13 May 2020
دلالات تراكيب الجمل
الحمل على اللفظ والحمل على المعنى
عناصر الدرس:
● تمهيد.
● اختلاف القراءات في الحمل.
● المعاني البيانية للحمل على اللفظ والحمل على المعنى.
● أمثلة على لطائف الحمل على اللفظ والحمل على المعنى:
-
المثال الأول: قول الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)}.
-
المثال الثاني: قول الله تعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12)
لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا
اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ}.
-
المثال الثالث: قول الله تعالى: {وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ
دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى
الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ
خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)}.
● أمثلة من أقوال العلماء:
- قال الله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178)}.
-
قال الله تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ
خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ
مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ
حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)}.
-
قال الله تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا
قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا}.
● تطبيقات الدرس الثالث عشر.
تمهيد
مما ينبغي لطالب العلم تفهّمه ما يكون في القرآن وفي لغة العرب من الحمل على اللفظ والحمل على المعنى.
فالحمل على اللفظ هو أن يُتبع الكلام ما يقتضيه من تذكير أو تأنيث ومن جمع أو تثنية أو إفراد، وهو الأصل الكثير الشائع.
والحمل على المعنى هو أن يكون الإتباع لأجل المعنى على خلاف اللفظ، كما قال الله تعالى: {وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم} ، وهذا حملٌ على معنى الجمع في {كم من ملك} ، ولو حمل على اللفظ لقال: لا تغني شفاعته.
وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)}
{يستمعون} حمل على المعنى لأنهم جماعة، ولو حمل على اللفظ لقال: ومنهم من يستمع.
وقد يجتمع في موضع واحد حمل على اللفظ ثمّ حمل على المعنى، وهو كثير أيضاً في القرآن الكريم، ومن أمثلته:
1: قول الله تعالى: {ويَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ شَيْئًا ولا يَسْتَطِيعُونَ}
{لا يملك} حمل على اللفظ.
{ولا يستطيعون} حمل على المعنى.
2: وقوله تعالى: {وقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} فجمع الحمل على اللفظ والحمل على المعنى.
{كان} حمل على اللفظ، ولو حمل على المعنى لقال: كانوا.
{هوداً أو نصارى} حمل على المعنى، ولو حمل على اللفظ لقال: إلا من كان هائداً أو نصرانياً.
3: وقوله تعالى: {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} فصدر الآية حمل على اللفظ، وخاتمتها حمل على المعنى.
4: وقوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)}
{زين له} حمل على اللفظ.
{واتبعوا} حمل على المعنى.
5: وقوله تعالى: { كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)}
{خالد} حمل على اللفظ.
{وسقوا} حمل على المعنى.
6: وقوله تعالى: {وَمَنْ
يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ
وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ
فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)}
{خالدين} حمل على المعنى، وما قبلها حمل على اللفظ.
فهذه أمثلة الجمع والإفراد، وأما التذكير والتأنيث فمن أمثلته قول الله تعالى: {ومَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ ورَسُولِهِ وتَعْمَلْ صَالِحًا}
{يقنت} حمل على اللفظ.
{وتعمل} حمل على المعنى.
وقرأ حمزة والكسائي: {ويعمل صالحاً} بالحمل على اللفظ.
وقرأ رَوح وزيد عن يعقوب في الشواذ: [ ومن تقنت ] بالحمل على المعنى.
- قال أبو حيان في "ارتشاف الضَّرَب": (إذا حملت تارة على اللفظ وتارة على المعنى، وسبق الحمل على اللفظ؛ فلا خلاف في جوازه وحسنه وكثرته).
- وقال الأستاذ محمد عبد الخالق عضيمة في دراساته: (إذا اجتمع الحَمْلان: الحمل على اللفظ، والحمل على المعنى، بُدئ بالحمل على اللفظ، هذا هو الشائع المستفيض في القرآن).
وقد يقع في القرآن حمل على اللفظ، ثم حمل على المعنى، ثم رجوع إلى الحمل على اللفظ، ومن أمثلته:
1: قول الله تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا}
- مضمر ما بعد "ما" وقدّر بـ"استقرّ" حمل على اللفظ.
- و{خالصة} حمل على المعنى.
- و{محرم} حمل على اللفظ.
2: وقول الله تعالى: {وَمَنْ
يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ
اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)}
- {ويعمل صالحاً}، و{يدخله} حمل على اللفظ.
- {خالدين فيها} حمل على المعنى.
- {أحسن الله له} حمل على اللفظ.
وقد يقع حمل على اللفظ ثم على المعنى ثم على اللفظ ثم على المعنى، ومن أمثلته:
1: قول الله تعالى:
{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ
مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ
وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ
عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)}
- {وغضب عليه} حمل على اللفظ.
- {وجعل منهم} حمل على المعنى.
- {وعبد الطاغوت} حمل على اللفظ.
- {أولئك} حمل على المعنى.
2: وقول الله تعالى: {وَمَنْ
يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ
قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ
بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)
وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ
مُشْتَرِكُونَ (39)}
الآية الأولى الحمل فيها على اللفظ، والآية الثانية على المعنى، والآية الثالثة على اللفظ، والآية الرابعة على المعنى.
اختلاف القراءات في الحمل
إن قيل: أيّهما أبلغ الحمل على اللفظ أو الحمل على المعنى؟
فالجواب: أنّ ذلك يختلف بحسب السياق والغرض البياني؛ فقد يكون الحمل على
اللفظ أبلغ في موضع، ويكون الحمل على المعنى أبلغ في موضع آخر.
وقد يجتمع في موضع واحد بلاغة الحمل على اللفظ باعتبار، والحمل على المعنى باعتبار آخر.
ومن ذلك ما اختلفت فيه القراءات في هذا
الباب؛ فإنّ مما نعتقده أنّه لا يقع في القرآن اختيار لفظ على لفظ، ولا
تركيب على تركيب، ولا أسلوب على أسلوب؛ إلا والذي اختاره الله أحسن وأبلغ؛ فإذا اختلفت القراءات؛ فيكون لكلّ قراءة اعتبارٌ، ومن أمثلة ذلك:
1: ما تقدّم ذكره في قول الله تعالى: {ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً}
قرأ الجمهور {تعمل} بالتاء حملاً على المعنى.
وقرأ حمزة والكسائي [يعمل] بالياء حملاً على اللفظ.
2: وقول الله تعالى: { هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)}
قرأ الجمهور {وآخر} بالحمل على اللفظ، وقرأ أبو عمر [وأُخَر] بالجمع حملاً على المعنى.
3: وقول الله تعالى: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى}
قرأ الجمهور: {أن يكون} بالياء حملاً على اللفظ.
وقرأ أبو عمرو ويعقوب: {أن تكون} بالتاء حملاً على المعنى.
المعاني البيانية للحمل على اللفظ والحمل على المعنى
المعاني البيانية للحمل على
اللفظ والحمل على المعنى في غاية اللطف، وقد عزَّ من يتعرّض لها من
المفسّرين، وسأذكر من الأصول والأمثلة في هذا الباب ما أرجو أن يفتح
لطالب العلم باب اللطائف البيانية فيه، ويعينه على دراسة أمثلته، وتفهّم
أغراضه، وما يُثمر من الأوجه التفسيرية، واللطائف البيانية.
فأقول:
1. إن الأصل في الكلام الحمل على اللفظ؛ وقد يُخرج منه إلى الحمل على المعنى لأغراض بيانية.
2.
واختيار الإبقاء على الحمل على اللفظ في القرآن مع جواز العدول عنه إلى
الحمل على المعنى يفيد معاني بيانية حسنة بناءً على ما تقرَّر من أصل
اختيار الله تعالى لأحسن الألفاظ والأساليب في القرآن الكريم وإحكامه
آياته غاية الإحكام.
3. وقد يجتمع في موضع واحد أغراض متعددة، فيتفاوت أهل العلم في استخراجها والبيان عنها.
4.
ومن أصول هذا الباب أن اختيار الحمل على المعنى يفيد التنبيه على استحضار
قوّة المعنى غالباً؛ ثمّ تتنوّع هذه المعاني في كلّ مثال بحسبه.
ففي قول الله تعالى:{بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}
{فله أجره} حمل على اللفظ، يفيد تحقق الجزاء لكلّ من قام بالشرط لا يخاف من فوات جزائه مزاحمة أحد ولا مغالبته.
{ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} حمل على المعنى يفيد كثرتهم، واستئناسهم بأمانهم من الخوف والحزن، وهذا من تمام النعمة عليهم.
وعلى هذا النوع أمثلة كثيرة في القرآن الكريم.
وقال تعالى: {ما تسبق من أمّة أجلها وما يستأخرون} في سورتي الحجر والمؤمنون.
{أجلها} حمل على اللفظ.
{وما يستأخرون} حمل على المعنى.
فأفاد هذا التنوّع بيان
توقيتين توقيت أممي لكلّ أمّة، وتوقيت فردي لكلّ فرد؛ وهذا أقوى في الدلالة
على إحكام الآجال على التفصيل والإجمال؛ فإتباع
الحمل على اللفظ بالحمل على المعنى جار مجرى التفصيل بعد الإجمال، ولئلا
يظنّ ظانّ أن التوقيت لكلّ أمّة قد يتخلّف عنه فرد من أفرادها؛ فانتظمت
الآية الدلالة على التوقيت في اتساق عجيب لطيف.
وهذا المعنى له نظائر في القرآن الكريم كما في قول الله تعالى في سورة الأعراف: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)}
وقال تعالى في سورة يونس:
{ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ
اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا
يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)}
5.
وقد يفيد الحمل على اللفظ أو الحمل على المعنى موافقة فواصل الآيات، وهذا
سبب يرى بعض أهل العلم أنه لا يستقلّ بالحكمة، ومنهم من يراه سبباً كافياً
لأن مراعاة الفواصل بما لا يحصل به إخلال بالمعنى أو تقصير فيه كمالٌ
لفظي يُضاف إلى كماله المعنوي.
ومن أمثلة ما تحققت فيه مراعاة الفواصل قول الله تعالى:
{ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9)
وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11)
لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12)}
ففي قوله تعالى: {أقتت} حمل على اللفظ مع جواز أن يقول أقتوا في العربية فيحمل على المعنى، لكن إيثار الحمل على اللفظ هنا فيه فائدتان:
الأولى: موافقة فواصل الآيات.
والثانية: ليكون معنى {أُجّلت} شاملاً لكل ما تقدّم؛ فيصحّ انتظام الجميع في ضمير واحد.
أمثلة على لطائف الحمل على اللفظ والحمل على المعنى
المثال
الأول: قول الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)}
وفي قول الله تعالى: {خالدين فيها}
حمل على المعنى؛ باعتبار تعدد الداخلين وكثرتهم، ولما يشعر به اللفظ من
اكتمال الأنس باجتماع المؤمن بأحبابه وإخوانه المؤمنين، وأن دخوله للجنة لا
يقتضي توحّده فيها.
وفي قول الله تعالى في شأن العصاة الكفار: {خالداً فيها}
حمل على اللفظ جرياً على الأصل، وتأكيداً على فردية الحساب والجزاء،
وتنبيهاً على أنّ الكافر يعذّب بالوحدة مع ما يصيبه من العذاب الأليم في
جسده؛ فيجتمع له العذاب الحسي والعذاب النفسي، والعياذ بالله.
المثال
الثاني: قول الله تعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12)
لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا
اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ}
ذكر الله تعالى من مننه على عباده ما خلق لهم من أنواع الأزواج كلها، من أنفسهم ومن الحيوانات والنباتات وغيرها.
ثم قال: {وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون} "جعل" تأتي بمعنى خلق وبمعنى صيَّر، وإيثار هذا اللفظ لصلاحيته للمعنيين ولجنسَي الفلك والأنعام.
ولذلك لمّا أفرد الأنعام في جملة مستقلة في سورة يس ذكر لفظ الخلق؛ فقال تعالى: {وآية لهم أنّا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون . وخلقنا لهم من مثله ما يركبون}
و(ما) اسم موصول يصلح للمفرد والجمع والمذكر والمؤنث، وهو مذكّر لفظاً.
(وظهور) بالجمع حمل على المعنى لتعدّد ما يُركب، والظهر هنا يعمّ
الظهر المخلوق من الأنعام، والمصنوع من الفلك؛ فانتظمهما اسم الظهر
انتظاماً بديعاً.
وقال: {ما تركبون} فأخلي الفعل من التعدية ليصلح لركوب الفلك والأنعام؛ فإن ركوب الفلك يعدَّى بفي كما في قول الله تعالى: {وقال اركبوا فيها} أو بنفسه.
وركوب الأنعام يُعدّى بنفسه كما في قول الله تعالى: {لتركبوها} وبعلى كما يقال: ركبت على البعير.
والضمير المفرد في قوله تعالى: {على ظهوره} حمل على اللفظ، ويراد به الجنس، أي على ظهور ما يركبون.
قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: ({لتستووا على ظهوره}: " التذكير لـ " ما ").
فاجتمع في كلمة واحدة الحمل على اللفظ والحمل على المعنى؛ فجمع "الظهور" حمل على المعنى، وإفراد الضمير حمل على اللفظ.
وجمع الظهور هنا أعظم دلالة على كثرة الإنعام بما جعل الله لنا مما نركب من الفلك والأنعام.
وإفراد الضمير أدل على كمال الرعاية لكل راكب بما يناسبه وأنه ينتقي
منها، ويدلّ على كثرة المركوبات بما لا تستغرقه حاجة البشر؛ فمهما ركبوا
فيبقى من المركوبات ما ليس بمركوب، وهذا ما لا يدل عليه جمع الضمير لو قال:
على ظهورها.
{ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه} حمل على اللفظ، وهو تذكير "ما" تذكيراً لفظياً.
قوله تعالى: {فلما نجاهم} موافق للضمير في غشيهم ودعوا، وللجمع في {مخلصين}؛ وهو دالّ على الكثرة.
وقوله تعالى: {فمنهم مقتصد} حمل على
المعنى بتقدير "فصنف منهم مقتصد"، والحمل هنا على المعنى أبلغ لأنه أدلّ
على قلّتهم، ولو حمل على اللفظ لقال: "فمنهم مقتصدون".
فجرى هذا التركيب مجرى استثناء القليل من الكثير.
أمثلة من أقوال العلماء
قال
الله تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا
قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا}
تطبيقات الدرس الثالث عشر:
بيّن اللطائف البيانية للحمل على اللفظ والحمل على المعنى في الآيات التاليات:
1: قول الله تعالى: { قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)}
2: قول الله تعالى: { وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ
فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (217)}
3: قول الله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ
إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ
عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23)}
4: قول الله تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) }
5: قول الله تعالى: {أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18)}