6 Jun 2020
الدرس الرابع عشر: الالتفات
عناصر الدرس:
● تمهيد.
● أنواع الالتفات.
● تكرر الالتفات.
● الالتفات اللطيف.
● أثر اختلاف القراءات على تحقق الالتفات.
● المعاني البيانية للالتفات.
● الاجتهاد في استخراج المعاني البيانية للالتفات.
● أمثلة على استخراج لطائف الالتفات البيانية.
-المثال الأول: الالتفات في قول الله تعالى: {مالك يوم الدين . إياك نعبد وإياك نستعين}.
-
المثال الثاني: الالتفات في قول الله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى
الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ
(20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)
وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)}.
- المثال الثالث: الالتفات في قول الله تعالى: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون (1)}.
-
المثال الرابع: الالتفات اللطيف في قول الله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ
وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي
سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67)}.
● أمثلة من أقوال العلماء.
- قال الله تعالى: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم}.
- قال
الله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا
رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ
إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)}.
- قال
الله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ
وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ
وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا
يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)}.
- قال
الله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى
أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا
تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ
بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)}.
● تطبيقات الدرس الرابع عشر.
تمهيد
مما يتّصل بتراكيب الجمل ما يكون فيها من الالتفات، وهو كثير جداً في
القرآن الكريم، وقد ذكر العلماء من فوائده إذهابَ السآمة عن المخاطب
بالتفنن في تصريف الكلام، واسترعاءَ انتباه السامع، وتجديد نشاطه.
وللالتفات في القرآن لطائف بيانية بديعة زائدة على ما ذُكر، ويتفاوت
العلماء في استخراجها والبيان عنها، فمنها ما هو ظاهر بيّن قد تكررت أمثلته
حتى عُرف واشتهر، ومنها ما يستدعي لطافة ذهن، وقوة استنتاج، فيختلف
العلماء في استخراج فوائده البيانية.
أنواع الالتفات
حقيقة الالتفات هي الانتقال من طريقة في تركيب الكلام إلى طريقة أخرى.
وللالتفات أنواع تتفاوت في الظهور واللطافة؛ فمن الظاهر منه التنقل بين الخطاب والتكلّم والغيبة في فنون الكلام.
ومن اللطيف منه الالتفات العددي والمخالفة بين المعطوفات والتوابع ونحوها وعدم إجرائها مجرى واحداً، وأمثلته في القرآن كثيرة جداً.
فأنواع الالتفات على التفصيل تتعسّر الإحاطة بها؛ ومهما يحاول محاول
تقصّي هذه الأنواع وحصرها يمكن أن يستدرك عليه مستدرك، ويزيد عليه بعض ما
لم يذكره.
ولذلك فإنّ الأنفع لطالب العلم أن يدرس الأنواع المشتهرة بأمثلتها
ويتعرّف لطائفها البيانية، ثم يدرس من الأنواع اللطيفة ما يتيسّر له ليكتسب
معرفة تعينه على تفهّم ما لم يدرسه لو وقف على أمثلته.
فمن الأنواع المشتهرة للالتفات:
1: الالتفات من التكلّم إلى الخطاب، كما في قول الله تعالى: {وَمَا لِيَ لا أعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، ولم يقل: وإليه أُرجع.
2: والالتفات من التكلم إلى الغيبة، كما في قول الله تعالى: {إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله} ولم يقل: لنغفر. وقوله تعالى: {إنَّا أعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}.
3: والالتفات من الغيبة إلى التكلم، كما في قول الله تعالى: {وَاللَّهُ الَّذِي أرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ}، وقوله تعالى: {سُبْحَانَ
الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى
الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} ، وقوله تعالى: { وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا} ، وقوله تعالى: {وَهُوَ
الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ
شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً} ، وقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ
سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا
وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا}.
4: والالتفات من الغيبة إلى الخطاب كما في قول الله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ . إيَّاكَ نَعْبُدُ}، وقوله تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا} ، وقوله تعالى: {إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين}، وقوله تعالى: {أَلَّا
يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)}.
5: والالتفات من الخطاب إلى الغيبة، كما في قول الله تعالى: {حَتَّى إذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ}، وقوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} ، وقوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)}.
6: والالتفات من الخطاب إلى التكلّم كما في قول الله تعالى: {قل الله أسرع مكراً إنَّ رسلنا يكتبون ما تمكرون} على أحد الأوجه في تفسير الآية، وهو أن يكون قوله تعالى:{إنَّ رسلنا} من جملة مقول القول، وأمثلة هذا النوع عزيزة، ولا تكاد تسلم من المعارضة، وقد قال جلال الدين السيوطي في الإتقان: (ومثاله من الخطاب إلى التكلم لم يقع في القرآن، ومثل له بعضهم بقوله: {فاقض ما أنت قاض} ثم قال {إنا آمنا بربنا} وهذا المثال لا يصحّ لأن شرط الالتفات أن يكون المراد به واحدا)ا.ه.
وسبب ذلك أن ضمائر التكلم والخطاب تجتمع في المثال الواحد من غير حاجة
إلى التفات؛ فقول القائل: كُلْ إني صائم؛ وقوله: إني صائم فَكُل؛ لا يُحسّ
معه المخاطَب بالتفات؛ ولا يُعدّ من الالتفات إلا ما تحققت فيه حقيقة
الالتفات.
هذه هي الأنواع المشتهرة من الالتفات، وقد قصر بعض العلماء الالتفات عليها.
- قال أبو المعالي القزويني (ت:739هـ): (والمشهور عند الجمهور أن الالتفات هو التعبير عن معنى بطريق من الطرق الثلاثة بعد التعبير عنه بطريق آخر منها).
يريد بالطرق الثلاثة: التكلم والخطاب والغيبة.
- وقال ابن عاشور: (نرى من أفانين الكلام
الالتفات وهو نقل الكلام من أحد طرق التكلم أو الخطاب أو الغيبة إلى طريق
آخر منها، وهو بمجرده معدود من الفصاحة، وسماه ابن جني شجاعة العربية لأن
ذلك التغيير يجدد نشاط السامع فإذا انضم إليه اعتبار لطيف يناسب الانتقال
إلى ما انتقل إليه صار من أفانين البلاغة وكان معدودا عند بلغاء العرب من
النفائس، وقد جاء منه في القرآن ما لا يحصى كثرة مع دقة المناسبة في
الانتقال).
تكرر الالتفات:
قد يقع الالتفات مراراً سياق واحد، ولذلك أمثلة منها:
1: قول الله تعالى: {يَا
عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)
الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا
الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ
بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ
وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)}.
2: وقول الله تعالى: {سُبْحَانَ
الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى
الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ
آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى
الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا
مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ
كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي
الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ
عُلُوًّا كَبِيرًا (4)}.
الالتفات اللطيف
مما يلتحق بالالتفات أنواع لطيفة من تصاريف الكلام فيها معنى الالتفات
لما فيها من الانتقال من لون إلى لون آخر مغاير لما سبق في نظيره أو لما
كان يتوقّعه السامع بناء على استعمال مشتهر.
ولذلك عدّ بعض أهل العلم ما يكون التفاتاً عن الأصل نوعاً من أنواع
الالتفات؛ لأن العدول عن الاطراد والمقابلة لا يكون إلا لفائدة بيانية.
وهذه الأنواع اللطيفة من الالتفات يتعسّر حصرها، وأمثلتها في القرآن
كثيرة جداً، وهي من دلائل عجز البشر عن الإحاطة ببيان القرآن، لكنّي سأذكر
أمثلة تعرّف ببعض تلك الأنواع وتنبّه اللبيب على ما ورائها؛ فمن هذه
الأنواع:
1: الالتفات من الخبر إلى الإنشاء
ومثاله قول الله تعالى: { قُلْ إِنَّ هُدَى
اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ (72)} ، وقوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}.
2: الالتفات من المفرد إلى الجملة أو شبه الجملة
ومثاله: قول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ
اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ
وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} ولم يقل وأكيلة السبع، لأن بناء الأكيلة ينقسم إلى معنى المأكولة ومعنى المؤاكِلَة.
وقول الله تعالى: {وإن كنتم مرضى أو على سفر} ولم يقل أو مسافرين.
ومما يلتحق بهذا النوع الالتفات من حرف إلى حرف آخر في شبه الجملة كما في قول الله تعالى: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين}.
3: الالتفات من الاسم إلى الفعل والعكس
- فأما الالتفات من الاسم إلى الفعل فكما في قول الله تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا}، وقوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً}، وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ} وقوله تعالى: { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)}.
- وأما الالتفات من الفعل إلى الاسم فكما في قول الله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ من الحيّ}، وقوله تعالى: {سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون}.
4: الالتفات من الفعل المضارع إلى الماضي والعكس
- فالالتفات من الفعل المضارع إلى الماضي كما في قول الله تعالى: {إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين} وقوله تعالى: {ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما} ، وقوله تعالى: { ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر}.
- والالتفات من الفعل الماضي إلى المضارع: كما في قول الله تعالى: {تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا} وقوله تعالى: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله}، وقوله تعالى: { إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام} ، وقوله تعالى: {زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا}، وقوله تعالى: { كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)}.
5: الالتفات من المضمر إلى الظاهر
والإتيان بالظاهر بعد المضمر إذا كان له غرض غير دفع الالتباس فهو نوع من
الالتفات؛ لأنه لو أتي بالضمير لفُهم المعنى من غير التباس؛ فالعدول عن
المضمر إلى الاسم الظاهر دليل على إرادة فائدة بيانية.
ومن أمثلته قول الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ}، وقوله تعالى: {لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً}، وقوله تعالى: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ}، وقوله تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً}، وقوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً}، وقوله تعالى: {
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ
فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا
كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)} وقوله تعالى: {
إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا
أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ
الرَّسُولَ}.
- قال شرف الدين الطيبي: (ومثله قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} إلى قوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} عدل
عن المضمر إلى الظاهر لما في طريقة الالتفات من مزية البلاغة، وليعلم أن
الذي وجب الإيمان به واتباعه هو هذا الشخص الموصوف كائناً من كان إظهاراً
للنصفة، وتفادياً من العصبية).
وأما حين يكون الغرض دفع الالتباس فلا يعدّ من الالتفات لأن دفع الالتباس
غرض مقتضٍ لاختيار الاسم الظاهر دون المضمر، وهو من مقصود الخطاب الذي
يراد به البيان؛ فكان موافقا للأصل وليس خارجاً عنه.
وذلك كما في قول الله تعالى: {فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه} فلو قال [ من وعائه ] لأوهم عود الضمير على يوسف عليه السلام.
6: الالتفات العددي
وهو أن يُلتفت من مفرد أو مثنى إلى جمع أو العكس، أو يتلفت من مفرد إلى مثنى أو العكس، وهو ملحق بالالتفات.
- قال جلال الدين السيوطي في الإتقان: (يقرب من الالتفات نقل الكلام من خطاب الواحد أو الاثنين أو الجمع لخطاب آخر).
أ- فالالتفات من المفرد إلى الجمع، كما في قول الله تعالى: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا جَنَّاتِ عَدْنٍ}.
وقريب منه الانتقال من ضمير المفرد إلى ضمير العظمة كما في قول الله تعالى:
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا
وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ
نَبَاتٍ شَتَّى (53)}.
وقوله تعالى: {يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ
الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا
وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69)} يا عبادي الضمير مفرد، {بآياتنا} الضمير للعظمة.
ويقابله الانتقال من ضمير العظمة إلى ضمير المفرد كما في قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)}.
ب- والالتفات من المثنى إلى الجمع مثاله قول الله تعالى: { كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)} وقوله تعالى: {وَدَاوُودَ
وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ
الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)} ولم يقل "لحكمهما".
ج- والالتفات من المثنى إلى المفرد، كما في قول الله تعالى: {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى}، وقوله تعالى: {كلتا الجنتين آتت أكلها} وقريب منه قوله تعالى: {والله ورسوله أحقّ أن يرضوه}.
د- والالتفات من الجمع إلى المفرد لفظاً كما في قول الله تعالى: {بأكواب وأباريق وكأس من معين} ولم يقل "وكؤوس".
- قال بدر الدين الزركشي: (لم يقل "وكؤوس" لأن الكأس إناء فيه شراب؛ فإن لم يكن فيه شراب فليس بكأس، بل قدح.
والقدح إذا جعل فيه الشراب؛ فالاعتبار للشراب لا لإنائه؛ لأن المقصود هو
المشروب، والظرف اتخذ للآلة، ولولا الشراب والحاجة إلى شربه لما اتخذ.
والقدح مصنوع، والشراب جنس؛ فلو قال: "كؤوس" لكان اعتبر حال القدح، والقدح
تبع، ولما لم يجمعْ اعتبر حالَ الشراب وهو أصل، واعتبار الأصل أولى؛ فانظر
كيف اختار الأحسن من الألفاظ)ا.هـ.
قلت: ولأن الشارب إنما يشرب بكأس واحد؛ فأفادت الآية
العناية بكلّ فرد، وتصوير حال تلذذه بالشرب بما لا يتحقق بالجمع، لأن الجمع
إنما يدلّ على الكثرة، وهي مدلول عليها بجمع الأكواب والأباريق، والتلذذ
يُدلّ عليه بالإفراد، وقول الله تعالى بعدها: {لا يصدّعون عنها ولا ينزفون} ظاهر في التشويق بوصف حال تلذذهم، ومما يزيد الأمر وضوحاً قول الله تعالى في موضع آخر: {يُطَافُ
عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ
(46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)}
ونظير ذلك قول الله تعالى: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27)}
فأفرد المقامَ والنَّعمة بعد جمع الجنات والعيون والزروع؛ لما في الإفراد
من تصوير لحال التلذذ؛ فكأنّ الأرض التي كانوا فيها كانت كالمقام الواحد
الكريم، والمقام يحتمل أن يكون مصدراً ميمياً ويحتمل أن يكون اسم مكان،
وكلاهما موضع منّة يشملهما لفظ الآية، والتنكير للتفخيم ليصدق على كلّ مقام
لهم، بخلاف ما لو جمع فقال :"ومقامات" فيكون فيه تعيين مقامات محدودة
ووصفها بأنها كريمة، وما سواها ليس بكريم، وهذا خلاف المقصود.
والنَّعمة بفتح النون صفة للحال، أي متنعّمين فيها بنعيم سابغٍ قد ظهرت
آثاره عليهم؛ فهي حال دائمة متصلة، وليست حالات من النعيم تمرّ ثم تنقضي
بحالات شقاء.
هـ- ومما يلتحق بهذا النوع وصف الجمع بصفة المفرد كما في قول الله تعالى: {فما بال القرون الأولى} والأولى تأنيث الأوّل وهو مفرد، ولو جمع لقال "الأُوَل" جمع أولى، ومثله قوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى}.
والالتفات العددي له أمثلة متعددة في القرآن، بعضها
مسلّم بالالتفات فيه، وبعضها إنما توهّم فيه الالتفات، وهو جارٍ على الأصل،
فلا يُعدّ من الالتفات، ومن أمثلة ذلك:
1: قول الله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن}
توهّم فيه بعضهم الالتفات من المفرد وهو النبي إلى الجمع، ولا التفات هنا
لأن الكلام جارٍ على الأصل وهو خطاب النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره
إمام أمّته.
2: وقول الله تعالى: {إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما}
فمن عدّه التفاتاً من المثنى إلى الجمع فقد توهّم الالتفات، ولا التفات
هنا، لأن القلوب لم تزدد على قلبين بهذا التركيب، وهو نظير قول الله تعالى:
{والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} ومن المعلوم أنه لا تقطع إلا يمين كلٍّ من السارق والسارقة، لا تقطع جميع الأيدي.
وإنما ساغ استعمال لفظ الجمع هنا موافقة للأفصح في كلام العرب؛ طلباً
للتخفيف على اللسان مع أمن اللبس لما في اجتماع تثنيتين في متضايفين من
الثقل.
قال أبو إسحاق الزجاج: (وحقيقة هذا الباب
أنَّ كل ما كان في الشيء منه واحدٌ لم يُثنَّ، ولُفِظَ به على لفظ الجمع،
لأنَّ الِإضافة تُبينه، فإِذا قُلْتَ أشْبَعت بطونهما علم أن للاثنين بطنين
فقط، وأصل التثنية الجمعُ لأنك إِذا ثنيت الواحدَ فقد جمعتَ واحداً إِلى
واحِدٍ، وكان الأصل أن يقال: اثْنا رِجال، ولكنْ " رجلان " يدل على جنس
الشيء وعدده، فالتثنية يحتاج إِليها للاختصار، فإِذا لم يكن اختصار رُدَّ
الشيءُ إِلى أصْله، وأصلُهُ الجمع.
فإذا قلت: قلوبهما فالتثنية في " هما " قد أغنتك عن تثنية قَلْب فصار الاختصار ههنا ترك تثنية قلب)ا.هـ.
وقد وقع في كلام العرب إضافة مثنى إلى مثنى لكنّه لم يخل من الثقل، وذلك في مثل قول حميد بن ثور:
ومارَ بها الضبعانُ موراً وكلَّفت ... بعيرَيْ غُلامَيَّ الرَّسِيمَ فأرسما
فتًى لم تلِدْه بنتُ عمّ قريبة ... فيضْوَى وقد يَضوَى رَدِيد القرائبِ له الويل إن أمسى ولا أمّ هاشم ... قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا
3: وكما في قول الله تعالى: {والملائكة بعد ذلك ظهير}
قد يُتوهَّم فيه الالتفات من الجمع إلى المفرد، حيث لم يقل "ظهراء" ، ولا
التفات هنا؛ لأن فعيلاً يستوي فيه المؤنث والمذكر والمفرد والجمع، ومثله
قول الله تعالى: {وحسن أولئك رفيقا}.
ومثل "فَعِيل" في هذا الباب: "فَعُول" و"فِعَال" كما في قول الله تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، وقوله تعالى: {واجعلنا للمتقين إماما} ولم يقل أئمة؛ لأن هذه الصيغة تصدق على المفرد وعلى الجمع.
لكن هذا لا يلغي السؤال البياني عن سبب العدول عن لفظ الجمع "ظهراء" مع صحته إلى لفظ يستوي فيه المفرد والمثنى والجمع.
فالجواب: أن هذا أبلغ في الدلالة على الائتلاف والتوافق على الصفة حتى كأنها تقع من جميعهم وقوعها من واحدهم.
قال أبو حيان الأندلسي: (وكثيراً ما يأتي "فعيل" نحو هذا، للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ المفرد، كأنهم في المظاهرة يد واحدة على من يعاديهم).
وكذلك يقال في {إنا رسول} فرسالتهم واحدة.
وقوله: {واجعلنا للمتقين إماما} لأن منهجهم واحد لا يختلف.
وكذلك قوله تعالى: {فإنهم عدو لي} ولم يقل أعداء، لأن موجب العداوة وصف واحد ينطبق عليهم جميعاً.
4: وقول الله تعالى: {إن رحمت الله قريب من المحسنين} توهّم فيه بعضهم الالتفات من اللفظ المؤنّث إلى اللفظ المذكر، وتأولوا ذلك بتأويلاتٍ فيها تكلّف.
والصواب أن العرب تفرّق بين قُرْبِ القرابة في النَّسَب، وبين غيره من
أنواع القُرْب، كقرب المكان والزمان والشَّبَه؛ فقرب النَّسب يُتبع فيه
الموصوف تذكيراً وتأنيثاً؛ فتقول: هذا قريب لي، وتقول: هذه قريبة لي.
كما قال أعرابي:
قال الله تعالى: {وما يدريك لعل الساعة قريب}.
وقال امرؤ القيس:
والبعد نظير القرب، ويجري مجراه في هذا الباب، كما قال الله تعالى: {وما هي من الظالمين ببعيد}، ولم يقل: "ببعيدة"، وقال تعالى: {وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد}.
5: وقوله تعالى: {وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة} تُوهّم فيه الالتفات من المثنى إلى الجمع في قوله تعالى: {واجعلوا بيوتكم} ولا التفات هنا؛ لأن الجمع عائد على ما في لفظ القوم من معنى الجمع.
وقد يجتمع في مثال واحد أنواع لطيفة من الالتفات كما في قول الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فانتقل من فعل الأمر إلى المضارع، ثم من الجملة الفعلية إلى الجملة الاسمية، ومن المضمر المتبادر إلى الظاهر في موضعين.
المعاني البيانية للالتفات
الالتفات يزيّن الكلام ويطرّيه، وينشّط السامع، ويسترعي انتباهه، فيكون الكلام أوقع في قلبه، وأطرى في سمعه، وأدعى لانتباهه.
وهذه فائدة عامّة في جميع الالتفاتات، ثم يختصّ كلّ موضع بفائدة
بيانية زائدة على مجرّد التفنن في وجوه الكلام؛ لأنّ الخروج عن الأصل لا
يكون إلا لفائدة راجحة.
- قال بدر الدين الزركشي: (اعلم أن
للالتفات فوائد عامة وخاصة فمن العامة التفنن والانتقال من أسلوب إلى آخر،
لما في ذلك من تنشيط السامع واستجلاب صفائه واتساع مجاري الكلام).
- ثم قال: (وأما الخاصة فتختلف باختلاف محالّه ومواقع الكلام فيه على ما يقصده المتكلم).
- وقال ابن عاشور: (ولأهل البلاغة عناية
بالالتفات لأن فيه تجديد أسلوب التعبير عن المعنى بعينه تحاشيا من تكرر
الأسلوب الواحد عدة مرار فيحصل بتجديد الأسلوب تجديد نشاط السامع كي لا يمل
من إعادة أسلوب بعينه.
قال السكاكي في «المفتاح» بعد أن ذكر أن العرب يستكثرون من الالتفات:
«أفتراهم يحسنون قرى الأشباح فيخالفون بين لون ولون وطعم وطعم ولا يحسنون
قرى الأرواح فيخالفون بين أسلوب وأسلوب» .
فهذه فائدة مطردة في الالتفات، ثم
إن البلغاء لا يقتصرون عليها غالبا بل يراعون للالتفات لطائف ومناسبات،
ولم يزل أهل النقد والأدب يستخرجون ذلك من مغاصّه).
- وقال ابن عثيمين: (وللالتفات فوائد منها:
1- حمل المخاطب على الانتباه لتغير وجه الأسلوب عليه.
2- حمله على التفكير في المعنى، لأن تغيير وجه الأسلوب، يؤدي إلى التفكير في السبب.
3- دفع السآمة والملل عنه، لأن بقاء الأسلوب على وجه واحد، يؤدي إلى الملل غالباً.
وهذه الفوائد عامة للالتفات في جميع صوره، أما الفوائد الخاصة فتتعين في كل صورة، حسب ما يقتضيه المقام).
وتتبع أقوال العلماء في معاني الالتفات يعين في استخراج أصول مهمة تعين على ضبط البحث في المعاني البيانية للالتفات.
فمن الفوائد البيانية التي تتكرر في أنواع من الالتفات أن يشتمل
الكلام على ما يراد به فئة دون فئة؛ فيستخدم الالتفات لتمييز الفئة
المعنيّة عن غيرها، كما في قول الله تعالى: {هُوَ
الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي
الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا
جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي
الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}.
فالتفت في قوله: {وجرين بهم}
ولم يقل بكم، لأن المنّة بتسخير الفلك عامة للمؤمنين والمشركين، والفعل
المذموم في الآية من أعمال المشركين وليس من عمل المؤمنين؛ فالتفت من
الخطاب إلى الغيبة لتمييز الفئة المعنية، وقد يقع هذا الغرض في أنواع أخرى
من الالتفات.
ولكلّ نوع من أنواع الالتفات أغراض بيانية مشتهرة فيه؛ فمن ذلك أنّ الالتفات من الغيبة إلى الخطاب يكون لأغراض منها:
1: الترقي لاستحضار الخطاب؛ وذلك أوقع في النفس، وأقوى أثراً على القلب كما في قول الله تعالى: {الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين . إياك نعبد وإياك نستعين}.
فإن العبد لما ذكر ربه فحمده ثم أثنى عليه ثمّ مجّده وفوّض الأمر إليه
؛ استحضر من معاني الإيمان ما يناسب الالتفات إلى الخطاب؛ فيسأل ربّه كأنه
يراه.
2: التنبيه؛ فيتنبّه المخاطب بعد أن يشمله الحديث بصيغة الغائب؛ فيكون في الالتفات إلى الخطاب زيادة تنبيه كما في قول الله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)} بعد أن مضى الحديث في الآيات التي قبله على استعمال الغَيبة.
3: تقريع المخاطب؛ كما في قول الله تعالى: {
إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا
كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا
فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)} فوقع الالتفات في الآية الأخيرة من الغيبة إلى الخطاب، وفي ذلك تقريع ظاهر للكفار.
4: التلطّف بالمخاطب، كما في قوله تعالى: {عبس وتولى . أن جاءه الأعمى . وما يدريك لعلّه يزكّى}.
- قال شيخنا ابن عثيمين: (وفيها أيضاً تلطف الله عز وجل بمخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال في أولها: {عبس وتولى. أن جاءه الأعمى}
ثلاث جمل لم يخاطب الله فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنها عتاب
فلو وجهت إلى الرسول بالخطاب لكان شديداً عليه، لكن جاءت بالغيبة {عبس} وإلا كان مقتضي الحال أن يقول (عبست وتوليت إن جاءك الأعمي) ولكنه قال: (عبس وتولى) فجعل الحكم للغائب كراهية أن يخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الكلمات الغليظة الشديدة).
والالتفات من الخطاب إلى الغيبة يقع لأغراض متعددة منها:
1: إظهار الانصراف عن المخاطب، وهذا الانصراف قد يقع إبعاداً له عن شرف الخطاب وتنزيلاً له منزلة الغائب الذي لا يستحق شرف الخطاب، كما في قول الله تعالى: {وإن
تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين (18) أولم
يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير (19)}.
- قال ابن عاشور: (والالتفات من الخطاب إلى الغيبة لنكتة إبعادهم عن شرف الحضور بعد الإخبار عنهم بأنهم مكذبون).
ومثله قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي
أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا
تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا
قَالَ الْأَوَّلُونَ (81)}.
فالتفت عنهم إبعاداً لهم، مع تحقق غرض التمييز المتقدّم ذكره.
2: التلطّف بالمخاطب لئلا يُجْبَهَ بما يكره، كما قيل في قول الله تعالى: {ما ودَّعك ربّك وما قلى} على أحد الأوجه في تفسير الآية.
3: تمييز طائفة مدحاً أو ذماً، وقد اجتمعا في قول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ
مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)}.
وتتبع الأغراض البيانية لكل نوع من أنواع الالتفات يطول، وحسبنا في هذا المقام فتح الباب وتوضيح الطريقة.
الاجتهاد في استخراج اللطائف البيانية من الالتفات
الاجتهاد في استخراج اللطائف البيانية من الالتفات يقع فيه الصواب
والخطأ؛ فمن أهل العلم من يوفّق لحسن استخراج اللطائف البيانية للالتفات
وحسن البيان عنها، ومنهم من يصيب بعضاً ويخطئ بعضاً، ومنهم من يصحّ قوله
على وجه من أوجه التفسير دون الأوجه الأخرى، ومنهم من يسبق إلى ذهنه معنى
يتوّهمه ولا يصحّ فيخرّج الالتفات عليه فيخطئ.
والخطأ في توجيه الالتفات يقع لأسباب منها:
1: أن لا يكون في الآية التفات أصلاً.
2: والخطأ في تعيين نوع الالتفات.
3: والخطأ في الوجه الذي بُني عليه الالتفات.
4: والخطأ في المعنى البياني المستخرَج بالالتفات.
وقد يقع الالتفات في بعض الأوجه التفسيرية دون بعض كما
قد يقع في بعض القراءات دون بعض، وقد يتوّهم بعض العلماء حصول التفات لما
سبق إلى أذهانهم من أوجه في التفسير وهي ضعيفة.
ولكلّ ما تقدّم أمثلة أكتفي بذكر مثالين للتوضيح:
1: قول الله تعالى: {ما ودّعك ربّك وما قلى} ذكر بدر الدين الزركشي أن ابن الشجري جعله من الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، ثم ردّه بقوله: (وقد سبق أنه على حذف المفعول فلا التفات).
- قلت: لكن فيه نوع من الالتفات اللطيف، للمخالفة بين وعدك وقلى، فحذف
المفعول في الفعل الثاني دون الأول، ومن فوائده موافقة رؤوس الآي، وإفادة
العموم؛ فما قلاك وما قلى عباده المؤمنين.
- وقال الوزير ابن هبيرة فيما نقله عنه الحافظ ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة: (وإنما قال: {وما قلى} ولم يقل: وما قلاك، لأن القلى بغض بعد حب، وذلك لا يجوز على الله تعالى، والمعنى: وما قلى أحدا قط).
2: قول الله تعالى: {قُلْ
يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي
وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
(158)}
- قال بدر الدين الزركشي: (وقوله: {يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا} إلى قوله: {فآمنوا بالله ورسوله} ولم يقل: [بي] وله فائدتان:
إحداهما: دفع التهمة عن نفسه بالعصبية لها.
والثاني:
تنبيههم على استحقاقه الاتباع بما اتصف به من الصفات المذكورة من النبوة
والأمية التي هي أكبر دليل على صدقه وأنه لا يستحق الاتباع لذاته بل لهذه
الخصائص).
- قلت: الالتفات إنما هو على اعتبار أن يكون قوله: {فآمنوا بالله ورسوله}
من صلة مقول القول، فأما إذا كان خطاباً استئنافياً فلا يكون فيه التفات
من التكلّم إلى الغيبة، وإنما قد يعدّ نوعاً من أنواع الالتفات اللطيف من
التلقين إلى الخطاب المباشر.
أمثلة على لطائف الالتفات
المثال الأول: الالتفات في قول الله تعالى: {مالك يوم الدين . إياك نعبد وإياك نستعين}
في سورة الفاتحة أنواع من الالتفات؛ ومن الالتفات الظاهر فيها الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قول الله تعالى فيما علّمه عباده: {إياك نعبد وإياك نستعين}
قول العبد في قراءته: {الحمد لله ربّ العالمين}
حمدٌ لله تعالى بالغيب، وهو حمد الموقن بربّه المعتقد لاستحقاقه الحمد؛
وهذا أدعى لأن يستحضر القارئ معنى استحقاق الله تعالى للحمد ليطابق قوله ما
يشهده ببصيرته من آثار حمد الله تعالى.
ثم قوله: {الرحمن الرحيم} ثناء على
الله يزداد به تقرباً إليه وتوسّلاً إليه برحمته الواسعة التي وسعت كلّ
شيء، ورحمته الخاصّة التي امتنّ بها على عباده المؤمنين؛ وذلك أدعى لأن
يستحضر آثار رحمة الله تعالى فيزداد تقرباً إلى الله.
ثم قوله: {مالك يوم الدين} تمجيد لله تعالى، وتفويض إليه، واقتراب من سؤاله حاجته، وفيه شهود لتفرّده تعالى بالملك والحساب والجزاء،
فكأنّ المؤمن بعد هذا الترقّي البديع في المعارف الجليلة قد فتح له
الباب ليسأل حاجته؛ فانتُقل به من الغيبة إلى الخطاب؛ فيُحسن التوسّل إلى
الله تعالى بقوله: {إيّاك نعبد وإياك نستعين}
وفي ذلك من تحقيق التوحيد وإخلاص التوكّل والاستعانة بالله، والتبرّؤ من
الحول والقوّة إلا بالله تعالى ما يناسب الخطاب، ليسأل حاجته وقد قرَّبه
الله بما علّمه من التوسّل إليه والثناء عليه والتأدّب بين يديه.
المثال
الثاني: الالتفات في قول الله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ
رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا
مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا
أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)}
الالتفات في قوله تعالى حكاية عن مؤمن أصحاب القرية: {وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون} التفات من التكلم إلى الخطاب، وفيه نوع احتباك لطيف يقوم مقام التنبيه على الحجة؛ فقال: {وإليه ترجعون} مكان وإليه أرجع؛ ليرجعوا بأنفسهم إلى صدر الكلام فيجدوه منادياً لهم أبين النداء: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم؟!!
وفيه فائدة أخرى وهي أن قوله: {وما لي لا أعبد الذي فطرني} يبيّن أنه أقام نفسه مقام المبادر إلى ما يأمرهم به؛ ليكون أوقع في النفس بخلاف من يأمر غيره ينتظر أن يتقدموه ليتبعهم.
وفيه فائدة أخرى: وهي أنه بهذه العبارة يخاطب قلوبهم ليقذف هذا السؤال
في قلب كلّ واحد منهم يكرره في نفسه ليتأمّله ويتفكّر فيما يلزمه من
جوابه.
المثال الثالث: الالتفات في قول الله تعالى: {أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون (1)}
فقوله تعالى: {فلا تستعجلوه} هو من خطاب غير المعيّن، فيعمّ كل من يصلح له الخطاب من مؤمن وكافر:
فالمشركون تحملهم أسباب على استعجال أمر الله منها الاستهزاء
والاستبعاد والتكذيب وهم مقيمون على كفرهم وظلمهم وطغيانهم وأذيتهم لعباد
الله المؤمنين.
والمؤمنون يحملهم على الاستعجال استبطاء الفرج والنصر، والرغبة في الخلاص من أذى الكفار والمشركين .
فالنهي عن الاستعجال يشمل الفريقين؛ لكن يختلف معنى خطاب المؤمنين عن معنى خطاب الكافرين.
فالنهي للمؤمنين يحمل معنى التلطف والحث على الصبر، والتعبير بالفعل الماضي {أتى أمر الله} يفيد تأكيد البشارة للمؤمنين؛ لدلالته المؤكّدة على قرب الوقوع وتحققه.
والنهي للكافرين يحمل معنى التوعّد، وأنّه لا مناص لهم منه.
فكان في الالتفات في قوله تعالى: {سبحانه وتعالى عما يشركون} إلى الغيبة فوائد:
أحدها: تكريم المؤمنين بإبقائهم في دائرة الخطاب.
والثانية: إقصاء الكافرين من دائرة الخطاب إلى دائرة الغيبة؛ فنُزّلوا منزلة المُعرَض عنهم.
والثالثة: أن الشرك إنما يقع من المشركين ، وليس من شأن المؤمنين، ولو قال: "تُشركون" لتمحّض الخطاب للمشركين.
والرابعة: أن قوله تعالى: {سبحانه وتعالى عما يُشركون}
فصل قائم مقام التعليل لتحقيق وعد قادم لا محالة؛ لأن تنزيه الله وتعاليه
عمّا يشركون يقتضي إتيان الأمر الذي وعد الله به عباده المؤمنين، وتوعّد به
المشركين، وأنّ الله يتعالى عن أن يترك عباده سدى، وأن يخلقهم عبثاً ، بل
لا بدّ لهم من ميعاد يوم يُحكم فيه بين المؤمنين والكافرين ، ولن يجعل الله
للكافرين على المؤمنين سبيلاً.
المثال
الرابع: الالتفات اللطيف في قول الله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا
لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ
وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67)}
في هاتين الآيتين التفات لطيف، وذلك أن قوم هود رموه بالسفه وبالغوا في ذلك ؛ حتى عدّوه {في سفاهة} فنزلوا السفاهة منزلة الظرف المحيط به من جميع جوانبه؛ ليظهروا له أنهم يرون أمره كلّه سفه لا رشد فيه.
فالتفت عن جوابهم بمقتضى الظاهر ولم يقل [ لست في سفاهة ] لأن نفي
الانغماس في السفه لا يقتضي نفي الاتصاف بشيء منه، وهو أراد إبطال تهمتهم
ونفيها من أصلها؛ فقال: {ليس بي سفاهة}
فنفى عن نفسه جميع ما يمكن أن يسمّى سفاهة مهما قلّ؛ فليس فيه أدنى سفاهة،
بل أمره كلّه رشد لا سفه فيه؛ فمن اتبعه رشد، وإنما السفاهة على من خالفه.
نظير ذلك جواب نوح عليه السلام لقومه كما في قول الله تعالى: {
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)
قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ (61)}.
أمثلة من أقوال العلماء:
قال الله تعالى: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم}
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (قوله: {كنتم} يتناول المؤمن والكافر؛ فعدل إلى صيغة الغيبة التي تتناول من فعل ذلك الفعل المذموم خاصة).
قلت: وفيها معنى الاستشهاد بالمؤمنين.
قال
الله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا
رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ
إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)}
- قال بدر الدين الزركشي: (وقوله: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم}
والأصل [فقطعتم] عطفا على ما قبله لكن عدل من الخطاب إلى الغيبة فقيل إنه
سبحانه نعى عليهم ما أفسدوه من أمر دينهم إلى قوم آخرين ووبخهم عليه قائلا:
ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله لم؟!).
قال الله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ
رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)}
- قال أبو الحسن البقاعي: (لما كانت
الدلالة بالنجم أنفع الدلالات وأعمها وأوضحها براً وبحراً ليلاً ونهاراً،
نبه على عظمها بالالتفات إلى مقام الغيبة لإفهام العموم لئلا يظن أن
المخاطب مخصوص، وأن الأمر لا يتعداه، فقال تعالى: {وبالنجم هم} أي أهل الأرض كلهم، وأولى الناس بذلك أول المخاطبين، وهم قريش ثم العرب كلها، لفرط معرفتهم بالنجوم {يهتدون} وقدم الجار تنبيهاً على أن دلالة غيره بالنسبة إليه سافلة.
ولما لم يبق - بذكر الدلائل على
الوحدانية على الوجه الأكمل، والترتيب الأحسن، والنظم الأبلغ - شبهةٌ في أن
الخالق إنما هو الله، لما ثبت من وحدانيته، وتمام علمه وقدرته، وكمال
حكمته، لجعله تلك الدلائل نعماً عامة، ومنناً تامة، مع اتضاح العجز في كل
ما يدعون فيه الإلهية من دونه، واتضاح أنه سبحانه في جميع صنعه مختار،
للمفاوتة في الوجود والكيفيات بين ما لا مقتضى للتفاوت فيه غير الاختيار،
فثبت بذلك أنه قادر على الإًّتيان بما يريد).
قال الله تعالى:
{أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ
اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ
فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) }
- قال ابن عاشور: ( قوله تعالى: {وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون (88)} إمّا عطفٌ على قوله: {استكبرتم} أو على {كذبتم}
فيكون على الوجه الثاني تفسيراً للاستكبار، أي يكون على تقدير عطفه على
{كذبتم} من جملة تفصيل الاستكبار، بأن أشير إلى أن استكبارهم أنواع: تكذيب
وتقتيل وإعراض.
وعلى الوجهين ففيه التفات
من الخطاب إلى الغيبة، وإبعاد لهم عن مقام الحضور؛ فهو من الالتفات الذي
نكتَتُه أنَّ ما أجري على المخاطب من صفات النقص والفظاعة قد أوجب إبعاده
عن البال، وإعراض البال عنه؛ فيشار إلى هذا الإبعاد بخطابه بخطاب البعد فهو
كناية.
وقد حسَّن الالتفاتَ أنه
مؤذن بانتقال الكلام إلى سوء مقابلتهم للدعوة المحمدية، وهو غرض جديد؛
فإنهم لما تحدّث عنهم بما هو من شؤونهم مع أنبيائهم وجّه الخطاب إليهم،
ولما أريد الحديث عنهم في إعراضهم عن النبيء صلى الله عليه وسلم صار الخطاب
جارياً مع المؤمنين، وأجرى على اليهود ضمير الغيبة).
تطبيقات الدرس الرابع عشر:
بيّن اللطائف البيانية للالتفات في الآيات التاليات:
1: قول الله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي
الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا
عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)}
2: قول الله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ
بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)
وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ
أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)}
3: قول الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا
وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ
وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)}
4: قول الله تعالى: {بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ
النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ
بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا}
5: قول الله تعالى: { أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ
لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ
لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ
فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ
أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)}