الدروس
course cover
تفسير سورة النساء [ من الآية (2) إلى الآية (4) ]
17 Nov 2018
17 Nov 2018

3031

0

0

course cover
تفسير سورة النساء

القسم الأول

تفسير سورة النساء [ من الآية (2) إلى الآية (4) ]
17 Nov 2018
17 Nov 2018

17 Nov 2018

3031

0

0


0

0

0

0

0

تفسير قوله تعالى: {وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ (3) وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا (4)}



تفسير قوله تعالى: {وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) }
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله: {وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدّلوا الخبيث بالطّيّب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنّه كان حوبا كبيرا}أي:« أعطوهم أموالهم إذا آنستم منهم رشدا، وإنما يسمون يتامى – بعد أن يؤنس منهم الرّشد، وقد زال عنهم اسم يتامى - بالاسم الأول الذي كان لهم، وقد كان يقال في النبي - صلى الله عليه وسلم - يتيم أبي طالب ».
وقوله - عزّ وجلّ -: {ولا تتبدّلوا الخبيث بالطّيّب
} الطيب مالكم، والخبيث مال اليتيم وغيره مما ليس لكم، فلا تأكلوا مال اليتيم بدلا من مالكم، وكذلك لا تأكلوا (أيضا) {أموالهم إلى أموالكم}.
أي: لا تضيفوا أموالهم في الأكل إلى أموالكم، أي: إن احتجتم إليها فليس لكم أن تأكلوها مع أموالكم.
{إنّه كان حوبا كبيرا
}والحوب: الإثم العظيم، والحوب فعل الرجل، تقول: حاب حوبا كقولك قد خان خونا). [معاني القرآن: 2/7-8]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : قوله تعالى: {وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدّلوا الخبيث بالطّيّب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنّه كان حوباً كبيراً (2) وإن خفتم ألاّ تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النّساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألاّ تعدلوا فواحدةً أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألاّ تعولوا (3)}.

اليتامى: جمع يتيم ويتيمة، واليتم في كلام العرب فقد الأب قبل البلوغ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يتم بعد بلوغ » وهو في البهيمة فقد الأم في حال الصغر، وحكى اليتم في الإنسان من جهة الأم، وقال ابن زيد: « هذه المخاطبة هي لمن كانت عادته من العرب أن لا يرث الصغير من الأولاد مع الكبير، فقيل لهم: ورثوهم أموالهم، ولا تتركوا أيها الكبار حظوظكم حلالا طيبا وتأخذوا الكل ظلما حراما خبيثا، فيجيء فعلكم ذلك تبدلا »، وقالت طائفة: « هذه المخاطبة هي لأوصياء الأيتام، والمعنى: إذا بلغوا وأونس منهم الرشد. وسماهم يتامى وهم قد بلغوا، استصحابا للحالة الأولى التي قد ثبتت لهم من اليتم، ولا تتبدّلوا قيل: المراد ما كان بعضهم يفعل من أن يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالهزيلة من ماله، والدرهم الطيب بالزائف من ماله »، قاله سعيد بن المسيب والزهري والسندي والضحاك، وقيل:« المراد بذلك لا تأكلوا أموالهم خبيثا، وتدعوا أموالكم طيبا »، وقيل: « معناه لا تتعجلوا أكل «الخبيث» من أموالهم، وتدعوا انتظار الرزق الحلال من عند الله»، قاله مجاهد وأبو صالح، و «الخبيث» و «الطيب»: إنما هو هنا بالتحليل والتحريم، وروي عن ابن محيصن أنه قرأ- «ولا تبدلوا» - بإدغام التاء في التاء وجاز في ذلك الجمع بين ساكنين، لأن أحدهما حرف مد ولين يشبه الحركة، وقوله: ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم استوى الأيتام في النهي عن أكل «أموالهم»، كانوا ورثة ممنوعين من الميراث ومحجورين، والآية نص في [النهي عن] قصد مال اليتيم بالأكل والتمول على جميع وجوهه، وروي عن مجاهد أنه قال: « الآية ناهية عن الخلط في الإنفاق، فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة أيتامها فنهوا عن ذلك، ثم نسخ منه النهي بقوله: {وإن تخالطوهم فإخوانكم} ». وقد تقدم ذكر هذا في سورة البقرة، وقال ابن فورك عن الحسن: « إنه تأول الناس من هذه الآية النهي عن الخلط فاجتنبوه من قبل أنفسهم، فخفف عنهم في آية البقرة »، وقالت طائفة من المتأخرين إلى بمعنى مع، وهذا غير جيد، وروي عن مجاهد أن معنى الآية: «ولا تأكلوا أموالهم مع أموالكم».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:« وهذا تقريب للمعنى، لا أنه أراد أن الحرف بمعنى الآخر »، وقال الحذاق:إلى هي على بابها وهي تتضمن الإضافة، التقدير: «لا تضيفوا أموالهم إلى أموالكم في الأكل»، كما قال تعالى: {من أنصاري إلى اللّه} أي من ينضاف إلى الله في نصرتي والضمير في إنّه عائد على الأكل الذي تضمنه الفعل الظاهر، والحوب الإثم، قاله ابن عباس والحسن وغيرهما، تقول: حاب الرجل يحوب حوبا وحابا وحوبا إذا أثم، قال أمية بن الأسكر: [الوافر]

وإنّ مهاجرين تكنّفاه ...... غداتئذ لقد خطئا وخابا

وقرأ الحسن: «حوبا» بفتح الحاء، وهي لغة بني تميم، وقيل: هو بفتح الحاء المصدر وبضمها الاسم، وتحوب الرجل إذا ألقى الحوب عن نفسه، وكذلك تحنث وتأثم وتحرج، فإن هذه الأربعة بخلاف تفعل كله، لأن تفعل معناه الدخول في الشيء كتعبد وتكسب وما أشبهه، ويلحق بهذه الأربعة تفكهون، في قوله تعالى: { لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكّهون}. أي تطرحون الفكاهة عن أنفسكم، بدليل قوله بعد ذلك {إنّا لمغرمون بل نحن محرومون}أي يقولون ذلك، وقوله: كبيراً نص على أن أكل مال اليتيم من الكبائر. [المحرر الوجيز: 2/463-465]

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) :{وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدّلوا الخبيث بالطّيّب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنّه كان حوبًا كبيرًا (2) وإن خفتم ألّا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النّساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألّا تعدلوا فواحدةً أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألّا تعولوا (3) وآتوا النّساء صدقاتهنّ نحلةً فإن طبن لكم عن شيءٍ منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا (4) }
يأمر تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا الحلم كاملةً موفّرةً، وينهى عن أكلها وضمّها إلى أموالهم؛ ولهذا قال: {ولا تتبدّلوا الخبيث بالطّيّب} قال سفيان الثّوريّ، عن أبي صالحٍ: لا تعجل بالرّزق الحرام قبل أن يأتيك الرّزق الحلال الّذي قدّر لك.
وقال سعيد بن جبيرٍ: «لا تبدّلوا الحرام من أموال النّاس بالحلال من أموالكم، يقول: لا تبذّروا أموالكم الحلال وتأكلوا أموالهم الحرام ».
وقال سعيد بن المسيّب والزّهريّ:« لا تعط مهزولًا وتأخذ سمينًا».
وقال إبراهيم النّخعي والضّحّاك: « لا تعط زائفًا وتأخذ جيّدًا ».
وقال السّدّي: « كان أحدهم يأخذ الشّاة السّمينة من غنم اليتيم، ويجعل فيها مكانها الشّاة المهزولة، ويقول شاةٌ بشاةٍ، ويأخذ الدّرهم الجيّد ويطرح مكانه الزّيف، ويقول: درهمٌ بدرهمٍ ».
وقوله: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} قال مجاهدٌ، وسعيد بن جبير، ومقاتل بن حيّان، والسّدّيّ، وسفيان بن حسين: أي لا تخلطوها فتأكلوها جميعا.
وقوله: {إنّه كان حوبًا كبيرًا} قال ابن عبّاسٍ: « أي إثمًا كبيرًا عظيمًا ».
وقد رواه ابن مردويه، عن أبي هريرة قال: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن قوله: {حوبًا كبيرًا} قال: « إثمًا كبيرًا ». ولكن في إسناده محمّد بن يونس الكديمي وهو ضعيفٌ وهكذا روي عن مجاهدٍ، وعكرمة، وسعيد بن جبيرٍ، والحسن، وابن سيرين، وقتادة، والضّحّاك، ومقاتل بن حيّان، وأبي مالكٍ، وزيد بن أسلم، وأبي سنان مثل قول ابن عبّاسٍ.
وفي الحديث المرويّ في سنن أبي داود:« اغفر لنا حوبنا وخطايانا».
وروى ابن مردويه بإسناده إلى واصلٍ، مولى أبي عيينة، عن محمّد بن سيرين، عن ابن عبّاسٍ: «أنّ أبا أيّوب طلّق امرأته، فقال له النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم:« يا أبا أيّوب، إنّ طلاق أمّ أيّوب كان حوبًا »قال ابن سيرين: « الحوب الإثم ».
ثمّ قال ابن مردويه: حدّثنا عبد الباقي، حدّثنا بشر بن موسى، أخبرنا هوذة بن خليفة، أخبرنا عوف، عن أنسٍ: أنّ أبا أيّوب أراد طلاق أمّ أيّوب، فاستأذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال:« إنّ طلاق أمّ أيّوب لحوبٌ فأمسكها»ثمّ رواه ابن مردويه والحاكم في مستدركه من حديث عليّ بن عاصمٍ، عن حميد الطّويل، سمعت أنس بن مالكٍ يقول: أراد أبو طلحة أن يطلّق أمّ سليم فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم:« إنّ طلاق أمّ سليمٍ لحوبٌ » فكفّ.
والمعنى: إنّ أكلكم أموالهم مع أموالكم إثمٌ عظيمٌ وخطأٌ كبيرٌ فاجتنبوه). [تفسير القرآن العظيم: 2/207-208]

تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) }
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): وقوله عزّ وجلّ: {وإن خفتم ألّا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النّساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألّا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألّا تعولوا}.
قال مجاهد:
« إن تحرجتم أن تتركوا ولاية اليتامى إيمانا وتصديقا فكذلك تحرجوا من الزنا».

وقال غيره: « وإن خفتم ألا تعدلوا في أمر النساء فانكحوا ما ذكر اللّه عزّ وجلّ ».
وقال بعض المفسرين قولا ثالثا، قال أهل البصرة من أهل العربية: يقول ذلك المفسّر - قال
« إنهم كانوا يتزوجون العشر من اليتامى ونحو ذلك رغبة في مالهن فقال اللّه - جلّ وعزّ - {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى} أي: في نكاح اليتامى».
ودل عليه{فانكحوا} كذلك قال أبو العباس محمد ابن يزيد، وهو مذهب أهل النظر من أهل التفسير.

{فانكحوا ما طاب لكم من النّساء مثنى وثلاث ورباع} لم يقل من طاب والوجه في الآدميين أن يقال من، وفي الصفات وأسماء الأجناس أن يقال (ما).
تقول: ما عندك؟ فيقول فرس وطيب.
فالمعنى: فانكحوا الطيب الحلال على هذه العدة التي وصفت، لأن ليس كل النساء طيبا، قال - عزّ وجلّ -: {حرّمت عليكم أمّهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعمّاتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمّهاتكم اللّاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرّضاعة وأمّهات نسائكم وربائبكم اللّاتي في حجوركم من نسائكم اللّاتي دخلتم بهنّ فإن لم تكونوا دخلتم بهنّ فلا جناح عليكم}
فليس ممن ذكر ما يطيب.
وقوله - عزّ وجلّ - {مثنى وثلاث ورباع} بدل من {ما طاب لكم}
ومعناه: اثنين اثنين، وثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا، إلا أنه لا ينصرف لجهتين لا أعلم أن أحدا من النحويين ذكرهما، وهي أنه اجتمع فيه علتان أنّه معدول عن اثنين اثنين، وثلاث ثلاث، وأنه عدل عن تأنيث.
قال أصحابنا: إنه اجتمع فيه علتان أنه عدل عن تأنيث، وأنه نكرة.
والنكرة: أصل للأسماء بهذا كان ينبغي أن نخففه. لأن النكرة تخفف ولا تعد فرعا.
وقال غيرهم: هو معرفة وهذا محال لأنه صفة للنكرة، قال اللّه - جلّ وعزّ -:
{جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع}.
فهذا محال أن يكون أولي أجنحة الثلاثة والأربعة، وإنما معناه: أولي أجنحة ثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة.

قال الشاعر:

ولكنما أهلي بواد أنيسه ذئاب ..... تبغي الناس مثنى وموحد
فإن قال قائل من الرافضة: إنه قد أحلّ لنا تسع، لأنّ قوله: {مثنى وثلاث ورباع} يراد به تسع، قيل هذا يبطل من جهات:

أحدها: في اللغة أن مثنى لا يصلح إلا لاثنين اثنين على التفريق.
ومنها: أنه يصير أعيى كلام، لو قال قائل في موضع تسعة أعطيك اثنين وثلاثة وأربعة يريد تسعة، قيل تسعة تغنيك عن هذا، لأن تسعة وضعت لهذا العدد كله، أعني من واحد إلى تسعة.
وبعد فيكون - على قولهم - من تزوج أقل من تسع أو واحدة فعاص لأنه إذا كان الذي أبيح له تسعا أو واحدة فليس لنا سبيل إلى اثنين.
لأنه إذا أمرك من تجب عليك طاعته فقال ادخل هذا المسجد في اليوم تسعا أو واحدة، فدخلت غير هاتين اللتين حددهما لك من المرات فقد عصيته.
هذا قول لا يعرج على مثله ولكنا ذكرناه ليعلم المسلمون أن أهل هذه المقالة مباينون لأهل الإسلام في اعتقادهم، ويعتقدون في ذلك ما لا يشتبه على أحد من الخطأ.
فأمّا قوله:
{ذلك أدنى ألّا تعولوا} فمعناه: ذلك أقرب ألا تجوروا.

وقيل في التّفسير: ألّا تميلوا، ومعنى{تميلوا}: تجوروا.

فأما من قال: {ألّا تعولوا}: ألا تكثر عيالكم، فزعم جميع أهل اللغة أنّ هذا خطأ، لأن الواحدة تعول، وإباحة كل ما ملكت اليمين أزيد في العيال من أربع، ولم يكن في العدد في النكاح حين نزلت هذه الآية.
والدليل على أنهم كانوا يرغبون في التزويج من اليتامى لمالهنّ: أنهم كانوا لا يبالون ألّا يعدلوا في أمرهم.
وقوله - عزّ وجلّ - {ويستفتونك في النّساء قل اللّه يفتيكم فيهنّ وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النّساء اللّاتي لا تؤتونهنّ ما كتب لهنّ وترغبون أن تنكحوهنّ} فالمعنى: وإن خفتم ألا تقسطوا في نكاح يتامى فانكحوا الطيب الذي قد أحل لكم من غيرهنّ، والمعنى: إن أمنتم الجور في اليتامى فانكحوا منهن كهذه العدة، لأن النساء تشتمل على اليتامى وغيرهن). [معاني القرآن: 2/8-11]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: وإن خفتم ألّا تقسطوا في اليتامى قال أبو عبيدة: خفتم هنا بمعنى أيقنتم، واستشهد بقول الشاعر: [دريد بن الصمة]: [الطويل]
فقلت لهم خافوا بألفي مدجّج ..... ... ... ... ...
وما قاله غير صحيح، ولا يكون الخوف بمعنى اليقين بوجه وإنما هو من أفعال التوقع، إلا أنه قد يميل الظن فيه إلى إحدى الجهتين، وأما أن يصل إلى حد اليقين فلا، وتقسطوا معناه تعدلوا، يقال: أقسط الرجل إذا عدل، وقسط إذا جار، وقرأ ابن وثاب والنخعي، - «ألا تقسطوا» بفتح التاء من قسط على تقدير زيادة- لا- كأنه قال: وإن خفتم أن تجوروا، واختلف في تأويل الآية، فقالت عائشة رضي الله عنها:« نزلت في أولياء اليتامى الذين يعجبهم جمال ولياتهم، فيريدون أن يبخسوهن في المهر لمكان ولايتهم عليهن، فقيل لهم: أقسطوا في مهورهن، فمن خاف ألا يقسط فليتزوج ما طاب له من الأجنبيات اللواتي يكايسن في حقوقهن وقاله ربيعة»، وقال عكرمة: « نزلت في قريش، وذلك أن الرجل منهم كان يتزوج العشر وأكثر وأقل، فإذا ضاق ماله مال على مال يتيمه فتزوج منه، فقيل لهم: إن خفتم عجز أموالكم حتى تجوروا في اليتامى فاقتصروا »، وقال سعيد بن جبير والسدي وقتادة وابن عباس:«إن العرب كانت تتحرج في أموال اليتامى، ولا تتحرج في العدل بين النساء، كانوا يتزوجون العشر وأكثر »، فنزلت الآية في ذلك، أي كما تخافون «ألا تقسطوا في اليتامى»، فكذلك فتحرجوا في النساء، «وانكحوا» على هذا الحد الذي يبعد الجور عنه، وقال مجاهد: « إنما الآية تحذير من الزنى وزجر عنه، أي كما تتحرجون في مال اليتامى فكذلك فتحرجوا من الزنى، وانكحوا على ما حد لكم »، قال الحسن وأبو مالك وسعيد بن جبير: « ما طاب، معناه ما حل».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: « لأن المحرمات من النساء كثير». وقرأ ابن أبي عبلة، «من طاب» على ذكر من يعقل، وحكى بعض الناس أن ما في هذه الآية ظرفية، أي ما دمتم تستحسنون النكاح.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:« وفي هذا المنزع ضعف وقال ما ولم يقل- من- لأنه لم يرد تعيين من يعقل، وإنما أراد النوع الذي هو الطيب من جهة التحليل، فكأنه قال: «فانكحوا الطيب»، وهذا الأمر بالنكاح هو ندب لقوم وإباحة لآخرين بحسب قرائن المرء، والنكاح في الجملة والأغلب مندوب إليه، قال عليه السلام: « من استطاع منكم الباءة فليتزوج». ومثنى وثلاث ورباع: موضعها من الإعراب نصب على البدل من ما طاب، وهي نكرات لا تنصرف لأنها معدولة وصفة كذا قاله أبو علي ». وقال غيره: « هي معدولة في اللفظ وفي المعنى، وأيضا فإنها معدولة وجمع، وأيضا فإنها معدولة مؤنثة »، قال الطبري: « هي معارف لأنها لا تدخلها الألف واللام، وخطأ الزجاج هذا القول، وهي معدولة عن اثنين، وثلاثة، وأربعة، إلا أنها مضمنة تكرار العدد إلى غاية المعدود »، وأنشد الزجاج لشاعر [ساعدة بن جؤيّة]: [الطويل]
ولكنّما أهلي بواد أنيسه ...... ذئاب تبغّي الناس مثنى وموحد
فإنما معناه اثنين اثنين، وواحد واحدا، وكذلك قولك: جاء الرجال مثنى وثلاث، فإنما معناه:
اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي «وربع» ساقطة الألف، وتلك لغة مقصدها التخفيف كما قال الشاعر: على لسان الضب: [المجتث]
لا أشتهي أن أردّا ..... إلا عرادا عردّا
وعنكثا ملتبدّا ........ وصليانا بردا
يريد باردا. وقوله تعالى: فإن خفتم ألّا تعدلوا فواحدةً أو ما ملكت أيمانكم قال الضحاك وغيره:« المعنى ألا تعدلوا في الميل والمحبة والجماع والعشرة بين الأربع أو الثلاث أو الاثنتين، ويتوجه على قول من قال: إنها نزلت فيمن يخاف أن ينفق مال اليتامى في نكاحاته، أن يكون المعنى: ألا تعدلوا في نكاح الأربع والثلاث حتى تنفقوا فيه أموال يتاماكم، أي فتزوجوا واحدة بأموالكم، أو تسرّوا منها، ونصب واحدة بإضمار فعل تقديره: فانكحوا واحدة». وقرأ عبد الرحمن بن هرمز والحسن: «فواحدة» بالرفع على الابتداء، وتقدير الخبر: فواحدة كافية، أو ما أشبهه، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو. وما ملكت أيمانكم يريد به الإماء، والمعنى: إن خاف ألا يعدل في عشرة واحدة فما ملكت يمينه، وأسند الملك إلى اليمين إذ هي صفة مدح، واليمين مخصوصة بالمحاسن لتمكنها، ألا ترى أنها المنفقة، كما قال عليه السلام: «حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» وهي المعاهدة المبايعة، وبها سميت الأليّة يمينا، وهي المتلقية لكتاب النجاة ولرايات المجد، وقد نهى عليه السلام عن استعمالها في الاستنجاء وأمر المرء بالأكل بها.
أدنى معناه: أقرب، وهو من الدنو، وموضع- أن- من الإعراب نصب بإسقاط الخافض، والناصب أريحية الفعل الذي في أدنى، التقدير: ذلك أدنى إلى أن لا تعولوا، وتعولوا معناه: تميلوا، قاله ابن عباس وقتادة والربيع بن أنس وأبو مالك والسدي وغيرهم، يقال: عال الرجل يعول: إذا مال وجار، ومنه قول أبي طالب في شعره في النبي صلى الله عليه وسلم:
بميزان قسط لا يخسّ شعيرة ....... ووزان صدق وزنه غير عائل
يريد غير مائل، ومنه قول عثمان لأهل الكوفة حين كتب إليهم: إني لست بميزان لا أعول، ويروى بيت أبي طالب: «له شاهد من نفسه غير عائل» وعال يعيل، معناه: افتقر فصار عالة، وقالت فرقة منهم زيد بن أسلم وابن زيد والشافعي: معناه: ذلك أدنى ألا يكثر عيالكم، وحكى ابن الأعرابي أن العرب تقول: عال الرجل يعول إذا كثر عياله، وقدح في هذا الزجاج وغيره، بأن الله قد أباح كثرة السراري، وفي ذلك تكثير العيال، فكيف يكون أقرب إلى أن لا يكثر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا القدح غير صحيح، لأن السراري إنما هن مال يتصرف فيه بالبيع، وإنما العيال الفادح الحرائر ذوات الحقوق الواجبة). [المحرر الوجيز: 2/465-468]

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : وقوله: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النّساء مثنى} أي: إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمةٌ وخاف ألّا يعطيها مهر مثلها، فليعدل إلى ما سواها من النّساء، فإنّهنّ كثيرٌ، ولم يضيّق اللّه عليه.
وقال البخاريّ: حدّثنا إبراهيم بن موسى، حدّثنا هشامٌ، عن ابن جريج، أخبرني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة؛ أنّ رجلًا كانت له يتيمةٌ فنكحها، وكان لها عذق. وكان يمسكها عليه، ولم يكن لها من نفسه شيءٌ فنزلت فيه: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى} أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله.
ثمّ قال البخاريّ: حدّثنا عبد العزيز بن عبد اللّه، حدّثنا إبراهيم بن سعدٍ، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهابٍ قال: أخبرني عروة بن الزّبير أنّه سأل عائشة عن قول اللّه تعالى:{وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى} قالت:« يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليّها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليّها أن يتزوّجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهنّ إلّا أن يقسطوا لهنّ، ويبلغوا بهنّ أعلى سنتهنّ في الصّداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النّساء سواهنّ. قال عروة: قالت عائشة: وإنّ النّاس استفتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعد هذه الآية، فأنزل اللّه تعالى:{ويستفتونك في النّساء} قالت عائشة: وقول اللّه في الآية الأخرى: {وترغبون أن تنكحوهنّ} رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال. فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في ماله وجماله من يتامى النّساء إلّا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهنّ إذا كن قليلات المال والجمال ».
وقوله: {مثنى وثلاث ورباع} أي: انكحوا ما شئتم من النّساء سواهنّ إن شاء أحدكم ثنتين، وإن شاء ثلاثًا وإن شاء أربعًا، كما قال تعالى: {جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحةٍ مثنى وثلاث ورباع} أي: منهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثةٌ، ومنهم من له أربعةٌ، ولا ينفي ما عدا ذلك في الملائكة لدلالة الدّليل عليه، بخلاف قصر الرّجال على أربعٍ، فمن هذه الآية كما قاله ابن عبّاسٍ وجمهور العلماء؛ لأنّ المقام مقام امتنانٍ وإباحةٍ، فلو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربعٍ لذكره.
قال الشّافعيّ: « وقد دلّت سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المبيّنة عن اللّه أنّه لا يجوز لأحدٍ غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين أكثر من أربع نسوةٍ ».
وهذا الّذي قاله الشّافعيّ، رحمه اللّه، مجمعٌ عليه بين العلماء، إلّا ما حكي عن طائفةٍ من الشّيعة أنّه يجوز الجمع بين أكثر من أربعٍ إلى تسعٍ. وقال بعضهم: بلا حصرٍ. وقد يتمسّك بعضهم بفعل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في جمعه بين أكثر من أربعٍ إلى تسعٍ كما ثبت في الصّحيحين، وأمّا إحدى عشرة كما جاء في بعض ألفاظ البخاريّ. وقد علّقه البخاريّ، وقد روّينا عن أنسٍ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تزوّج بخمس عشرة امرأةً، ودخل منهنّ بثلاث عشرة، واجتمع عنده إحدى عشرة ومات عن تسعٍ. وهذا عند العلماء من خصائص رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم دون غيره من الأمّة، لما سنذكره من الأحاديث الدّالّة على الحصر في أربع.
ذكر الأحاديث في ذلك:
قال الإمام أحمد: حدّثنا إسماعيل ومحمّد بن جعفرٍ قالا حدّثنا معمرٌ، عن الزّهريّ. قال ابن جعفرٍ في حديثه: أنبأنا ابن شهابٍ، عن سالمٍ، عن أبيه: أنّ غيلان بن سلمة الثّقفيّ أسلم وتحته عشرة نسوةٍ، فقال له النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: « اختر منهنّ أربعًا ». فلمّا كان في عهد عمر طلّق نساءه، وقسّم ماله بين بنيه، فبلغ ذلك عمر فقال: إنّي لأظنّ الشّيطان فيما يسترق من السّمع سمع بموتك فقذفه في نفسك ولعلّك لا تمكث إلّا قليلًا. وايم اللّه لتراجعنّ نساءك ولترجعنّ في مالك أو لأورثهن منك، ولآمرنّ بقبرك فيرجم، كما رجم قبر أبي رغال.
وهكذا رواه الشّافعيّ والتّرمذيّ وابن ماجه والدّارقطنيّ والبيهقيّ وغيرهم عن اسماعيل بن عليّة وغندر ويزيد بن زريع وسعيد بن أبي عروبة، وسفيان الثّوريّ، وعيسى بن يونس، وعبد الرّحمن بن محمّدٍ المحاربيّ، والفضل بن موسى وغيرهم من الحفّاظ، عن معمر -بإسناده -مثله إلى قوله: اختر منهنّ أربعًا. وباقي الحديث في قصّة عمر من أفراد أحمد وهي زيادةٌ حسنةٌ وهي مضعّفةٌ لما علّل به البخاريّ هذا الحديث فيما حكاه عنه التّرمذيّ، حيث قال بعد روايته له: سمعت البخاريّ يقول: هذا حديثٌ غير محفوظٍ، والصّحيح ما روى شعيب وغيره، عن الزّهريّ، حدّثت عن محمّد بن سويد الثّقفيّ أنّ غيلان بن سلمة، فذكره. قال البخاريّ: وإنّما حديث الزّهريّ عن سالمٍ عن أبيه: أنّ رجلًا من ثقيفٍ طلّق نساءه، فقال له عمر: لتراجعنّ نساءك أو لأرجمنّ قبرك كما رجم قبر أبي رغال.
وهذا التّعليل فيه نظرٌ، واللّه أعلم. وقد رواه عبد الرّزّاق، عن معمر، عن الزّهريّ مرسلًا وهكذا رواه مالكٌ، عن الزّهريّ مرسلًا. قال أبو زرعة: وهو أصحّ.
قال البيهقيّ: ورواه عقيلٌ، عن الزّهريّ: بلغنا عن عثمان بن محمّد بن أبي سويدٍ.
قال أبو حاتمٍ: وهذا وهم، إنّما هو الزّهريّ عن عثمان بن أبي سويدٍ بلغنا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، فذكره.
قال البيهقيّ: ورواه يونس وابن عيينة، عن الزّهريّ، عن محمّد بن أبي سويدٍ.
وهذا كما علّله البخاريّ. وهذا الإسناد الّذي قدّمناه من مسند الإمام أحمد رجاله ثقاتٌ على شرط الصّحيحين ثمّ قد روي من غير طريق معمر، بل والزّهريّ قال الحافظ أبو بكرٍ البيهقيّ: أخبرنا أبو عبد اللّه الحافظ، حدّثنا أبو عليٍّ الحافظ، حدّثنا أبو عبد الرّحمن النّسائيّ، حدّثنا أبو بريد عمرو بن يزيد الجرميّ أخبرنا سيف بن عبيد حدّثنا سرّار بن مجشّر، عن أيّوب، عن نافعٍ وسالمٍ، عن ابن عمر: أنّ غيلان بن سلمة كان عنده عشر نسوةٍ فأسلم وأسلمن معه، فأمره النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أن يختار منهنّ أربعًا. هكذا أخرجه النّسائيّ في سننه. قال أبو عليّ بن السّكن: تفرّد به سرّار بن مجشر وهو ثقةٌ، وكذا وثّقه ابن معينٍ. قال أبو عليٍّ: وكذلك رواه السّميدع بن واهبٍ عن سرّارٍ.
قال البيهقيّ: وروّينا من حديث قيس بن الحارث أو الحارث بن قيسٍ، وعروة بن مسعودٍ الثّقفيّ، وصفوان بن أميّة -يعني حديث غيلان بن سلمة.
فوجه الدّلالة أنّه لو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربعٍ لسوغ له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سائرهنّ في بقاء العشرة وقد أسلمن معه، فلمّا أمره بإمساك أربعٍ وفراق سائرهنّ دلّ على أنّه لا يجوز الجمع بين أكثر من أربعٍ بحالٍ، وإذا كان هذا في الدّوام، ففي الاستئناف بطريق الأولى والأحرى، واللّه سبحانه وتعالى أعلم بالصّواب.
حديثٌ آخر في ذلك: روى أبو داود وابن ماجه في سننهما من طريق محمّد بن عبد الرّحمن ابن أبي ليلى، عن حميضة بن الشّمردل -وعند ابن ماجه: بنت الشّمردل، وحكى أبو داود أنّ منهم من يقول: الشّمرذل بالذّال المعجمة -عن قيس بن الحارث. وعند أبي داود في رواية: الحارث بن قيس بن عميرة الأسديّ قال: أسلمت وعندي ثماني نسوةٍ، فذكرت للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: "اختر منهنّ أربعًا".
وهذا الإسناد حسنٌ، ومجرّد هذا الاختلاف لا يضرّ مثله، لما للحديث من الشّواهد.
حديثٌ آخر في ذلك: قال الإمام أبو عبد اللّه محمّد بن إدريس الشّافعيّ، رحمه الله، في مسنده: أخبرني من سمع ابن أبي الزّناد يقول: أخبرني عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرّحمن عن عوف بن الحارث، عن نوفل بن معاوية الدّيليّ، رضي اللّه عنه، قال: أسلمت وعندي خمس نسوةٍ، فقال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: « اختر أربعًا أيّتهنّ شئت، وفارق الأخرى »، فعمدت إلى أقدمهنّ صحبةً عجوزٍ عاقرٍ معي منذ ستّين سنةً، فطلّقتها.
فهذه كلّها شواهد بصحّة ما تقدّم من حديث غيلان كما قاله الحافظ أبو بكرٍ البيهقيّ، رحمه اللّه.
وقوله: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدةً أو ما ملكت أيمانكم} أي: فإن خشيتم من تعداد النّساء ألّا تعدلوا بينهنّ، كما قال تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النّساء ولو حرصتم} فمن خاف من ذلك فيقتصر على واحدةٍ، أو على الجواري السّراري، فإنّه لا يجب قسمٌ بينهنّ، ولكن يستحبّ، فمن فعل فحسنٌ، ومن لا فلا حرج.
وقوله: {ذلك أدنى ألا تعولوا} قال بعضهم: أي أدنى ألّا تكثر عائلتكم. قاله زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة والشّافعيّ، رحمهم اللّه، وهذا مأخوذٌ من قوله تعالى: {وإن خفتم عيلةً} أي فقرًا {فسوف يغنيكم اللّه من فضله} وقال الشّاعر

فما يدري الفقير متى غناه ...... وما يدري الغنيّ متى يعيل

وتقول العرب: عال الرّجل يعيل عيلة، إذا افتقر ولكن في هذا التّفسير هاهنا نظرٌ؛ فإنّه كما يخشى كثرة العائلة من تعداد الحرائر، كذلك يخشى من تعداد السّراري أيضًا. والصّحيح قول الجمهور: {ذلك أدنى ألا تعولوا} أي: لا تجوروا. يقال: عال في الحكم: إذا قسط وظلم وجار، وقال أبو طالبٍ في قصيدته المشهورة:

بميزان قسطٍ لا يخيس شعيرةً ...... له شاهدٌ من نفسه غير عائل

وقال هشيم: عن أبي إسحاق قال: كتب عثمان بن عفّان إلى أهل الكوفة في شيءٍ عاتبوه فيه: إنّي لست بميزانٍ لا أعول. رواه ابن جريرٍ.
وقد روى ابن أبي حاتمٍ، وابن مردويه، وأبو حاتم ابن حبّان في صحيحه، من طريق عبد الرّحمن بن إبراهيم دحيم، حدّثنا محمّد بن شعيبٍ، عن عمر بن محمّد بن زيدٍ، عن عبد اللّه بن عمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {ذلك أدنى ألا تعولوا} قال: «لا تجوروا ».
قال ابن أبي حاتمٍ: قال أبي: هذا حديثٌ خطأٌ، والصّحيح: عن عائشة. موقوفٌ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: وروي عن ابن عبّاسٍ، وعائشة، ومجاهدٍ، وعكرمة، والحسن، وأبي مالكٍ وأبي رزين والنّخعي، والشّعبي، والضّحّاك، وعطاءٍ الخراسانيّ، وقتادة، والسّدّي، ومقاتل بن حيّان: أنّهم قالوا: لا تميلوا وقد استشهد عكرمة، رحمه اللّه، ببيت أبي طالبٍ الّذي قدّمناه، ولكنّ ما أنشده كما هو المرويّ في السّيرة، وقد رواه ابن جريرٍ، ثمّ أنشده جيّدًا، واختار ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 2/208-213]

تفسير قوله تعالى: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) }
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله: {وآتوا النّساء صدقاتهنّ نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا}
يقال هو صداق المرأة، وصدقة المرأة، وصدقة المرأة، وصداق المرأة.
مفتوح أولها، والذي في القرآن جمع صدقة.
ومن قال صدقة قال صدقاتهنّ، كما يقول غرفة وغرفات.

ويجوز صدقاتهنّ، وصدقاتهنّ. بضم الصاد وفتح الدال.

ويجوز صدقاتهنّ، ولا تقرأنّ من هذا إلا ما قد قرئ به لأن القراءة سنة لا ينبغي أن يقرأ فيها بكل ما يجيزه النحويون، وإن تتبع فالذي روي من المشهور في القراءة أجود عند النحويين، فيجتمع في القراءة بما قد روى الاتباع وإثبات ما هو أقوى في الحجة إن شاء الله.
ومعنى قوله:{نحلة}فيه غير قول:

1- قال بعضهم: فريضة.

2- وقال بعضهم: ديانة، تقول: فلان ينتحل كذا وكذا، أي: يدين به.

3- وقال بعضهم: هي نحلة من اللّه لهن أن جعل على الرجال الصداق، ولم يجعل على المرأة شيئا من الغرم، فتلك نحلة من اللّه للنساء يقال - نحلت الرجل والمرأة - إذا وهبت له - نحلة ونحلا ويقال: قد نحل جسم فلان ونحل إذا دقّ.
والنّحل جائز أن تكون سميت نحلا، لأن الله جلّ ثناؤه نحل الناس العسل الذي يخرج من بطونها.
وقوله - جلّ؛ عزّ - {فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا} أي: عن شيء من الصداق.

و " لكم " خطاب للأزواج، وقال بعضهم للأولياء ههنا.

و{نفسا} منصوب على التمييز لأنه إذا قال: طبن لكم، لم يعلم في أي صنف وقع الطيب.
المعنى: فإن طابت أنفسهن بذلك، وقد شرحناه قبل هذا المكان شرحا وافيا.
وقوله:
{فكلوه هنيئا مريئا}
يقال: هنأني الطعام ومراني.

وقال بعضهم: يقال مع هنأني مراني.
فإذا لم تذكر هنأني قلت أمرأني بالألف.
وهذا حقيقته أن مرأني تبينت أنه سينهضم وأحمد مغبته، فإذا قلت أمرأني الطعام فتأويله أنه قد انهضم وحمدت فإن قال قائل: إنما قيل: (فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا) فكيف يجوز أن يقبل الرجل المهر كله، وإنما قيل له منه؟
فالجواب في ذلك أن " منه " ههنا للجنس لما قال عزّ وجلّ -: {فاجتنبوا الرّجس من الأوثان}.
فلم نؤمر أن نجتنب بعض الأوثان، ولكن المعنى اجتنبوا الرجس الذي هو وثن.
أي: فكلوا الشيء الذي هو مهر). [معاني القرآن: 2/11-13]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : قوله تعالى: {وآتوا النّساء صدقاتهنّ نحلةً فإن طبن لكم عن شيءٍ منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً (4) ولا تؤتوا السّفهاء أموالكم الّتي جعل اللّه لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً (5)}.
وقوله: وآتوا النّساء صدقاتهنّ نحلةً قال ابن عباس وقتادة وابن جريج:« إن الخطاب في هذه الآية للأزواج، أمرهم الله أن يتبرعوا بإعطاء المهور نحلة منهم لأزواجهم »، وقال أبو صالح:« الخطاب لأولياء النساء، لأن عادة بعض العرب كانت أن يأكل ولي المرأة مهرها، فرفع الله ذلك بالإسلام وأمر بأن يدفع ذلك إليهن »، وقال المعتمر بن سليمان عن أبيه: « زعم حضرمي أن المراد بالآية المتشاغرون الذين كانوا يتزوجون امرأة بأخرى، فأمروا أن يضربوا المهور ».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والآية تتناول هذه الفرق الثلاث، وقرأ جمهور الناس والسبعة «صدقاتهن» بفتح الصاد وضم الدال، وقرأ موسى بن الزبير وابن أبي عبلة وفياض بن غزوان وغيرهم «صدقاتهن» بضم الصاد والدال، وقرأ قتادة وغيره «صدقاتهن» بضم الصاد وسكون الدال. وقرأ ابن وثاب والنخعي «صدقتهن» بالإفراد وضم الصاد وضم الدال. والإفراد من هذا كله صدقة وصدقة. ونحلةً: معناه: نحلة
منكم لهن أي عطية، وقيل التقدير: من الله عز وجل لهن، وذلك لأن الله جعل الصداق على الرجال ولم يجعل على النساء شيئا، وقيل نحلةً معناه: شرعة، مأخوذ من النحل تقول: فلان ينتحل دين كذا، وهذا يحسن مع كون الخطاب للأولياء، ويتجه مع سواه، ونصبها على أنها من الأزواج بإضمار فعل من لفظها، تقديره- انحلوهن نحلة، ويجوز أن يعمل الفعل الظاهر، وإن كان من غير اللفظ لأنه مناسب للنحلة في المعنى ونصبها على أنها من الله عز وجل بإضمار فعل مقدر من اللفظ لا يصح غير ذلك، وعلى أنها شريعة هي أيضا من الله وقوله: فإن طبن لكم عن شيءٍ منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً الخطاب حسبما تقدم من الاختلاف في الأزواج والأولياء، والمعنى: إن وهبن غير مكرهات طيبة نفوسهن، والضمير في منه راجع على الصداق، وكذلك قال عكرمة وغيره، أو على الإيتاء، وقال حضرمي: سبب الآية أن قوما تحرجوا أن يرجع إليهم شيء مما دفعوا إلى الزوجات، ونفساً نصب على التمييز، ولا يجوز تقدمه على العامل عند سيبويه إلا في ضرورة شعر مع تصرف العامل، وإجازة غيره في الكلام. ومنه قول الشاعر [المخبل السعدي]: [الطويل]
... ... ... ... ...... وما كان نفسا بالفراق تطيب
و «من» - تتضمن الجنس هاهنا، ولذلك يجوز أن تهب المهر كله، ولو وقفت «من» على التبعيض لما جاز ذلك، وقرئ «هنيا مريا» دون همز، وهي قراءة الحسن بن أبي الحسن والزهري. قال الطبري: ومن هناء البعير أن يعطي الشفاء.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف، وإنما قال اللغويون: الطعام الهنيء هو السائغ المستحسن الحميد المغبة، وكذلك المريء، قال اللغويون: يقولون هنأني الطعام ومرأني على الإتباع، فإذا أفردوا قالوا: أمرأني على وزن أفعل. قال أبو علي: وهذا كما جاء في الحديث «ارجعن مأزورات غير مأجورات» فإنما اعتلت الواو من موزورات اتباعا للفظ مأجورات، فكذلك مرأني اتباعا لهنأني، ودخل رجل على علقمة- وهو يأكل شيئا مما وهبته امرأته من مهرها- فقال له: كل من الهنيء المريء، قال سيبويه هنيئاً مريئاً صفتان نصبوهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل غير المستعمل إظهاره، المختزل للدلالة التي في الكلام عليه، كأنهم قالوا: ثبت ذلك «هنيئا مريئا»). [المحرر الوجيز: 2/468-470]

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : وقوله: {وآتوا النّساء صدقاتهنّ نحلةً} قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: « النّحلة: المهر».
وقال محمّد بن إسحاق، عن الزّهريّ، عن عروة، عن عائشة: نحلةً: فريضةً. وقال مقاتلٌ وقتادة وابن جريجٍ: نحلةً: أي فريضةً. زاد ابن جريجٍ: مسمّاه. وقال ابن زيدٍ: النّحلة في كلام العرب: الواجب، يقول: لا تنكحها إلّا بشيءٍ واجبٍ لها، وليس ينبغي لأحدٍ بعد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أن ينكح امرأةً إلّا بصداقٍ واجبٍ، ولا ينبغي أن يكون تسمية الصّداق كذبًا بغير حقٍّ.
ومضمون كلامهم: أنّ الرّجل يجب عليه دفع الصّداق إلى المرأة حتمًا، وأن يكون طيّب النّفس بذلك، كما يمنح المنيحة ويعطي النّحلة طيّبًا بها، كذلك يجب أن يعطي المرأة صداقها طيّبًا بذلك، فإن طابت هي له به بعد تسميته أو عن شيءٍ منه فليأكله حلالًا طيّبًا؛ ولهذا قال تعالى: {فإن طبن لكم عن شيءٍ منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا}.
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أحمد بن سنان، حدّثنا عبد الرّحمن بن مهدي، عن سفيان، عن السّدّيّ، عن يعقوب بن المغيرة بن شعبة، عن عليٍّ قال: إذا اشتكى أحدكم شيئًا، فليسأل امرأته ثلاثة دراهم أو نحو ذلك، فليبتع بها عسلًا ثمّ ليأخذ ماء السّماء فيجتمع هنيئًا مريئًا شفاءً مباركًا.
وقال هشيم، عن سيّارٍ، عن أبي صالحٍ قال: كان الرّجل إذا زوّج ابنته أخذ صداقها دونها، فنهاهم اللّه عن ذلك، ونزل: {وآتوا النّساء صدقاتهنّ نحلةً} رواه ابن أبي حاتمٍ وابن جريرٍ.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا محمّد بن إسماعيل الأحمسيّ، حدّثنا وكيعٌ، عن سفيان عن عميرٍ الخثعميّ، عن عبد الملك بن المغيرة الطّائفيّ، عن عبد الرّحمن بن البيلماني قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {وآتوا النّساء صدقاتهنّ نحلةً} قالوا: يا رسول اللّه، فما العلائق بينهم؟ قال: « ما تراضى عليه أهلوهم ».
وقد روى ابن مردويه من طريق حجّاج بن أرطاة، عن عبد الملك بن المغيرة، عن عبد الرّحمن بن البيلماني عن عمر بن الخطّاب قال: خطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: « أنكحوا الأيامى » ثلاثًا، فقام إليه رجلٌ فقال: يا رسول اللّه، ما العلائق بينهم؟ قال: « ما تراضى عليه أهلوهم ».
ابن البيلماني ضعيفٌ، ثمّ فيه انقطاعٌ أيضًا). [تفسير القرآن العظيم: 2/213-214]