17 Nov 2018
تفسير
قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء
إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء
سَبِيلاً (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ
وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ
وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ
وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ
وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي
دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ
أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ
سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ
وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم
مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ
فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا
تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا
حَكِيمًا (24)}
تفسير قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ
مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ
كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً (22)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله - جلّ وعزّ - {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النّساء إلّا ما قد سلف إنّه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا}المعنى: لا تنكحوا كما كان من قبلكم ينكح ما نكح أبوه، فهذا معنى {إلّا ما قد سلف}
{إنّه كان فاحشة}المعنى: إلا ما قد سلف فإنه كان فاحشة، أي: زنا {ومقتا} والمقت: أشد البغض.
{وساء سبيلا} أي: وبئس طريقا، أي: ذلك الطريق بئس طريقا.
فالمعنى: أنهم
أعلموا أن ذلك في الجاهلية كان يقال له مقت، وكان المولود عليه
يقال له المقتي، فأعلموا أن هذا الذي حرم عليهم لم يزل منكرا في
قلوبهم ممقوتا عندهم.
وقال أبو العباس محمد بن يزيد: جائز أن تكون " كان " زائدة، فالمعنى على هذا: إنه فاحشة ومقت، وأنشد في ذلك قول الشاعر:
فكيف إذا حللت بدار قوم... وجيران لنا كانوا كرام
قال أبو إسحاق: هذا غلط من أبي العباس، لأنّ " كان " لو كانت زائدة لم تنصب خبرها. والدليل على هذا البيت الذي أنشده:
وجيران لنا كانوا كرام
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النّساء إلاّ ما قد سلف إنّه كان فاحشةً ومقتاً وساء سبيلاً (22) حرّمت عليكم أمّهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعمّاتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمّهاتكم اللاّتي أرضعنكم وأخواتكم من الرّضاعة وأمّهات نسائكم}.
هذه
الآية مخاطبة للمؤمنين من العرب في مدة نزول الآية ومعنى الآية: والتحريم
الذي بعدها مستقر على المؤمنين أجمع، وسبب الآية: أن العرب كان منهم
قبائل قد اعتادت أن يخلف الرجل على امرأة أبيه، على ما ذكرناه من أمر أبي
عمرو بن أمية بن عبد شمس، ومن ذلك خبر أبي قيس بن الأسلت، ومن ذلك صفوان
بن أمية بن خلف، تزوج بعد أبيه فاختة بنت الأسود بن المطلب بن أسد، وكانت
امرأة أبيه قتل عنها، ومن ذلك منظور بن زيان، خلف على مليكة بنت خارجة،
وكانت عند أبيه زيان بن سيار، إلى كثير من هذا، وقد كان في العرب من تزوج
ابنته، وهو حاجب بن زرارة، تمجس وفعل هذه الفعلة، ذكر ذلك النضر بن شميل في كتاب المثالب، فنهى الله المؤمنين عما كان عليه آباؤهم من هذه السير، وقال ابن عباس:« كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم، إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين»،
فنزلت هذه الآية في ذلك، واختلف المتأولون في مقتضى ألفاظ الآية، فقالت
فرقة: قوله: ما نكح يراد به النساء. أي لا تنكحوا النساء اللواتي نكح
آباؤكم، وقوله: إلّا ما قد سلف معناه: لكن ما قد سلف فدعوه، وقال بعضهم
المعنى لكن ما قد سلف فهو معفو عنكم لمن كان واقعه، فكأنه قال تعالى ولا
تفعلوا حاشا ما قد سلف، ف ما على هذا القول واقعة على من يعقل من حيث هؤلاء
النساء صنف من أصناف من يعقل، وما تقع للأصناف والأوصاف ممن يعقل، وقالت
فرقة: قوله: ما نكح يراد به فعل الآباء، أي لا تنكحوا كما نكح آباؤكم من
عقودهم الفاسدة، وقوله: إلّا ما قد سلف معناه إلا ما تقدم منكم ووقع من تلك
العقود الفاسدة فمباحة لكم الإقامة عليه في الإسلام، إذا كان مما يقرر
الإسلام عليه من جهة القرابة، ويجوزه الشرع أن لو ابتدئ نكاحه في الإسلام
على سنته، وقيل: معنى إلّا ما قد سلف أي فهو معفو عنكم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وما على هذا مصدرية، وفي قراءة أبيّ بن كعب «إلا ما قد سلف إلا من تاب».
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله: وكذلك حكاه أبو عمرو الداني، وقال ابن زيد:
معنى الآية: النهي عن أن يطأ الرجل امرأة وطئها الآباء، «إلا ما قد سلف» من
الآباء في الجاهلية من الزنا، لا على وجه المناكحة، فذلك جائز لكم زواجهم
في الإسلام، لأن ذلك الزنا كان فاحشة ومقتا، قال ابن زيد: فزاد في هذه
الآية المقت، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في تأويل هذه الآية: «كل امرأة تزوجها أبوك أو ابنك دخل أو لم يدخل، فهي عليك حرام وكان في هذه الآية تقتضي الماضي والمستقبل»،
وقال المبرد: هي زائدة، وذلك خطأ يرد عليه وجود الخبر منصوبا، والمقت:
البغض والاحتقار بسبب رذيلة يفعلها الممقوت، فسمى تعالى هذا النكاح مقتاً
إذ هو ذا مقت يلحق فاعله، وقال أبو عبيدة وغيره: كانت العرب تسمي الولد
الذي يجيء من زوج الوالد المقتي، وقوله: وساء سبيلًا أي بئس الطريق والمنهج
لمن يسلكه، إذ عاقبته إلى عذاب الله). [المحرر الوجيز: 2/505-507]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله
تعالى: حرّمت عليكم الآية، حكم حرم الله به سبعا من النسب، وستا من بين
رضاع وصهر، وألحقت السنة المأثورة سابعة، وذلك الجمع بين المرأة وعمتها،
ومضى عليه الإجماع، وروي عن ابن عباس أنه قال: «حرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع»، وتلا هذه الآية، وقال عمرو بن سالم مولى الأنصار: مثل ذلك، وجعل السابعة قوله تعالى: {والمحصنات من النّساء}،
وتحريم الأمهات عام في كل حال لا يتخصص بوجه من الوجوه، ويسميه أهل
العلم- المبهم- أي لا باب فيه، ولا طريق إليه لانسداد التحريم وقوته،
وكذلك تحريم البنات والأخوات، فالأم كل من ولدت المرء وإن علت والبنت كل
من ولدها وإن سفلت، والأخت كل من جمعه وإياها صلب أو بطن، والعمة أخت
الأب، والخالة أخت الأم، كذلك فيهما العموم والإبهام، وكذلك عمة الأب
وخالته، وعمة الأم وخالتها، وكذلك عمة العمة، وأما خالة العمة فينظر، فإن
كانت العمة أخت أب لأم، أو لأب وأم فلا تحل خالة العمة، لأنها أخت الجدة،
وإن كانت العمة إنما هي أخت أب لأب فقط فخالتها أجنبية من بني أخيها، تحل
للرجال، ويجمع بينها وبين النساء،
وكذلك عمة الخالة ينظر، فإن كانت الخالة أخت أم لأب، فعمتها حرام، لأنها
أخت جد، وإن كانت الخالة أخت أم لأم فقط فعمتها أجنبية من بني أختها،
وكذلك في بنات الأخ وبنات الأخت العموم والإبهام، سواء كانت الأخوة شقيقة.
أو لأب أو لأم، وقرأ أبو حيوة «من الرّضاعة» بكسر الراء، والرضاع يحرم ما
يحرم النسب، والمرضعة أم، وما تقدم من أولادها وتأخر إخوة، وفحل اللبن
أب، وما تقدم من أولاده وتأخر إخوة، وقرأ ابن مسعود «اللاي» بكسر الياء،
وقرأ ابن هرمز «وأمهاتكم التي» بالإفراد، كأنه من جهة الإبهام يقع مع
الواحد والجماعة، واختلف الناس في تأويل قوله تعالى: {وأمّهات نسائكم} فقال
جمهور أهل العلم: هي تامة العموم فيمن دخل بها أو لم يدخل، فبالعقد على
الابنة حرمت الأم، وهذا مذهب جملة الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، وروي
عن علي بن أبي طالب أنه قيل له في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها
أيتزوج أمها؟ قال:« نعم، هي بمنزلة الربيبة».
قال القاضي أبو محمد رحمه
الله: يريد أن قوله تعالى: من نسائكم اللّاتي دخلتم بهنّ شرط في هذه، وفي
الربيبة، وروي نحوه عن ابن عباس، وروي عنه كقول الجمهور، وروي عن زيد بن
ثابت، أنه كان يقول: «إذا ماتت عنده فأخذ ميراثها كره أن يخلف على أمها، وإن طلقها قبل أن يدخل بها، فإن شاء فعل»، وقال مجاهد:« الدخول مراد في النازلتين»، وقول جمهور الناس مخالف لهذا القول، وروي في ذلك عن زيد بن ثابت أنه قال:« أمّهات نسائكم مبهمة، وإنما الشرط في الربائب»،
وقال ابن جريج: قلت لعطاء: أكان ابن عباس يقرأ «وأمهات نسائكم اللاتي
دخلتم بهن» ؟ فقال لا تترأ، قال حجاج: قلت لابن جريج: ما تترأ؟ قال كأنه
قال، لا لا، ويرد هذا القول من جهة الإعراب أن المجرورين إذا اختلفا لم يكن
نعتهما واحدا، ومعناه: إذا اختلفا في العامل، وهذه الآية قد اختلف فيها
جنس العامل.
قوله تعالى: {... وربائبكم اللاّتي في حجوركم من نسائكم اللاّتي دخلتم بهنّ فإن لم تكونوا دخلتم بهنّ فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الّذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلاّ ما قد سلف إنّ اللّه كان غفوراً رحيماً (23)}.
الربيبة:
بنت امرأة الرجل من غيره، سميت بذلك لأنه يربيها في حجره فهي مربوبته.
وربيبة: فعيلة بمعنى مفعولة، وقوله تعالى: اللّاتي في حجوركم ذكر الأغلب في
هذه الأمور، إذ هي حالة الربيبة في الأكثر، وهي محرمة وإن كانت في غير
الحجر، لأنها في حكم أنها في الحجر، إلا ما روي عن علي أنه قال: تحل إذا لم
تكن في الحجر وإن دخل بالأم، إذا كانت بعيدة عنه، ويقال: حجر بكسر الحاء
وفتحها، وهو مقدم ثوب الإنسان وما بين يديه منه في حالة اللبس، ثم استعملت
اللفظة في الحفظ والستر، لأن اللابس إنما تحفظ طفلا وما أشبهه بذلك
الموضع من الثوب، واختلف العلماء في معنى قوله: دخلتم بهنّ فقال ابن عباس
وطاوس وابن دينار: الدخول في هذا الموضع الجماع، فإن طلق الرجل بعد البناء
وقبل الوطء، فإن ابنتها له حلال، وقال جمهور من العلماء منهم مالك بن أنس
وعطاء بن أبي رباح
وغيرهم: إن التجريد والتقبيل والمضاجعة وجميع أنواع التلذذ يحرم الابنة
كما يحرمها الوطء، والحلائل: جمع حليلة، وهي الزوجة، لأنها تحل مع الرجل
حيث حل، فهي فعلية بمعنى فاعلة، وذهب الزجاج وقوم: إلى أنها من لفظة
الحلال، فهي حليلة بمعنى محللة، وقوله: الّذين من أصلابكم تخصيص ليخرج عنه
كل من كانت العرب تتبناه ممن ليس للصلب، وكان عندهم أمرا كثيرا قوي الحكم،
قال عطاء ابن أبي رباح: يتحدث- والله أعلم- أنها نزلت في محمد عليه
السلام حين تزوج امرأة زيد بن حارثة، فقال المشركون: قد تزوج امرأة ابنه،
فنزلت الآية، وحرمت حليلة الابن من الرضاع وإن لم يكن للصلب بالإجماع
المستند إلى قوله صلى الله عليه وسلم، يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب،
وقوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين إلّا ما قد سلف} لفظ
يعم الجمع بنكاح وبملك يمين، وأجمعت الأمة على منع جمعهما بنكاح، وأما
بملك يمين، فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: أحلتهما آية، وحرمتهما آية،
فأما أنا في خاصة نفسي فلا أرى الجمع بينهما حسنا، وروي نحو هذا عن ابن
عباس، ذكره ابن المنذر، وذكر أن إسحاق بن راهويه حرم الجمع بينهما بالوطء،
وأن جمهور أهل العلم كرهوا ذلك، وجعل مالكا فيمن كرهه.
قال القاضي أبو محمد رحمه
الله: ولا خلاف في جواز جمعهما في الملك، وكذلك الأم وبنتها، ويجيء من قول
إسحاق أن يرجم الجامع بينهما بالوطء، وتستقرأ الكراهية من قول مالك: «إنه إذا وطئ واحدة ثم وطئ أخرى وقف عنهما حتى يحرم إحداهما فلم يلزمه حدا»،
واختلف العلماء بعد القول بالمنع من الجمع بينهما بالوطء، إذا كان يطأ
واحدة ثم أراد أن يطأ الأخرى، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عمر
والحسن البصري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق: «لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه، ببيع أو عتق أو بأن يزوجها»،
قال ابن المنذر: وفيها قول ثان لقتادة، وهو أنه إن كان يطأ واحدة وأراد
وطء الأخرى فإنه ينوي تحريم الأولى على نفسه وأن لا يقربها، ثم يمسك عنها
حتى يستبرئ الأولى المحرمة، ثم يغشى الثانية.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله: ومذهب مالك رحمه الله، إذا كان أختان عند رجل
يملك، فله أن يطأ أيتهما شاء، والكف عن الأخرى موكول إلى أمانته، فإن
أراد وطء الأخرى فيلزمه أن يحرم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله، من إخراج
عن الملك، أو تزويج، أو عتق إلى أجل، أو إخدام طويل، فإن كان يطأ إحداهما
ثم وثب على الأخرى دون أن يحرم الأولى وقف عنهما ولم يجز له قرب إحداهما
حتى يحرم الأخرى، ولم يبق ذلك إلى أمانته، لأنه متهم فيمن قد وطئ، ولم يكن
قبل متهما إذ كان لم يطأ إلا الواحدة، وإن كانت عند رجل أمة يطؤها ثم
تزوج أختها، ففيها في المذهب ثلاثة أقوال، في النكاح الثالث من المدونة
أنه يوقف عنهما إذا وقع عقد النكاح حتى يحرم إحداهما مع كراهيته لهذا
النكاح، إذ هو عقد في موضع لا يجوز فيه الوطء، وذلك مكروه إلا في الحيض،
لأنه أمر غالب كثير، وفي الباب بعينه قول آخر: إن النكاح لا ينعقد، وقال
أشهب في كتاب الاستبراء: عقد النكاح في الواحدة تحريم لفرج المملوكة، وثبت
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها، وبين
المرأة وخالتها، وأجمعت الأمة على ذلك وقد رأى بعض العلماء أن هذا الحديث
ناسخ لعموم قوله تعالى: {وأحلّ لكم ما وراء ذلكم}
وذلك لأن الحديث من المتواتر، وكذلك قوله عليه السلام، يحرم من الرضاعة
ما يحرم من النسب، قيل أيضا إنه ناسخ، وقوله تعالى: إلّا ما قد سلف
استثناء منقطع، معناه لكن ما قد سلف من ذلك ووقع وأزاله الإسلام فإن الله
يغفره، والإسلام يجبّه). [المحرر الوجيز: 2/507-510]
ورضت فذلت صعبة أي إذلال
يا أيّها المائح دلوي دونكا...... إني رأيت الناس يحمدونكا
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: {والمحصنات من النّساء إلاّ ما ملكت أيمانكم كتاب اللّه عليكم وأحلّ لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ أجورهنّ فريضةً ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إنّ اللّه كان عليماً حكيماً (24)}
قوله عز وجل: والمحصنات عطف على المحرمات قبل، والتحصن: التمنع، يقال حصن المكان: إذا امتنع، ومنه الحصن، وحصنت المرأة: امتنعت بوجه من وجوه الامتناع، وأحصنت نفسها، وأحصنها غيرها، والإحصان تستعمله العرب في أربعة أشياء، وعلى ذلك تصرفت اللفظة في كتاب الله عز وجل، فتستعمله في الزواج، لأن ملك الزوجة منعة وحفظ، ويستعملون الإحصان في الحرية لأن الإماء كان عرفهن في الجاهلية الزنا، والحرة بخلاف ذلك، ألا ترى إلى قول هند بنت عتبة للنبي عليه السلام، حين بايعته، وهل تزني الحرة؟ فالحرية منعة وحفظ، ويستعملون الإحصان في الإسلام لأنه حافظ، ومنه قول النبي عليه السلام «الإيمان قيد الفتك» ومنه قول الهذلي:
فليس كعهد الدّار يا أمّ مالك ...... ولكن أحاطت بالرّقاب السّلاسل
ومنه قول الشاعر:
قالت هلمّ إلى الحديث فقلت لا ...... يأبى عليك الله والإسلام
ومنه قول سحيم:
... ... ... ... ....كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا
ومنه قول أبي حية:
رمتني وستر الله بيني وبينها
فإن أحد الأقوال في الستر أنه أراد به الإسلام، ويستعملون الإحصان في العفة، لأنه إذا ارتبط بها إنسان وظهرت على شخص ما وتخلق بها، فهي منعة وحفظ، وحيثما وقعت اللفظة في القرآن فلا تجدها تخرج عن هذه المعاني، لكنها قد تقوى فيها بعض هذه المعاني دون بعض، بحسب موضع وموضع، وسيأتي بيان ذلك في أماكنه إن شاء الله.
فقوله في هذه الآية والمحصنات، قال ابن عباس وأبو قلابة وابن زيد ومكحول والزهري وأبو سعيد الخدري: «هن ذوات الأزواج، أي هن محرمات، إلا ما ملكت اليمين بالسبي، من أرض الحرب، فإن تلك حلال للذي تقع في سهمه، وإن كان لها زوج»،
وروى أبو سعيد الخدري: أن الآية نزلت بسبب أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم بعث جيشا إلى أوطاس فلقوا عدوا وأصابوا سبيا لهن أزواج من المشركين،
فتأثم المسلمون من غشيانهن، فنزلت الآية مرخصة، وقال عبد الله بن مسعود
وسعيد بن المسيب والحسن ابن أبي الحسن وأبيّ بن كعب وجابر بن عبد الله وابن
عباس أيضا: «معنى
المحصنات ذوات الأزواج، فهن حرام إلا أن يشتري الرجل الأمة ذات الزوج،
فإن بيعها طلاقها، وهبتها طلاقها والصدقة بها طلاقها، وأن تعتق طلاقها،
وأن تورث طلاقها، وتطليق الزوج طلاقها»، وقال ابن مسعود: « إذا بيعت الأمة ولها زوج فالمشتري أحقّ ببضعها»،
ومذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء أن انتقال الملك في الأمة لا يكون
طلاقا، ولا طلاق لها إلا الطلاق، وقال قوم: المحصنات في هذه الآية العفائف،
أي كل النساء حرام، وألبسهن اسم الإحصان، إذ الشرائع في أنفسها تقتضي
ذلك، إلّا ما ملكت أيمانكم قالوا: معناه بنكاح أو شراء، كل ذلك تحت ملك
اليمين، قال بهذا القول أبو العالية وعبيدة السلماني وطاوس وسعيد بن جبير
وعطاء، ورواه عبيدة عن عمر رضي الله عنه، وقال ابن عباس: « المحصنات العفائف من المسلمين ومن أهل الكتاب».
قال القاضي أبو محمد رحمه
الله: وبهذا التأويل يرجع معنى الآية إلى تحريم الزنا، وأسند الطبري عن
عروة أنه قال في تأويل قوله تعالى: والمحصنات: هن الحرائر، ويكون إلّا ما
ملكت أيمانكم معناه بنكاح، هذا على اتصال الاستثناء، وإن أريد الإماء فيكون
الاستثناء منقطعا، وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال:«كان نساء يأتيننا مهاجرات، ثم يهاجر أزواجهن فمنعناهن بقوله تعالى: والمحصنات الآية».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول يرجع إلى ما قد ذكر من الأقوال، وأسند الطبري أن رجلا قال لسعيد بن جبير: أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية والمحصنات من النّساء فلم يقل فيها شيئا؟ فقال سعيد: كان ابن عباس لا يعلمها، وأسند أيضا عن مجاهد أنه قال: لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل، قوله: والمحصنات إلى قوله: حكيماً.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ولا أدري كيف نسب هذا القول إلى ابن عباس ولا كيف انتهى مجاهد إلى هذا القول؟ وروي عن ابن شهاب أنه سئل عن هذه الآية والمحصنات من النّساء فقال: يروى أنه حرم في هذه الآية ذوات الأزواج والعفائف من حرائر ومملوكات، ولم يحل شيئا من ذلك إلا بالنكاح أو الشراء والتملك، وهذا قول حسن عمم لفظ الإحسان ولفظ ملك اليمين، وعلى هذا التأويل يتخرج عندي قول مالك في الموطأ، فإنه قال: هن ذوات الأزواج، وذلك راجع إلى أن الله حرم الزنا، ففسر الإحصان بالزواج، ثم عاد عليه بالعفة، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة، «والمحصنات» بفتح الصاد في كل القرآن، وقرأ الكسائي كذلك في هذا الموضع وحده، وقرأ سائر ما في القرآن المحصنات بكسر الصاد «ومحصنات» كذلك، وروي عن علقمة أنه قرأ جميع ما في القرآن بكسر الصاد، ففتح الصاد هو على معنى أحصنهن غيرهن من زوج أو إسلام أو عفة أو حرية وكسر الصاد هو على معنى أنهن أحصنّ أنفسهن بهذه الوجوه أو ببعضها، وقرأ يزيد بن قطيب «والمحصنات» بضم الصاد، وهذا على إتباع الضمة الضمة، وقرأ جمهور الناس «كتاب الله» وذلك نصب على المصدر المؤكد، وقرأ أبو حيوة
ومحمد بن السميفع اليماني «كتب الله عليكم» على الفعل الماضي المسند إلى اسم الله تعالى، وقال عبيدة السلماني وغيره: قوله: كتاب اللّه عليكم إشارة إلى ما ثبت في القرآن من قوله: {مثنى وثلاث ورباع} وفي هذا بعد، والأظهر أن قوله كتاب اللّه عليكم إنما هو إشارة إلى التحريم الحاجز بين الناس وبين ما كانت العرب تفعله، واختلفت عبارة المفسرين في قوله تعالى: وأحلّ لكم ما وراء ذلكم فقال السدي:« المعنى وأحل لكم ما دون الخمس، أن تبتغوا بأموالكم، على وجه النكاح»، وقال نحوه عبيدة السلماني، وقال عطاء وغيره: المعنى «وأحل لكم ما وراء» من حرم من سائر القرابة، فهن حلال لكم تزويجهن، وقال قتادة: المعنى: وأحلّ لكم ما وراء ذلكم من الإماء.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ولفظ الآية يعم جميع هذه الأقوال، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «وأحل لكم» بفتح الألف والحاء، وهذه مناسبة لقوله كتاب اللّه إذ المعنى كتب الله ذلك كتابا، وقرأ حمزة والكسائي «وأحل» بضم الهمزة وكسر الحاء وهذه مناسبة لقوله: حرّمت عليكم والوراء في هذه الآية ما يعتبر أمره بعد اعتبار المحرمات، فهن وراء أولئك بهذا الوجه، وأن تبتغوا بأموالكم، لفظ يجمع التزوج والشراء وأن في موضع نصب، وعلى قراءة حمزة في موضع رفع، ويحتمل النصب بإسقاط الباء، ومحصنين، معناه متعففين أي تحصنون أنفسكم بذلك غير مسافحين، أي غير زناة، والسفاح: الزنا، وهو مأخوذ من سفح الماء أي صبه وسيلانه، ولزم هذا الاسم الزنا ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع الدفاف في عرس: هذا النكاح لا السفاح ولا نكاح السر، واختلف المفسرون في معنى قوله: فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ أجورهنّ فريضةً فقال ابن عباس ومجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم: «المعنى فإذا استمتعتم بالزوجة ووقع الوطء ولو مرة فقد وجب إعطاء الأجر، وهو المهر كله، ولفظة فما تعطي أن بيسير الوطء يجب إيتاء الأجر»، وروي عن ابن عباس أيضا ومجاهد والسدي وغيرهم: «أن الآية في نكاح المتعة»، وقرأ ابن عباس وأبيّ بن كعب وسعيد بن جبير، «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهنّ أجورهن» وقال ابن عباس لأبي نضرة: هكذا أنزلها الله عز وجل، وروى الحكم بن عتيبة، أن عليا رضي الله عنه قال: لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقيّ، وقد كانت المتعة في صدر الإسلام، ثم نهى عنها النبي عليه السلام، وقال ابن المسيب: نسختها آية الميراث، إذ كانت المتعة لا ميراث فيها، وقيل قول الله تعالى: {يا أيّها النّبيّ إذا طلّقتم النّساء فطلّقوهنّ لعدّتهنّ}. وقالت عائشة: نسخها قوله: والّذين هم لفروجهم حافظون إلّا على أزواجهم ولا زوجية مع الأجل ورفع الطلاق، والعدة، والميراث، وكانت: أن يتزوج الرجل المرأة بشاهدين وإذن الولي إلى أجل مسمى، وعلى أن لا ميراث بينهما، ويعطيها ما اتفقا عليه، فإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل، وتستبرئ رحمها لأن الولد لاحق فيه بلا شك، فإن لم تحمل حلت لغيره.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي كتاب النحاس: في هذا خطأ فاحش في اللفظ،
يوهم أن الولد لا يلحق في نكاح المتعة، وحكى المهدوي عن ابن المسيب: أن
نكاح المتعة كان بلا ولي ولا شهود، وفيما حكاه ضعف، وفريضةً نصب على المصدر
في موضع الحال، واختلف المفسرون في معنى قوله: {ولا جناح عليكم } الآية،
فقال القائلون بأن الآية المتقدمة أمر بإيتاء مهور النساء إذا دخل بهن:
إن هذه إشارة إلى ما يتراضى به من حط أو تأخير بعد استقرار الفريضة، فإن
ذلك الذي يكون على وجه الرضا جائز ماض، وقال القائلون بأن الآية المتقدمة
هي أمر المتعة: إن الإشارة بهذه إلى أن ما تراضيا عليه من زيادة في مدة
المتعة وزيادة في الأجر جائز سائغ، وباقي الآية بين). [المحرر الوجيز: 2/511-518]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى{والمحصنات من النّساء إلا ما ملكت أيمانكم} أي: وحرّم عليكم الأجنبيّات المحصنات وهي المزوّجات {إلا ما ملكت أيمانكم} يعني: إلّا ما ملكتموهنّ بالسّبي، فإنّه يحلّ لكم وطؤهنّ إذا استبرأتموهنّ، فإنّ الآية نزلت في ذلك.
قال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرّزّاق، أخبرنا سفيان -هو الثّوريّ-عن عثمان البتّي، عن أبي الخليل، عن أبي سعيدٍ الخدريّ قال:« أصبنا
نساءً من سبي أوطاس، ولهنّ أزواجٌ، فكرهنا أن نقع عليهنّ ولهنّ أزواجٌ،
فسألنا النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فنزلت هذه الآية: {والمحصنات
من النّساء إلا ما ملكت أيمانكم} قال فاستحللنا فروجهنّ».
وهكذا رواه
التّرمذيّ عن أحمد بن منيعٍ، عن هشيم، ورواه النّسائيّ من حديث سفيان
الثّوريّ وشعبة بن الحجّاج، ثلاثتهم عن عثمان البتّيّ، ورواه ابن جريرٍ من
حديث أشعث بن سوّاريّ عن عثمان البتّيّ، ورواه مسلمٌ في صحيحه من حديث
شعبة عن قتادة، كلاهما عن أبي الخليل صالح بن أبي مريم، عن أبي سعيدٍ
الخدريّ، فذكره، وهكذا رواه عبد الرّزّاق، عن معمرٍ، عن قتادة عن أبي
الخليل، عن أبي سعيد، به.
وقد روي من وجهٍ آخر عن أبي الخليل، عن أبي علقمة الهاشميّ، عن أبي سعيدٍ قال الإمام أحمد:
حدّثنا ابن أبي
عديّ، عن سعيدٍ، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن أبي علقمة، عن أبي سعيدٍ
الخدريّ؛ أنّ أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أصابوا سبايا يوم
أوطاس، لهنّ أزواجٌ من أهل الشّرك، فكأنّ أناسًا من أصحاب رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلم كفّوا وتأثّموا من غشيانهنّ قال: فنزلت هذه الآية في ذلك:
{والمحصنات من النّساء إلا ما ملكت أيمانكم}.
وهكذا رواه
مسلمٌ وأبو داود والنّسائيّ من حديث سعيد بن أبي عروبة -زاد مسلمٌ:
وشعبة-ورواه التّرمذيّ من حديث همّام بن يحيى، ثلاثتهم عن قتادة، بإسناده
نحوه. وقال التّرمذيّ: هذا حديثٌ حسنٌ، ولا أعلم أنّ أحدًا ذكر أبا علقمة
في هذا الحديث إلّا ما ذكر همّامٌ عن قتادة. كذا قال. وقد تابعه سعيدٌ
وشعبة، واللّه أعلم.
وقد روى
الطّبرانيّ من طريق الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ: أنّها نزلت في سبايا خيبر،
وذكر مثل حديث أبي سعيدٍ، وقد ذهب جماعةٌ من السّلف إلى أنّ بيع الأمة يكون
طلاقًا لها من زوجها، أخذًا بعموم هذه الآية. قال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن
مثنّى، حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، عن شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم: أنّه سئل
عن الأمة تباع ولها زوجٌ؟ قال: كان عبد اللّه يقول: بيعها طلاقها، ويتلو
هذه الآية {والمحصنات من النّساء إلا ما ملكت أيمانكم}.
وكذا رواه سفيان عن منصور، ومغيرة والأعمشن عن إبراهيم، عن ابن مسعودٍ قال:«بيعها طلاقها». وهو منقطعٌ.
وقال سفيان الثّوريّ، عن خالدٍ، عن أبي قلابة، عن ابن مسعودٍ قال: «إذا بيعت الأمة ولها زوجٌ فسيّدها أحقّ ببضعها».
ورواه سعيدٌ، عن قتادة قال: إنّ أبيّ بن كعبٍ، وجابر بن عبد اللّه، وابن عبّاسٍ قالوا:«بيعها طلاقها».
وقال ابن جريرٍ: حدّثني يعقوب، حدّثنا ابن عليّة، عن خالدٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: «طلاق الأمة ستٌّ بيعها طلاقها، وعتقها طلاقها، وهبتها طلاقها، وبراءتها طلاقها، وطلاق زوجها طلاقها».
وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمر، عن الزّهريّ، عن ابن المسيّب قوله: {والمحصنات من النّساء} قال: «هن ذوات الأزواج، حرّم اللّه نكاحهنّ إلّا ما ملكت يمينك فبيعها طلاقها وقال معمر: وقال الحسن مثل ذلك».
وهكذا رواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن في قوله: {والمحصنات من النّساء إلا ما ملكت أيمانكم} قال: «إذا كان لها زوجٌ فبيعها طلاقها».
وقال عوفٌ، عن الحسن: «بيع الأمة طلاقها وبيعه طلاقها».
فهذا قول هؤلاء
من السّلف رحمهم اللّه وقد خالفهم الجمهور قديمًا وحديثًا، فرأوا أنّ بيع
الأمة ليس طلاقها ؛ لأنّ المشتري نائبٌ عن البائع، والبائع كان قد أخرج عن
ملكه هذه المنفعة وباعها مسلوبةً عنها، واعتمدوا في ذلك على حديث بريرة
المخرّج في الصّحيحين وغيرهما؛ فإنّ عائشة أمّ المؤمنين اشترتها ونجّزت
عتقها، ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيثٍ، بل خيّرها النّبيّ صلّى اللّه
عليه وسلّم بين الفسخ والبقاء، فاختارت الفسخ، وقصّتها مشهورةٌ، فلو كان
بيع الأمة طلاقها -كما قال هؤلاء لما خيّرها النّبيّ صلّى اللّه عليه
وسلّم، فلمّا خيّرها دلّ على بقاء النّكاح، وأنّ المراد من الآية المسبيّات
فقط، واللّه أعلم.
وقد قيل: المراد بقوله: {والمحصنات من النّساء}
يعني: العفائف حرامٌ عليكم حتّى تملكوا عصمتهنّ بنكاحٍ وشهودٍ ومهورٍ
ووليٍّ واحدةً أو اثنتين أو ثلاثًا أو أربعًا. حكاه ابن جريرٍ عن أبي
العالية وطاوسٍ وغيرهما. وقال عمر وعبيدة: {والمحصنات من النّساء} ما عدا الأربع حرامٌ عليكم إلّا ما ملكت أيمانكم.
وقوله: {كتاب الله عليكم} أي: هذا التّحريم كتابٌ كتبه اللّه عليكم، فالزموا كتابه، ولا تخرجوا عن حدوده، والزموا شرعه وما فرضه.
وقد قال عبيدة وعطاءٌ والسّدّيّ في قوله: {كتاب اللّه عليكم} يعني الأربع. وقال إبراهيم: {كتاب الله عليكم} يعني: ما حرّم عليكم.
وقوله: {وأحلّ لكم مّا وراء ذلكم} أي: ما عدا من ذكرن من المحارم هنّ لكم حلالٌ، قاله عطاءٌ وغيره. وقال عبيدة والسّدّيّ: {وأحلّ لكم مّا وراء ذلكم} ما دون الأربع، وهذا بعيدٌ، والصّحيح قول عطاءٍ كما تقدّم. وقال قتادة {وأحلّ لكم مّا وراء ذلكم} يعني: ما ملكت أيمانكم.
وهذه الآية هي الّتي احتجّ بها من احتجّ على تحليل الجمع بين الأختين، وقول من قال: أحلّتهما آيةٌ وحرّمتهما آيةٌ.
وقوله: {أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} أي: تحصّلوا بأموالكم من الزّوجات إلى أربعٍ أو السّراري ما شئتم بالطّريق الشّرعيّ؛ ولهذا قال: {محصنين غير مسافحين}وقوله: {فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ أجورهنّ فريضةً} أي: كما تستمتعون بهنّ فآتوهنّ مهورهنّ في مقابلة ذلك، كقوله: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعضٍ} وكقوله {وآتوا النّساء صدقاتهنّ نحلةً} وكقوله {ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئًا}.
وقد استدلّ
بعموم هذه الآية على نكاح المتعة، ولا شكّ أنّه كان مشروعًا في ابتداء
الإسلام، ثمّ نسخ بعد ذلك. وقد ذهب الشّافعيّ وطائفةٌ من العلماء إلى أنّه
أبيح ثمّ نسخ، ثمّ أبيح ثمّ نسخ، مرّتين. وقال آخرون أكثر من ذلك، وقال
آخرون: إنّما أبيح مرّةً، ثمّ نسخ ولم يبح بعد ذلك.
وقد روي عن ابن
عبّاسٍ وطائفةٍ من الصّحابة القول بإباحتها للضّرورة، وهو روايةٌ عن
الإمام أحمد بن حنبلٍ، رحمهم اللّه تعالى. وكان ابن عبّاسٍ، وأبيّ بن
كعبٍ، وسعيد بن جبير، والسّدّي يقرءون: "فما استمتعتم به منهنّ إلى أجلٍ
مسمّى فآتوهنّ أجورهنّ فريضةً". وقال مجاهدٌ: نزلت في نكاح المتعة، ولكنّ
الجمهور على خلاف ذلك، والعمدة ما ثبت في الصّحيحين، عن أمير المؤمنين
عليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنه قال: نهى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم
عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهليّة يوم خيبر ولهذا الحديث ألفاظٌ
مقرّرةٌ هي في كتاب "الأحكام".
وفي صحيح مسلمٍ عن الرّبيع بن سبرة بن معبدٍ الجهنيّ، عن أبيه: أنّه غزا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فتح مكّة، فقال:«يأيّها
النّاس، إنّي كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النّساء، وإنّ اللّه قد حرم
ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهنّ شيءٌ فليخلّ سبيله، ولا تأخذوا
ممّا آتيتموهنّ شيئًا»وفي روايةٍ لمسلمٍ في حجّة الوداع وله ألفاظٌ موضعها كتاب "الأحكام".
وقوله: {ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة} من حمل هذه الآية على نكاح المتعة إلى أجلٍ مسمّى قال: فلا جناح عليكم إذا انقضى الأجل أن تراضوا على زيادةٍ به وزيادةٍ للجعل.
قال السّدّيّ:
إن شاء أرضاها من بعد الفريضة الأولى -يعني الأجر الّذي أعطاها على تمتّعه
بها-قبل انقضاء الأجل بينهما فقال: أتمتّع منك أيضًا بكذا وكذا، فازداد
قبل أن يستبرئ رحمها يوم تنقضي المدّة، وهو قوله: {ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة}.
قال السّدّيّ:
إذا انقضت المدّة فليس له عليها سبيلٌ، وهي منه بريئةٌ، وعليها أن تستبرئ
ما في رحمها، وليس بينهما ميراثٌ، فلا يرث واحدٌ منهما صاحبه.
ومن قال بالقول الأوّل جعل معناه كقوله: {وآتوا النّساء صدقاتهنّ نحلةً فإن طبن لكم عن شيءٍ منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا}أي: إذا فرضت لها صداقًا فأبرأتك منه، أو عن شيءٍ منه فلا جناح عليك ولا عليها في ذلك.
وقال ابن جريرٍ:
حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى، حدّثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال: زعم
الحضرميّ أنّ رجالًا كانوا يفرضون المهر، ثمّ عسى أن يدرك أحدهم العسرة،
فقال: {ولا جناح عليكم} أيّها النّاس {فيما تراضيتم به من بعد الفريضة} يعني: إن وضعت لك منه شيئًا فهو لك سائغٌ، واختار هذا القول ابن جريرٍ، وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ: {ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة} والتّراضي أن يوفيها صداقها ثمّ يخيّرها، ويعني في المقام أو الفراق.
وقوله: {إنّ الله كان عليمًا حكيمًا} مناسب ذكر هذين الوصفين بعد شرع هذه المحرمات [العظيمة] ). [تفسير القرآن العظيم: 2/256-260]
* للاستزادة ينظر: هنا