17 Nov 2018
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم
مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا
رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ
وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)}
ابتدأ اللّه السورة بالموعظة، أخبر بما يوجب أنه واحد وأن حقه عز وجلّ - أن يتقى فقال: {الّذي خلقكم من نفس واحدة} يعني من آدم عليه السلام، وإنما قيل في اللغة واحدة لأن لفظ النفس مؤنث، ومعناها مذكر في هذا الموضع، ولو قيل من نفس واحد لجاز.
{وخلق منها زوجها} حواء خلقت من ضلع من أضلاع آدم، وبث اللّه جميع خلق الناس منها.
ومعنى {بث} نشر، يقال: بث الله الخلق، وقال - عزّ وجلّ - {كالفراش المبثوث}، فهذا يدل على بث.
وبعض العرب يقول: أبث اللّه الخلق، ويقال بثثتك سري وأبثثتك سري.
وقوله - عزّ وجلّ: {واتّقوا اللّه الّذي تساءلون به} بالتشديد، فالأصل تتساءلون. وأدغمت التاء في السين لقرب مكان هذه من هذه.
ومعنى {تساءلون به}: تطلبون حقوقكم به.
{والأرحام} القراءة الجيّدة نصب الأرحام.
فكيف يكون تساءلون به وبالرحم على ذا؟.
رأيت أبا إسحاق
إسماعيل بن إسحاق يذهب إلى: أن الحلف بغير اللّه أمر عظيم، وأن ذلك
خاص للّه - عزّ وجلّ - على ما أتت به الرواية.
فأما العربية فإجماع
النحويين أنه: يقبح أن ينسق باسم ظاهر على اسم مضمر في حال الجر إلا
بإظهار الجار، يستقبح النحويون: مررت به وزيد.
وبك وزيد، إلا مع
إظهار الخافض حتى يقولوا بك وبزيد، فقال بعضهم: لأن المخفوض حرف متصل
غير منفصل، فكأنّه كالتنوين في الاسم، فقبح أن يعطف باسم يقوم
بنفسه على اسم لا يقوم بنفسه. وقد فسر المازي هذا تفسيرا مقنعا
فقال: الثاني في العطف شريك للأول، فإن كان الأول يصلح شريكا للثاني وإلا لم يصلح أن يكون الثاني شريكا له.
قال: فكما لا تقول مررت بزيد و " ك " فكذلك لا يجوز مررت بك وزيد.
وقد جاز ذلك في الشعر.
أنشد سيبويه:
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا... فاذهب فما بك والأيّام من عجب). [معاني القرآن: 2/5-7]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({يا
أيّها النّاس اتّقوا ربّكم الّذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها
وبثّ منهما رجالًا كثيرًا ونساءً واتّقوا اللّه الّذي تساءلون به والأرحام
إنّ اللّه كان عليكم رقيبًا (1) }
يقول تعالى آمرًا خلقه بتقواه، وهي
عبادته وحده لا شريك له، ومنبّهًا لهم على قدرته الّتي خلقهم بها من نفسٍ
واحدةٍ، وهي آدم، عليه السّلام {وخلق منها زوجها} وهي حوّاء، عليها
السّلام، خلقت من ضلعه الأيسر من خلفه وهو نائمٌ، فاستيقظ فرآها فأعجبته،
فأنس إليها وأنست إليه.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا
محمّد بن مقاتلٍ، حدّثنا وكيعٌ، عن أبي هلالٍ، عن قتادة، عن ابن عبّاسٍ
قال: خلقت المرأة من الرّجل، فجعل نهمتها في الرّجل، وخلق الرّجل من الأرض،
فجعل نهمته في الأرض، فاحبسوا نساءكم.
وفي الحديث الصّحيح: "إنّ المرأة خلقت
من ضلعٍ، وإنّ أعوج شيءٍ في الضّلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن
استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج".
وقوله: {وبثّ منهما رجالا كثيرًا
ونساءً} أي: وذرأ منهما، أي: من آدم وحوّاء رجالًا كثيرًا ونساءً، ونشرهم
في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم وصفاتهم وألوانهم ولغاتهم، ثمّ إليه
بعد ذلك المعاد والمحشر.
ثمّ قال تعالى: {واتّقوا اللّه الّذي
تساءلون به والأرحام} أي: واتّقوا اللّه بطاعتكم إيّاه، قال إبراهيم
ومجاهدٌ والحسن: {الّذي تساءلون به} أي: كما يقال: أسألك باللّه وبالرّحم.
وقال الضّحّاك: واتّقوا اللّه الّذي به تعاقدون وتعاهدون، واتّقوا الأرحام
أن تقطعوها، ولكن برّوها وصلوها، قاله ابن عبّاسٍ، ومجاهدٌ، وعكرمة،
والحسن، والضّحّاك، والرّبيع وغير واحدٍ.
وقرأ بعضهم: {والأرحام} بالخفض على العطف على الضّمير في به، أي: تساءلون باللّه وبالأرحام، كما قال مجاهدٌ وغيره.
وقوله: {إنّ اللّه كان عليكم رقيبًا} أي: هو مراقبٌ لجميع أعمالكم وأحوالكم كما قال: {واللّه على كلّ شيءٍ شهيدٌ} [البروج: 9].
وفي الحديث الصّحيح: "اعبد اللّه كأنّك
تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك" وهذا إرشادٌ وأمرٌ بمراقبة الرّقيب؛
ولهذا ذكر تعالى أنّ أصل الخلق من أبٍ [واحدٍ] وأمٍّ واحدة؛ ليعطف بعضهم
على بعضٍ، ويحنّنهم على ضعفائهم، وقد ثبت في صحيح مسلمٍ، من حديث جرير بن
عبد اللّه البجلي؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حين قدم عليه
أولئك النّفر من مضر -وهم مجتابو النّمار -أي من عريّهم وفقرهم -قام فخطب
النّاس بعد صلاة الظّهر فقال في خطبته: {يا أيّها النّاس اتّقوا ربّكم
الّذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ} حتّى ختم الآية وقال: {يا أيّها الّذين آمنوا
اتّقوا اللّه ولتنظر نفسٌ ما قدّمت لغدٍ [واتّقوا اللّه]} [الحشر:18] ثمّ
حضّهم على الصّدقة فقال: "تصدّق رجلٌ من ديناره، من درهمه، من صاع برّه،
صاع تمره = " وذكر تمام الحديث.
وهكذا رواه الإمام أحمد وأهل السّنن عن
ابن مسعودٍ في خطبة الحاجة وفيها ثمّ يقرأ ثلاث آياتٍ هذه منها: {يا أيّها
النّاس اتّقوا ربّكم [الّذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ]} الآية). [تفسير القرآن العظيم: 2/206-207]
* للاستزادة ينظر: هنا