الدروس
course cover
تفسير سورة النساء [ من الآية (22) إلى الآية (24) ]
17 Nov 2018
17 Nov 2018

4056

0

0

course cover
تفسير سورة النساء

القسم الثالث

تفسير سورة النساء [ من الآية (22) إلى الآية (24) ]
17 Nov 2018
17 Nov 2018

17 Nov 2018

4056

0

0


0

0

0

0

0

تفسير قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)}


تفسير قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً (22)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله - جلّ وعزّ - {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النّساء إلّا ما قد سلف إنّه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا}المعنى: لا تنكحوا كما كان من قبلكم ينكح ما نكح أبوه، فهذا معنى {إلّا ما قد سلف}
{إنّه كان فاحشة}المعنى: إلا ما قد سلف فإنه كان فاحشة، أي: زنا {ومقتا} والمقت: أشد البغض.
{وساء سبيلا} أي: وبئس طريقا، أي: ذلك الطريق بئس طريقا.
فالمعنى: أنهم أعلموا أن ذلك في الجاهلية كان يقال له مقت، وكان المولود عليه يقال له المقتي، فأعلموا أن هذا الذي حرم عليهم لم يزل منكرا في قلوبهم ممقوتا عندهم.
وقال أبو العباس محمد بن يزيد: جائز أن تكون " كان " زائدة، فالمعنى على هذا: إنه فاحشة ومقت، وأنشد في ذلك قول الشاعر:
فكيف إذا حللت بدار قوم... وجيران لنا كانوا كرام
قال أبو إسحاق: هذا غلط من أبي العباس، لأنّ " كان " لو كانت زائدة لم تنصب خبرها. والدليل على هذا البيت الذي أنشده:

وجيران لنا كانوا كرام

ولم يقل: كانوا كراما). [معاني القرآن: 2/32-33]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النّساء إلاّ ما قد سلف إنّه كان فاحشةً ومقتاً وساء سبيلاً (22) حرّمت عليكم أمّهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعمّاتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمّهاتكم اللاّتي أرضعنكم وأخواتكم من الرّضاعة وأمّهات نسائكم}.

هذه الآية مخاطبة للمؤمنين من العرب في مدة نزول الآية ومعنى الآية: والتحريم الذي بعدها مستقر على المؤمنين أجمع، وسبب الآية: أن العرب كان منهم قبائل قد اعتادت أن يخلف الرجل على امرأة أبيه، على ما ذكرناه من أمر أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، ومن ذلك خبر أبي قيس بن الأسلت، ومن ذلك صفوان بن أمية بن خلف، تزوج بعد أبيه فاختة بنت الأسود بن المطلب بن أسد، وكانت امرأة أبيه قتل عنها، ومن ذلك منظور بن زيان، خلف على مليكة بنت خارجة، وكانت عند أبيه زيان بن سيار، إلى كثير من هذا، وقد كان في العرب من تزوج ابنته، وهو حاجب بن زرارة، تمجس وفعل هذه الفعلة، ذكر ذلك النضر بن شميل في كتاب المثالب، فنهى الله المؤمنين عما كان عليه آباؤهم من هذه السير، وقال ابن عباس:« كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم، إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين»، فنزلت هذه الآية في ذلك، واختلف المتأولون في مقتضى ألفاظ الآية، فقالت فرقة: قوله: ما نكح يراد به النساء. أي لا تنكحوا النساء اللواتي نكح آباؤكم، وقوله: إلّا ما قد سلف معناه: لكن ما قد سلف فدعوه، وقال بعضهم المعنى لكن ما قد سلف فهو معفو عنكم لمن كان واقعه، فكأنه قال تعالى ولا تفعلوا حاشا ما قد سلف، ف ما على هذا القول واقعة على من يعقل من حيث هؤلاء النساء صنف من أصناف من يعقل، وما تقع للأصناف والأوصاف ممن يعقل، وقالت فرقة: قوله: ما نكح يراد به فعل الآباء، أي لا تنكحوا كما نكح آباؤكم من عقودهم الفاسدة، وقوله: إلّا ما قد سلف معناه إلا ما تقدم منكم ووقع من تلك العقود الفاسدة فمباحة لكم الإقامة عليه في الإسلام، إذا كان مما يقرر الإسلام عليه من جهة القرابة، ويجوزه الشرع أن لو ابتدئ نكاحه في الإسلام على سنته، وقيل: معنى إلّا ما قد سلف أي فهو معفو عنكم.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وما على هذا مصدرية، وفي قراءة أبيّ بن كعب «إلا ما قد سلف إلا من تاب».

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وكذلك حكاه أبو عمرو الداني، وقال ابن زيد: معنى الآية: النهي عن أن يطأ الرجل امرأة وطئها الآباء، «إلا ما قد سلف» من الآباء في الجاهلية من الزنا، لا على وجه المناكحة، فذلك جائز لكم زواجهم في الإسلام، لأن ذلك الزنا كان فاحشة ومقتا، قال ابن زيد: فزاد في هذه الآية المقت، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في تأويل هذه الآية: «كل امرأة تزوجها أبوك أو ابنك دخل أو لم يدخل، فهي عليك حرام وكان في هذه الآية تقتضي الماضي والمستقبل»، وقال المبرد: هي زائدة، وذلك خطأ يرد عليه وجود الخبر منصوبا، والمقت: البغض والاحتقار بسبب رذيلة يفعلها الممقوت، فسمى تعالى هذا النكاح مقتاً إذ هو ذا مقت يلحق فاعله، وقال أبو عبيدة وغيره: كانت العرب تسمي الولد الذي يجيء من زوج الوالد المقتي، وقوله: وساء سبيلًا أي بئس الطريق والمنهج لمن يسلكه، إذ عاقبته إلى عذاب الله). [المحرر الوجيز: 2/505-507]

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النّساء إلا ما قد سلف إنّه كان فاحشةً ومقتًا وساء سبيلا} يحرم تعالى زوجات الآباء تكرمةً لهم، وإعذظامًا واحترامًا أن توطأ من بعده، حتّى إنّها لتحرم على الابن بمجرّد العقد عليها، وهذا أمرٌ مجمعٌ عليه.
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا مالك بن إسماعيل، حدّثنا قيس بن الرّبيع عن أشعث بن سوّار، عن عديّ بن ثابتٍ، عن رجلٍ من الأنصار قال: لمّا توفّي أبو قيس -يعني ابن الأسلت-وكان من صالحي الأنصار، فخطب ابنه قيسٌ امرأته، فقالت: إنّما أعدّكّ ولدًا وأنت من صالحي قومك، ولكن آتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فأستأمره. فأتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت: إنّ أبا قيسٍ توفّي. فقال: "خيرًا". ثمّ قالت: إنّ ابنه قيسًا خطبني وهو من صالحي قومه. وإنّما كنت أعدّه ولدًا، فما ترى؟ فقال لها: "ارجعي إلى بيتك". قال: فنزلت هذه الآية {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النّساء إلا ما قد سلف} الآية.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا القاسم، حدّثنا، حسينٌ، حدّثنا حجّاج، عن ابن جريج، عن عكرمة في قوله: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النّساء إلا ما قد سلف} قال: نزلت في أبي قيس ابن الأسلت، خلّف على أمّ عبيد اللّه بنت صخرٍ وكانت تحت الأسلت أبيه، وفي الأسود بن خلف، وكان خلف على ابنة أبي طلحة بن عبد العزّى بن عثمان بن عبد الدّار، وكانت عند أبيه خلف، وفي فاختة ابنة الأسود بن المطّلب بن أسدٍ، كانت عند أميّة بن خلف، فخلّف عليها صفوان ابن أميّة.
وقد زعم السّهيلي أنّ نكاح نساء الآباء كان معمولًا به في الجاهليّة؛ ولهذا قال: {إلا ما قد سلف} كما قال {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} قال: وقد فعل ذلك كنانة بن خزيمة، تزوّج بامرأة أبيه، فأولدها ابنه النضر بن كنانة قال: وقد قال صلّى اللّه عليه وسلّم: « ولدت من نكاحٍ لا من سفاحٍ ». قال: فدلّ على أنّه كان سائغًا لهم ذلك، فإن أراد أنّ ذلك كان عندهم يعدّونه نكاحًا فيما بينهم، فقد قال ابن جريرٍ: حدّثنا محمّد بن عبد اللّه المخرّميّ حدّثنا قراد، حدّثنا ابن عيينة عن عمر، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: كان أهل الجاهليّة يحرّمون ما حرّم اللّه، إلّا امرأة الأب والجمع بين الأختين، فأنزل اللّه: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النّساء} {وأن تجمعوا بين الأختين} وهكذا قال عطاءٌ وقتادة. ولكن فيما نقله السّهيليّ من قصّة كنانة نظرٌ، واللّه أعلم. على كلّ تقديرٍ فهو حرامٌ في هذه الأمّة، مبشّع غاية التّبشّع ولهذا قال: {إنّه كان فاحشةً ومقتًا وساء سبيلا} ولهذا قال تعالى {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن} وقال {ولا تقربوا الزّنا إنّه كان فاحشةً وساء سبيلا} فزاد هاهنا: {ومقتًا} أي: بغضًا، أي هو أمرٌ كبيرٌ في نفسه، ويؤدّي إلى مقت الابن أباه بعد أن يتزوّج بامرأته، فإنّ الغالب أنّ من تزوّج بامرأةٍ يبغض من كان زوجها قبله؛ ولهذا حرّمت أمّهات المؤمنين على الأمّة؛ لأنّهنّ أمّهاتٌ، لكونهنّ زوجات النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وهو كالأب للأمّة بل حقّه أعظم من حقّ الآباء بالإجماع، بل حبّه مقدّمٌ على حبّ النّفوس صلوات اللّه وسلامه عليه.
وقال عطاء بن أبي رباح في قوله: {ومقتًا} أي: يمقت اللّه عليه {وساء سبيلا} أي: وبئس طريقًا لمن سلكه من النّاس، فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتدّ عن دينه، فيقتل، ويصير ماله فيئًا لبيت المال. كما رواه الإمام أحمد وأهل السّنن، من طرقٍ، عن البراء بن عازبٍ، عن خاله أبي بردة -وفي رواية: ابن عمر-وفي روايةٍ: عن عمّه: أنّه بعثه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى رجلٍ تزوّج امرأة أبيه من بعده أن يقتله ويأخذ ماله.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا هشيم، حدّثنا أشعث، عن عديّ بن ثابتٍ، عن البراء بن عازب قال: مرّ بي عمّي الحارث بن عمرٍو، ومعه لواءٌ قد عقده له النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقلت له: أي عمّ، أين بعثك النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ؟ قال: بعثني إلى رجلٍ تزوّج امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه.
مسألةٌ:
وقد أجمع العلماء على تحريم من وطئها الأب بتزويجٍ أو ملكٍ أو بشبهةٍ أيضًا، واختلفوا فيمن باشرها بشهوةٍ دون الجماع، أو نظر إلى ما لا يحلّ له النّظر إليه منها لو كانت أجنبيّةً. فعن الإمام أحمد رحمه اللّه أنّها تحرم أيضًا بذلك. قد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة خديج الحصنيّ مولى معاوية قال: اشترى لمعاوية جاريةً بيضاء جميلةً، فأدخلها عليه مجرّدةً وبيده قضيبٌ. فجعل يهوي به إلى متاعها ويقول: هذا المتاع لو كان له متاعٌ! اذهب بها إلى يزيد بن معاوية. ثمّ قال: لا ادع لي ربيعة بن عمرٍو الجرشي -وكان فقيهًا-فلمّا دخل عليه قال: إنّ هذه أتيت بها مجرّدةً، فرأيت منها ذاك وذاك، وإنّي أردت أن أبعث بها إلى يزيد. فقال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإنّها لا تصلح له. ثمّ قال: نعم ما رأيت. ثمّ قال: ادع لي عبد اللّه بن مسعدة الفزاريّ، فدعوته، وكان آدم شديد الأدمة، فقال: دونك هذه، بيض بها ولدك. قال: و قد كان عبد اللّه بن مسعدة هذا وهبه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لابنته فاطمة فربّته ثمّ أعتقته ثمّ كان بعد ذلك مع معاوية من النّاس على علي بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنه). [تفسير القرآن العظيم: 2/245-247]

تفسير قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (23)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله: - جلّ وعزّ -: {حرّمت عليكم أمّهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعمّاتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمّهاتكم اللّاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرّضاعة وأمّهات نسائكم وربائبكم اللّاتي في حجوركم من نسائكم اللّاتي دخلتم بهنّ فإن لم تكونوا دخلتم بهنّ فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الّذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلّا ما قد سلف إنّ اللّه كان غفورا رحيما}.
هذا يسمى التحريم المبهم، وكثير من أهل العلم لا يفرق في المبهم وغير المبهم تفريقا مقنعا، وإنما كان يسمى هذا المبهم من المحرمات لأنه لا يحل بوجه ولا سبب، واللاحق به {وأمّهاتكم اللّاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرّضاعة} والرضاعة قد أدخلت هذه المحرمات في الإبهام.

{وأمّهات نسائكم} قد اختلف الناس في هذه: فجعلها بعضهم مبهمة وجعلها بعضهم غير مبهمة.
فالذي جعلها مبهمة قال: إنّ الرجل إذا تزوج المرأة حرمت عليه أمها دخل بها أو لم يدخل بها، واحتج بأن {اللّاتي دخلتم بهنّ} إنما هو متصل بالربائب، وروي عن ابن عباس أنه قال: {وأمّهات نسائكم} من المبهمة.
{وربائبكم اللّاتي في حجوركم من نسائكم اللّاتي دخلتم بهنّ}قال أبو العباس محمد بن يزيد: {اللّاتي دخلتم بهنّ} نعت للنساء اللواتي هن أمهات الربائب لا غير، قال: والدليل على ذلك إجماع الناس أن الربيبة تحل إذا لم يدخل بأمها، وأن من أجاز أن يكون قوله: {من نسائكم اللّاتي دخلتم بهنّ} هو لأمهات نسائكم، يكون المعنى على تقديره، وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ.
فيخرج أن يكون اللاتي دخلتم بهن لأمهات الربائب.
والدليل على أن ما قاله أبو العباس هو الصحيح أن: الخبرين إذا اختلفا لم يكن نعتهما واحدا.
لا يجيز النحويون: مررت بنسائك وهربت من نساء زيد الظريفات، على أن تكون الظريفات نعتا لهؤلاء النساء وهؤلاء النساء.
والذين قالوا بهذا القول أعني الذين جعلوا أمهات نسائكم بمنزلة قوله: {من نسائكم اللّاتي دخلتم بهنّ} إنما يجوز لهم أن يكون منصوبا على " أعني "
فيكون المعنى: أعني اللاتي دخلتم بهنّ، وأن يكون {وأمهات نسائكم} تمام هذه التحريمات المبهمات، ويكون الربائب هن اللاتي يحللن إذا لم يدخل بأمهاتهنّ قط دون أمهات نسائكم هو الجيّد البالغ.
فأمّا الربيبة: فبنت امرأة الرجل من غيره، ومعناها: مربوبة، لأن الرجل هو يربّها، ويجوز أن تسمى: ربيبة لأنه تولى تربيتها، كانت في حجره أو لم تكن تربت في حجره، لأن الرجل إذا تزوج بأمها سمي ربيبها، والعرب تسمّي الفاعلين والمفعولين بما يقع بهم ويوقعونه، فيقولون: هذا مقتول وهذا ذبيح، أي: قد وقع بهم ذلك. وهذا قاتل أي: قد قتل، وهذه أضحية آل فلان لما قد ضحوا به، وكذلك هذه قتوبة، وهذه حلوبة، أي ما يقتب ويحلب.
وقوله:
{وحلائل أبنائكم}جمع حليلة وهي: امرأة ابن الرجل، لا تحل للأب، وهي من المبهمات وحليلة بمعنى: محلّة، مشتق من الحلال.
{وأن تجمعوا بين الأختين}
{أن} في موضع رفع، المعنى: حرمت هذه الأشياء والجمع بين الأختين.
{إلّا ما قد سلف} المعنى: سوى ما قد سلف فإنه مغفور لكم). [معاني القرآن: 2/33-35]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: حرّمت عليكم الآية، حكم حرم الله به سبعا من النسب، وستا من بين رضاع وصهر، وألحقت السنة المأثورة سابعة، وذلك الجمع بين المرأة وعمتها، ومضى عليه الإجماع، وروي عن ابن عباس أنه قال: «حرم من النسب سبع، ومن الصهر سبع»، وتلا هذه الآية، وقال عمرو بن سالم مولى الأنصار: مثل ذلك، وجعل السابعة قوله تعالى: {والمحصنات من النّساء}، وتحريم الأمهات عام في كل حال لا يتخصص بوجه من الوجوه، ويسميه أهل العلم- المبهم- أي لا باب فيه، ولا طريق إليه لانسداد التحريم وقوته، وكذلك تحريم البنات والأخوات، فالأم كل من ولدت المرء وإن علت والبنت كل من ولدها وإن سفلت، والأخت كل من جمعه وإياها صلب أو بطن، والعمة أخت الأب، والخالة أخت الأم، كذلك فيهما العموم والإبهام، وكذلك عمة الأب وخالته، وعمة الأم وخالتها، وكذلك عمة العمة، وأما خالة العمة فينظر، فإن كانت العمة أخت أب لأم، أو لأب وأم فلا تحل خالة العمة، لأنها أخت الجدة، وإن كانت العمة إنما هي أخت أب لأب فقط فخالتها أجنبية من بني أخيها، تحل للرجال، ويجمع بينها وبين النساء، وكذلك عمة الخالة ينظر، فإن كانت الخالة أخت أم لأب، فعمتها حرام، لأنها أخت جد، وإن كانت الخالة أخت أم لأم فقط فعمتها أجنبية من بني أختها، وكذلك في بنات الأخ وبنات الأخت العموم والإبهام، سواء كانت الأخوة شقيقة. أو لأب أو لأم، وقرأ أبو حيوة «من الرّضاعة» بكسر الراء، والرضاع يحرم ما يحرم النسب، والمرضعة أم، وما تقدم من أولادها وتأخر إخوة، وفحل اللبن أب، وما تقدم من أولاده وتأخر إخوة، وقرأ ابن مسعود «اللاي» بكسر الياء، وقرأ ابن هرمز «وأمهاتكم التي» بالإفراد، كأنه من جهة الإبهام يقع مع الواحد والجماعة، واختلف الناس في تأويل قوله تعالى: {وأمّهات نسائكم} فقال جمهور أهل العلم: هي تامة العموم فيمن دخل بها أو لم يدخل، فبالعقد على الابنة حرمت الأم، وهذا مذهب جملة الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، وروي عن علي بن أبي طالب أنه قيل له في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها أيتزوج أمها؟ قال:« نعم، هي بمنزلة الربيبة».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: يريد أن قوله تعالى: من نسائكم اللّاتي دخلتم بهنّ شرط في هذه، وفي الربيبة، وروي نحوه عن ابن عباس، وروي عنه كقول الجمهور، وروي عن زيد بن ثابت، أنه كان يقول: «إذا ماتت عنده فأخذ ميراثها كره أن يخلف على أمها، وإن طلقها قبل أن يدخل بها، فإن شاء فعل»، وقال مجاهد:« الدخول مراد في النازلتين»، وقول جمهور الناس مخالف لهذا القول، وروي في ذلك عن زيد بن ثابت أنه قال:« أمّهات نسائكم مبهمة، وإنما الشرط في الربائب»، وقال ابن جريج: قلت لعطاء: أكان ابن عباس يقرأ «وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن» ؟ فقال لا تترأ، قال حجاج: قلت لابن جريج: ما تترأ؟ قال كأنه قال، لا لا، ويرد هذا القول من جهة الإعراب أن المجرورين إذا اختلفا لم يكن نعتهما واحدا، ومعناه: إذا اختلفا في العامل، وهذه الآية قد اختلف فيها جنس العامل.

قوله تعالى: {... وربائبكم اللاّتي في حجوركم من نسائكم اللاّتي دخلتم بهنّ فإن لم تكونوا دخلتم بهنّ فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الّذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلاّ ما قد سلف إنّ اللّه كان غفوراً رحيماً (23)}.

الربيبة: بنت امرأة الرجل من غيره، سميت بذلك لأنه يربيها في حجره فهي مربوبته. وربيبة: فعيلة بمعنى مفعولة، وقوله تعالى: اللّاتي في حجوركم ذكر الأغلب في هذه الأمور، إذ هي حالة الربيبة في الأكثر، وهي محرمة وإن كانت في غير الحجر، لأنها في حكم أنها في الحجر، إلا ما روي عن علي أنه قال: تحل إذا لم تكن في الحجر وإن دخل بالأم، إذا كانت بعيدة عنه، ويقال: حجر بكسر الحاء وفتحها، وهو مقدم ثوب الإنسان وما بين يديه منه في حالة اللبس، ثم استعملت اللفظة في الحفظ والستر، لأن اللابس إنما تحفظ طفلا وما أشبهه بذلك الموضع من الثوب، واختلف العلماء في معنى قوله: دخلتم بهنّ فقال ابن عباس وطاوس وابن دينار: الدخول في هذا الموضع الجماع، فإن طلق الرجل بعد البناء وقبل الوطء، فإن ابنتها له حلال، وقال جمهور من العلماء منهم مالك بن أنس وعطاء بن أبي رباح وغيرهم: إن التجريد والتقبيل والمضاجعة وجميع أنواع التلذذ يحرم الابنة كما يحرمها الوطء، والحلائل: جمع حليلة، وهي الزوجة، لأنها تحل مع الرجل حيث حل، فهي فعلية بمعنى فاعلة، وذهب الزجاج وقوم: إلى أنها من لفظة الحلال، فهي حليلة بمعنى محللة، وقوله: الّذين من أصلابكم تخصيص ليخرج عنه كل من كانت العرب تتبناه ممن ليس للصلب، وكان عندهم أمرا كثيرا قوي الحكم، قال عطاء ابن أبي رباح: يتحدث- والله أعلم- أنها نزلت في محمد عليه السلام حين تزوج امرأة زيد بن حارثة، فقال المشركون: قد تزوج امرأة ابنه، فنزلت الآية، وحرمت حليلة الابن من الرضاع وإن لم يكن للصلب بالإجماع المستند إلى قوله صلى الله عليه وسلم، يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، وقوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين إلّا ما قد سلف} لفظ يعم الجمع بنكاح وبملك يمين، وأجمعت الأمة على منع جمعهما بنكاح، وأما بملك يمين، فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: أحلتهما آية، وحرمتهما آية، فأما أنا في خاصة نفسي فلا أرى الجمع بينهما حسنا، وروي نحو هذا عن ابن عباس، ذكره ابن المنذر، وذكر أن إسحاق بن راهويه حرم الجمع بينهما بالوطء، وأن جمهور أهل العلم كرهوا ذلك، وجعل مالكا فيمن كرهه.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ولا خلاف في جواز جمعهما في الملك، وكذلك الأم وبنتها، ويجيء من قول إسحاق أن يرجم الجامع بينهما بالوطء، وتستقرأ الكراهية من قول مالك: «إنه إذا وطئ واحدة ثم وطئ أخرى وقف عنهما حتى يحرم إحداهما فلم يلزمه حدا»، واختلف العلماء بعد القول بالمنع من الجمع بينهما بالوطء، إذا كان يطأ واحدة ثم أراد أن يطأ الأخرى، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عمر والحسن البصري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق: «لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه، ببيع أو عتق أو بأن يزوجها»، قال ابن المنذر: وفيها قول ثان لقتادة، وهو أنه إن كان يطأ واحدة وأراد وطء الأخرى فإنه ينوي تحريم الأولى على نفسه وأن لا يقربها، ثم يمسك عنها حتى يستبرئ الأولى المحرمة، ثم يغشى الثانية.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ومذهب مالك رحمه الله، إذا كان أختان عند رجل يملك، فله أن يطأ أيتهما شاء، والكف عن الأخرى موكول إلى أمانته، فإن أراد وطء الأخرى فيلزمه أن يحرم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله، من إخراج عن الملك، أو تزويج، أو عتق إلى أجل، أو إخدام طويل، فإن كان يطأ إحداهما ثم وثب على الأخرى دون أن يحرم الأولى وقف عنهما ولم يجز له قرب إحداهما حتى يحرم الأخرى، ولم يبق ذلك إلى أمانته، لأنه متهم فيمن قد وطئ، ولم يكن قبل متهما إذ كان لم يطأ إلا الواحدة، وإن كانت عند رجل أمة يطؤها ثم تزوج أختها، ففيها في المذهب ثلاثة أقوال، في النكاح الثالث من المدونة أنه يوقف عنهما إذا وقع عقد النكاح حتى يحرم إحداهما مع كراهيته لهذا النكاح، إذ هو عقد في موضع لا يجوز فيه الوطء، وذلك مكروه إلا في الحيض، لأنه أمر غالب كثير، وفي الباب بعينه قول آخر: إن النكاح لا ينعقد، وقال أشهب في كتاب الاستبراء: عقد النكاح في الواحدة تحريم لفرج المملوكة، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، وأجمعت الأمة على ذلك وقد رأى بعض العلماء أن هذا الحديث ناسخ لعموم قوله تعالى: {وأحلّ لكم ما وراء ذلكم} وذلك لأن الحديث من المتواتر، وكذلك قوله عليه السلام، يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، قيل أيضا إنه ناسخ، وقوله تعالى: إلّا ما قد سلف استثناء منقطع، معناه لكن ما قد سلف من ذلك ووقع وأزاله الإسلام فإن الله يغفره، والإسلام يجبّه). [المحرر الوجيز: 2/507-510]

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({حرّمت عليكم أمّهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعمّاتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمّهاتكم اللّاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرّضاعة وأمّهات نسائكم وربائبكم اللّاتي في حجوركم من نسائكم اللّاتي دخلتم بهنّ فإن لم تكونوا دخلتم بهنّ فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الّذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلّا ما قد سلف إنّ اللّه كان غفورًا رحيمًا (23) والمحصنات من النّساء إلّا ما ملكت أيمانكم كتاب اللّه عليكم وأحلّ لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ أجورهنّ فريضةً ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إنّ اللّه كان عليمًا حكيمًا (24) }
هذه الآية الكريمة هي آية تحريم المحارم من النّسب، وما يتبعه من الرّضاع والمحارم بالصّهر، كما قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أحمد بن سنان، حدّثنا عبد الرّحمن بن مهديٍّ، عن سفيان بن حبيبٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: حرمت عليكم سبعٌ نسبًا، وسبعٌ صهرًا، وقرأ: {حرّمت عليكم أمّهاتكم وبناتكم وأخواتكم} الآية.
وحدّثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيدٍ، حدّثنا أبو أحمد، حدّثنا سفيان، عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاءٍ عن عمير مولى ابن عبّاسٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: يحرم من النّسب سبعٌ ومن الصّهر سبعٌ، ثمّ قرأ: {حرّمت عليكم أمّهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعمّاتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت} فهنّ النّسب.
وقد استدلّ جمهور العلماء على تحريم المخلوقة من ماء الزّاني عليه بعموم قوله تعالى: {وبناتكم}؛ فإنّها بنتٌ فتدخل في العموم، كما هو مذهب أبي حنيفة، ومالكٍ، وأحمد بن حنبلٍ. وقد حكي عن الشّافعيّ شيءٌ في إباحتها؛ لأنّها ليست بنتًا شرعيّةً، فكما لم تدخل في قوله تعالى: {يوصيكم اللّه في أولادكم} فإنّها لا ترث بالإجماع، فكذلك لا تدخل في هذه الآية. واللّه أعلم.
وقوله: {وأمّهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرّضاعة} أي كما تحرم عليك أمّك الّتي ولدتك، كذلك يحرم عليك أمّك الّتي أرضعتك؛ ولهذا روى البخاريّ ومسلمٌ في الصّحيحين من حديث مالك بن أنسٍ، عن عبد اللّه بن أبي بكر بن محمّد بن عمرو بن حزمٍ، عن عمرة بنت عبد الرّحمن، عن عائشة أمّ المؤمنين أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إنّ الرّضاعة تحرّم ما تحرّم الولادة»، وفي لفظٍ لمسلمٍ: «يحرم من الرّضاعة ما يحرم من النّسب».
وقد قال بعض الفقهاء: «كما يحرم بالنّسب يحرم بالرّضاع إلّا في أربع صورٍ». وقال بعضهم: «ستّ صورٍ، هي مذكورةٌ في كتب الفروع». والتّحقيق أنّه لا يستثنى شيءٌ من ذلك؛ لأنّه يوجد مثل بعضها في النّسب، وبعضها إنّما يحرم من جهة الصّهر، فلا يرد على الحديث شيءٌ أصلًا البتّة، وللّه الحمد.
ثمّ اختلف الأئمّة في عدد الرّضعات المحرّمة، فذهب ذاهبون إلى أنّه يحرّم مجرّد الرّضاع لعموم هذه الآية. وهذا قول مالكٍ، ويحكى عن ابن عمر، وإليه ذهب سعيد بن المسيّب، وعروة بن الزّبير، والزّهري.
وقال آخرون:« لا يحرّم أقلّ من ثلاث رضعاتٍ » لما ثبت في صحيح مسلمٍ، من طريق هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: « لا تحرّم المصة والمصّتان».
وقال قتادة، عن أبي الخليل، عن عبد اللّه بن الحارث، عن أمّ الفضل قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم:« لا تحرم الرّضعة ولا الرّضعتان، والمصّة ولا المصّتان »، وفي لفظٍ آخر: « لا تحرّم الإملاجة ولا الإملاجتان » رواه مسلمٌ.
وممّن ذهب إلى هذا القول الإمام أحمد بن حنبلٍ، وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيدٍ، وأبو ثورٍ. ويحكى عن عليٍّ، وعائشة، وأمّ الفضل، وابن الزّبير، وسليمان بن يسارٍ، وسعيد بن جبيرٍ، رحمهم اللّه.
وقال آخرون: «لا يحرّم أقلّ من خمس رضعاتٍ»، لما ثبت في صحيح مسلمٍ من طريق مالكٍ، عن عبد اللّه بن أبي بكرٍ، عن عمرة عن عائشة، رضي اللّه عنها، قالت: «كان فيما أنزل اللّهمن القرآن: عشر رضعاتٍ معلوماتٍ يحرّمن. ثمّ نسخن بخمسٍ معلوماتٍ، فتوفّي رسول اللّه صلّى للّه عليه وسلّم وهنّ فيما يقرأ من القرآن ».
وروى عبد الرّزّاق، عن معمرٍ، عن الزّهريّ، عن عروة، عن عائشة نحو ذلك.
وفي حديث سهلة بنت سهيلٍ: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أمرها أن ترضع مولى أبي حذيفة خمس رضعاتٍ وكانت عائشة تأمر من يريد أن يدخل عليها أن يرضع خمس رضعاتٍ. وبهذا قال الشّافعيّ، رحمه اللّه تعالى وأصحابه. ثمّ ليعلم أنّه لا بدّ أن تكون الرّضاعة في سنّ الصّغر دون الحولين على قول الجمهور. وكما قدّمنا الكلام على هذه المسألة في سورة البقرة، عند قوله: {يرضعن أولادهنّ حولين كاملين لمن أراد أن يتمّ الرّضاعة}.
واختلفوا: هل يحرّم لبن الفحل، كما هو قول جمهور الأئمّة الأربعة وغيرهم؟ وإنّما يختصّ الرّضاع بالأمّ فقط، ولا ينتشر إلى ناحية الأب كما هو لبعض السّلف؟ على قولين، تحرير هذا كلّه في كتاب "الأحكام الكبير ".
وقوله: {وأمّهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ فإن لم تكونوا دخلتم بهنّ فلا جناح عليكم} أمّا أمّ المرأة فإنّها تحرم بمجرّد العقد على ابنتها، سواءٌ دخل بها أو لم يدخل. وأمّا الرّبيبة وهي بنت المرأة فلا تحرم بمجرّد العقد على أمّها حتّى يدخل بها، فإن طلّق الأمّ قبل الدّخول بها جاز له أن يتزوّج بنتها، ولهذا قال: {وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ فإن لم تكونوا دخلتم بهنّ فلا جناح عليكم} أي في تزويجهنّ، فهذا خاصٌّ بالرّبائب وحدهنّ.
وقد فهم بعضهم عود الضّمير إلى الأمّهات و الرّبائب فقال: لا تحرم واحدةٌ من الأم ولا البنت بمجرّد العقد على الأخرى حتّى يدخل بها؛ لقوله: {فإن لم تكونوا دخلتم بهنّ فلا جناح عليكم}.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن بشّارٍ، حدّثنا ابن أبي عديٍّ وعبد الأعلى، عن سعيدٍ عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن عليٍّ، رضي اللّه عنه، في رجلٍ تزوّج امرأةً فطلّقها قبل أن يدخل بها، أيتزوّج أمّها؟ قال:«هي بمنزلة الرّبيبة».
وحدّثنا ابن بشّارٍ حدّثنا يحيى بن سعيدٍ، عن قتادة، عن سعيد بن المسيّب، عن زيد بن ثابتٍ قال: « إذا طلّق الرّجل امرأته قبل أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوّج أمّها».
وفي روايةٍ عن قتادة، عن سعيدٍ، عن زيد بن ثابتٍ؛ أنّه كان يقول:« إذا ماتت عنده وأخذ ميراثها كره أن يخلف على أمّها، فإذا طلّقها قبل أن يدخل بها فإن شاء فعل».
وقال ابن المنذر: حدّثنا إسحاق، عن عبد الرّزّاق، عن ابن جريجٍ قال: أخبرني أبو بكر بن حفصٍ، عن مسلم بن عويمرٍ الأجدع أنّ بكر بن كنانة أخبره أنّ أباه أنكحه امرأةً بالطّائف قال:« فلم أجامعها حتّى توفّي عمي عن أمّها، وأمّها ذات مالٍ كثيرٍ، فقال أبي: هل لك في أمّها؟ قال: فسألت ابن عبّاسٍ وأخبرته الخبر فقال: انكح أمّها. قال: فسألت ابن عمر فقال: لا تنكحها. فأخبرت أبي ما قال ابن عبّاسٍ وما قال ابن عمر، فكتب إلى معاوية وأخبره في كتابه بما قال ابن عمر وابن عبّاسٍ فكتب معاوية: إنّي لا أحلّ ما حرم اللّه، ولا أحرّم ما أحلّ [اللّه] وأنت وذاك والنّساء سواها كثيرٌ. فلم ينه ولم يأذن لي، فانصرف أبي عن أمّها فلم ينكحها ».
وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمر، عن سماك بن الفضل، عن رجلٍ، عن عبد اللّه بن الزّبير قال: الرّبيبة والأمّ سواءٌ، لا بأس بها إذا لم يدخل بالمرأة. وفي إسناده رجلٌ مبهمٌ لم يسمّ.
وقال ابن جريجٍ أخبرني عكرمة بن خالدٍ أنّ مجاهدًا قال له: {وأمّهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم} أراد بهما الدّخول جميعًا فهذا القول مرويٌّ كما ترى عن عليٍّ، وزيد بن ثابتٍ، وعبد اللّه بن الزّبير، ومجاهدٍ، وابن جبيرٍ وابن عبّاسٍ، وقد توقّف فيه معاوية، وذهب إليه من الشّافعيّة أبو الحسن أحمد بن محمّد بن الصّابونيّ، فيما نقله الرّافعيّ عن العبّاديّ.وقد خالفه جمهور العلماء من السّلف والخلف، فرأوا أنّ الرّبيبة لا تحرم بمجرّد العقد على الأمّ، وأنّها لا تحرم إلّا بالدّخول بالأمّ، بخلاف الأمّ فإنّها تحرم بمجرّد العقد على الرّبيبة.
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا جعفر بن محمّد بن هارون بن عزرة حدّثنا عبد الوهّاب، عن سعيدٍ، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: أنّه كان يقول إذا طلّق الرّجل امرأةً قبل أن يدخل بها أو ماتت لم تحلّ له أمّها، أنّه قال: إنّها مبهمةٌ، فكرهها.
ثمّ قال: وروي عن ابن مسعودٍ، وعمران بن حصين، ومسروقٍ، وطاوسٍ، وعكرمة، وعطاءٍ، والحسن، ومكحولٍ، وابن سيرين، وقتادة، والزّهريّ نحو ذلك. وهذا مذهب الأئمّة الأربعة والفقهاء السّبعة، وجمهور الفقهاء قديمًا وحديثًا، وللّه الحمد والمنّة.
قال ابن جريرٍ: والصّواب، أعني قول من قال: "الأمّ من المبهمات"؛ لأنّ اللّه لم يشرط معهنّ الدّخول كما شرط ذلك مع أمّهات الرّبائب، مع أنّ ذلك أيضًا إجماعٌ من الحجّة الّتي لا يجوز خلافها فيما جاءت به متّفقةً عليه. وقد روي بذلك أيضًا عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم خبرٌ، غير أنّ في إسناده نظرًا، وهو ما حدّثني به المثنّى، حدّثنا حبّان بن موسى، حدّثنا ابن المبارك، أخبرنا المثنّى بن الصّبّاح، عن عمرو بن شعيبٍ عن أبيه، عن جده عن النبي صلىالله عليه وسلّم قال: إذا نكح الرّجل المرأة فلا يحلّ له أن يتزوّج أمّها، دخل بالبنت أو لم يدخل، وإذا تزوّج الأمّ فلم يدخل بها ثمّ طلّقها، فإن شاء تزوّج الابنة.
ثمّ قال: وهذا الخبر، وإن كان في إسناده ما فيه، فإنّ في إجماع الحجّة على صحّة القول به مستغنى عن الاستشهاد على صحّته بغيره.
وأمّا قوله: {وربائبكم اللاتي في حجوركم} فجمهور الأئمّة على أنّ الرّبيبة حرامٌ سواءٌ كانت في حجر الرّجل أو لم تكن في حجره، قالوا: وهذا الخطاب خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له كقوله تعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصّنًا}.
وفي الصّحيحين أنّ أمّ حبيبة قالت: يا رسول اللّه، انكح أختي بنت أبي سفيان -وفي لفظٍ لمسلمٍ: عزّة بنت أبي سفيان-قال: "أو تحبّين ذلك؟ " قالت: نعم، لست لك بمخلية، وأحبّ من شاركني في خيرٍ أختي. قال: "فإنّ ذلك لا يحل لي". قالت: فإنّا نحدث أنّك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة. قال بنت أمّ سلمة؟ " قالت نعم. قال:« إنّها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلّت لي، إنّها لبنت أخي من الرّضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة فلا تعرضن عليّ بناتكنّ ولا أخواتكنّ». وفي روايةٍ للبخاريّ: « إنّي لو لم أتزوّج أمّ سلمة ما حلّت لي».
فجعل المناط في التّحريم مجرّد تزويجه أمّ سلمة وحكم بالتّحريم لذلك، وهذا هو مذهب الأئمّة الأربعة والفقهاء السّبعة وجمهور الخلف والسّلف. وقد قيل بأنّه لا تحرم الرّبيبة إلّا إذا كانت في حجر الرّجل، فإذا لم يكن كذلك فلا تحرم.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا إبراهيم بن موسى، أنبأنا هشامٌ -يعني ابن يوسف-عن ابن جريجٍ، حدّثني إبراهيم بن عبيد بن رفاعة، أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان قال: «كانت عندي امرأةٌ فتوفّيت، وقد ولدت لي، فوجدت عليها، فلقيني عليّ بن أبي طالبٍ فقال: مالك؟ فقلت: توفّيت المرأة. فقال عليٌّ: لها ابنةٌ؟ قلت: نعم، وهي بالطّائف. قال: كانت في حجرك؟ قلت: لا هي بالطّائف قال: فانكحها. قلت: فأين قول اللّه عزّ وجلّ {وربائبكم اللاتي في حجوركم} قال: إنّها لم تكن في حجرك، إنّما ذلك إذا كانت في حجرك».
هذا إسنادٌ قويٌّ ثابتٌ إلى عليّ بن أبي طالبٍ، على شرط مسلمٍ، وهو قولٌ غريبٌ جدًّا، وإلى هذا ذهب داود بن عليٍّ الظّاهريّ وأصحابه. وحكاه أبو القاسم الرّافعيّ عن مالكٍ، رحمه اللّه، واختاره ابن حزمٍ، وحكى لي شيخنا الحافظ أبو عبد اللّه الذّهبيّ أنّه عرض هذا على الشّيخ الإمام تقيّ الدّين ابن تيمية، رحمه اللّه، فاستشكله، وتوقّف في ذلك، واللّه أعلم.
وقال ابن المنذر: حدّثنا عليّ بن عبد العزيز، حدّثنا الأثرم، عن أبي عبيدة قوله: {اللاتي في حجوركم} قال:«في بيوتكم».
وأمّا الرّبيبة في ملك اليمين فقد قال الإمام مالك بن أنسٍ، عن ابن شهابٍ: أنّ عمر بن الخطّاب سئل عن المرأة وبنتها من ملك اليمين توطأ إحداهما بعد الأخرى؟ فقال عمر:« ما أحبّ أن أخبرهما جميعًا». يريد أن أطأهما جميعًا بملك يميني. وهذا منقطعٌ.
وقال سنيد بن داود في تفسيره: حدّثنا أبو الأحوص، عن طارق بن عبد الرّحمن عن قيسٍ قال: قلت لابن عبّاسٍ: أيقع الرّجل على امرأةٍ وابنتها مملوكين له؟ فقال: أحلّتهما آيةٌ وحرّمتهما آيةٌ، ولم أكن لأفعله.
قال الشّيخ أبو عمر بن عبد البرّ، رحمه اللّه: لا خلاف بين العلماء أنّه لا يحلّ لأحدٍ أن يطأ امرأةً وابنتها من ملك اليمين، لأنّ اللّه حرّم ذلك في النّكاح، قال: {وأمّهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم} وملك اليمين هم تبعٌ للنّكاح، إلّا ما روي عن عمر وابن عبّاسٍ، وليس على ذلك أحدٌ من أئمّة الفتوى ولا من تبعهم. وروى هشامٌ عن قتادة: بنت الرّبيبة وبنت ابنتها لا تصلح وإن كانت أسفل ببطونٍ كثيرةٍ. وكذا قال قتادة عن أبي العالية.
ومعنى قوله تعالى: {اللاتي دخلتم بهنّ} أي: نكحتموهنّ. قاله ابن عبّاسٍ وغير واحدٍ.
وقال ابن جريجٍ عن عطاءٍ: هو أن تهدى إليه فيكشف ويفتّش ويجلس بين رجليها. قلت: أرأيت إن فعل ذلك في بيت أهلها. قال: هو سواءٌ، وحسبه قد حرم ذلك عليه ابنتها.
وقال ابن جريرٍ: وفي إجماع الجميع على أنّ خلوة الرّجل بامرأته لا يحرم ابنتها عليه إذا طلّقها قبل مسيسها ومباشرتها أو قبل النّظر إلى فرجها بشهوةٍ، ما يدلّ على أنّ معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع.
وقوله: {وحلائل أبنائكم الّذين من أصلابكم} أي: وحرمت عليكم زوجات أبنائكم الّذين ولّدتموهم من أصلابكم، يحترز بذلك عن الأدعياء الّذين كانوا يتبنونهم في الجاهليّة، كما قال تعالى: {فلمّا قضى زيدٌ منها وطرًا زوّجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرجٌ في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهنّ وطرًا}.
وقال ابن جريج: سألت عطاءً عن قوله: {وحلائل أبنائكم الّذين من أصلابكم} قال: كنّا نحدّث، واللّه أعلم، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا نكح امرأة زيدٍ، قال المشركون بمكّة في ذلك، فأنزل اللّه عزّ وجلّ {وحلائل أبنائكم الّذين من أصلابكم} ونزلت: {وما جعل أدعياءكم أبناءكم}. ونزلت: {ما كان محمّدٌ أبا أحدٍ من رجالكم}.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا محمّد بن أبي بكرٍ المقدّميّ، حدّثنا الجرح بن الحارث، عن الأشعث، عن الحسن بن محمّدٍ أنّ هؤلاء الآيات مبهماتٍ: {وحلائل أبنائكم} {أمّهات نسائكم} ثمّ قال: وروي عن طاوسٍ وإبراهيم والزّهريّ ومكحولٍ نحو ذلك.
قلت: معنى مبهماتٍ: أي عامّةٍ في المدخول بها وغير المدخول، فتحرم بمجرّد العقد عليها، وهذا متّفقٌ عليه. فإن قيل: فمن أين تحرم امرأة ابنه من الرّضاعة، كما هو قول الجمهور، ومن النّاس من يحكيه إجماعًا وليس من صلبه؟ فالجواب من قوله صلّى اللّه عليه وسلّم: "يحرم من الرّضاع ما يحرم من النّسب".
وقوله: {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إنّ اللّه كان غفورًا رحيمًا} أي: وحرّم عليكم الجمع بين الأختين معًا في التّزويج، وكذا في ملك اليمين إلّا ما كان منكم في جاهليّتكم فقد عفونا عن ذلك وغفرناه. فدلّ على أنّه لا مثنويّة فيما يستقبل ولا استثناء فيما سلف، كما قال: {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} فدلّ على أنّهم لا يذوقون فيها الموت أبدًا. وقد أجمع العلماء من الصّحابة والتّابعين والأئمّة قديمًا وحديثًا على أنّه يحرم الجمع بين الأختين في النّكاح، ومن أسلم وتحته أختان خيّر، فيمسك إحداهما ويطلّق الأخرى لا محالة.
قال الإمام أحمد بن حنبلٍ: حدّثنا موسى بن داود حدّثنا ابن لهيعة عن أبي وهب الجيشاني عن الضّحّاك بن فيروز، عن أبيه قال: أسلمت وعندي امرأتان أختان، فأمرني النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أن أطلّق إحداهما.
ثمّ رواه الإمام أحمد، والتّرمذيّ، وابن ماجه، من حديث ابن لهيعة. وأخرجه أبو داود والتّرمذيّ أيضًا من حديث يزيد بن أبي حبيبٍ، كلاهما عن أبي وهبٍ الجيشاني. قال التّرمذيّ: واسمه ديلم بن الهوشع، عن الضّحّاك بن فيروز الدّيلميّ، عن أبيه، به وفي لفظٍ للتّرمذيّ: فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: « اختر أيّتهما شئت». ثمّ قال التّرمذيّ: هذا حديثٌ حسنٌ.
وقد رواه ابن ماجه أيضًا بإسنادٍ آخر فقال: حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدّثنا عبد السّلام بن حربٍ، عن إسحاق بن عبد اللّه بن أبي فروة، عن أبي وهبٍ الجيشانيّ عن أبي خراشٍ الرّعيني قال: قدمت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وعندي أختان تزوجتهما في الجاهليّة، فقال: « إذا رجعت فطلق إحداهما».
قلت: فيحتمل أنّ أبا خراشٍ هذا هو الضّحّاك بن فيروز، ويحتمل أن يكون غيره، فيكون أبو وهبٍ قد رواه عن اثنين، عن فيروز الدّيلميّ، واللّه أعلم.
وقال ابن مردويه: حدّثنا عبد اللّه بن يحيى بن محمّد بن يحيى، حدّثنا أحمد بن يحيى الخولانيّ حدّثنا هيثم بن خارجة، حدّثنا يحيى بن إسحاق، عن إسحاق بن عبد اللّه بن أبي فروة عن رزيق بن حكيمٍ، عن كثير بن مرّة، عن الدّيلميّ قال: قلت: يا رسول اللّه، إنّ تحتي أختين؟ قال: «طلق أيّهما شئت».
فالدّيلميّ المذكور أوّلًا هو الضّحّاك بن فيروز الدّيلميّ رضي اللّه عنه قال أبو زرعة الدّمشقيّ: كان يصحب عبد الملك بن مروان، والثّاني هو أبو فيروز الدّيلميّ، رضي اللّه عنه، وكان من جملة الأمراء باليمن الّذين ولّوا قتل الأسود العنسيّ المتنبّئ لعنه اللّه.
وأمّا الجمع بين الأختين في ملك اليمين فحرامٌ أيضًا لعموم الآية، وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا موسى بن إسماعيل، حدّثنا حمّاد بن سلمة، عن قتادة، عن عبد اللّه بن أبي عنبة -أو عتبة عن ابن مسعودٍ: أنّه سئل عن الرّجل يجمع بين الأختين، فكرهه، فقال له-يعني السّائل-: يقول اللّه عزّ وجلّ: {إلا ما ملكت أيمانكم} فقال له ابن مسعودٍ: وبعيرك مما ملكت يمينك.
وهذا هو المشهور عن الجمهور والأئمّة الأربعة وغيرهم، وإن كان بعض السّلف قد توقّف في ذلك. قال الإمام مالكٌ، عن ابن شهابٍ، عن قبيصة بن ذؤيب: أنّ رجلًا سأل عثمان بن عفّانٍ عن الأختين في ملك اليمين، هل يجمع بينهما؟ فقال عثمان: أحلّتهما آيةٌ وحرمتهما آيةٌ، وما كنت لأصنع ذلك، فخرج من عنده فلقي رجلًا من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فسأله عن ذلك فقال: لو كان لي من الأمر شيءٌ ثمّ وجدت أحدًا فعل ذلك لجعلته نكالًا. قال مالكٌ: قال ابن شهابٍ: أراه عليّ بن أبي طالبٍ: قال: وبلغني عن الزّبير بن العوّام مثل ذلك.
قال الشّيخ أبو عمر بن عبد البرّ النّمري، رحمه اللّه، في كتابه "الاستذكار": إنّما كنّى قبيصة بن ذؤيب عن عليّ بن أبي طالبٍ، لصحبته عبد الملك بن مروان، وكانوا يستثقلون ذكر عليّ بن أبي طالبٍ، رضي اللّه عنه.
ثمّ قال أبو عمر، رحمه اللّه: حدّثني خلف بن أحمد، رحمه اللّه، قراءةً عليه: أنّ خلف بن مطرّفٍ حدّثهم: حدّثنا أيّوب بن سليمان وسعيد بن سليمان ومحمّد بن عمر بن لبابة قالوا: حدّثنا أبو زيدٍ عبد الرّحمن بن إبراهيم، حدّثنا أبو عبد الرّحمن المقريّ عن موسى بن أيّوب الغافقيّ، حدّثني عمّي إياس بن عامرٍ قال: سألت عليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنه فقلت: إنّ لي أختين ممّا ملكت يميني، اتّخذت إحداهما سرّيّةً فولدت لي أولادًا، ثمّ رغبت في الأخرى، فما أصنع؟ فقال عليٌّ، رضي اللّه عنه: تعتق الّتي كنت تطأ ثمّ تطأ الأخرى. قلت: فإنّ ناسًا يقولون: بل تزوّجها ثمّ تطأ الأخرى. فقال عليٌّ: أرأيت إن طلّقها زوجها أو مات عنها أليس ترجع إليك؟ لأن تعتقها أسلم لك. ثمّ أخذ عليٌّ بيدي فقال لي: إنّه يحرم عليك ما ملكت يمينك ما يحرم عليك في كتاب اللّه عزّ وجلّ من الحرائر إلّا العدد -أو قال: إلّا الأربع-ويحرم عليك من الرّضاع ما يحرم عليك في كتاب اللّه من النّسب.
ثمّ قال أبو عمر:«هذا الحديث رحلةٌ لو لم يصب الرّجل من أقصى المشرق أو المغرب إلى مكّة غيره لما خابت رحلته».
قلت: وقد روي عن عليٍّ نحو ما تقدّم عن عثمان، وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدّثنا محمّد بن العبّاس، حدّثني محمّد بن عبد اللّه بن المبارك المخرّميّ حدّثنا عبد الرّحمن بن غزوان، حدّثنا سفيان، عن عمرو بن دينارٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: قال لي عليّ بن أبي طالبٍ: «حرّمتهما آيةٌ وأحلّتهما آيةٌ -يعني الأختين-». قال ابن عبّاسٍ: «يحرّمهنّ عليّ قرابتي منهنّ، ولا يحرّمهنّ علىّ قرابة بعضهنّ من بعضٍ -يعني الإماء-».وكانت الجاهليّة يحرّمون ما تحرّمون إلّا امرأة الأب والجمع بين الأختين، فلمّا جاء الإسلام أنزل الله عز وجلّ {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النّساء إلا ما قد سلف} {وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف} يعني: في النّكاح.
ثمّ قال أبو عمر: روى الإمام أحمد بن حنبلٍ: حدّثنا محمّد بن سلمة، عن هشامٍ، عن ابن سيرين، عن ابن مسعودٍ قال: يحرم من الإماء ما يحرم من الحرائر إلّا العدد. وعن ابن سيرين والشّعبيّ مثل ذلك.
قال أبو عمر، رحمه اللّه: وقد روي مثل قول عثمان عن طائفةٍ من السّلف، منهم: ابن عبّاسٍ، ولكنّهم اختلف عليهم، ولم يلتفت إلى ذلك أحدٌ من فقهاء الأمصار والحجاز ولا بالعراق ولا ما وراءهما من المشرق ولا بالشّام ولا المغرب، إلّا من شذّ عن جماعتهم باتّباع الظّاهر ونفي القياس، وقد ترك من يعمل ذلك ما اجتمعنا عليه، وجماعة الفقهاء متّفقون على أنّه لا يحلّ الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء، كما لا يحلّ ذلك في النّكاح. وقد أجمع المسلمون على أنّ معنى قوله تعالى {حرّمت عليكم أمّهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعمّاتكم وخالاتكم} إلى آخر الآية: أنّ النّكاح وملك اليمين في هؤلاء كلّهنّ سواءٌ، فكذلك يجب أن يكون نظرًا وقياسًا الجمع بين الأختين وأمّهات النّساء والرّبائب. وكذلك هو عند جمهورهم، وهم الحجّة المحجوج بها من خالفها وشذّ عنها، واللّه المحمود). [تفسير القرآن العظيم: 2/247-256]

تفسير قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله: {والمحصنات من النّساء إلّا ما ملكت أيمانكم كتاب اللّه عليكم وأحلّ لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ أجورهنّ فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إنّ اللّه كان عليما حكيما}القراءة بالفتح.
قد أجمع على: الفتح في هذه، لأن معناها: اللاتي أحصنّ بالأزواج. ولو قرئت والمحصنات لجاز، لأنهنّ يحصنّ فروجهن بأن يتزوجن.
وقد قرئت التي سوى هذه " المحصنات " و " والمحصنات ".
{إلا ما ملكت أيمانكم}أي: إن ملك الرجل محصنة في بلاد الشرك فله أن يطأها، إلا أن جميع الوطء لا يكون في ملك اليمين إلا عن استبراء، وقد قال بعضهم: إن الرجل إذا ملك جارية وكانت متزوجة فبيعها وملكها قد أحلّ فرجها، وإن لم تكن أحصنت في بلاد الشرك، والتفسير على ما وصفنا في ذوات الأزواج في الشرك.
وقوله:
{كتاب اللّه عليكم}منصوب على التوكيد محمول على المعنى، لأن معنى قوله: {حرّمت عليكم أمّهاتكم} كتب الله عليكم هذا كتابا
كما قال الشاعر:

ورضت فذلت صعبة أي إذلال

لأن معنى رضت أذللت.
وقد يجوز أن يكون: منصوبا على جهة الأمر، ويكون {عليكم} مفسرا له، فيكون المعنى ألزموا كتاب اللّه.

ولا يجوز أن يكون: منصوبا ب {عليكم}، لأن قولك: عليك زيدا، ليس له ناصب متصرف فيجوز تقديم منصوبه.

وقول الشاعر:

يا أيّها المائح دلوي دونكا...... إني رأيت الناس يحمدونكا

يجوز أن يكون " دلوي " في موضع نصب بإضمار خذ دلوي، ولا يجوز على أن يكون دونك دلوى لما شرحناه.
ويجوز أن يكون " دلوي " في موضع رفع، والمعنى هذا دلوي دونكا.
ويجوز أن يكون {كتاب اللّه عليكم} رفعا على معنى هذا فرض اللّه عليكم، كما قال جلّ وعزّ:
{لم يلبثوا إلّا ساعة من نهار بلاغ}.
وقوله:
{وأحلّ لكم ما وراء ذلكم}.
و {أحلّ} أيضا يقرآن جميعا، ومعنى {ما وراء ذلكم}: ما بعد ذلكم، أي: ما بعد هذه الأشياء التي حرمت حلال، على ما شرع اللّه، إلا أن السنة قد حرمت تزوج المرأة على عمتها، وكذلك تزوجها على خالتها، ولم يقل اللّه - عزّ وجلّ -: لا أحرم عليكم غير هذا.

وقال عزّ وجلّ:
{وما آتاكم الرّسول فخذوه}.
وأتوهّم أن الخالة كالوالدة، وأن العمّة كالوالد، لأن الوالد في وجوب الحق كالوالدة، وتزوجها على عمتها وخالتها من أعظم العقوق.
وقوله عزّ وجلّ:
{أن تبتغوا بأموالكم} نصب وإن شئت رفع.
المعنى: أحلّ لكم أن تبتغوا محصنين غير مسافحين، أي: عاقدين التزويج غير مسافحين، أي: غير زناة، والمسافح والمسافحة الزانيان غير الممتنعين من الزنا، فإذا كانت تزني بواحد فهي ذات خدن.
فحرّم الله الزنا على الجهات كلها، على السفاح وعلى اتخاذ الصديق.
والإحصان: إحصان الفرج وهو إعفافه، يقال امرأة حصان بينة الحصن، وفرس حصان بينة (التحصن) والتحصين وبناء حصين بيّن الحصانة، ولو قيل في كله الحصانة لكان بإجماع.
والسفاح في الزنا اشتق من قولهم سفحت الشيء إذا صببته، وأمر الزنا سفاح لأنه جار على غير عقد، كأنّه بمنزلة السفوح الذي لا يحبسه شيء.
وقوله:
{فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ أجورهنّ فريضة} هذه آية قد غلط فيها قوم غلطا عظيما جدا لجهلهم باللغة، وذلك أنهم ذهبوا إلى أن قوله: {فما استمتعتم به منهنّ} من المتعة التي قد أجمع أهل الفقه أنها حرام.
وإنما معنى قوله {فما استمتعتم به منهنّ} أي: فما نكحتموه، على الشريطة التي جرت في الآية، آية الإحصان: {أن تبتغوا بأموالكم محصنين}، أي: عاقدين التزويج الذي جرى ذكره.
{فآتوهنّ أجورهنّ فريضة} أي: مهورهن، فإن استمتع بالدخول بها أعطى المهر تامّا، وإن استمتع بعقد النكاح آتى نصف المهر.
والمتاع في اللغة: كل ما انتفع به، فهو متاع.
وقوله عزّ وجل، في غير هذا الموضع: {ومتعوهنّ على الموسع قدره} ليس بمعنى زوجوهنّ: المتع، إنما المعنى: أعطوهن ما يستمتعن به.
وكذلك قوله:
{للمطلقات متاع بالمعروف}ومن زعم أن قوله: {فما استمتعتم به منهنّ} المتعة التي هي الشرط في التمتع الذي تعمله الرافضة فقد أخطأ خطأ عظيما، لأن الآية واضحة بينة.
وقوله عزّ وجلّ:
{ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة} أي: لا إثم عليكم في أن تهب المرأة للرجل مهرها، أو يهب الرجل للمرأة التي لم يدخل بها نصف المهر الذي لا يجب إلا لمن دخل بها.
{إنّ اللّه كان عليما حكيما} أي: عليما بما يصلح أمر العباد - حكيما فيما فرض لهم من عقد النكاح الذي حفظت به الأموال والأنساب). [معاني القرآن: 2/35-39]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: {والمحصنات من النّساء إلاّ ما ملكت أيمانكم كتاب اللّه عليكم وأحلّ لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ أجورهنّ فريضةً ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إنّ اللّه كان عليماً حكيماً (24)}

قوله عز وجل: والمحصنات عطف على المحرمات قبل، والتحصن: التمنع، يقال حصن المكان: إذا امتنع، ومنه الحصن، وحصنت المرأة: امتنعت بوجه من وجوه الامتناع، وأحصنت نفسها، وأحصنها غيرها، والإحصان تستعمله العرب في أربعة أشياء، وعلى ذلك تصرفت اللفظة في كتاب الله عز وجل، فتستعمله في الزواج، لأن ملك الزوجة منعة وحفظ، ويستعملون الإحصان في الحرية لأن الإماء كان عرفهن في الجاهلية الزنا، والحرة بخلاف ذلك، ألا ترى إلى قول هند بنت عتبة للنبي عليه السلام، حين بايعته، وهل تزني الحرة؟ فالحرية منعة وحفظ، ويستعملون الإحصان في الإسلام لأنه حافظ، ومنه قول النبي عليه السلام «الإيمان قيد الفتك» ومنه قول الهذلي:


فليس كعهد الدّار يا أمّ مالك ...... ولكن أحاطت بالرّقاب السّلاسل

ومنه قول الشاعر:

قالت هلمّ إلى الحديث فقلت لا ...... يأبى عليك الله والإسلام

ومنه قول سحيم:

... ... ... ... ....كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا

ومنه قول أبي حية:

رمتني وستر الله بيني وبينها

فإن أحد الأقوال في الستر أنه أراد به الإسلام، ويستعملون الإحصان في العفة، لأنه إذا ارتبط بها إنسان وظهرت على شخص ما وتخلق بها، فهي منعة وحفظ، وحيثما وقعت اللفظة في القرآن فلا تجدها تخرج عن هذه المعاني، لكنها قد تقوى فيها بعض هذه المعاني دون بعض، بحسب موضع وموضع، وسيأتي بيان ذلك في أماكنه إن شاء الله.

فقوله في هذه الآية والمحصنات، قال ابن عباس وأبو قلابة وابن زيد ومكحول والزهري وأبو سعيد الخدري: «هن ذوات الأزواج، أي هن محرمات، إلا ما ملكت اليمين بالسبي، من أرض الحرب، فإن تلك حلال للذي تقع في سهمه، وإن كان لها زوج»، وروى أبو سعيد الخدري: أن الآية نزلت بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا إلى أوطاس فلقوا عدوا وأصابوا سبيا لهن أزواج من المشركين، فتأثم المسلمون من غشيانهن، فنزلت الآية مرخصة، وقال عبد الله بن مسعود وسعيد بن المسيب والحسن ابن أبي الحسن وأبيّ بن كعب وجابر بن عبد الله وابن عباس أيضا: «معنى المحصنات ذوات الأزواج، فهن حرام إلا أن يشتري الرجل الأمة ذات الزوج، فإن بيعها طلاقها، وهبتها طلاقها والصدقة بها طلاقها، وأن تعتق طلاقها، وأن تورث طلاقها، وتطليق الزوج طلاقها»، وقال ابن مسعود: « إذا بيعت الأمة ولها زوج فالمشتري أحقّ ببضعها»، ومذهب مالك والشافعي وجمهور العلماء أن انتقال الملك في الأمة لا يكون طلاقا، ولا طلاق لها إلا الطلاق، وقال قوم: المحصنات في هذه الآية العفائف، أي كل النساء حرام، وألبسهن اسم الإحصان، إذ الشرائع في أنفسها تقتضي ذلك، إلّا ما ملكت أيمانكم قالوا: معناه بنكاح أو شراء، كل ذلك تحت ملك اليمين، قال بهذا القول أبو العالية وعبيدة السلماني وطاوس وسعيد بن جبير وعطاء، ورواه عبيدة عن عمر رضي الله عنه، وقال ابن عباس: « المحصنات العفائف من المسلمين ومن أهل الكتاب».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وبهذا التأويل يرجع معنى الآية إلى تحريم الزنا، وأسند الطبري عن عروة أنه قال في تأويل قوله تعالى: والمحصنات: هن الحرائر، ويكون إلّا ما ملكت أيمانكم معناه بنكاح، هذا على اتصال الاستثناء، وإن أريد الإماء فيكون الاستثناء منقطعا، وروي عن أبي سعيد الخدري أنه قال:«كان نساء يأتيننا مهاجرات، ثم يهاجر أزواجهن فمنعناهن بقوله تعالى: والمحصنات الآية».

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول يرجع إلى ما قد ذكر من الأقوال، وأسند الطبري أن رجلا قال لسعيد بن جبير: أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية والمحصنات من النّساء فلم يقل فيها شيئا؟ فقال سعيد: كان ابن عباس لا يعلمها، وأسند أيضا عن مجاهد أنه قال: لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل، قوله: والمحصنات إلى قوله: حكيماً.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ولا أدري كيف نسب هذا القول إلى ابن عباس ولا كيف انتهى مجاهد إلى هذا القول؟ وروي عن ابن شهاب أنه سئل عن هذه الآية والمحصنات من النّساء فقال: يروى أنه حرم في هذه الآية ذوات الأزواج والعفائف من حرائر ومملوكات، ولم يحل شيئا من ذلك إلا بالنكاح أو الشراء والتملك، وهذا قول حسن عمم لفظ الإحسان ولفظ ملك اليمين، وعلى هذا التأويل يتخرج عندي قول مالك في الموطأ، فإنه قال: هن ذوات الأزواج، وذلك راجع إلى أن الله حرم الزنا، ففسر الإحصان بالزواج، ثم عاد عليه بالعفة، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر وحمزة، «والمحصنات» بفتح الصاد في كل القرآن، وقرأ الكسائي كذلك في هذا الموضع وحده، وقرأ سائر ما في القرآن المحصنات بكسر الصاد «ومحصنات» كذلك، وروي عن علقمة أنه قرأ جميع ما في القرآن بكسر الصاد، ففتح الصاد هو على معنى أحصنهن غيرهن من زوج أو إسلام أو عفة أو حرية وكسر الصاد هو على معنى أنهن أحصنّ أنفسهن بهذه الوجوه أو ببعضها، وقرأ يزيد بن قطيب «والمحصنات» بضم الصاد، وهذا على إتباع الضمة الضمة، وقرأ جمهور الناس «كتاب الله» وذلك نصب على المصدر المؤكد، وقرأ أبو حيوة

ومحمد بن السميفع اليماني «كتب الله عليكم» على الفعل الماضي المسند إلى اسم الله تعالى، وقال عبيدة السلماني وغيره: قوله: كتاب اللّه عليكم إشارة إلى ما ثبت في القرآن من قوله: {مثنى وثلاث ورباع} وفي هذا بعد، والأظهر أن قوله كتاب اللّه عليكم إنما هو إشارة إلى التحريم الحاجز بين الناس وبين ما كانت العرب تفعله، واختلفت عبارة المفسرين في قوله تعالى: وأحلّ لكم ما وراء ذلكم فقال السدي:« المعنى وأحل لكم ما دون الخمس، أن تبتغوا بأموالكم، على وجه النكاح»، وقال نحوه عبيدة السلماني، وقال عطاء وغيره: المعنى «وأحل لكم ما وراء» من حرم من سائر القرابة، فهن حلال لكم تزويجهن، وقال قتادة: المعنى: وأحلّ لكم ما وراء ذلكم من الإماء.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ولفظ الآية يعم جميع هذه الأقوال، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «وأحل لكم» بفتح الألف والحاء، وهذه مناسبة لقوله كتاب اللّه إذ المعنى كتب الله ذلك كتابا، وقرأ حمزة والكسائي «وأحل» بضم الهمزة وكسر الحاء وهذه مناسبة لقوله: حرّمت عليكم والوراء في هذه الآية ما يعتبر أمره بعد اعتبار المحرمات، فهن وراء أولئك بهذا الوجه، وأن تبتغوا بأموالكم، لفظ يجمع التزوج والشراء وأن في موضع نصب، وعلى قراءة حمزة في موضع رفع، ويحتمل النصب بإسقاط الباء، ومحصنين، معناه متعففين أي تحصنون أنفسكم بذلك غير مسافحين، أي غير زناة، والسفاح: الزنا، وهو مأخوذ من سفح الماء أي صبه وسيلانه، ولزم هذا الاسم الزنا ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع الدفاف في عرس: هذا النكاح لا السفاح ولا نكاح السر، واختلف المفسرون في معنى قوله: فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ أجورهنّ فريضةً فقال ابن عباس ومجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم: «المعنى فإذا استمتعتم بالزوجة ووقع الوطء ولو مرة فقد وجب إعطاء الأجر، وهو المهر كله، ولفظة فما تعطي أن بيسير الوطء يجب إيتاء الأجر»، وروي عن ابن عباس أيضا ومجاهد والسدي وغيرهم: «أن الآية في نكاح المتعة»، وقرأ ابن عباس وأبيّ بن كعب وسعيد بن جبير، «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهنّ أجورهن» وقال ابن عباس لأبي نضرة: هكذا أنزلها الله عز وجل، وروى الحكم بن عتيبة، أن عليا رضي الله عنه قال: لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقيّ، وقد كانت المتعة في صدر الإسلام، ثم نهى عنها النبي عليه السلام، وقال ابن المسيب: نسختها آية الميراث، إذ كانت المتعة لا ميراث فيها، وقيل قول الله تعالى: {يا أيّها النّبيّ إذا طلّقتم النّساء فطلّقوهنّ لعدّتهنّ}. وقالت عائشة: نسخها قوله: والّذين هم لفروجهم حافظون إلّا على أزواجهم ولا زوجية مع الأجل ورفع الطلاق، والعدة، والميراث، وكانت: أن يتزوج الرجل المرأة بشاهدين وإذن الولي إلى أجل مسمى، وعلى أن لا ميراث بينهما، ويعطيها ما اتفقا عليه، فإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل، وتستبرئ رحمها لأن الولد لاحق فيه بلا شك، فإن لم تحمل حلت لغيره.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وفي كتاب النحاس: في هذا خطأ فاحش في اللفظ، يوهم أن الولد لا يلحق في نكاح المتعة، وحكى المهدوي عن ابن المسيب: أن نكاح المتعة كان بلا ولي ولا شهود، وفيما حكاه ضعف، وفريضةً نصب على المصدر في موضع الحال، واختلف المفسرون في معنى قوله: {ولا جناح عليكم } الآية، فقال القائلون بأن الآية المتقدمة أمر بإيتاء مهور النساء إذا دخل بهن: إن هذه إشارة إلى ما يتراضى به من حط أو تأخير بعد استقرار الفريضة، فإن ذلك الذي يكون على وجه الرضا جائز ماض، وقال القائلون بأن الآية المتقدمة هي أمر المتعة: إن الإشارة بهذه إلى أن ما تراضيا عليه من زيادة في مدة المتعة وزيادة في الأجر جائز سائغ، وباقي الآية بين). [المحرر الوجيز: 2/511-518]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى{والمحصنات من النّساء إلا ما ملكت أيمانكم} أي: وحرّم عليكم الأجنبيّات المحصنات وهي المزوّجات {إلا ما ملكت أيمانكم} يعني: إلّا ما ملكتموهنّ بالسّبي، فإنّه يحلّ لكم وطؤهنّ إذا استبرأتموهنّ، فإنّ الآية نزلت في ذلك.
قال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرّزّاق، أخبرنا سفيان -هو الثّوريّ-عن عثمان البتّي، عن أبي الخليل، عن أبي سعيدٍ الخدريّ قال:« أصبنا نساءً من سبي أوطاس، ولهنّ أزواجٌ، فكرهنا أن نقع عليهنّ ولهنّ أزواجٌ، فسألنا النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فنزلت هذه الآية: {والمحصنات من النّساء إلا ما ملكت أيمانكم} قال فاستحللنا فروجهنّ».
وهكذا رواه التّرمذيّ عن أحمد بن منيعٍ، عن هشيم، ورواه النّسائيّ من حديث سفيان الثّوريّ وشعبة بن الحجّاج، ثلاثتهم عن عثمان البتّيّ، ورواه ابن جريرٍ من حديث أشعث بن سوّاريّ عن عثمان البتّيّ، ورواه مسلمٌ في صحيحه من حديث شعبة عن قتادة، كلاهما عن أبي الخليل صالح بن أبي مريم، عن أبي سعيدٍ الخدريّ، فذكره، وهكذا رواه عبد الرّزّاق، عن معمرٍ، عن قتادة عن أبي الخليل، عن أبي سعيد، به.
وقد روي من وجهٍ آخر عن أبي الخليل، عن أبي علقمة الهاشميّ، عن أبي سعيدٍ قال الإمام أحمد:
حدّثنا ابن أبي عديّ، عن سعيدٍ، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن أبي علقمة، عن أبي سعيدٍ الخدريّ؛ أنّ أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أصابوا سبايا يوم أوطاس، لهنّ أزواجٌ من أهل الشّرك، فكأنّ أناسًا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم كفّوا وتأثّموا من غشيانهنّ قال: فنزلت هذه الآية في ذلك: {والمحصنات من النّساء إلا ما ملكت أيمانكم}.
وهكذا رواه مسلمٌ وأبو داود والنّسائيّ من حديث سعيد بن أبي عروبة -زاد مسلمٌ: وشعبة-ورواه التّرمذيّ من حديث همّام بن يحيى، ثلاثتهم عن قتادة، بإسناده نحوه. وقال التّرمذيّ: هذا حديثٌ حسنٌ، ولا أعلم أنّ أحدًا ذكر أبا علقمة في هذا الحديث إلّا ما ذكر همّامٌ عن قتادة. كذا قال. وقد تابعه سعيدٌ وشعبة، واللّه أعلم.
وقد روى الطّبرانيّ من طريق الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ: أنّها نزلت في سبايا خيبر، وذكر مثل حديث أبي سعيدٍ، وقد ذهب جماعةٌ من السّلف إلى أنّ بيع الأمة يكون طلاقًا لها من زوجها، أخذًا بعموم هذه الآية. قال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن مثنّى، حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، عن شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم: أنّه سئل عن الأمة تباع ولها زوجٌ؟ قال: كان عبد اللّه يقول: بيعها طلاقها، ويتلو هذه الآية {والمحصنات من النّساء إلا ما ملكت أيمانكم}.
وكذا رواه سفيان عن منصور، ومغيرة والأعمشن عن إبراهيم، عن ابن مسعودٍ قال:«بيعها طلاقها». وهو منقطعٌ.
وقال سفيان الثّوريّ، عن خالدٍ، عن أبي قلابة، عن ابن مسعودٍ قال: «إذا بيعت الأمة ولها زوجٌ فسيّدها أحقّ ببضعها».
ورواه سعيدٌ، عن قتادة قال: إنّ أبيّ بن كعبٍ، وجابر بن عبد اللّه، وابن عبّاسٍ قالوا:«بيعها طلاقها».
وقال ابن جريرٍ: حدّثني يعقوب، حدّثنا ابن عليّة، عن خالدٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: «طلاق الأمة ستٌّ بيعها طلاقها، وعتقها طلاقها، وهبتها طلاقها، وبراءتها طلاقها، وطلاق زوجها طلاقها».
وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمر، عن الزّهريّ، عن ابن المسيّب قوله: {والمحصنات من النّساء} قال: «هن ذوات الأزواج، حرّم اللّه نكاحهنّ إلّا ما ملكت يمينك فبيعها طلاقها وقال معمر: وقال الحسن مثل ذلك».
وهكذا رواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن في قوله: {والمحصنات من النّساء إلا ما ملكت أيمانكم} قال: «إذا كان لها زوجٌ فبيعها طلاقها».
وقال عوفٌ، عن الحسن: «بيع الأمة طلاقها وبيعه طلاقها».
فهذا قول هؤلاء من السّلف رحمهم اللّه وقد خالفهم الجمهور قديمًا وحديثًا، فرأوا أنّ بيع الأمة ليس طلاقها ؛ لأنّ المشتري نائبٌ عن البائع، والبائع كان قد أخرج عن ملكه هذه المنفعة وباعها مسلوبةً عنها، واعتمدوا في ذلك على حديث بريرة المخرّج في الصّحيحين وغيرهما؛ فإنّ عائشة أمّ المؤمنين اشترتها ونجّزت عتقها، ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيثٍ، بل خيّرها النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بين الفسخ والبقاء، فاختارت الفسخ، وقصّتها مشهورةٌ، فلو كان بيع الأمة طلاقها -كما قال هؤلاء لما خيّرها النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فلمّا خيّرها دلّ على بقاء النّكاح، وأنّ المراد من الآية المسبيّات فقط، واللّه أعلم.
وقد قيل: المراد بقوله: {والمحصنات من النّساء} يعني: العفائف حرامٌ عليكم حتّى تملكوا عصمتهنّ بنكاحٍ وشهودٍ ومهورٍ ووليٍّ واحدةً أو اثنتين أو ثلاثًا أو أربعًا. حكاه ابن جريرٍ عن أبي العالية وطاوسٍ وغيرهما. وقال عمر وعبيدة: {والمحصنات من النّساء} ما عدا الأربع حرامٌ عليكم إلّا ما ملكت أيمانكم.
وقوله: {كتاب الله عليكم} أي: هذا التّحريم كتابٌ كتبه اللّه عليكم، فالزموا كتابه، ولا تخرجوا عن حدوده، والزموا شرعه وما فرضه.
وقد قال عبيدة وعطاءٌ والسّدّيّ في قوله: {كتاب اللّه عليكم} يعني الأربع. وقال إبراهيم: {كتاب الله عليكم} يعني: ما حرّم عليكم.
وقوله: {وأحلّ لكم مّا وراء ذلكم} أي: ما عدا من ذكرن من المحارم هنّ لكم حلالٌ، قاله عطاءٌ وغيره. وقال عبيدة والسّدّيّ: {وأحلّ لكم مّا وراء ذلكم} ما دون الأربع، وهذا بعيدٌ، والصّحيح قول عطاءٍ كما تقدّم. وقال قتادة {وأحلّ لكم مّا وراء ذلكم} يعني: ما ملكت أيمانكم.
وهذه الآية هي الّتي احتجّ بها من احتجّ على تحليل الجمع بين الأختين، وقول من قال: أحلّتهما آيةٌ وحرّمتهما آيةٌ.
وقوله: {أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} أي: تحصّلوا بأموالكم من الزّوجات إلى أربعٍ أو السّراري ما شئتم بالطّريق الشّرعيّ؛ ولهذا قال: {محصنين غير مسافحين}وقوله: {فما استمتعتم به منهنّ فآتوهنّ أجورهنّ فريضةً} أي: كما تستمتعون بهنّ فآتوهنّ مهورهنّ في مقابلة ذلك، كقوله: {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعضٍ} وكقوله {وآتوا النّساء صدقاتهنّ نحلةً} وكقوله {ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئًا}.
وقد استدلّ بعموم هذه الآية على نكاح المتعة، ولا شكّ أنّه كان مشروعًا في ابتداء الإسلام، ثمّ نسخ بعد ذلك. وقد ذهب الشّافعيّ وطائفةٌ من العلماء إلى أنّه أبيح ثمّ نسخ، ثمّ أبيح ثمّ نسخ، مرّتين. وقال آخرون أكثر من ذلك، وقال آخرون: إنّما أبيح مرّةً، ثمّ نسخ ولم يبح بعد ذلك.
وقد روي عن ابن عبّاسٍ وطائفةٍ من الصّحابة القول بإباحتها للضّرورة، وهو روايةٌ عن الإمام أحمد بن حنبلٍ، رحمهم اللّه تعالى. وكان ابن عبّاسٍ، وأبيّ بن كعبٍ، وسعيد بن جبير، والسّدّي يقرءون: "فما استمتعتم به منهنّ إلى أجلٍ مسمّى فآتوهنّ أجورهنّ فريضةً". وقال مجاهدٌ: نزلت في نكاح المتعة، ولكنّ الجمهور على خلاف ذلك، والعمدة ما ثبت في الصّحيحين، عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنه قال: نهى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهليّة يوم خيبر ولهذا الحديث ألفاظٌ مقرّرةٌ هي في كتاب "الأحكام".
وفي صحيح مسلمٍ عن الرّبيع بن سبرة بن معبدٍ الجهنيّ، عن أبيه: أنّه غزا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فتح مكّة، فقال:«يأيّها النّاس، إنّي كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النّساء، وإنّ اللّه قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهنّ شيءٌ فليخلّ سبيله، ولا تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئًا»وفي روايةٍ لمسلمٍ في حجّة الوداع وله ألفاظٌ موضعها كتاب "الأحكام".
وقوله: {ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة} من حمل هذه الآية على نكاح المتعة إلى أجلٍ مسمّى قال: فلا جناح عليكم إذا انقضى الأجل أن تراضوا على زيادةٍ به وزيادةٍ للجعل.
قال السّدّيّ: إن شاء أرضاها من بعد الفريضة الأولى -يعني الأجر الّذي أعطاها على تمتّعه بها-قبل انقضاء الأجل بينهما فقال: أتمتّع منك أيضًا بكذا وكذا، فازداد قبل أن يستبرئ رحمها يوم تنقضي المدّة، وهو قوله: {ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة}.
قال السّدّيّ: إذا انقضت المدّة فليس له عليها سبيلٌ، وهي منه بريئةٌ، وعليها أن تستبرئ ما في رحمها، وليس بينهما ميراثٌ، فلا يرث واحدٌ منهما صاحبه.
ومن قال بالقول الأوّل جعل معناه كقوله: {وآتوا النّساء صدقاتهنّ نحلةً فإن طبن لكم عن شيءٍ منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا}أي: إذا فرضت لها صداقًا فأبرأتك منه، أو عن شيءٍ منه فلا جناح عليك ولا عليها في ذلك.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى، حدّثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال: زعم الحضرميّ أنّ رجالًا كانوا يفرضون المهر، ثمّ عسى أن يدرك أحدهم العسرة، فقال: {ولا جناح عليكم} أيّها النّاس {فيما تراضيتم به من بعد الفريضة} يعني: إن وضعت لك منه شيئًا فهو لك سائغٌ، واختار هذا القول ابن جريرٍ، وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ: {ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة} والتّراضي أن يوفيها صداقها ثمّ يخيّرها، ويعني في المقام أو الفراق.
وقوله: {إنّ الله كان عليمًا حكيمًا} مناسب ذكر هذين الوصفين بعد شرع هذه المحرمات [العظيمة] ). [تفسير القرآن العظيم: 2/256-260]


* للاستزادة ينظر: هنا