2 Oct 2022
بيان بعض أسباب الخلاف في التفسير وفائدة جمع أقوال السلف في
التفسير
[الخلاف في التفسير بسبب المشترك اللفظي والمتواطئ]
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ) : (وَمن التَّنازُعِ الْمَوْجُودِ عَنْهُمْ مَا يَكُونُ اللَّفْظُ فِيه مُحْتَمِلاً لِلأَمْرَينِ ، إِمَّا لِكَونِهِ مُشْتَرَكًا فِي اللُّغَةِ كَلَفْظِ : ( قَسْوَرَةٍ ) الَّذِي يُرَادُ بِهِ الرَّامِي ويُرادُ بِهِ الأَسَدُ ، وَلَفْظِ : (عَسْعَسَ ) الَّذِي يُرادُ بِهِ إِقْبالُ اللَّيْلِ وَإِدْبَارُهُ . وَإِمَّا لِكَوْنِهِ مُتَوَاطِئًا فِي الأَصْلِ ، لَكِنَّ المُرادَ بِهِ أَحَدُ النَّوعَيْنِ ، أَوْ أَحَدُ الشَّيئينِ ؛ كَالضَّمائرِ فِي قَوْلِهِ : ( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ) [سُورَةُ النَّجْمِ : 8-9 ].
وكَلَفْظِِ :(وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ) [سُورَةُ الْفَجْرِ : 1-3]، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ .
فَمِثْلُ هَذَا قَدْ يُرادُ بِهِ كُلُّ الْمَعَانِي الَّتِي قَالَهَا السَّلفُ ، وقَدْ لا يَجُوزُ ذَلِكَ .
فَالأَوَّلُ : إمَّا لِكَوْنِ الآيةِ نَزَلَتْ مَرَّتينِ فَأُرِيدَ بِهَا هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً ، وَإِمَّا لِكَوْنِ اللَّفْظِ الْمُشْتَرَكِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَعْنَيَاهُ ، إِذْ قَدْ جَوَّزَ ذَلِكَ أَكْثرُ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ والشَّافعيَّةِ والْحَنْبَلِيَّةِ ، وَكَثِيرٌ منْ أَهْلِ الكَلامِ ، وَإمَّا لِكَوْنِ اللَّفْظِِ مُتَوَاطِئًا فَيَكُُونُ عَامًّا إِذَا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِِيصِهِ مُوجِبٌ ، فَهَذَا النَّوْعُ إِذَا صَحَّ فِيهِ القَوْلانِ كَانَ من الصِّنْفِ الثَّانِي .
التعبير عن المعاني بألفاظ متقاربة لا يعد اختلافاً
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ) : (وَمن الأَقْوَالِ المَوْجُودَةِ عَنْهُم ويجعلُهَا بعْضُ النَّاسِ اختِلافًا : أَنْ يُعَبِّرُوا عَن الْمَعَانِي بِأَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ لاَ مُتَرادِفَةٍ ، فَإِنَّ التَّرادُفَ في اللُّغَةِ قَلِيلٌ ، وَأَمَّا فِي أَلْفَاظِ القُرآنِ فَإِمَّا نَادِرٌ وَإِمَّا مَعْدُومٌ ، وقَلَّ أَنْ يُعبَّرَ عَنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ يُؤَدِّي جَمِيعَ مَـعْنَاه ، بَلْ يكُونُ فيهِ تقرِيبٌ لِمَعْنَاهُ ، وَهَذَا منْ أَسْبَابِ إِعْجَازِ القُرْآنِ .
فَإِذَا قَالَ القَائلُ : ( يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً ) [ سُورَةُ الطور : 9 ]
: إنَّ المَوْرَ هو الحَرَكَةُ كانَ تقْرِيبًا؛ إذ المَوْرُ حركَةٌ خفيفَةٌ سريعَةٌ .
وكَذَلِكَ إِذَا قَالَ : الوَحْيُ الإعْلامُ، أَوْ قِيلَ : ( أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
) : أَنْزَلْنَا إِليْكَ . أَوْ قِيلَ : ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي
إِسْرَائِيل) [سُورَةُ الإِسْرَاءِ : 17
]، أَيْ أَعْلَمْنَا . وَأَمْثَالُ ذَلِكَ
. فهَذَا كُلُّهُ تَقْرِيبٌ لا تَحْقِيقٌ ، فَإِنَّ الوَحْيَ
هو إِعْلامٌ سَرِيعٌ خَفِيٌّ ، والقَضَاءُ إليهِمْ أَخَصُّ من الإعْلامِ ، فَإِنَّ
فِيهِ إِنْزَالاً إليهِمْ وإيْحَاءً إِلَيْهِمْ).
الخلاف في التفسير بسبب اختلاف مذاهب أهل اللغة في معاني حروف الجر بين التعاقب والتضمين
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ) : (والعَرَبُ تُضَمِّنُ الفِعْلَ مَعنَى الفِعْلِ وتُعَدِّيهِ تَعْدِيَتَهُ، ومنْ هُنَا غَلَطَ مَنْ جَعَلَ بَعْضَ الحُرُوفِ تَقُومُ مُقَامَ بَعْضٍ كمَا يَقُولُونَ في قولِهِ : (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ ) [سُورَةُ ص : 24 ]،( أيْ مَعَ نِعَاجِهِ) ، و ( مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ) [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ : 52] ؛ أَيْ مَعَ اللهِ ، ونحوُ ذلِكَ . والتَّحْقِيقُ مَا قالَهُ نُحَاةُ البصْرَةِ منَ التَّضمينِ ؛ فَسُؤَالُ النَّعجَةِ يَتَضَمَّنُ جَمْعَهَا وَضَمَّهَا إِلَى نِعَاجِهِ .
وكذلِكَ قولُهُ : (وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ
الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)[ سُورَةُ الإِسْرَاءِ : 73]
ضُمِّنَ معنَى : " يُزِيغُونَكَ ويصدُّونَكَ ". وكذلِكَ قولُهُ :
( وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ
الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا) [ سُورَةُ
الأَنْبِيَاءِ : 77] ، ضُمِّنَ معنَى " نجَّينَاهُ
وَخَلَّصْنَاهُ". وَكَذلِكَ قولُهُ : ( يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ
اللَّهِ) [ سُورَةُ الإِنْسَانِ : 6 ] ضُمِّنَ :
" يُرْوَى بِهَا "، ونَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ).
فائدة جمع عبارات السلف في التفسير
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ) : (ومَنْ قَالَ : ( لاَ رَيْبَ ) : لا شَكَّ ، فهَذَا تقرِيبٌ . وإلا فَالرَّيبُ فِيهِ اضْطِرَابٌ وَحَرَكَةٌ ، كَمَا قَالَ : " دَعْ ما يُرِيبُكَ إِلَى مَا لا يُرِيبُكَ " وَفِي الحَدِيثِ : أَنَّهُ مَرَّ بِظَبْيٍ حَاقِفٍ فقَالَ : " لا يـُرِيبُهُ أَحَدٌ " فَكَـَما أنَّ اليَقينَ ضُمِّنَ السُّكُونَ والطُّمَأْنينَةَ ، فَالرَّيبُ ضِدُّهُ ضُمِّنَ الاضْطِرَابَ والحَرَكَةَ . وَلَفْظُ الشَّكِّ ، وإِنْ قِيلَ : إِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ هَذَا المعنَى لكِنَّ لَفْظَهُ لا يَدُلُّ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ إِذَا قِيلَ : ( ذَلِكَ الْكِتَابُ ) [ سُورَةُ البَقَرَةِ :2] : هَذَا القُرآنُ ، فهَذَا تقْريبٌ ، لأنَّ المُشَارَ إِلَيْهِ وَإِنْ كانَ وَاحِدًا ، فالإشَارَةُ بجهةِ الحضُورِ غيرُ الإشارَةِ بجهَةِ البُعْدِ والغيبَةِ ، وَلَفْظُ " الكِتَابِ " يَتَضَمَّنُ منْ كونِهِ مَكْتُوبًا مَضْمُومًا مَا لا يَتَضَمَّنُهُ لَفْظُ القُرْآنِ منْ كَوْنِهِ مَقْرُوءاً مُظْهَرًا بَادِيًا . فهَذِهِ الفُروقُ مَوْجُودَةٌ في القُرْآنِ .
فَإِذَا قَالَ أحدُهُمْ : (أَن تُبْسَلَ ) [ سورة الأنعام :
70] : أيْ تُحْبَسَ ، وَقَالَ الآخَرُ : تُرْتَهَنُ ونحوُ ذلِكَ لم يكنْ منِ
اختلافِ التَّضَادِّ ، وَإِنْ كَانَ المحبُوسُ قَدْ يَكُونُ مُرْتَهَنًا وقَدْ لا
يَكُونُ ؛ إذْ هَذَا تَقْرِيبٌ لِلْمَعْنَى ،كَمَا تَقَدَّمَ
. وَجَمْعُ عِبَارَاتِ السَّلفِ فِي مِثْلِ هَذَا نَافِعٌ
جِدًّا ؛ لأَنَّ مَجْمُوعَ عِبَارَاتِهِم أَدَلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ منْ عِبَارَةٍ
أَوْ عِبَارَتَيْنِ).
يوجد لدى السلف خلاف محقق في التفسير كما أن لديهم خلاف في الأحكام
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ) : (وَمَعَ هَذَا فَلاَ بُدَّ من اخْتِلافٍ مُحَقَّقٍ بَينَهُم كَما يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ في الأحْكَامِ .
ونحنُ نَعلَمُ أنَّ
عامَّةَ مَا يُضطَرُّ إِلَيْهِ عُمُومُ النَّاسِ مِن الاتّفَاقِ مَعلُومٌ بَلْ
مُتَواتِرٌ عنْدَ العَامَّةِ أَو الخَاصَّةِ . كَمَا في عَدَدِ الصَّلواتِ
وَمَقَادِيرِ رُكُوعِهَا ومواقيتِهَا ، وَفَرَائِضِ الزَّكاةِ ونُصُبِهِا ،
وَتَعْيِينِ شَهْرِ رَمَضَانَ ، والطَّوَافِ والوُقُوفِ ورَمْيِ الْجِمَارِ
والمواقِيتِ ، وغَيْرِ ذلِكَ . ثُمَّ إنَّ اخْتِلافَ
الصَّحابَةِ في الجَدِّ والإِخْوَةِ ، وَفِي الْمُشَرَِّكَةِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ لا
يُوجِبُ رَيْبًا في جُمْهُورِ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ ، بَلْ فيمَا يَحْتَاجُ إليه
عَامَّةُ النَّاسِ ، وَهُوَ عَمُودُ النَّسَبِ من الآبَاءِ وَالأَبْنَاءِ ،
وَالكَلالَةِ من الإِخْوَةِ وَالأَخَواتِ ، وَمنْ نِسَائِهِمْ كالأزْوَاجِ . فإِنَّ
اللهَ أَنزَلَ في الفَرَائِضِ ثَلاَثََ آياتٍ مُنْفَصِلَةً . ذَكَرَ في الأُولَى
الأُصُولَ وَالفُرُوعَ ، وَذكَرَ في الثَّانيَةِ الحاشِيَةَ الَّتِي تَرِثُ
بالفَرْضِ كَالزَّوجَيْنِ وَوَلَدِ الأُمِّ ، وفي الثَّالثَةِ الحاشِيَةَ
الوارِثَةَ بالتَّعْصِيبِ ؛ وَهُم الإِخْوَةُ لأَبَوَيْنِ أَوْ لأَبٍ . وَاجْتِمَاعُ الْجَدِّ وَالإِخْوَةِ نَادِرٌ ، وَلِهَذَا
لَمْ يَقَعْ فِي الإسْلامِ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ . وَالاخْتِلاَفُ قَدْ يَكُونُ لِخَفَاءِ الدَّليلِ
والذُّهولِ عَنْهُ ، وقَدْ يكونُ لِعدمِ سَماعِهِ ، وقَدْ يكُونُ لِلْغَلَطِ في
فَهْمِ النَّصِّ ، وقَدْ يكونُ لاعتقَاد مُعَارِضٍ رَاجِحٍ . فَالْمَقْصُودُ هُنَا
التَّعريفُ بِمُجْمَلِ الأَمْرِ دُونَ تفاصيلِهِ).