17 Nov 2018
تفسير
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن
تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ
بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ
مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ
فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا
كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ
وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا
أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً (20) وَكَيْفَ
تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم
مِّيثَاقًا غَلِيظًا (21)}
تفسير قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ
النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا
آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ
وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن
تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) }
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله - عزّ وجلّ -:
{يا أيّها الّذين آمنوا لا يحلّ لكم أن ترثوا النّساء كرها ولا
تعضلوهنّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ إلّا أن يأتين بفاحشة مبيّنة
وعاشروهنّ بالمعروف فإن كرهتموهنّ فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل اللّه
فيه خيرا كثيرا} معناه: تكرهوهن على التزويج بكم.
وهذه نزلت لأنهم:
كانوا إذا مات زوج المرأة وله ولد من غيرها ضرب ابنه عليها حجابا،
وقال: أنا أحقّ بها، فتزوجها على العقد الذي كان عقده أبوه من
تزوجها ليرثها ما ورثت من أبيه، فأعلم اللّه - عزّ وجلّ - أن ذلك
حرام.
وقوله تعالى: {ولا تعضلوهنّ} هؤلاء غير أولئك.
حرم الله أن تعضل المرأة، ومعنى تعضل: تحبس عن التزوج.
كان الرجل منهم إذا تزوج امرأة ولم تكن من حاجته حبسها لتفتدي منه، فأعلم اللّه عزّ وجلّ - أن ذلك لا يحل.
و {تعضلوهن} يصلح أن يكون نصبا ويصلح أن يكون جزما.
أما النصب: فعلى أن لا يحل لكم أن ترثوا النساء ولا أن تعضلوهن.
ويصلح أن يكون: جزما على النّهي.
{إلّا أن يأتين بفاحشة مبيّنة}والفاحشة: الزنا.
{وعاشروهنّ بالمعروف}أي: بالنصفة في المبيت والنفقة، والإجمال في القول). [معاني القرآن: 2/30]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: {يا
أيّها الّذين آمنوا لا يحلّ لكم أن ترثوا النّساء كرهاً ولا تعضلوهنّ
لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ إلاّ أن يأتين بفاحشةٍ مبيّنةٍ وعاشروهنّ
بالمعروف فإن كرهتموهنّ فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل اللّه فيه خيراً كثيراً
(19)}.
اختلف المتأولون في معنى قوله تعالى: {لا يحلّ لكم أن ترثوا النّساء كرهاً } فقال ابن عباس: «كانوا
في الجاهلية إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته من أهلها، إن شاؤوا
تزوجها أحدهم، وإن شاؤوا زوجوها من غيرهم، وإن شاؤوا منعوها الزواج» ، فنزلت الآية في ذلك، قال أبو إمامة بن سهل بن حنيف:
لما توفي أبو قيس بن الأسلت، أراد ابنه أن يتزوج امرأته، وكان لهم ذلك في
الجاهلية، فنزلت الآية في ذلك، ذكر النقاش: أن اسم ولد أبي قيس محصن.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:«كانت
هذه السيرة في الأنصار لازمة، وكانت في قريش مباحة مع التراضي، ألا ترى
أن أبا عمرو بن أمية، خلف على امرأة أبيه بعد موته، فولدت من أبي عمرو
مسافرا وأبا معيط وكان لها من أمية أبو العيص وغيره، فكان بنو أمية إخوة
مسافر وأبي معيط وأعمامهما »، وقال بمثل هذا القول الذي حكيت عن ابن عباس عكرمة والحسن البصري وأبو مجلز، قال عكرمة: « نزلت في كبيشة بنت معن الأنصارية، توفي عنها أبو قيس بن الأسلت »، وقال مجاهد: «كان الابن الأكبر أحق بامرأة أبيه إذا لم يكن ولدها»، وقال السدي: «كان ولي الميت إذا سبق فألقى على امرأة الميت ثوبه، فهو أحق بها، وإن سبقته فذهبت إلى أهلها كانت أحق بنفسها».
قال القاضي أبو محمد رحمه
الله: والروايات في هذا كثيرة بحسب السير الجاهلية، ولا منفعة في ذكر
جميع ذلك، إذ قد أذهبه الله بقوله: لا يحلّ لكم ومعنى الآية على هذا
القول: لا يحلّ لكم أن تجعلوا النساء كالمال، يورثن عن الرجال الموتى، كما
يورث المال، والمتلبس بالخطاب أولياء الموتى، وقال بعض المتأولين: معنى
الآية: لا يحلّ لكم عضل النساء اللواتي أنتم أولياء لهن وإمساكهن دون
تزويج حتى يمتن فتورث أموالهن.
قال القاضي أبو محمد رحمه
الله: فعلى هذا القول فالموروث مالها لا هي، وروي نحو هذا عن ابن عباس
وغيره، والمتلبس بالخطاب أولياء النساء وأزواجهن، إذا حبسوهن مع سوء
العشرة طماعية أن يرثها، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير: «كرها» بفتح
الكاف حيث وقع في النساء وسورة التوبة وفي الأحقاف، وقرأ
حمزة والكسائي جميع ذلك بضم الكاف، وقرأ عاصم وابن عامر في النساء
والتوبة بفتح الكاف، وفي الأحقاف في الموضعين بضمها، والكره والكره لغتان
كالضعف والضعف، والفقر والفقر، قاله أبو علي، وقال الفراء: هو بضم الكاف
المشقة وبفتحها إكراه غير، وقاله ابن قتيبة، واختلف المفسرون في معنى قوله
تعالى: {ولا تعضلوهنّ } الآية، فقال ابن عباس وغيره: «هي أيضا في أولئك الأولياء الذين كانوا يرثون المرأة لأنهم كانوا يتزوجونها إذا كانت جميلة، ويمسكونها حتى تموت إذا كانت دميمة » ، وقال نحوه الحسن وعكرمة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويجيء في قوله: {آتيتموهنّ } خلط أي ما آتاها الرجال قبل، فهي كقوله: {فاقتلوا أنفسكم } وغير ذلك وقال ابن عباس أيضا:«هي في الأزواج، في الرجل يمسك المرأة ويسيء عشرتها حتى تفتدي منه، فذلك لا يحل له» ، وقال مثله قتادة، وقال ابن البيلماني: «الفصل الأول من الآية هو في أمر الجاهلية، والثاني في العضل »، هو في أهل الإسلام في حبس الزوجة ضرارا للفدية، وقال ابن مسعود: « معنى الآية: لا ترثوا النساء كفعل الجاهلية، ولا تعضلوهنّ في الإسلام»، وقال نحو هذا القول السدي والضحاك، وقال السدي: «هذه الآية خطاب للأولياء، كالعضل المنهي عنه في سورة البقرة».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: «وهذا يقلق، إلا أن يكون العضل من ولي وارث، فهو يؤمل موتها، وإن كان غير وارث فبأي شيء يذهب؟»، وقال ابن زيد: «هذا
العضل المنهي عنه في هذه الآية هو من سير الجاهلية في قريش بمكة، إذا لم
يتوافق الزوجان طلقها على ألا تتزوج إلا بإذنه، ويشهد عليها بذلك، فإذا
خطبت فإن أعطته ورشته وإلا عضل»، ففي هذا نزلت الآية.
قال القاضي أبو محمد رحمه
الله: والذي أقول: إن العضل في اللغة الحبس في شدة ومضرة، والمنع من
الفرج في ذلك فمن ذلك قولهم: أعضلت الدجاجة وعضلت إذا صعب عليها وضع
البيضة، ومنه أعضل الداء إذا لحج ولم يبرأ، ومنه داء عضال. ومشى عرف
الفقهاء على أن العضل من الأولياء في حبس النساء عن التزويج، وهو في اللغة
أعم من هذا حسبما ذكرت، يقع من ولي ومن زوج، وأقوى ما في هذه الأقوال
المتقدمة، أن المراد الأزواج، ودليل ذلك قوله: إلّا أن يأتين بفاحشةٍ وإذا
أتت بفاحشة فليس للولي حبسها حتى يذهب بمالها إجماعا من الأمة، وإنما ذلك
للزوج على ما سنبين بعد إن شاء الله، وكذلك قوله: وعاشروهنّ بالمعروف إلى
آخر الآية يظهر منه تقوية ما ذكرته، وإن حان ذلك يحتمل أن يكون أمرا
منقطعا من الأول يخص به الأزواج. وأما العضل فمنهي عنه كل من يتصور في
نازلة عاضلا، ومتى صح في ولي أنه عاضل نظر القاضي في أمر المرأة وزوجها
ولم يلتفت، إلا الأب في بناته، فإنه إن كان في أمره إشكال فلا يعترض قولا
واحدا، وإن صح عضله ففيه قولان في مذهب مالك: أحدهما أنه كسائر الأولياء:
يزوج القاضي من شاء التزويج من بناته وطلبه، والقول الآخر إنه لا يعرض له،
ويحتمل قوله:
ولا تعضلوهنّ أن يكون
جزما، فتكون الواو عاطفة جملة كلام مقطوعة من الأولى، ويحتمل أن يكون
تعضلوهنّ نصبا عطفا على ترثوا فتكون الواو مشركة عاطفة فعل على فعل، وقرأ
ابن مسعود: «ولا أن تعضلوهن». فهذه القراءة تقوي احتمال النصب، وأن العضل
مما لا يحل بالنص، وعلى تأويل الجزم هو نهي معرض لطلب القرائن في التحريم أو الكراهية، واحتمال النصب أقوى، واختلف الناس في معنى الفاحشة هنا، فقال الحسن بن أبي الحسن:«هو الزنا، وإذا زنت البكر فإنها تجلد مائة وتنفى سنة، وترد إلى زوجها ما أخذت منه »، وقال أبو قلابة:«إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارها ويشق عليها حتى تفتدي منه»، وقال السدي: «إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن»، وقال عطاء الخراساني: «كان هذا الحكم ثم نسخ بالحدود، وهذا قول ضعيف»، وقال ابن عباس رحمه الله: «الفاحشة» في هذه الآية البغض والنشوز، وقاله الضحاك وغيره، قالوا:« فإذا نشزت حل له أن يأخذ مالها».
قال القاضي أبو محمد رحمه
الله: وهذا هو مذهب مالك، إلا أني لا أحفظ له نصا في معنى «الفاحشة» في
هذه الآية، وقال قوم: «الفاحشة» البذاء باللسان وسوء العشرة قولا وفعلا،
وهذا في معنى النشوز، ومن أهل العلم من يجيز أخذ المال من الناشز على جهة
الخلع، إلا أنه يرى ألا يتجاوز ما أعطاها ركونا إلى قوله تعالى: {لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ} وقال مالك وأصحابه وجماعة من أهل العلم: للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك.
قال القاضي أبو محمد رحمه
الله: والزنا أصعب على الزوج من النشوز والأذى، وكل ذلك فاحشة تحل أخذ
المال، وقرأ ابن مسعود: «إلا أن يفحشن وعاشروهن».
قال القاضي أبو محمد رحمه
الله: وهذا خلاف مفرط لمصحف الإمام، وكذلك ذكر أبو عمرو عن ابن عباس
وعكرمة وأبيّ بن كعب، وفي هذا نظر، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر
«مبينّة» و «آيات مبيّنات» بفتح الياء فيهما، وقرأ ابن عامر وحمزة
والكسائي وحفص والمفضل عن عاصم: «مبيّنة»، و «مبيّنات» - بكسر الياء
فيهما، وقرأ نافع وأبو عمرو: «مبيّنة» بالكسر، و «مبيّنات» بالفتح- وقرأ
ابن عباس: «بفاحشة مبينة» بكسر الباء وسكون الياء، من أبان الشيء، وهذه
القراءات كلها لغات فصيحة، يقال: بين الشيء وأبان: إذا ظهر، وبان الشيء
وبينته، وقوله تعالى:{ وعاشروهنّ بالمعروف}
أمر للجميع، إذ لكل أحد عشرة، زوجا كان أو وليا، ولكن المتلبس في الأغلب
بهذا الأمر الأزواج، والعشرة المخالطة والممازجة، ومنه قول طرفة: [الرمل]
فلئن شطّت نواها مرّة ..... لعلى عهد حبيب معتشر
جعل-
الحبيب- جمعا كالخليط والفريق، يقال: عاشره معاشرة، وتعاشر القوم
واعتشروا، وأرى اللفظة من أعشار الجزور، لأنها مقاسمة ومخالطة ومخالقة
جميلة، فأمر الله تعالى الرجال بحسن صحبة النساء، وإلى هذا ينظر قول النبي
صلى الله عليه وسلم: فاستمتع بها وفيها عوج، ثم أدب تعالى عباده بقوله: {فإن كرهتموهنّ } إلى آخر الآية، قال السدي:« الخير الكثير في المرأة الولد » ، وقال نحوه ابن عباس.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:«
ومن فصاحة القرآن العموم الذي في لفظة شيء لأنه يطرد هذا النظر في كل ما
يكرهه المرء مما يجمل الصبر عليه، فيحسن الصبر، إذ عاقبته إلى خير، إذا
أريد به وجه الله»). [المحرر الوجيز: 2/498-502]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: {وإن
أردتم استبدال زوجٍ مكان زوجٍ وآتيتم إحداهنّ قنطاراً فلا تأخذوا منه
شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً (20) وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم
إلى بعضٍ وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً (21)}.
لما مضى في الآية
المتقدمة حكم الفراق الذي سببه المرأة، وأن للزوج أخذ المال منها، عقب ذلك
ذكر الفراق الذي سببه الزوج، والمنع من أخذ مالها مع ذلك، فهذا الذي في
هذه الآية هو الذي يختص الزوج بإرادته، واختلف العلماء، إذا كان الزوجان
يريدان الفراق، وكان منهما نشوز وسوء عشرة، فقال مالك رحمه الله:«للزوج أن يأخذ منها إذا سببت الفراق، ولا يراعى تسبيبه هو»، وقالت جماعة من العلماء: «لا يجوز له أخذ المال إلا أن تنفرد هي بالنشوز وبظلمه في ذلك» ، وقال بعض الناس: «يخرج في هذه الآية جواز المغالاة بالمهور، لأن الله تعالى قد مثل بقنطار، ولا يمثل تعالى إلا بمباح»، وخطب عمر بن الخطاب فقال: «ألا لا تغالوا بمهور نسائكم، فإن الرجل يغالي حتى يكون ذلك في قلبه عداوة للمرأة، يقول:
تجشمت إليك علق القربة أو عرق القربة، فيروى أن امرأة كلمته من وراء
الناس فقالت، كيف هذا؟ والله تعالى يقول: وآتيتم إحداهنّ قنطاراً قال:
فأطرق عمر ثم قال: كل الناس أفقه منك يا عمر، ويروى أنه قال: امرأة أصابت
ورجل أخطأ، والله المستعان، وترك الإنكار»، وقال قوم: «لا تعطي الآية جواز المغالاة بالمهور لأن التمثيل جاء على جهة المبالغة»، كأنه قال: «وآتيتم
هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد، وهذا كقوله عليه السلام، من بنى لله
مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة، فمعلوم أنه لا يكون
مسجد كمفحص»،
وقد قال النبي عليه السلام لابن أبي حدرد- وقد جاء يستعينه في مهره-
فسأله عن المهر، فقال: مائتين، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:«كأنكم تقطعون الذهب والفضة من عرض الحرة أو جبل»، الحديث- فاستقرأ بعض الناس من هذا منع المغالاة بالمهور.
قال القاضي أبو محمد رحمه
الله: وهذا لا يلزم، لأن هذا أحوج نفسه إلى الاستعانة والسؤال، وذلك
مكروه باتفاق، وإنما المغالاة المختلف فيها مع الغنى وسعة المال، وقرأ ابن
محيصن بوصل ألف «إحداهن»، وهي لغة تحذف على جهة التخفيف. ومنه قول
الشاعر: [الطويل]
... ... ... ... ..... ونسمع من تحت العجاج لها زملا
وقول الآخر: [الكامل] إن لم أقاتل فالبسوني برقعا وقد تقدم القول في قدر القنطار في سورة آل عمران، وقرأ أبو السمال «منه شيئا» بفتح الياء والتنوين، وهي قراءة أبي جعفر، والبهتان: مصدر في موضع الحال، ومعناه: محيرا لشنعته وقبح الأحدوثة والفعلة فيه). [المحرر الوجيز: 2/502-504]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {وإن أردتم استبدال زوجٍ مكان زوجٍ وآتيتم إحداهنّ قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئًا أتأخذونه بهتانًا وإثمًا مبينًا} أي: إذا أراد أحدكم أن يفارق امرأةً ويستبدل مكانها غيرها، فلا يأخذنّ ممّا كان أصدق الأولى شيئًا، ولو كان قنطارًا من مالٍ.وقد قدّمنا في سورة آل عمران الكلام على القنطار بما فيه كفايةٌ عن إعادته هاهنا.
وفي هذه الآية دلالةٌ على جواز الإصداق بالمال الجزيل، وقد كان عمر بن الخطّاب نهى عن كثرة الإصداق، ثمّ رجع عن ذلك كما قال الإمام أحمد: حدّثنا إسماعيل، حدّثنا سلمة بن علقمة، عن محمّد بن سيرين، قال: نبّئت عن أبي العجفاء السّلميّ قال: «سمعت عمر بن الخطّاب يقول: ألا لا تغلوا في صداق النّساء، فإنّها لو كانت مكرمةً في الدّنيا أو تقوى عند اللّه كان أولاكم بها النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، ما أصدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم امرأةً من نسائه، ولا أصدقت امرأةٌ من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقيّة، وإن كان الرّجل ليبتلى بصدقة امرأته حتّى يكون لها عداوةٌ في نفسه، وحتّى يقول: كلفت إليك علق القربة»، ثمّ رواه أحمد وأهل السّنن من طرقٍ، عن محمّد بن سيرين، عن أبي العجفاء -واسمه هرم ابن مسيب البصريّ-وقال التّرمذيّ: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
طريقٌ أخرى عن عمر: قال الحافظ أبو يعلى: حدّثنا أبو خيثمة، حدّثنا يعقوب بن إبراهيم حدّثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدّثني محمّد بن عبد الرّحمن، عن المجالد بن سعيدٍ، عن الشّعبيّ، عن مسروقٍ، قال:«كب عمر بن الخطّاب منبر رسول اللّه ثمّ قال: أيّها النّاس، ما إكثاركم في صدق النّساء وقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه وإنما الصدقات فيما بينهم أربعمائة درهمٍ فما دون ذلك. ولو كان الإكثار في ذلك تقوًى عند اللّه أو كرامةً لم تسبقوهم إليها. فلا أعرفنّ ما زاد رجلٌ في صداق امرأةٍ على أربعمائة درهمٍ قال: ثمّ نزل فاعترضته امرأةٌ من قريشٍ فقالت: يا أمير المؤمنين، نهيت النّاس أن يزيدوا النّساء صداقهم على أربعمائة درهمٍ؟ قال: نعم. فقالت: أما سمعت ما أنزل اللّه في القرآن؟ قال: وأيّ ذلك؟ فقالت: أما سمعت اللّه يقول: {وآتيتم إحداهنّ قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئًا أتأخذونه بهتانًا وإثمًا مبينًا} قال: فقال: اللّهمّ غفرًا، كلّ النّاس أفقه من عمر. ثمّ رجع فركب المنبر فقال: إنّي كنت نهيتكم أن تزيدوا النّساء في صداقهنّ على أربعمائة درهمٍ، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحبّ. قال أبو يعلى: وأظنّه قال: فمن طابت نفسه فليفعل ». إسناده جيّدٌ قويٌّ.
طريقٌ أخرى: قال ابن المنذر: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرّزّاق، عن قيس بن ربيعٍ، عن أبي حصينٍ، عن أبي عبد الرّحمن السّلميّ قال: قال عمر بن الخطّاب: «لا تغالوا في مهور النّساء. فقالت امرأةٌ: ليس ذلك لك يا عمر، إنّ اللّه تعالى يقول: "وآتيتم إحداهنّ قنطارًا من ذهبٍ". قال: وكذلك هي في قراءة عبد اللّه بن مسعودٍ: "فلا يحلّ لكم أن تأخذوا منه شيئًا" فقال عمر: إنّ امرأةً خاصمت عمر فخصمته».
طريقٌ أخرى: عن عمر فيها انقطاعٌ: قال الزّبير بن بكّارٍ حدّثني عمّي مصعب بن عبد اللّه عن جدّي قال:«قال عمر بن الخطّاب لا تزيدوا في مهور النّساء وإن كانت بنت ذي الغصّة -يعني يزيد ابن الحصين الحارثيّ -فمن زاد ألقيت الزّيادة في بيت المال. فقالت امرأةٌ-من صفّة النّساء طويلةٌ، في أنفها فطس -: ما ذاك لك. قال: ولم؟ قالت: لأنّ اللّه تعالى قال: {وآتيتم إحداهنّ قنطارًا} الآية. فقال عمر: امرأةٌ أصابت ورجلٌ أخطأ».
ولهذا قال اللّه منكرًا: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعضٍ} ). [تفسير القرآن العظيم: 2/243-244]