2 Oct 2022
تحرير الخلاف في وجود المعرّب في القرآن ووجه إعجاز القرآن
باب في ذكر الألفاظ التي في كتاب الله وللغات العجم بها تعلق
قالَ
عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546ه): (اختلف الناس في هذه المسألة فقال أبو عبيدة وغيره:
إن في كتاب الله تعالى من كل
لغة.
وذهب الطبري وغيره إلى أن القرآن ليس فيه لفظة إلا وهي عربية صريحة وأن الأمثلة والحروف التي تنسب إلى سائر اللغات إنما اتفق فيها أن تواردت اللغتان فتكلمت بها العرب والفرس أو الحبشة بلفظ واحد وذلك مثل قول تعالى: {إن ناشئة الليل} [المزمل: 6].
قال ابن عباس: نشأ بلغة الحبشة قام من الليل ومنه قول تعالى: {يؤتكم كفلين من رحمته} [الحديد: 28].
قال أبو موسى الأشعري: كفلان ضعفان من الأجر بلسان الحبشة.
وكذلك قال ابن عباس في القسورة: إنها الأسد بلغة الحبشة إلى غير هذا من الأمثلة.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: والذي أقوله: إن القاعدة والعقيدة هي أن القرآن نزل بلسان عربي مبين فليس فيه لفظة تخرج عن كلام العرب فلا تفهمها إلا من لسان آخر فأما هذه الألفاظ وما جرى مجراها فإنه قد كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلسانها بعض مخالطة لسائر الألسنة بتجارات وبرحلتي قريش وكسفر مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس إلى الشام وسفر عمر بن الخطاب وكسفر عمرو بن العاصي وعمارة بن الوليد إلى أرض الحبشة وكسفر الأعشى إلى الحيرة وصحبته لنصاراها مع كونه حجة في اللغة فعلقت العرب بهذا كله ألفاظا أعجمية غيرت بعضها بالنقص من حروفها وجرت إلى تخفيف ثقل العجمة واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها حتى جرت مجرى العربي الصريح ووقع بها البيان وعلى هذا الحد نزل بها القرآن فإن جهلها عربي ما فكجهله الصريح بما في لغة غيره كما لم يعرف ابن عباس معنى فاطر إلى غير ذلك فحقيقة العبارة عن هذه الألفاظ أنها في الأصل أعجمية لكن استعملتها العرب وعربتها فهي عربية بهذا الوجه وما ذهب إليه الطبري من أن اللغتين اتفقتا في لفظة فذلك بعيد بل إحداهما أصل والأخرى فرع في الأكثر لأنا لا ندفع أيضا جواز الاتفاق قليلا شاذا.
نبذة مما قال العلماء في إعجاز القرآن
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546ه): (اختلف الناس في إعجاز القرآن بم هو؟
فقال قوم: إن التحدي وقع
بالكلام القديم الذي هو صفة الذات وإن العرب كلفت في ذلك ما لا يطاق وفيه وقع
عجزها وقال قوم: إن التحدي وقع بما في كتاب الله تعالى من الأنباء
الصادقة والغيوب المسرودة. وهذان
القولان إنما يرى العجز فيهما من قد تقررت الشريعة ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم
في نفسه وأما من هو في ظلمة كفره فإنما
يتحدى فيما يبين له بينه وبين نفسه عجزه عنه وأن البشر لا يأتي بمثله ويتحقق مجيئه
من قبل المتحدي وكفار العرب لم يمكنهم قط أن ينكروا أن رصف القرآن ونظمه وفصاحته
متلقى من قبل محمد صلى الله عليه وسلم فإذا تحديت إلى ذلك وعجزت فيه علم كل فصيح ضرورة أن هذا
نبي يأتي بما ليس في قدرة البشر الإتيان به إلا أن يخص الله تعالى من يشاء من
عباده وهذا هو القول الذي عليه الجمهور
والحذاق وهو الصحيح في نفسه أن التحدي إنما وقع بنظمه وصحة معانيه وتوالي فصاحة
ألفاظه ووجه إعجازه أن الله تعالى قد
أحاط بكل شيء علما وأحاط بالكلام كله علما فإذا ترتبت اللفظة من القرآن علم بإحاطته
أي لفظة تصلح أن تلي الأولى وتبين المعنى بعد المعنى ثم كذلك من أول القرآن إلى
آخره والبشر معهم الجهل والنسيان والذهول ومعلوم ضرورة أن بشرا لم يكن قط
محيطا فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية
القصوى من الفصاحة وبهذا النظر يبطل قول من قال إن العرب كان من قدرتها أن تأتي
بمثل القرآن فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم صرفوا عن ذلك وعجزوا
عنه. والصحيح أن الإتيان بمثل القرآن لم
يكن قط في قدرة أحد من المخلوقين ويظهر لك قصور البشر في أن الفصيح منهم يصنع خطبة
أو قصيدة يستفرغ فيها جهده ثم لا يزال ينقحها حولا كاملا ثم تعطى لآخر نظيره
فيأخذها بقريحة جامة فيبدل فيها وينقح ثم لا تزال كذلك فيها مواضع للنظر والبدل
كتاب الله لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم
يوجد ونحن تبين لنا البراعة في أكثره
ويخفى علينا وجهها في مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة
القريحة وميز الكلام ألا ترى ميز الجارية نفس الأعشى وميز الفرزدق نفس جرير من نفس
ذي الرمة ونظر الأعرابي في قوله عز فحكم فقطع إلى كثير من الأمثلة اكتفيت بالإشارة
إليها اختصارا فصورة قيام الحجة بالقرآن على العرب أنه لما جاء محمد صلى الله عليه
وسلم به وقال: {فأتوا بسورة من مثله}[البقرة: 23] قال: كل فصيح في نفسه وما بال هذا الكلام حتى لا
آتي بمثله فلما تأمله وتدبره ميز منه ما ميز الوليد بن المغيرة حين قال: والله ما
هو بالشعر ولا هو بالكهانة ولا بالجنون وعرف كل فصيح بينه وبين نفسه أنه لا يقدر
بشر على مثله فصح عنده أنه من عند الله تعالى. فمنهم من آمن وأذعن ومنهم من حسد كأبي جهل وغيره ففر إلى
القتال ورضي بسفك الدم عجزا عن المعارضة حتى أظهر الله دينه ودخل جميعهم فيه ولم
يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الأرض قبيل من العرب يعلن
كفره. وقامت الحجة على العالم بالعرب إذ
كانوا أرباب الفصاحة ومظنة المعارضة كما قامت الحجة في معجزة عيسى بالأطباء وفي
معجزة موسى بالسحرة فإن الله تعالى إنما جعل معجزات الأنبياء بالوجه الشهير أبرع ما
يكون في زمن النبي الذي أراد إظهاره فكأن السحر في مدة موسى قد انتهى إلى غايته
وكذلك الطب في زمن عيسى والفصاحة في مدة محمد عليهم الصلاة
والسلام).