2 Oct 2022
الاختلاف في التفسير المستند إلى النقل
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ) : (فَصْلٌ
فِي نَوْعَي الاخْتِلاَفِ فِي التَّفْسِيرِ الْمُسْتَنِدِ إِلَى النَّقلِ ، وَإِلَى طُرُقِ الاسْتِدلالِ.
الاخْتِلافُ فِي التَّفسيرِ عَلَى نَوْعَيْنِ:
- منْهُ مَا مُسْتَنَدُهُ النَّقْلُ فَقَطْ.
- وَمنْهُ مَا يُعْلَمُ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
إذ العِلْمُ إمَّا نَقْلٌ مُصَدَّقٌ ، وَإمَّا اسْتِدلالٌ مُحَقَّقٌ .
وَالْمنْقُولُ إِمَّا عَن الْمَعْصُومِ ، وَإمَّا عَنْ غَيْرِ الْمَعْصُومِ
والْمَقْصُودُ بِأَنَّ جِنْسَ الْمنْقُولِ سَوَاءٌ كَانَ عَنِ الْمَعْصُومِ أَوْ غَيْرِ الْمَعْصُومِ ، وَهَذَا هُوَ النَّوعُ الأَوَّلُ ، فَمنْهُ مَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحيحِ منْهُ وَالضَّعيفِ ، وَمنْهُ مَا لا يُمْكِنُ مَعْرِفة ُذَلِكَ فِيهِ.
وهَذَا القِسْمُ الثَّانِي من المنْقُولِ ، وهُوَ مَا لا طَرِيقَ لنا إلى الجَزْمِ بالصِّدقِ منْهُ ، عَامَّتهُ مِمَّا لا فَائِدَةَ فيهِ ، والكَلامُ فِيهِ منْ فُضُولِ الكَلامِ . وَأمَّا مَا يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إِلى مَعْرِفَتِهِ فَإِنَّ اللهَ تعالى نَصَبَ على الحَقِّ فِيهِ دَلِيلاً .
فَمِثَالُ مَا لا يُفِيدُ وَلا دَلِيلَ علَى الصَّحيحِ منْهُ اخْتِلافُهُم فِي لَوْنِ كَلْبِ أَصْحَابِ الكَهْفِ ، وفي البَعْضِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ قَتِيلُ مُوسَى من البَقَرَةِ . وَفِي مِقْدَارِ سَفِينَةِ نُوحٍ ، وَمَا كَانَ خَشَبُهَا ، وَفي اسْمِ الغُلامِ الَّذِي قتَلَهُ الخَضِرُ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَهَذِهِ الأُمُورُ طَرِيقُ العِلْمِ بِهَا النَّقْلُ .
فَمَا كَانَ منْ هَذَا منْقُولاً نقْلاً صَحِيحًا عنِ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كاسْمِ صَاحِبِ مُوسَى أنَّهُ الْخَضِرُ - فهَذَا مَعْلُومٌ .
ومَا لَمْ يَكُنْ كذلِكَ بَلْ كَانَ ممَّا يُؤْخَذُ عَنْ أهْلِ الكتَابِ -كالمنْقُولِ عنْ كَعْبٍ ، وَوَهْبٍ ، ومُحمَّدِ بنِ إسْحَاقَ ، وغيرِهِمْ مِمنْ يَأْخُذُ عَنْ أَهْلِ الكِتَابِ - فهَذَا لا يَجُوزُ تصدِيقُهُ ولا تَكْذِيبُهُ إلا بِحُجَّةٍ .
كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحيحِ عَنِ النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّهُ قَالَ : " إِذَا حَدَّثَكُمْ أهْلُ الكِتَابِ فَلا تُصَدِّقُوهُمْ ولا تُكَذِّبُوهُمْ ، فإمَّا أنْ يحدِّثُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوهُ ، وإمَّا أنْ يحدِّثُوكُمْ بباطِلٍ فتُصَدِّقُوهُ ".
وكذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ التَّابعينَ ، وإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أنَّهُ أَخَذََهُ عنْ أهْلِ الكِتَابِ ، فَمَتَى اخْتَلَفَ التَّابعُونَ لَمْ يَكُنْ بَعْضُ أَقْوَالِهِم حُجَّةً علَى بَعْضٍ.
وَمَا نُقِلَ في ذلِكَ عَنْ بَعْضِ الصَّحابَةِ نَقْلاً صَحِيحاً ، فَالنَّفْسُ إِلَيْهِ أَسْكَنُ ممَّا نُقِلَ عن بَعْضِ التَّابعينَ ؛ لأَنَّ احْتِمَالَ أَنْ يَكونَ سَمِعَهُ من النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ منْ بَعْضِ منْ سَمِعَهُ منْهُ أَقْوَى ، وَلأَنَّ نَقْلَ الصَّحابةِ عن أَهْلِ الكتابِ أَقَلُّ منْ نَقْلِ التَّابعينَ .
وَمَعَ جَزْمِ الصَّاحِبِ بمَا يَقُولُهُ ، كَيفَ يُقالُ : إِنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الكِتَابِ وقدْ نُهُوا عن تَصْدِيقِهِم ؟!).
المنقولات التي يحتاج إليها في الدين قد نصب الله الأدلة على بيان ما فيها من صحيح وغيره
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ) : (والمقصُودُ أنَّ مِثْلَ
هَذَا الاخْتِلافِ الَّذِي لا يُعْلَمُ صَحِيحُهُ وَلاَ تُفِيدُ حِكَايَةُ
الأَقْوَالِ فِيهِ هُوَ كَالْمَعْرِفَةِ لِمَا يُرْوَى من الْحَدِيثِ الَّذِي لاَ
دَلِيلَ على صحَّتِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِِكَ . وَأمَّا القِسْمُ
الأَوَّلُ الَّذِي يُمْكِنُ مَعْرِفةُ الصَّحيحِ منْهُ فَهَذَا مَوْجُودٌ فِيمَا
يُحْتَاجُ إِلَيْهِ وَللهِ الحمدُ ، فَكَثِيرًا مَا يُوجَدُ في التَّفسيرِ
وَالْحَدِِيثِ وَالمْغَازِي أُمُورٌ منْقُولَةٌ عَن نبيِّنَا - صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيرِهِ من الأنبيَاءِ - صَلَواتُ اللهِ عَليهِمْ
وَسَلامُهُ - والنَّقلُ الصَّحيحُ يَدْفَعُ ذَلِكَ ، بَلْ هَذَا موجودٌ فيمَا
مُسْتَنَدُهُ النَّقلُ ، وَفِيمَا [قَدْ ]يُعْرَفُ بِأُمُورٍ أُخْرَى غَيْرِ
النَّقلِ . فَالمقصُودُ أَنَّ الْمنْقُولاتِ الَّتِي يُحْتاجُ إليها
في الدِّينِ قَدْ نَصَبَ اللهُ الأَدِلَّةَ عَلَى بَيَانِ مَا فِيهَا منْ صَحِيحٍ
وَغَيْرِهِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمنْقُولَ في التَّفسيرِ أَكْثرُهُ كَالْمنْقُولِ
فِي الْمَغَازِي وَالْمَلاحِمِ ، وَلِهَذَا قَالَ الإمامُ أحمَدُ :" ثلاثةُ أُمُورٍ
لَيْسَ لَهَا إِسْنادٌ : التَّفسيرُ وَالْمَلاَحِمُ وَالْمَغَازِي " ، ويُرْوَى : "
ليسَ لَها أَصْلٌ " أَيْ إِسْنَادٌ ، لأَنَّ الغَالِبَ عَلَيْهَا المَرَاسيلُ ،
مِثْلُ مَا يَذْكُرُهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبيرِ وَالشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ
وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَابْنُ إسْحَاقَ وَمنْ بَعْدَهُمْ كَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الأُمَوِيِّ وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَالوَاقِدِيِّ وَنَحْوِهِمْ من كتاب
المغازي فِي الْمَغَازِي . فَإِنَّ أَعْلَمَ
النَّاسِ بِالْمَغَازِي أَهْلُ الْمَدِينَةِ ، ثُمَّ أَهْلُ الشَّامِ ، ثُمَّ
أَهْلُ العِرَاقِ . فَأَهْلُ المدينَةِ أَعْلَمُ بِهَا ؛ لأنَّهَا كانَتْ
عِنْدَهُمْ ، وَأَهْلُ الشَّامِ كَانُوا أَهْلَ غَزْو وجهادٍ , فَكَانَ لهُمْ من
الْعِلْمِ بِالْجِهَادِ وَالسِّيَرِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ ، وَلِهَذَا عَظَّمَ
النَّاسُ كِتَابَ أَبِي إِسْحَاقَ الفَزَارِيِّ الَّذِي صَنَّفَهُ في ذلِكَ ،
وجَعَلُوا الأَوْزَاعِيَّ أَعْلَمَ بِهَذَا البَابِ منْ غَيْرِهِ منْ عُلَمَاءِ
الأَمْصَارِ).
مراتب التابعين في التفسير
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني (ت: 728هـ) : (وَأَمَّا التَّفسيرُ فَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ ؛ لأنَّهُم أَصْحَابُ ابنِ عبَّاسٍ كَمُجَاهِدٍ ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبي رَبَاحٍ ، وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَغَيْرِهِمْ منْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَطَاوُوسَ ، وَأَبِي الشَّعْثَاءِ ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وأَمْثَالِهِم .
وَكذلِكَ أَهْلُ الكُوفَةِ منْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللهِ بنِ مسعودٍ - ومنْ ذَلِكَ مَا تميَّزُوا بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ-.
وَعلماءُ أهْلِ المدينةِ في التَّفسيرِ مثلُ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ الَّذِي أَخَذَ عَنْهُ مَالِكٌ التَّفسيرَ, وَأَخَذَهُ عَنْهُ أَيْضًا ابنُهُ عبدُ الرَّحمنِ وعبدُ اللهِ بنُ وهْبٍ).