2 Oct 2022
بيان أن غالب اختلاف السلف في التفسير من قبيل اختلاف التنوع، وبيان
أنواعه
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ) : (فَصْلٌ فِي اخْتِلافِ السَّلَفِ فِي التَّفسِيرِ ، وَأنَّهُ اخْتِلافُ تَنَوُّعٍ .
وَالْخِِلاَفُ بَيْنَ السَّلفِ في التَّفسيرِ قَلِيلٌ ، وَخِلافُهُم في الأحْكَامِ أَكْثَرُ منْ خِلافِهِمْ في التَّفسيرِ ، وغَالبُ ما يَصِِحُّ عَنْهُمْ من الخِلافِ يَرْجِعُ إِلَى اخْتِلاَفِ تَنَوُّعٍ لاَ اخْتِلاَفِ تَضَادٍّ ، وَذَلِكَ صِنْفَانِ :
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعَبِّرَ كُلُّ وَاحِدٍ منْهُمْ عَنِ المُرَادِ بعبارَةٍ غَيرِ عِبَارَةِ صَاحِبِهِ ، تَدُلُّ عَلَى مَعْنًى في المُسَمَّى غَيرِ الْمَعنَى الآخَرِ ، مَعَ اتِّحادِ الْمُسَمَّى ، بِمنْزِلَةِ الأَسْمَاءِ الْمُتَكَافِئَةِ الَّتِي بَيْنَ الْمُتَرَادِفَةِ وَالْمُتَبَايِنَةِ ، كَمَا قِيلَ في اسْمِ السَّيفِ : الصَّارمُ والْمُهَنَّدُ ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَسْمَاءِ اللهِ الحُسْنَى ، وَأَسْمَاءِ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَسْمَاءِ القُرْآنِ ؛ فَإنَّ أَسْمَاءَ اللهِ كُلَّهَا تَدُلُّ عَلَى مُسَمًّى واحِدٍ .
فَلَيْسَ دُعَاؤُهُ بِاسْمٍ منْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى مُضَادًّا لِدُعائِهِ بِاسْمٍ آخَرَ ، بَلْ إِنَّ الأَمْرَ كَمَا قَالَ تعالَى :{ قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاءُ} [سُورَةُ الإِسْرَاءِ: 110] وَكُلُّ اسْمٍ منْ أَسْمَائِهِ يَدُلُّ علَى الذَّاتِ المُسَمَّاةِ وعلَى الصِّفَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا الاسْمُ؛ كَالْعَليمِ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ والعِلْمِ، وَالقَدِيرِ يَدُلُّ علَى الذَّاتِ والقُدْرَةِ، والرَّحِيمِ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ والرَّحمةِ.
ومَنْ أَنكَرَ دِلاَلَةَ أَسْمَائِهِ عَلَى صِفَاتِهِ مِمَّنْ يَدَّعِي الظَّاهرَ فَقَولُهُ منْ جِِنْسِ قَوْلِ غُلاةِ البَاطِنِيَّةِ القَرَامِطَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لا يُقالُ هُوَ حَيٌّ وَلا لَيْسَ بحَيٍّ، بَلْ يَنْفُونَ عَنْهُ النَّقيضَيْنِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ القَرَامِطَةَ البَاطنيَّةَ لا يُنْكِرُونَ اسْمًا هُوَ عَلَمٌ مَحْضٌ كَالمُضْمَراتِ، وَإنَّمَا يُنْكِرُونَ مَا في أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى منْ صِفَاتِ الإثْبَاتِ، فَمَنْ وَافَقَهُمْ عَلَى مَقْصُودِهِمْ كانَ – مَعَ دَعْوَاهُ الْغُلُوَّ فِي الظَّاهِرِ – مُوَافقًا لِغُلاَةِ الباَطنيَّةِ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ بَسْطِ ذَلكَ.
وَإنـَّما المقصودُ أنَّ كُلَّ اسْمٍ منْ أَسْمَائِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَاتِهِ، وَعَلَى مَا فِي الاسْمِ منْ صِفَاتِهِ، وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي في الاسْمِ الآخَرِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ.
وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلُ: مُحَمَّدٍ، وَأَحمَدَ، والمَاحِي، وَالْحَاشِرِ، وَالعَاقِبِ، وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ القرآنِ مِثْلُ: القُرْآنِ، وَالفُرْقاَنِ، وَالهُدَى، وَالشِّفَاءِ، والبَيَانِ، وَالكِتَابِ، وأمْثَالِ ذلِكَ.
فَإِذَا كَانَ مَقْصُودُ السَّائِلِ تَعْيِينَ المُسمَّى عبَّرْنَا عَنْهُ بِأَيِّ اسْمٍ كَانَ إِذَا عُرِفَ مُسمَّى هَذَا الاسْمِ، وقَدْ يَكُونُ الاسْمُ عَلَمًا، وَقَدْ يَكُونُ صِفَةً، كَمَنْ يَسْأَلُ عَنْ قولِهِ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} [سُورَةُ طه: 124]، مـَا ذكرُهُ ؟ فيُقَالُ لَه : هـُوَ القُرْآنُ مَثَلاً ، أَوْ مَا أَنْزَلَهُ من الكُتُبِ ، فَإِنَّ الذِّكْرَ مَصْدَرٌ ، والمَصْدَرُ تَارَةً يُضَافُ إِلَى الفَاعِلِ ، وَتَارَةً إِلَى الْمَفعُولِ ، فَإِذَا قِيلَ : ذِكْرُ اللهِ بِالْمَعْنَى الثَّانِي ، كَانَ مَا يُذْكَرُ بِهِ ؛ مِثْلُ قوْلِ العَبْدِ : سُبْحَانَ اللهِ ، والحمْدُ للهِ ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ، وَاللهُ أكْبَرُ . وإِذَا قِيلَ : بِالْمَعْنَى الأَوَّلِ ، كَانَ مَا يذكُرُهُ هُوَ ، وهُوَ كلامُهُ ، وهَذَا هُوَ المُرادُ في قولِهِ: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} ؛ لأنَّهُ قَالَ قبلَ ذلِكَ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى} سُورَة طَه : 123]، وَهُدَاهُ هُوَ مَا أَنْزَلَهُ من الذِّكرِ . وَقَالَ بَعْدَ ذلِكَ : { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ ءَايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا}[سُورَةُ طَه: 125 - 126].
وَالمقصُودُ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّ الذِّكْرَ هُوَ كَلامُهُ الْمُنَزَّلُ ، أَوْ هُوَ ذِكْرُ العَبْدِ لَهُ ، فَسَوَاءٌ قِيلَ : ذِكْرِِي كِتَابِي ، أَوْ : كَلاَمِي ، أَوْ : هُدَايَ ، أَوْنَحْوُ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ المُسَمَّى واحِدٌ .
وَإِنْ كَانَ مَقصُودُ السَّائِلِ مَعْرِفَةَ مَا في الاسْمِ منَ الصِّفَةِ المختصَّةِ بِهِ ، فَلا بُدَّ منْ قَدْرٍ زَائِدٍ عَلَى تَعْيِينِ الْمُسَمَّى ؛ مِثلُ أَنْ يَسْأَلَ عَن : {الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ} [سورة الحشر: 23] وقَدْ عَلِمَ أنَّهُ اللهُ ، لَكِنَّ مُرَادَهُ : مَا مَعْنَى كَونِهِ قدُّوسًا سَلامًا مُؤمنًا ؟ وَنَحْوُ ذلِكَ .
إِذَا عُرِفَ هَذَا فَالسَّلَفُ كَثِيرًا مَا يُعَبِّرُونَ عَن المُسَمَّى بِعِبَارَةٍ تَدُلُّ علَى عَيْنِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا من الصِّفَةِ مَا لَيْسَ في الاسْمِ الآخرِ ، كَمنْ يقُولُ : أحمدُ هُوَ الحاشرُ ، وَالْمَاحِي ، وَالعَاقِبُ . والقُدُّوسُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحيمُ ؛ أيْ : إنَّ المُسَمَّى واحِدٌ , لا أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ هيَ هَذِهِ.
وَمَعْلُومٌ أنَّ هَذَا لَيْسَ اخْتِلافَ تَضَادٍّ كَمَا يَظُنُّهُ بعْضُ النَّاسِ .
مِثَالُ ذَلِكَ تَفْسِيرُهُمْ لِلصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ :
فَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ القُرْآنُ ؛ أَي اتِّبَاعُهُ ؛ لِقَوْلِ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ الَّذِي رَوَاهُ التِّرمذِيُّ ، وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ منْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ : (( هُوَ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ ، وَالذِّكرُ الْحَكِيمُ ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ )) .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ الإسْلامُ ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ النَّوّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الَّذِي رَوَاهُ التِّرمذِيُّ ، وغيرُهُ : (( ضَـرَبَ اللهُ مَثَلاً صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ، وَعَلَى جَنْبَتَي الصِّرَاطِ سُورَانِ ، وَ فِي السُّورَيْنِ أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ ، وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ ، وَ دَاعٍ يَدْعُو منْ فَوْقِ الصِّراطِ ، ودَاعٍ يَدْعُو عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ )) قَالَ : (( فَالصِّراطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الإسْلامُ ، وَالسُّورَانِ حُدُودُ اللهِ ، وَالأبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ مَحَارِمُ اللهِ ، وَالدَّاعِي علَى رَأْسِ الصِّراطِ كِتَابُ اللهِ ، وَالدَّاعِي فَوْقَ الصِّراطِ وَاعِظُ اللهِ في قَلْبِ كُلِّ مُؤْمنٍ )) .
فَهَذَانِ القَوْلانِ مُتَّفِقَانِ ؛ لأنَّ دِينَ الإسْلامِ هُوَ اتِّباعُ القُرْآنِ ، ولكنْ كُلٌّ منْهُمَا نَبَّهَ عَلَى وَصْفٍ غَيرِ الوَصْفِ الآخرِ ، كَمَا أَنَّ لَفْظَ الصِّراطِ يُشْعِرُ بِوَصْفٍ ثَالثٍ ، وَكَذلِكَ قَوْلُ منْ قالَ : هُوَ السُّنَّةُ وَالجَمَاعَةُ ، وَقَوْلُ منْ قَالَ : هُوَ طَريقُ العبوديَّةِ ، وَقوْلُ منْ قَالَ : هُو طاعَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمثالُ ذلِكَ .
فَهَؤُلاَءِ كلُّهُمْ أَشَارُوا إِلى ذَاتٍ وَاحِدَةٍ ، لَكِنْ وَصَفَهَا كُلٌّ منْهُمْ بِصِفَةٍ منْ صِفَاتِهَا .
الصِّنفُ الثَّانِي : أَنْ يَذْكُرَ كُلٌّ منْهُمْ مِن الاسْمِ العَامِّ بَعْضَ أَنْوَاعِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّمثيلِ ، وَتَنْبِيهِ الْمُسْتَمِعِ عَلَى النَّوعِ ، لاَ علَى سَبِيلِ الْحَدِّ الْمُطَابِقِ لِلْمَحْدُودِ فِي عُمُومِهِ وَخُصُوصِهِ ، مِثلُ سَائلٍ أَعْجَمِيٍّ سَأَلَ عَنْ مُسَمَّى لَفْظِ " الخُبْزِ " فَأُرِيَ رَغِيفًا ، وَقِيلَ : هَذَا . فَالإِشَارَةُ إِلَى نَوْعِ هَذَا ، لاَ إِلَى هَذَا الرَّغيفِ وحدَهُ .
مِثَالُ ذَلِكَ مَا نُقِلَ في قولِهِ :{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا منْ عِبَادِنَا فَمنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ } سورة فاطر : 32
فَمَعْلُومٌ أَنَّ الظَّالِمَ لِنَفْسِهِ يَتَنَاوَلُ المُضَيِّعَ لِلْوَاجِبَاتِ ، والمنْتَهِكَ لِلْمُحَرَّمَاتِ ، وَالْمُقْتَصِِدُ يَتَنَاوَلُ فَاعِلَ الْوَاجِبَاتِ وَتَارِكَ الْمُحَرَّمَاتِ ، وَالسَّابقُ يَدْخُلُ فِيهِ منْ سَبَقَ فَتَقَرَّبَ بِالْحَسَنَاتِ مَعَ الْوَاجِبَاتِ ، فَالْمُقْتَصِِدُونَ هُمْ أَصْحَابُ اليَمِينِ ، وَالسَّابقُونَ السابقون أُولَئِِكَ الْمُقرَّبُونَ .
ثُمَّ إِنَّ كُلاًّ منْهُمْ يَذْكُرُ هَذَا في نَوْعٍ منْ أَنْواعِ الطَّاعاتِ :
كقَوْلِ القائِلِ : السَّابقُ الَّذِي يُصَلِّي في أَوَّلِ الوَقْتِ ، وَالمُقْتَصِدُ الَّذِي يُصَلِّي فِي أَثْنَائِهِ ، وَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ : الَّذِي يُؤَخِّرُ العَصْرَ إِلَى الاصْفِرَارِ .
أَوْ يقُولُ : السَّابقُ وَالْمُقْتَصِدُ قَدْ ذكرَهُمْ في آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ ، فَإنَّهُ ذَكَرَ الْمُحْسِنَ بِالصَّدَقَةِ ، وَالظَّالمَ بِأَكْلِِ الرِّبَا ، وَالعَادِلَ بِالبَيْعِ . وَالنَّاسُ في الأَمْوَالِ إمَّا مُحْسِنٌ ، وإمَّا عادِلٌ ، وإمَّا ظالمٌ . فَالسَّابقُ المحسِنُ بِأَدَاءِ الْمُسْتَحَبَّاتِ مَعَ الوَاجِبَاتِ ، وَالظَّالِمُ آكِلُ الرِّبَا ، أَوْ مَانِعُ الزَّكَاةِ ، وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي يُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ ، وَلاَ يَأْكُلُ الرِّبَا . وَأَمْثَالُ هَذِهِ الأَقَاوِيلِ .
فَكُلُّ قَولٍ فِيهِ ذِكْرُ نَوْعٍ دَاخِلٍ في الآيَةِ ، إنَّمَا ذُكِرَ لِتَعْرِيفِ الْمُسْتَمِِعِ بِتَنَاوُلِ الآيةِ لَهُ ، وَتَنْبِيهِهِ بِهِ عَلَى نَظِيرِهِ ، فَإِنَّ التَّعْرِيفَ بِالْمِثَالِ قَدْ يَسْهُلُ أَكْثَرَ منَ التَّعريفِ بِالْحَدِّ الْمُطَابِِقِ . وَالعَقْلُ السَّليمُ يَتَفَطَّنُ لِلنَّوعِ ، كمَا يَتَفَطَّنُ إِذَا أُشِيرَ لهُ إلى رَغِيفٍ ، فَقِيلَ لهُ: هَذَا هُوَ الْخُبْزُ .
وَقَدْ يَجِيءُ كَثِيرًا منْ هَذَا البَابِ قَوْلُهُم : هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ فِي كَذَا ، لا سِيَّمَا إِنْ كَانَ الْمَذْكُورُ شَخْصًا ، كَأَسْبَابِ النُّزولِ الْمَذْكُورَةِ فِي التَّفسيرِ ، كَقَوْلِهِم : إِنَّ آيَةَ الظِّهارِ نَزَلَتْ في امْرَأَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ ، وَإِنَّ آيةَ اللِّعانِ نَزَلَتْ في عُوَيْمِرٍ العَجْلانيِّ ، أَوْ هِلالِ بنِ أُمَيَّةَ ، وَإِنَّ آيَةَ الكَلالَةِ نَزَلَتْ فِي جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ ، وَإِنَّ قولَهُ: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 49]، نَزَلـَتْ في بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضيرِ. وَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [سُورَةُ الأَنْفَالِ: 16]، نزلـَتْ في بَدْرٍ، وَإِنَّ قولَهُ: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [سُورَةُ الْمَائِدَةِ: 106[ نَزَلَـَتْ فِي قَضِيَّةِ تَمِيمٍ الدَّاريِّ، وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ. وَقَوْلُ أَبِي أَيُّوبَ: إِنَّ قَوْلَهُ: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [سُورَةُ البَقَرَةِ: 195]نَزَلَـتْ فِينَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ ... الحديثُ . وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرٌ ممَّا يَذْكُرُونَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي قَوْمٍ من الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ ، أَوْ فِي قَوْمٍ منْ أَهْلِ الكِتَابِ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى ، أَوْ فِي قَومٍ منَ الْمُؤمِنِينَ .
فَالَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ لَمْ يَقْصِدُوا أَنَّ حُكْمَ الآيةِ مُختَصٌّ بِأُولئِكَ الأَعْيَانِ دُونَ غَيْرِهِم ، فَإِنَّ هَذَا لا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ وَلاَ عَاقِلٌ عَلَى الإِطْلاَقِِ .
وَالنَّاسُ وَإنْ تَنَازَعُوا فِي اللَّفْظِ العَامِّ الوَارِدِ عَلَى سَبَبٍ ، هَلْ يَختَصُّ بِسَبَبِهِ أَمْ لاَ ؟ فلمْ يَقُلْ أحَدٌ منْ علمَاءِ المسلمينَ : إنَّ عُمُومَاتِ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَخْتَصُّ بِالشَّخْصِ الْمُعيَّنِ ، وَإنَّمَا غَايَةُ مَا يُقَالُ : إِنَّهَا تَخْتَصُّ بِنَوْعِ ذَلِكَ الشَّخصِ ؛ فتَعُمُّ مَا يُشْبِهُهُ . وَلاَ يَكُونُ العُمُومُ فِيها بِحَسْبِ اللَّفْظِ .
وَالآيَةُ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ مُعَيَّنٌ إِنْ كَانَتْ أَمْرًا أَوْ نَهْيًا فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِذَلِكَ الشَّخْصِ وَلِغَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ بِمنْزِلَتِِهِ . وَإِنْ كَانَتْ خَبَرًا بِمَدْحٍ أَوْ ذَمٍّ فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِذلكَ الشَّخصِ وَلِمنْ كَانَ بِمنْزِلَتِهِ .
ومَعْرِفَةُ سَبَبِ النُّزولِ تُعِينُ عَلَى فَهْمِ الآيةِ ؛ فَإِنَّ العِلْمَ بِالسَّببِ يُورِثُ العِلْمَ بِالْمُسَبَّبِ ، وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ قَوْلَي الفُقَهَاءِ أنَّهُ إِذَا لَمْ يُعرَفْ مَا نَوَاهُ الحالِفُ رُجِعَ إِلَى سَبَبِ يَمِينِهِ وَمَا هَيَّجَهَا وَأَثارَهَا .
وَقَولُـُهم : نَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ في كَذَا يُرَادُ بِهِ تَارَةً أنَّهُ سببُ النُّزولِ ، ويُرَادُ بِهِ تارَةً أنَّ هَذَا دَاخِلٌ في الآيَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُن السَّبَبَ . كَمَا تَقُولُ عَنَى بِهَذِهِ الآيةِ كَذَا .
وقَدْ تَنازَعَ العُلَمَاءُ في قَوْلِ الصَّاحبِ : " نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي كَذَا " هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْمُسْنَدِ - كَمَا لَوْ يذكِرَ السَّببُ الَّذِي أُنْزِلَتْ لأجْلِهِ - أَوْ يَجْرِي مَجْرَى التَّفسيرِ منْهُ الَّذِي لَيْسَ بِمُسْنَدٍ ؟
فَالبُخَاريُّ يُدْخِلُهُ في الْمُسْنَدِِ ، وَغَيرُهُ لاَ يُدْخِلُهُ فِي الْمُسْنَدِ ، وَأَكْثرُ الْمَسَانِيدِ عَلَى هَذَا الاصْطِلاحِ كَمُسْنَدِ أَحْمَدَ وغيرِهِ ، بِخلافِ مَا إِذَا ذَكَرَ سَببًا نزلَتْ عَقِبَهُ ، فإنَّهُم كُلَّهُمْ يُدْخلُونَ مِثْلَ هَذَا فِي الْمُسْنَدِ .
وَإِذَا عـُرِفَ هَذَا فَقَوْلُ أَحَدِهِم : " نَزَلَتْ في كَذَا " لاَ يُنَافِي قَوْلَ الآخرِ : " نزَلَتْ في كَذَا " ؛ إِذَا كَانَ اللفْظُ يَتَنَاوَلُهُمَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ في التَّفسيرِ بِالمِثَالِ .
وَإِذَا ذَكَرَ أَحَدُهُم لَهَا سَبَبًا نَزلَتْ لأجْلِهِ ، وَذَكَرَ الآخرُ سَبَبًا ، فَقَدْ يُمْكِنُ صِدْقُهُمَا بِأَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ عَقِبَ تِلْكَ الأسْبَابِ ، أَوْ تَكُونَ نَزَلَتْ مَرَّتينِ ؛ مَرَّةً لِهَذَا السَّببِ ، وَمَرَّةً لِهَذَا السَّببِ . وَهَذَانِ الصِّنفانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا في تَنَوُّعِ التَّفسيرِ – تارَةً لتنوُّعِ الأسماءِ والصِّفاتِ ، وَتَارةً لِذِكْرِ بَعْضِِ أنواعِ المسمَّى وأَقْسَامِهِ كَالتَّمثيلاتِ – هُمَا الغَالِبُ فِي تَفْسِيرِ سَلَفِ الأُمَّةِ الَّذِي يُظَنُّ أنَّهُ مُخْتَلِفٌ !!).