2 Oct 2022
مقدمة المصنف والبيان النبوي للقرآن
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ) : (مقدمات
رَبِّ يَسِّرْ وَأعِنْ بِرَحْمَتِكَ
الحمدُ للهِ نَستعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ، ونَعُوذُ باللهِ مِن شُرورِ أَنْفُسِِنَا ، وَمِن سيِّئاتِ أَعْمالِنَا ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ ، ومنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ .
وأَشْهدُ أَلاَّإلهَ إلااللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ
أنَّ مُحمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ - صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسليمًا
. أمَّا بَعْدُ: فَقَدْ سَأَلَنِي بَعْضُ الإِخْوانِ أَنْ
أَكتُبَ لَهُ مقدِّمَةً تَتَضَمَّنُ قَوَاعِدَ كُلِّيَّةً ، تُعينُ عَلَى فَهْمِ
القُرآنِ ، ومَعْرِفَةِ تَفْسِيرِهِ وَمَعَانِيهِ ، والتَّمييزِ – في منْقُولِ
ذَلِكَ وَمَعْقُولِهِ – بَيْنَ الحقِّ وَأَنْوَاعِ الأَبَاطِيلِ ، وَالتنبيه عَلَى
الدَّليلِ الفاصِلِ بَيْنَ الأَقَاوِيلِ؛ فَإِنَّ الكُتُبَ الْمُصَنَّفَةَ في
التَّفسيرِ مَشْحُونَةٌ بِالْغَثِّ وَالسَّمينِ ، وَالبَاطِلِ الوَاضِحِ ،
وَالْحَقِّ الْمُبِينِ.
وَالعِلْمُ إمَّا نَقْلٌ مُصَدَّقٌ عَنْ مَعْصُومٍ ، وَإمَّا قَوْلٌ عَلَيْهِ دَلِيلٌ مَعْلُومٌ ، وَمَا سِوَى هَذَا فَإِمَّا مُزَيَّفٌ مَرْدُودٌ ، وَإمَّا مَوقُوفٌ لاَ يُعْلَمُ أنَّهُ بَهْرَجٌ وَلاَ منْقُودٌ.
وَحَاجَةُ الأُمَّةِ
مَاسَّةٌ إِلَى فَهْمِ القُرْآنِ الَّذِي هُوَ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ ،
وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ ، وَالصِّراطُ الْمُسْتَقِيمُ ، الَّذِي لاَ تَزِيغُ بِهِ
الأَهْوَاءُ ، وَلاَ تَلْتَبِسُ بِهِ الأَلْسُنُ ، وَلاَ يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ
الرَّدِ ، وَلاَ تَنْقَضِِي عَجَائِبُهُ ، وَلاَ يَشْبَعُ منْهُ الْعُلَمَاءُ
. مَنْ قَالَ بِهِ صُدِّقَ ، ومَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ ، ومَنْ حَكَمَ
بِهِ عَدَلَ ، ومَنْ دَعَا إليه هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، ومِنْ تَرَكَهُ
مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللهُ ، ومَن ابْتَغَى الهُدَى في غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللهُ
. قالَ تعالَى : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَن اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ
يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً
ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي
أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ ءَايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا
وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) سُورَةُ طه : 123-126 (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ
لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ
قَدْ جَاءَكُم مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ
اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ : 15-16 (الر * كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ * اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي
الأَرْضِ) سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ : 1-2 (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ
وَلَـكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ
لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا
فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ
)
وَقَدْ كَتَبْتُ هَذِهِ المقدِّمَةَ مُخْتَصَرَةً بِحَسْبِ تَيْسِيرِ اللهِ تَعالَى منْ إِمْلاَءِ الفُؤادِ ، وَاللهُ الْهَادِي إِلَى سَبيلِ الرَّشادِ).
فَصْلٌ في أنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -بيَّنَ لأَصْحَابِهِ مَعَانيَ القرآنِ
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ)
: (يَجِبُ أنْ يُعْلَمَ أنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيَّنَ لأَصْحَابِهِ مَعَانِيَ القرآنِ, كَمَا بيَّنَ لَهُمْ
أَلْفَاظَهُ ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) سُورَةُ النـَّحْلِ: (44) يَتَنَاوَلُ هَذَا وهَذَا
.
وَقَدْ قَالَ أَبو عَبدِ الرَّحْمَنِ السُّلَميُّ : " حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ – كَعُثْمَانَ بنِ عفَّانَ ، وعبدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ وغيرِهِمَا – أنَّهُمْ كانُوا إِذَا تَعَلَّمُوا مِن النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا ما فِيهَا مِنَ العِلْمِ وَالعَمَلِِ ، قَالُوا : فَتَعَلَّمنْا القُرْآنَ وَالعِلْمَ وَالعَمَلَ جَمِيعًا . "
وَلِهَذَا كانُوا يَبْقَوْنَ مُدَّةً فِي حِفْظِ السُّورَةِ .
وَقالَ أَنَسٌ : " كَانَ الرَّجُلُ إِذَا قَرَأَ البقرَةَ وآلَ عِمْرَانَ جَدَّ فِي أَعْيُنِنَا ."
وَأَقَامَ ابنُ عُمَرَ عَلَى حِفْظِ البَقَرَةِ عِدَّةَ سِنِينَ – قِيلَ : ثَمَانِي سِنِينَ – ذَكَرَهُ مَالِكٌ .
وَذلِكَ أنَّ اللهَ تعالَى قَالَ: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَاتِهِ) سُورَةُ ص: ( 29 )، وقالَ : (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ )سُورَةُ النِّسَاء ِ:(24)، وَقَالَ : أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ ). سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ: (68)، وتَدَبُّرُ الكَلامِ بِدُونِ فَهْمِ مَعَانِيهِ لا يُمْكِنُ .
وكذلِكَ قالَ تعالَى : (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُون َ) سُورَةُ يُوسُفَ : (2) ، وعـَقـْلُ الكَلامِ مُتَضَمِّنٌ لِفَهْمِهِ .
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ كَلامٍ فَالْمَقْصُودُ منْهُ فَهْمُ مَعَانِيهِ دُونَ مُجَرَّدِ أَلْفَاظِهِ ، فَالْقُرآنُ أَوْلَى بذلِكَ .
وأَيْضًا فَالْعَادَةُ تَمْنَعُ أَنْ يَقْرَأَ قَومٌ كِتابًا في فَنٍّ من العِلْمِ كَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَلاَ يَسْتَشْرِحُوهُ ؛ فَكَيْفَ بِكَلامِ اللهِ تَعالَى الَّذِي هو عِصْمَتُهُم ، وَبِهِ نَجَاتُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ ، وَقِيَامُ دِينِهِمْ وَدُنيَاهُمْ ؟!
وَلِهَذَا كَانَ النِّزَاعُ بَيْنَ الصَّحابةِ في تَفْسِيرِ القُرْآنِ قَلِيلاً جِدًّا ، وَهُوَ وَإِنْ كانَ في التَّابعينَ أَكْثَرَ منْهُ في الصَّحابةِ ، فهُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسبةِ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ ، وَكُلَّمَا كَانَ الْعَصْرُ أَشْرَفَ كانَ الاجْتِمَاعُ وَالائْتِلاَفُ وَالعِلْمُ وَالبَيَانُ فِيهِ أَكْثَرَ .
ومِنَ التَّابعينَ مَنْ تَلَقَّى جَمِيعَ التَّفسيرِ عَنِ الصَّحابَةِ ، كمَا قالَ مُجَاهِدٌ : عَرَضْتُ الْمُصْحَفَ علَى ابنِ عبَّاسٍ ، أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيةٍ منْهُ ، وأسألُهُ عَنْهَا ، وَلِهَذَا قَالَ الثَّوريُّ : " إِذَا جَاءَكَ التَّفسيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُكَ بِهِ . وَلِهَذَا يَعتمِدُ علَى تفسيرِهِ الشَّافعيُّ والبخاريُّ وغيرُهُمَا منْ أَهْلِ العِلْمِ ، وَكَذَلِكَ الإمَامُ أَحْمَدُ وَغَيرُهُ مِمَّنْ صَنَّفَ في التَّفسيرِ ، يُكَرِّرُ الطُّرُقَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّابعينَ تَلَقَّوا التَّفسيرَ عَن الصَّحابَةِ كَمَا تَلَقَّوا عَنْهُمْ عِلْمَ السُّنَّةِ ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَتَكلَّمُونَ في بَعْضِ ذَلِكَ بِالاسْتِنْبَاطِ وَالاسْتِدْلاَلِ ، كَمَا يَتَكَلَّمُونَ في بَعْضِ السُّننِ بِالاسْتِنْباطِ والاسْتِدلالِ) .