاطم مهلا بعض هذا التدلل ... وإن كنت قد أزمعت هجري فأجملي
وفي رواية بهذا الإسناد: (فطهر من الذنوب).
وكذا قال إبراهيم، الشعبي، وعطاء.
3: وقال الثوري، عن رجل، عن عطاء، عن ابن عباس في هذه الآية: {وثيابك فطهر} قال: (من الإثم).
وكذا قال إبراهيم النخعي.
4: وقال مجاهد: {وثيابك فطهر} قال: (نفسك، ليس ثيابه).
5: وفي رواية عنه: {وثيابك فطهر} عملك فأصلح.
وكذا قال أبو رزين.
6: وقال في رواية أخرى: {وثيابك فطهر} أي: لست بكاهن ولا ساحر، فأعرضْ عما قالوا.
7: وقال قتادة: {وثيابك فطهر} أي: طهرها من المعاصي، وكانت العرب تسمي الرجل إذا نكث ولم يف بعهد الله إنه لمدنس الثياب، وإذا وفى وأصلح: إنه لمطهر الثياب.
8: وقال عكرمة، والضحاك: لا تلبسها على معصية.
وقال الشاعر:
10. ويقال: لا تلبس ثيابك على معصية.
11: وقال محمد بن سيرين: {وثيابك فطهر} أي: اغسلها بالماء.
وقال ابن زيد: كان المشركون لا يتطهرون، فأمره الله أن يتطهر، وأن يطهر ثيابه.
وهذا القول اختاره ابن جرير.
قد تشمل الآية جميع ذلك مع طهارة القلب، فإن العرب تطلق الثياب عليه، كما قال امرؤ القيس:
وإن تكُ قد سـاءتك مني خليقة ... فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل
13: وقال محمد بن كعب القرظي، والحسن البصري: وخلقك فحسن).
- وقال محمد الطاهر ابن عاشور(ت:1393هـ):({وثيابك فطهر (4)} هو في النظم مثل نظم {وربك فكبر} أي لا تترك تطهير ثيابك.
وللثياب إطلاق صريح وهو ما يلبسه اللابس، وإطلاق كنائي فيكنى بالثياب عن ذات صاحبها، كقول عنترة:
وإني بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من غدرة أتقنع
ثياب بني عوف طهارَى نقيّة ... وأوجههم عند المشاهد غرَّان
قال محمد الطاهر ابن عاشور(ت:1393هـ): (والسّخْري
بضم السين وبكسرها، وهما لغتان، ولم يقرأ في القراءات المشهورة إلا بضم
السين، وقرأ ابن محيص في الشاذ بكسر السين: اسم للشيء المسخر، أي المجبور
على عمل بدون اختياره، واسم لمن يُسخر به، أي يستهزأ به كما في «مفردات»
الراغب و «الأساس» و «القاموس» .
وقد فسر هنا بالمعنيين كما قال القرطبي.
وقال ابن عطية: هما لغتان في معنى التسخير، ولا تدخّل لمعنى الهزء في هذه الآية.
ولم يقل ذلك غيره وكلام الراغب محتمل.
واقتصر الطبري على معنى التسخير.
فالوجه
في ذلك أن المعنيين معتبران في هذه الآية، وإيثار لفظ سخريا في الآية دون
غيره لتحمله للمعنيين، وهو اختيار من وجوه الإعجاز؛ فيجوز أن يكون المعنى
ليتعمل بعضهم بعضاً في شؤون حياتهم فإن الإنسان مدني، أي محتاج إلى إعانة
بعضه بعضا، وعليه فسر الزمخشري وابن عطية وقاله السدي وقتادة والضحاك
وابن زيد، فلام {ليتخذ} لام
التعليل تعليلا لفعل قسمنا، أي قسمنا بينهم معيشتهم، أي أسباب معيشتهم
ليستعين بعضهم ببعض فيتعارفوا ويتجمعوا لأجل حاجة بعضهم إلى بعض فتتكون من
ذلك القبائل والمدن.
وعلى هذا يكون قوله: {بعضهم بعضا} عاما في كلِّ بعضٍ من الناس؛ إذ ما من أحد إلا وهو مستعمل لغيره وهو مستعمل لغير آخر.
ويجوز أن تكون اسما من السخرية وهي الاستهزاء، وحكاه القرطبي ولم يعيّن قائله وبذلك تكون اللام للعاقبة مثل {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا} ، وهو على هذا تعريض بالمشركين الذين استهزؤوا بالمؤمنين كقوله تعالى: {فاتخذتموهم سخريا} في سورة قد أفلح المؤمنون.
وقد جاء لفظ السخري بمعنى الاستهزاء في آيات أخرى كقوله تعالى: {فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون}، وقوله: {أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار}.
ولعل الذي عدل ببعض المفسرين عن تفسير آية سورة
الزخرف بهذا المعنى استنكارهم أن يكون اتخاذ بعضهم لبعض مسخرة علة لفعل
الله تعالى في رفعه بعضهم فوق بعض درجات، ولكن تأويل اللفظ واسع في نظائره
وأشباهه. وتأويل معنى اللام ظاهر).
التطبيقات:
اختر ثلاث المفردات من المفردات التالية وبيّن معانيها وما يصحّ أن تفسّر به في الآيات المذكورة:
1: معنى البلاء في قول الله تعالى: {وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم}
2. معنى التكوير في قول الله تعالى: {إذا الشمس كوّرت}
3: معنى "الغاسق" في قول الله تعالى: {ومن شرّ غاسق إذا وقب}
4: معنى النحر في قول الله تعالى: {فصلّ لربّك وانحر}
5: معنى العصر في قول الله تعالى: {والعصر إن الإنسان لفي خسر}
المثال الرابع: معنى "أطوار" في قول الله تعالى: {وقد خلقكم أطواراً}
في تفسير الأطوار ثلاثة أوجه صحيحة: لا تحسب الناسَ سواءً متى ... ما اشتبهوا فالناس أطوار إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره ... وساقني طبق منها إلى طبق كذلك المرء إن ينسأ له أجل ... يركب على طبق من بعده طبق ما سمي القَلْبُ إلا من تقلّبه ... والرأي يُصرف والإنسان أطوار لولا حبائل من نُعْمٍ علقت بها ... لأقصر القلبُ عنها أيّ إقصار لا بدَّ من ميتةٍ في صرفِها غِيَرٌ ... والدهر في صرفه حَول وأطوار نعالج العيش أطواراً تقلبه ... فيه أفانين تطوى عن أفانين فطورا تراه ضاحكا فى ابتسامة ... وطورا تراه قد علاه قطوب قد عشتُ في الناس أطواراً على طُرُق .. شتَّى وقاسيتُ فيها اللين والفظعــــــــا
الوجه الأول: أي: خلقاً من بعد خلق، نطفة ثم علقة ثمّ مضغة، وهو قول مجاهد وقتادة والضحاك وغيرهم.
والوجه الثاني: أطواراً أي: أصنافاً، في ألسنتكم وألوانكم وأخلاقكم وأعمالكم، وهذا الوجه ذكره بمعناه ابن قتيبة ومكي بن أبي طالب.
والوجه الثالث: أي على أحوال مختلفة، من الصحة
والمرض، والشدة والرخاء، والسرور والحزن، والهم والانشراح، إلى ما لا يحدّ
من أحوال الابتلاء بالخير والابتلاء بالشرّ.
والقرآن يدلّ على صحة هذه المعاني الثلاثة:
1: أما المعنى الأول فقد تكرر ذكره في آيات كثيرة في القرآن، منها قوله تعالى: {هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخاً}
2: وأما المعنى الثاني فيدلّ عليه قول الله تعالى: {وخلقناكم أزواجا} أي أصنافاً على أحد الوجهين في التفسير، وقوله تعالى: {احشروا الذين ظلموا وأزواجهم} أي أمثالهم وأشباههم وضُرباءهم؛ فكل صنف من الظالمين زوجٌ، وقوله تعالى: {وإذا النفوس زوّجت} أي ألحق النظير بنظيره من أهل كل عمل.
ومن هذا الوجه قول العرب: (الناس أطوار) أي أصناف، وقد قيل:
فقال: (خلق الله الناس أطواراً: فطائفة للعبادة،
وطائفة للسياسة، وطائفة للفقه والسنة، وطائفة للبأس والنجدة، وطائفة
للصنائع والحِرَف، وآخرون بين ذلك يكدرون الماء، ويغلون السعر).
وقد جُمع المعنيان الأول والثاني في قوله تعالى: {اللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا}
3: وأما المعنى الثالث فقد ورد في مواضع من القرآن منها قوله تعالى: {لتركبنّ طبقاً عن طبق} أي حالاً بعد حال، على أحد الأوجه في تفسيرها.
قال الأقرع بن حابس:
فإن أفاق لقد طالت عمــــــــــــايتُه ... والمرء يُخلق طوراً بعد أطـــــــــــوار
وقالت الخنساء:
كلا بلوتُ فلا النعمـــــــــــــــــــــــــاء تبطرني .. ولا تخشَّعتُ من لأوائها جزعـــــــــــــــــــــــــا
لا يمـــــــلأ الــــــــــهولُ صدري قبل موقِعِهِ .. ولا أضيق به ذرعاً إذا وقعـــــــــــــــــــــــــــــا
ما سُدّ لي مطلعٌ ضــــــــــــــــــــــــــــــاقت ثنيّتُه .. إِلَّا وجدتُ وراء الضيق متّسعـــــــــــــــــــا