الدروس
course cover
الدرس الثاني عشر: (6) الوصل والفصل
5 May 2020
5 May 2020

5129

0

0

course cover
أصول التفسير البياني

القسم الثالث

الدرس الثاني عشر: (6) الوصل والفصل
5 May 2020
5 May 2020

5 May 2020

5129

0

0


0

0

0

0

0

الدرس الثاني عشر: دلالات تراكيب الجُمل
المبحث السادس: الوصل والفصل 


عناصر الدرس:
أهمية مبحث الوصل والفصل.
الخلاصة في الوصل والفصل.
أمثلة على الوصل والفصل في القرآن الكريم.
- المثال الأول: قول الله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)}.
- المثال الثاني: قول الله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)}.
- المثال الثالث: قول الله تعالى: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)}.

- المثال الرابع: قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (7)}.
أمثلة من أقوال العلماء:
- المثال الأول: قال الله تعالى في سورة البقرة: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)}.
وقال تعالى في سورة إبراهيم: { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)}.

- المثال الثاني: قول الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)}.
- المثال الثالث: قول الله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين . يخادعون الله}.
- المثال الرابع: قال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)}.
- المثال الخامس: قول الله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ}.

تطبيقات الدرس الثاني عشر.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#2

5 May 2020

أهمية مبحث الوصل والفصل:
معرفة الوصل والفصل من المعارف المهمة لطالب التفسير البياني، وهو باب دقيق المسلك لطيف المأخذ، ربما مرّ به القارئ مراراً لا يتفطّن لمأخذه، ولطف دلالته؛ حتى إذا شُرح له الأمر، وعرف سرَّه، وتيقّن صوابه وَجَدَ له من البهجة والانبهار ما يتعجّب منه، ويزداد عجباً إلى عجبه من شدّة غفلته عنه فيما مضى من عمره وهو يتلوه مراراً كثيرة، فيزداد بذلك يقيناً بأن كلام الله تعالى لا تنقضي عجائبه، ولا تنفد أسراره، ولا يُحاط ببيانه.
وهذا الباب لأبواب تركيب المفردات والجُمَل كالتاج الجامع، والإكليل الموشَّى؛ يزيّن اتصال بعضها ببعض، ويبيّن معاقد الفصل ومحاسنه، حتى يكون الكلام غاية في حسن السبك، وقوة الدلالة على المعاني.

- قال أبو هلال العسكري: (قيل للفارسي: ما البلاغة؟ فقال: معرفة الفصل من الوصل).
وتفسير ذلك أن من ترقّت معرفته إلى أن يحسن الفصل والوصل فقد تسنَّم ذروة البلاغة، وبلغ غايتها.
ومراد أبي علي الفارسي (ت:377هـ) من الوصل والفصل أعمّ مما اصطلح عليه أهل البلاغة بعده؛ والموضع الذي أورد فيه أبو هلال العسكري هذا القول عنه يفسّر المراد به، فهو يشمل كل ما يعين على معرفة مفاصل الكلام، وما يحسن الوقوف عنده، وما ينبغي وصله، حديثاً وكتابة؛ فيشمل الوقف والابتداء كلَّه، وكان بعض العلماء يسمّيه القطع والوصل.
وما عُني به أهل البلاغة بعد أبي علي الفارسي نوعٌ من الفصل والوصل غلب على اسمه، وهو وصل المفردات والجُمل بحروف العطف، وفصلها عنها.
ومنهم من خصّه بالجُمَل وخصّ العطف بحرف الواو، والصواب أنّه يشمل الجُمل والمفردات، ويشمل جميع حروف العطف.
فإذا قلت: زيد شاعر كاتب خطيب؛ فقد فصلتَ المفردات فلم تجعل بينها حرف عطف.
وإذا قلت: زيد شاعر وكاتب وخطيب؛ فقد وصلت هذه المفردات بواو العطف.
والمعنى بين العبارتين مختلف؛ فهما وإن اجتمعا في وصف زيد بالشعر والكتابة والخطابة؛ فلا يخفى أنّ العبارة الثانية فيها تأكيد على التصاق هذه الصفات بشخصه، وجمعها بالواو العاطفة لدفع توهّم المخاطَب بأنها لا تُجمع، وللتدرّج في بيان جمعه إيّاها؛ فكأنك تختصر بها قولك: زيد شاعر، وهو أيضاً كاتب، وهو أيضاً خطيب؛ فأدّت هذه المفردات الموصولة بالواو معنى جُمل التقرير.
والعبارة الأولى: زيد شاعر كاتب خطيب، لم يُلحظ فيها الملحظ السابق، وإنما أريد بها جمع هذه الصفات والتصاق بعضها ببعض حتى أُوقِع بعضُها من بعض موقع البدلِ من المبدل منه؛ فكأن هذه الصفاتِ الثلاثَ تؤدّي بمجموعها صفةً واحدة عظيمة يوصف بها زيد.
فالعبارة الأولى لتعظيم الصفة المتحصَّلة من مجموع الصفات، والعبارة الثانية لتعظيم الموصوف بتقرير تعدد صفاته.
وهذا ملحظ دقيق قد لا يتفطّن له إلا من أمعن النظر، وتفكّر في أثر العبارتين في نفس المخاطَب.

وقد اجتمع في القرآن الكريم في مواضع الإتيان بالفصل والوصل معاً؛ كما في قول الله تعالى: {حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم . غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير}.
ففصل ثم وصل ثم فصل في تنوّع عجيب مدهش تحيّر له أساطين البلغاء، وكبار الأدباء، واعتاص على بعضهم استخراج لطائفه؛ مع تيقنهم بأنّ الفصل والوصل لم يقع في هذه الآيات إلا لحكمة بالغة.
ولذلك كان هذا الباب منتهى مراقي أهل البلاغة، وموقفُ أقدام بعضهم؛ فلا يُقدم فيه إلا أفذاذ منهم.

- قال ابن القيّم رحمه الله في بدائع الفوائد: (الصفات إذا ذكرت في مقام التعداد فتارة يتوسط بينها حرف العطف لتغايرها في نفسها، وللإيذان بأن المراد ذكر كل صفة بمفردها.

وتارة لا يتوسطها العاطف:
- لاتحاد موصوفها وتلازمها في نفسها.
- وللإيذان بأنها في تلازمها كالصفة الواحدة.
وتارة يتوسط العاطف بين بعضها ويحذف مع بعض بحسب هذين المقامين:
- فإذا كان المقام مقام تعداد الصفات من غير نظر إلى جمع أو انفراد حسن إسقاط حرف العطف.
- وإن أريد الجمع بين الصفات أو التنبيه على تغايرها حسن إدخال حرف العطف.
فمثال الأول: {التائبون العابدون الحامدون}، وقوله: {مسلمات مؤمنات قانتات تائبات}.
ومثال الثاني: قوله تعالى: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن}.
وتأمل كيف اجتمع النوعان في قوله تعالى: {حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول}.
فأتى بالواو في الوصفين الأولين وحذفها في الوصفين الآخرين لأن غفران الذنب وقبول التوب قد يظن أنهما يجريان مجرى الوصف الواحد لتلازمهما فمن غفر الذنب قبل التوب فكان في عطف أحدهما على الآخر ما يدل على أنهما صفتان وفعلان متغايران ومفهومان مختلفان لكل منهما حكمه:
- أحدهما: يتعلق بالإساءة والإعراض وهو المغفرة.
- والثاني: يتعلق بالإحسان والإقبال على الله والرجوع إليه وهو التوبة.
فتقبل هذه الحسنة وتغفر تلك السيئة، وحَسُن العطف ههنا لهذا التغاير الظاهر.
وكلما كان التغاير أبين كان العطف أحسن ، ولهذا جاء العطف في قوله: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن}، وترك في قوله: {الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن} وقوله: {الخالق البارئ المصور}.
وأما: {شديد العقاب ذي الطول} فترك العطف بينهما لنكتة بديعة؛ وهي الدلالة على اجتماع هذين الأمرين في ذاته سبحانه وأنه حال كونه شديد العقاب فهو ذو الطول، وطوله لا ينافي شدة عقابه بل هما مجتمعان له، بخلاف الأول والآخر فإنَّ الأولية لا تجامع الآخرية، ولهذا فسَّرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء)). فأوليته أزليته، وآخريته أبديته.
فإن قلتَ: فما تصنع بقوله: (والظاهر والباطن) فإن ظهوره تعالى ثابت مع بطونه فيجتمع في حقه الظهور والبطون، والنبي صلى الله عليه وسلم فسر الظاهر بأنه الذي ليس فوقه شيء، والباطن بأنه الذي ليس دونه شيء. وهذا العلو والفوقية مجامع لهذا القرب والدنو والإحاطة؟
قلتُ: هذا سؤال حسن. والذي حسن دخول الواو هاهنا أن هذه الصفات متقابلة متضادة، وقد عطف الثاني منهما على الأول للمقابلة التي بينهما، والصفتان الأخريان كالأوليين في المقابلة، ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة الآخر إلى الأول فكما حسن العطف بين الأوليين حسن بين الأخريين).

صعوبة مبحث الوصل والفصل:
- قال عبد القاهر الجرجاني: (اعلم أن العلم بما ينبغي أن يُصنع في الجمل من عطف بعضها على بعض، أو ترك العطف فيها والمجيء بها منثورة، تُستأنف واحدةٌ منها بعد أخرى من أسرار البلاغة، ومما لا يتأتَّى لتمام الصواب فيه إلا الأعراب الخلَّص، وإلا قومٌ طبعوا على البلاغة، وأوتوا فنّاً من المعرفة في ذوق الكلام همْ بها أفراد، وقد بلغ من قوة الأمر في ذلك أنهم جعلوه حداً للبلاغة، فقد جاء عن بعضهم أنه سئل عنها فقال: "معرفة الفصل من الوصل"، ذاك لغموضه ودقة مسلكه، وأنه لا يَكْمُل لإحراز الفضيلة فيه أحد إلا كمل لسائر معاني البلاغة)ا.هـ
- وقال شرف الدين الطيبي: (واعلم أن معرفة ترتيب الكلام وترصيفه، ونظم التركيب وتأليفه من الأصول المعتبرة في فن البلاغة والفصاحة.
قال صاحب "المفتاح": "وإنها لمحك البلاغة ومتَّقد البصيرة".
وقد قصر بعض الأئمة البلاغة على معرفة الفصل والوصل) ا.هـ.

وقد عُني جماعة من العلماء بجمع أمثلة الفصل والوصل وتتبّعها، ومحاولة تقسيمها وتصنيفها، واستخراج قواعد هذا الباب وفنونه؛ ومنهم من تتبّع بعض أمثلة الوصل والفصل في القرآن الكريم، واجتهد في استخراج اللطائف وأوجه التفسير، لكنّ أفهامهم تفاوتت في إدراك أغراض الفصل والوصل والبيان عنها، ووقع بينهم اختلاف في الاصطلاح، وكلٌّ أتى بما أدّى إليه اجتهاده؛ فمنهم من أجاد وأصاب وأتى ببيان حسن يدلّ على صحّة تأويله وصواب اجتهاده، ومنهم من أتى بأجوبة هي محلّ نظر وتأمّل لا نجزم بصوابها ولا بردّها، وتوقّفت أنظار بعضهم عند بعض الأمثلة فمرّوا عليها مروراً ظاهراً؛ مكتفين بالتنبيه على ما فيها من الوصل والفصل؛ مستعفين عن البحث في تفسير ذلك وشرح أغراضه وبيان لطائفه، معترفين بصعوبة البحث فيه، وضعف القدرة على إدراك تلك الأغراض وبيانها.

- قال عبد القاهر الجرجاني: (واعلم أنه ما من علم من علوم البلاغة أنت تقول فيه: "إنه خفي غامض، ودقيق صعب" إلا وعلم هذا الباب أغمض وأخفى وأدقّ وأصعب، وقد قنع الناس فيه بأن يقولوا إذا رأوا جملة قد ترك فيها العطف: "إن الكلام قد استؤنف وقُطع عما قبله"، لا تطلب أنفسهم منه زيادة على ذلك، ولقد غفلوا غفلة شديدة)ا.ه.
ولعل الأنفع لطالب العلم في هذه المرحلة الإعراض عن الاختلاف العريض في الاصطلاح لأنه كثير العَناء قليل الثمرة.
وقد ذكر الدكتور منير سلطان رحمه الله في مقدمة كتابه "الفصل والوصل في القرآن الكريم" أنه شَغَل بهذا البحث نفسه أربعة عشر عاماً ثم راجعه وحرره بعد تأليف كتب كثيرة في البلاغة وتدريس مقررات البلاغة سنوات طويلة، وأسهب في بيان اختلاف الاصطلاحات في الفصل والوصل وتشعّبها، ثم خلص منها بقوله: (وأرى أننا لسنا بحاجة إلى هذه المصطلحات الخمسة فهي ليست جامعة مانعة، وقد تشكلت تلبية للحاجة التعليمية، وكانت ترجمة لمنهج البلاغة المتفلسفة العقيمة، وأرى أن نقتصر منها على المصطلح الأساسي "الفصل والوصل" ويكون:
الفصل: هو قطع معنى عن معنى بأداة لغرض بلاغي.
والوصل: هو ربط معنى بمعنى بأداة لغرض بلاغي)ا.هـ
وقد أحسن وأصاب رحمه الله، فإنَّ تشعّب الاصطلاحات وتشقيقها يفضي إلى التعقيد والاستغلاق، فإذا أضيف إلى ذلك كون تلك الاصطلاحات غير جامعة ولا مانعة اختلّ نظامها، واضمحلَّت ثمرتها، وصارت إلى التعمية والإلغاز أقرب منها إلى البيان والتيسير.
فإذا قرأت في كتب البلاغة مصطلحات في هذا الباب مثل: كمال الاتصال، وشبه كمال الاتصال، وكمال الانقطاع، وشبه كمال الانقطاع، والتوسّط بين الكمالين؛ وجدت لهذه المصطلحات غرابة ووحشة في النفس تتطلب كثيراً من الشرح لعبارات لا يتبادر معناها إلى الذهن بالشرح اليسير، ثم هي مع ذلك غير متَّفق على تحرير المراد بها، ولا تطّرد ولا تنعكس.
ولغة العرب أيسر من هذا التعقيد؛ فإنَّ الأعراب كانوا يدركون معاني الخطاب وفنونه بسليقتهم العربية؛ فلا يحتاج متعلّم العربية في هذا الباب إلا لبيان المراد بالفصل والوصل، ومعرفة أغراضهما، ولطائف دلائلهما، ليعرف متى يحسن الفصل، ومتى يحسن الوصل، ومتى يستوي الأمران.

ولذلك سأكتفي بذكر خلاصة يحصل بها مقصود هذا الدرس من شرح ما يعين على فهم أمثلة هذا الباب في القرآن الكريم، وإدراك ما يتيسر فيها من لطائف الوصل والفصل، وترك التكلّف فيما استغلق في وقته؛ وأَكِلُ علمَه إلى عالمه كما أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يمنّ الله بفتح من عنده، وتعليم وتفهيم، وهو سبحانه خير من علَّم وفهَّم؛ فاللهمّ يا معلّم آدم وإبراهيم علّمنا، ويا مفهّم سليمان فهّمنا.
- قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوما يتدارءَون القرآن، فقال: ((إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه)) رواه أحمد وأبو عبيد.
- وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (اتبعوا ما بُيّن لكم من هذا الكتاب، وما أشكل عليكم فَكِلُوه إلى عالمه). رواه الطبراني في مسند الشاميين، وأصله في صحيح البخاري.
- وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (إن للقرآن منارا كمنار الطريق لا يكاد يخفى على أحد، فما عرفتم فتمسّكوا به، وما أشكل عليكم فكلوه إلى عالمه) رواه وكيع في الزهد، وأبو داوود في الزهد، والطبراني في المعجم الأوسط.
- وقال أبيّ بن كعب رضي الله عنه: (ما استبان لكم فاعملوا به، وما أشكل عليكم فكِلُوه إلى عالمه). رواه الحاكم في المستدرك.
- وقال عبد الله بن مسعود لمّا بلغه قول رجل في مسألة في التفسير: (من علم علماً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من فقه الرجل أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم). والخبر في صحيح مسلم.
- وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أيضاً: «إنَّ للقرآن مناراً كَمَنارِ الطريق؛ فما عرفتم منه فتمسّكوا به، وما شُبّه عليكم فَكِلُوه إلى عالمه» رواه أبو عبيد والمستغفري في فضائل القرآن.
- وقال الربيع بن خثيم في وصيته بكر بن ماعز: (وما استُؤثرَ به عليك فكِلْهُ إلى عالِمه). رواه ابن أبي شيبة.
- وقال الحسن البصري في تفسير قول الله تعالى: {يتلونه حقّ تلاوته} قال: (يعملون بمُحْكَمِه، ويؤمنون بمتشابهه، ويَكِلُون ما أشكلَ عليهم إلى عالمه). رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
- وقال محمد بن إسماعيل البخاري في كتابه "خلق أفعال العباد": (وكل من اشتبه عليه شيء فأولى أن يكله إلى عالمه؛ كما قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «وما أشكل عليكم فكلوه إلى عالمه»).
فهذا هو الأدب الواجب مع القرآن الكريم ؛ من استبان له معنى بطريقة من طرق الاستدلال المعتبرة فليقل به، ومن أشكل عليه شيء فليكله إلى عالمه، وليحذر من القول في القرآن بغير علم.
وهذا الآثار تدلّ على سعة بيان القرآن وأنّه لا يُحاط به، وأنّ ما يقع لبعض الناس من الإشكال إنما هو لقصورهم عن إدراك كمال بيان القرآن، وتقرير لعجزهم عن الإحاطة ببيان القرآن ودلائل ألفاظه ومعانيه.
وإذا أخذ طالب العلم بهذا الأدب واجتهد في التعلّم، وأيقن بقصوره وضعفه، وافتقاره إلى تعليم الله تعالى وتفهيمه، وهدايته وتوفيقه؛ كان أقرب إلى التوفيق للصواب، والله المستعان.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#3

5 May 2020

الخلاصة في الوصل والفصل:
الوصل: عطف مفردة أو جملة على أخرى، والفصل إتباع مفردة أو جملة بأخرى من غير عطف.
والعطف يكون بالواو وغير الواو إلا أنّ العطف بغير الواو لا يشكل غالباً، لأن لكل حرف معنى يفيد مع العطف معنى آخر يدل على غرض الوصل؛ فالفاء تفيد التعقيب من غير تراخٍ، وتفيد السببية أحيانا، وثم تفيد التعقيب مع التراخي، وتفيد الترتيب الحقيقي أو الذكري، والتدرّج، والاستبعاد، وغير ذلك من المعاني.
وكذلك يقال في حروف العطف الأخرى: أو ، وأم، وحتى، وغيرها.
والذي يشكل في الوصل غالباً هو العطف بالواو؛ لأن الواو تقتضي مطلق المشاركة، وقد تأتي في وسط الجملة عاطفة واستئنافية؛ فتشتبه هذه بهذه.
والواو العاطفة تستعمل للوصل، والاستئنافية تستعمل للفصل كما سيأتي بيانه في الأمثلة إن شاء الله.

ويجوز في بعض المواضع الفصل والوصل باعتبارين، ومن ذلك ما اختلفت فيه القراءات، وما كانت الواو فيه تحتمل معنى العطف والاستئناف.
- قال ابن عاشور: في تفسير قول الله تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض}
قال: (قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر: {سارعوا} دون واو عطف، تتنزل جملة {سارعوا} منزلة البيان، أو بدل الاشتمال، لجملة {وأطيعوا الله والرسول} لأن طاعة الله والرسول مسارعة إلى المغفرة والجنة؛ فلذلك فصلت.
ولكون الأمر بالمسارعة إلى المغفرة والجنة يؤول إلى الأمر بالأعمال الصالحة جاز عطف الجملة على الجملة الأمر بالطاعة، فلذلك قرأ بقية العشرة
{وسارعوا} بالعطف.
وفي هذه الآية ما ينبئنا بأنه يجوز الفصل والوصل في بعض الجمل باعتبارين)
ا.هـ.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#4

5 May 2020

أمثلة على الوصل والفصل في القرآن الكريم:

المثال الأول: قول الله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)}

قوله تعالى: {وجعل أهلها شيعاً} وصل للجملة قبلها: {علا في الأرض} وهذا الوصل يفيد التشنيع على فرعون بتعديد جرائمه، وأن شرّه وإفساده عمّ الأرض وأهلها.
وقوله تعالى: {يستضعف طائفة منهم} فصلٌ مفسِّرٌ لمعنى جَعْلِهم شيعاً.
وقوله تعالى: {يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم} فصل مفسّر لمعنى الاستضعاف.
وقوله تعالى: {إنه كان من المفسدين} فصل قائم مقام التعليل.

المثال الثاني: قول الله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)}

في هذه الآية وصل ثلاث جمل ثم فصل بواو الاستئناف.
فقول الله تعالى: {والله ولي المؤمنين} هذه الواو ليست عاطفة، بل هي استئنافية، وما بعدها خبر مبتدأ، فهي جملة فاصلة بعد تمام الكلام تفيد الختم بحكم جامع، وهو الذي يسميه بعض البلاغيين والمفسرين بالتذييل، وهو مصطلح درج إلى أهل التفسير من كلام أهل البديع في صناعة الشعر والنثر، ولو أنّهم استعملوا لفظاً خيراً منه لكان أجود.
وختم الآيات بأحكام جامعة كثير في القرآن الكريم، ومنها ما يفيد التعليل، ومنها ما يفيد التنبيه على البرهان، ومنها ما يفيد التوكيد، ومنها ما يفيد الحكم الفصل الجامع.
وفي تقديم قوله: {للذين اتبعوه} على جملة: {وهذا النبيّ} وجهان في التفسير:
الوجه الأول: أنّ هذه الآية في سياق محاجّة كفرة أهل الكتاب، وردّ زعمهم أنّهم أولى بإبراهيم عليه السلام من المسلمين؛ فبدأ في مجادلتهم بالقدر المتّفق عليه، وهو أنّ أولى الناس بإبراهيم أتباعه الذين آمنوا به واتّبعوه، فهذا محلّ اتفاق، انتقل بعده إلى تقرير أولى الناس بإبراهيم بعدهم وهو النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذكره بوصف النبوة، وعرّفه باسم الإشارة لتعيينه؛ فإنهم لا يبلغون أن يكونوا أولى بإبراهيم عليه السلام وهو نبي من أخيه في النبوة؛ ثم ذكر في المرتبة الثالثة الوصف الوحيد الذي يمكنهم أن يلحقوا به ليكونوا من أولى الناس بإبراهيم عليه السلام فقال: {والذين آمنوا} وهذا يدخل فيه كلّ من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ فليس بينهم وبين تحقيق ما خاصموا فيه وإتيانه من بابه إلا أن يؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ويتّبعوه؛ ثم رغّبهم في ذلك بختم الآية بحكم شريف أشرف مما خاصموا فيه، فقال: {والله وليّ المؤمنين} وولاية الله تعالى لعبده أشرف المطالب، وهي أشرف من خصومتهم في دعوى أنهم أولى بإبراهيم عليه السلام من المسلمين.
والوجه الثاني: أن قوله {للذين اتّبعوه} عامّ يشمل أتباع إبراهيم عليه السلام في حياته، وبعد مماته، ويشمل النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)}
فيكون قوله: {وهذا النبي} من باب عطف الخاص على العام.

المثال الثالث: قول الله تعالى: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)}

قوله تعالى: {وكلمة الله هي العليا} فَصْلٌ بواو الاستئناف، وليست عاطفة، وما بعدها مبتدأ وخبر؛ وهو فصلٌ منبّهٌ على البرهان؛ فإنّ كلمة الله تعالى لا تكون إلا عليا، وقوله: {هي العليا} أسلوب حصر، أي هي لا غيرها العليا؛ وهذا يقتضي أنّ كلمة الذين كفروا لا بدّ أن تكون هي السفلى.
وقوله تعالى: {والله عزيز حكيم} فيه نوعان من الفصل:
1: فصل المفردات؛ فلم يقل: والله عزيز وحكيم، وهذا الفصل قائم مقام تعظيم الموصوف بتعظيم صفاته وبيان اجتماعها؛ فلله تعالى كمال العزة، وله كمال الحُكم، واجتماع العزة والحكم معاً يدل على كمال آخر.
2: وفصل هذه الجملة عن الجمل السابقة بواو الاستئناف؛ وختم الآية بها يفيد بيان البرهان الكلي الجامع والتنبيه على أثره في أحكام الجُمل السابقة.
فأفعال الله تعالى من آثار أسمائه وصفاته، والله تعالى له الخلق والأمر، ولا بدّ أن تظهر آثار أسمائه وصفاته في أوامره ومخلوقاته.

المثال الرابع: قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (7)}

في هذه الآية فصل في أربعة مواضع:
الموضع الأول: {يقاتلون في سبيل الله} وهذا الفصل يفيد تفسير الجملة الأولى وبيان معنى هذا الاشتراء، ويقوم مقام تعليل الوعد {بأنّ لهم الجنة}.
والموضع الثاني: {وعداً عليه حقاً ...} وهو فصل قائم مقام التوكيد.
والموضع الثالث: {ومن أوفى بعهده من الله} وهو فصل منبّه على برهان صدق الوعد، والواو هنا استئنافية.
والموضع الرابع: {وذلك هو الفوز العظيم} الواو استئنافية أيضاً، وهذه الجملة يفيد الفصل بها ترغيب المؤمنين في الوفاء بهذا البيع.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#5

5 May 2020

أمثلة من أقوال العلماء

المثال الأول: قال الله تعالى في سورة البقرة: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)}
وقال تعالى في سورة إبراهيم: { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)}
- قال أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء(ت:207هـ):(وقوله هاهنا:{وَيُذَبِّحُونَ} وفى موضع آخر: {يذبحون} بغير واو، وفى موضع آخر {يقتلون} بغير واو.
فمعنى الواو أنَّهم يَمسُّهم العذابُ غير التذبيح كأنه قَالَ: يعذبونكم بغير الذبح وبالذبح. ومعنى طرح الواو كأنه تفسير لصفات العذاب.
وإذا كَانَ الخبر من العذاب أو الثواب مُجْمَلًا فِي كلمة ثُمَّ فسرته فاجعله بغير الواو.
وإذا كَانَ أوّله غير آخره فبالواو.
فمن المجمل قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً} فالأثام فِيهِ نيّة العذاب قليله وكثيره، ثُمَّ فسَّره بغير الواو فقال: {يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ}.
ولو كَانَ غير مُجمل لَمْ يكن ما [بعده] تفسيرًا لَهُ، ألا ترى أنك تَقُولُ عندي دابتَّان بغلٌ وبِرْذَوْن، ولا يَجوز: عندي دابتَّان وبغل وبِرذَوْنٌ، وأنت تريدُ تفسير الدَّابتين بالبغل والبِرذون، ففي هَذَا كفاية عَمَّا نترك من ذَلِكَ فقس عَلَيْهِ)ا.هـ.

المثال الثاني: قول الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)}
- قال عبد القاهر الجرجاني: (من الواضح البين في هذا المعنى قوله تعالى: {وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا} لم يأت معطوفا.
نحو: [و]{كأن في أذنيه وقرا} لأن المقصود من التشبيه بمن في أذنيه وقر هو بعينه المقصود من التشيبه بمن في أذنيه وقر، وهو بعينه المقصود من التشبيه بمن لم يسمع، إلا أن الثاني أبلغ وآكد في الذي أريد.
وذلك أن المعنى في التشبيهين جميعا أن يُنفى أن يكون لتلاوة ما تُلي عليه من الآيات فائدة معه، ويكون لها تأثير فيه، وأن يجعل حاله إذا تليت عليه كحاله إذا لم تُتْلَ.
ولا شبهة في أن التشبيه بمن في أذنيه وقر أبلغُ وآكدُ في جعله كذلك، من حيث كان من لا يصحّ منه السمع وإن أراد ذلك أبعد من أن يكون لتلاوة ما يتلى عليه فائدة، من الذي يصح منه السمع إلا أنه لا يسمع، إما اتفاقا وإما قصدا إلى أن لا يسمع؛ فاعرفْه وأحسن تدبره).

المثال الثالث: قول الله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين . يخادعون الله}
- قال عبد القاهر الجرجاني: (إنما قال "يخادعون" ولم يقل: "ويخادعون" لأنه هذه المخادعة ليست شيئا غير قولهم: "آمنا"، من غير أن يكونوا مؤمنين، فهو إذن كلام أُكد به كلام آخر هو في معناه، وليس شيئا سواه).

المثال الرابع: قال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)}
- قال السمين الحلبي: (ولا يَخْفى ما في هذه الجملِ من علمِ البيان، فمنه: الفصلُ والوصلُ:
أمَّا الفصلُ:وهو عدمُ العطفِ بين قولِه: {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ} وبين قوله: {لا تضارَّ} لأنَّ قوله: {لا تُضارَّ} كالشرحِ للجملةِ قبَلها، لأنه إذا لَمْ تُكَلَّفِ النفسُ إلا طاقَتَها لم يقع ضررٌ، لا للوالدة ولا للمولود له.
وكذلك أيضاً لم يَعْطِف {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ} على ما قبلَها، لأنها مع ما بعدَها تفسيرٌ لقوله {بالمعروفِ}.
وأمَّا الوصلُ:وهو العطفُ بين قوله: {والوالداتُ يُرْضِعْنَ} وبين قولِه: {وعلى المولودِ له رزقُهن} فلأنَّهما جملتان متغايرتان في كلٍّ منهما حكمٌ ليس في الأخرى.
ومنه إبراز الجملةِ الأولى مبتدأ وخبراً، وجَعْلُ الخبرِ فعلاً، لأنَّ الإِرضاع إنما يتجدَّدُ دائماً. وأُضيفت الوالداتُ للأولاد تنبيهاً على شفقتهنَّ وحَثَّاً لهنَّ على الارضاع).

المثال الخامس: قول الله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ}
- قال ابن القيم: (وأما في أسماء الرب تبارك وتعالى فأكثر ما يجيء في القرآن بغير عطف نحو: السميع العليم، العزيز الحكيم، الغفور الرحيم، الملك القدوس السلام
إلى آخرها، وجاءت معطوفة في موضعين:
- أحدهما:في أربعة أسماء وهي: الأول والآخر والظاهر والباطن.
- والثاني: في بعض الصفات بالاسم الموصول، مثل قوله: {الذي خلق فسوى (2) والذي قدر فهدى (3) والذي أخرج المرعى (4)}، ونظيره: {الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون (10) والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون (11) والذي خلق الأزواج كلها}
فأما ترك العطف في الغالب فلتناسب معاني تلك الأسماء، وقرب بعضها من بعض، وشعور الذهن بالثاني منها شعوره بالأول. ألا ترى أنك إذا شعرت بصفة المغفرة انتقل ذهنك منها إلى الرحمة، وكذلك إذا شعرت بصفة السمع انتقل الذهن إلى البصر، وكذلك{الخالق البارئ المصور}
وأما تلك الأسماء الأربعة فهي ألفاظ متباينة المعاني، متضادة الحقائق في أصل موضوعها وهي متفقة المعاني متطابقة في حق الرب تعالى لا يبقى منها معنى بغيره، بل هو أول كما أنه آخر، وظاهر كما أنه باطن. ولا يناقض بعضها بعضا في حقه، فكان دخول الواو صرفا لوهم المخاطب قبل التفكر والنظر عن توهم المحال واحتمال الأضداد؛ لأن الشيء لا يكون ظاهرا باطنا من وجه واحد، وإنما يكون ذلك باعتبارين، فكان العطف هاهنا أحسن من تركه لهذه الحكمة. هذا جواب السهيلي.
وأحسن منه أن يقال: لما كانت هذه الألفاظ دالة على معان متباينة، وأن الكمال في الاتصاف بها على تباينها أتى بحرف العطف الدال على التغاير بين المعطوفات، إيذانا بأن هذه المعاني مع تباينها فهي ثابتة للموصوف بها.
ووجه آخر وهو أحسن منهما: وهو أن الواو تقتضي تحقيق الوصف المتقدم، وتقريره يكون في الكلام متضمنا لنوع من التأكيد من مزيد التقرير. وبيان ذلك بمثال نذكره مرقاة إلى فهم ما نحن فيه: إذا كان لرجل مثلا أربع صفات هو عالم وجواد وشجاع وغني. وكان المخاطب لا يعلم ذلك أو لا يقر به ويعجب من اجتماع هذه الصفات في رجل.
فإذا قلت: زيد عالم، وكان ذهنه استبعد ذلك فتقول: وجواد؛ أي: وهو مع ذلك جواد. فإذا قدرت استبعاده لذلك قلت: وشجاع؛ أي: وهو مع ذلك شجاع وغني؛ فيكون في العطف مزيد تقرير وتوكيد لا يحصل بدونه، تدرأ به توهم الإنكار.
وإذا عرفت هذا فالوهم قد يعتريه إنكار لاجتماع هذه المتقابلات في موصوف واحد، فإذا قيل: هو أوَّل، ربما سرى الوهم إلى أنَّ كونه أولا يقتضي أن يكون الآخر غيره؛ لأن الأولية والآخرية من المتضايفات. وكذلك الظاهر والباطن إذا قيل: هو ظاهر ربما يسري الوهم إلى أن الباطن مقابله. فقطع هذا الوهم بحرف العطف الدال على أن الموصوف بالأولية هو الموصوف بالآخرية فكأنه قيل: هو الأول وهو الآخر وهو الظاهر وهو الباطن لا سواه.
فتأمل ذلك فإنه من لطيف العربية ودقيقها، والذي يوضح لك ذلك أنه إذا كان للبلد مثلاً قاض وخطيب وأمير؛ فاجتمعت في رجل حسن أن تقول: زيد هو الخطيب والقاضي والأمير، وكان للعطف هنا مزية ليست للنعت المجرد؛ فعطف الصفات هاهنا أحسن، قطعا لوهم متوهم أن الخطيب غيره، وأن الأمير غيره).

عبد العزيز بن داخل المطيري

#6

5 May 2020

تطبيقات الدرس الثاني عشر:
بيّن مواضع الوصل والفصل واشرح أغراضها في الأمثلة التالية:
(1) قول الله تعالى: { فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36)}
(2) قول الله تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
(3) قول الله تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)}
(4) قول الله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)}
(5) قول الله تعالى: { يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)}