17 Nov 2018
تفسير
قوله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ
الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
(26) وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا (27)
يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا
(28)}
تفسير قوله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ
لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ
وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله: {يريد اللّه ليبيّن لكم ويهديكم سنن الّذين من قبلكم ويتوب عليكم واللّه عليم حكيم}
قال الكوفيون: معنى اللام معنى أن، وأردت، وأمرت،
تطلبان المستقبل، لا يجوز أن تقول: أردت أن قصت، ولا أمرت أن قمت،
ولم يقولوا لم لا يجوز ذلك، وهذا غلط أن تكون لام الجر تقوم مقام " أن "
وتؤدي معناها، لأن ما كان في معنى أن دخلت عليه اللام.
تقول: جئتك لكي تفعل كذا وكذا، وجئت لكي تفعل كذا وكذا، وكذلك اللام في قوله: {يريد اللّه ليبيّن لكم} كاللّام في كي.
المعنى: أراده اللّه عزّ وجلّ للتبيين لكم.
أنشد أهل اللغة:
أردت لكيما لا ترى لي عبرة... ومن ذا الذي يعطي الكمال فيكمل
وأنشدنا محمد بن يزيد المبرد:
أردت لكيما يعلم الناس أنها... سراويل قيسر والوفود شهود
فأدخل هذه اللام على " كي "، ولو كانت بمعنى أن لم تدخل اللام عليها، وكذلك أردت لأن تقوم، وأمرت لأن أكون مطيعا.
وهذا كقوله تعالى: {إن كنتم للرّؤيا تعبرون} أي: إن كنتم عبارتكم للرؤيا، وكذلك قوله - عزّ وجلّ - أيضا: {للّذين هم لربّهم يرهبون} أي: الذين هم رهبتهم لربّهم.
وقوله: {ويهديكم سنن الّذين من قبلكم} أي: يدلكم على طاعته كما دل الأنبياء والذين اتبعوهم من قبلكم.
ومعنى {سنن الّذين من قبلكم}، أي: طرق الذين من قبلكم، وقد بيّنّا ذلك فيما سلف من الكتاب). [معاني القرآن: 2/42-43]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: يريد اللّه ليبيّن لكم ويهديكم سنن الّذين من قبلكم ويتوب عليكم واللّه عليمٌ حكيمٌ (26) واللّه يريد أن يتوب عليكم ويريد الّذين يتّبعون الشّهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً (27) يريد اللّه أن يخفّف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً (28)
اختلف النحاة في اللام من قوله: ليبيّن فمذهب سيبويه رحمه الله: أن التقدير «لأن يبين» والمفعول مضمر، تقديره: يريد الله هذا، فإن كانت لام الجر أو لام كي فلا بد فيهما من تقدير «أن» لأنهما لا يدخلان إلا على الأسماء وقال الفراء والكوفيون: اللام نفسها بمنزلة «أن» وهو ضعيف، ونظير هذه اللام قول الشاعر: [الطويل] أريد لأنسى ذكرها وقال بعض النحاة: التقدير إرادتي لأنسى. ويهديكم بمعنى: يرشدكم، لا يتوجه غير ذلك، بقرينة السنن، وال سنن: الطرق ووجوه الأمور وأنحاؤها.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله: ويظهر من قوة هذا الكلام أن شرعتنا في
المشروعات كشرعة من قبلنا، وليس ذلك كذلك، وإنما هذه الهداية في أحد أمرين،
إما في أنّا خوطبنا في كل قصة نهيا وأمرا، كما خوطبوا هم أيضا في قصصهم،
وشرع لنا كما شرع لهم، فهدينا سننهم في ذلك، وإن اختلفت أحكامنا وأحكامهم،
والأمر الثاني أن هدينا سننهم في أن أطعنا وسمعنا كما سمعوا وأطاعوا،
فوقع التماثل من هذه الجهة، والذين من قبلنا: هم المؤمنون في كل شريعة،
وتوبة الله على عبده هي رجوعه به عن المعاصي إلى الطاعات وتوفيقه له، وحسن
عليمٌ هنا بحسب ما تقدم من سنن الشرائع وموضع المصالح وحكيمٌ أي مصيب
بالأشياء مواضعها بحسب الحكمة والإتقان). [المحرر الوجيز: 2/525-526]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({يريد
اللّه ليبيّن لكم ويهديكم سنن الّذين من قبلكم ويتوب عليكم واللّه عليمٌ
حكيمٌ (26) واللّه يريد أن يتوب عليكم ويريد الّذين يتّبعون الشّهوات أن
تميلوا ميلا عظيمًا (27) يريد اللّه أن يخفّف عنكم وخلق الإنسان ضعيفًا
(28)}
يخبر تعالى أنّه يريد أن يبيّن لكم
-أيّها المؤمنون-ما أحلّ لكم وحرّم عليكم، ممّا تقدّم ذكره في هذه السّورة
وغيرها، {ويهديكم سنن الّذين من قبلكم} يعني: طرائقهم الحميدة واتّباع
شرائعه الّتي يحبّها ويرضاها {ويتوب عليكم} أي من الإثم والمحارم، {واللّه
عليمٌ حكيمٌ} أي في شرعه وقدره وأفعاله وأقواله). [تفسير القرآن العظيم: 2/267]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وتكرار إرادة الله تعالى التوبة على عباده تقوية للإخبار الأول، وليس المقصد في هذه الآية إلا الإخبار عن إرادة الذين يتبعون الشهوات، فقدمت إرادة الله توطئة، مظهرة لفساد إرادة متبعي الشهوات، واختلف المتأولون في متبعي الشهوات، فقال مجاهد: هم الزناة، وقال السدي: هم اليهود والنصارى، وقالت فرقة: هم اليهود خاصة، لأنهم أرادوا أن يتبعهم المسلمون في نكاح الأخوات من الأب، وقال ابن زيد:
ذلك
على العموم في هؤلاء، وفي كل متبع شهوة، ورجحه الطبري، وقرأ الجمهور
«ميلا» بسكون الياء، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «ميلا» بفتح الياء). [المحرر الوجيز: 2/526]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله:
{[واللّه يريد أن يتوب عليكم] ويريد الّذين يتّبعون الشّهوات أن تميلوا
ميلا عظيمًا} أي: يريد أتباع الشّياطين من اليهود والنّصارى والزّناة {أن
تميلوا} يعني: عن الحقّ إلى الباطل {ميلا عظيمًا} ). [تفسير القرآن العظيم: 2/267]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: يريد اللّه أن يخفّف عنكم المقصد الظاهر بهذه الآية أنها في تخفيف الله تعالى ترك نكاح الإماء بإباحة ذلك، وأن إخباره عن ضعف الإنسان إنما هو في باب النساء، أي لما علمنا ضعفكم عن الصبر عن النساء خففنا عنكم بإباحة الإماء، وكذلك قال مجاهد وابن زيد وطاوس، وقال طاوس: ليس يكون الإنسان في شيء أضعف منه في أمر النساء.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله: ثم بعد هذا المقصد تخرج الآية في مخرج
التفضل، لأنها تتناول كل ما خفف الله تعالى عن عباده، وجعله الدين يسرا،
ويقع الإخبار عن ضعف الإنسان عاما، حسبما هو في نفسه ضعيف يستميله هواه في
الأغلب والإنسان رفع على ما لم يسم فاعله، وضعيفاً حال، وقرأ ابن عباس
ومجاهد «وخلق الإنسان» على بناء الفعل للفاعل وضعيفاً حال أيضا على هذه
القراءة، ويصح أن يكون خلق بمعنى جعل، فيكسبها ذلك قوة التعدي إلى مفعولين،
فيكون قوله ضعيفاً مفعولا ثانيا). [المحرر الوجيز: 2/526-527]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (
{يريد اللّه أن يخفّف عنكم} أي: في شرائعه وأوامره ونواهيه وما يقدّره
لكم، ولهذا أباح [نكاح] الإماء بشروطه، كما قال مجاهدٌ وغيره: {خلق الإنسان
ضعيفًا} فناسبه التّخفيف؛ لضعفه في نفسه وضعف عزمه وهمّته.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا محمّد بن
إسماعيل [الأحمسيّ] حدّثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن طاوسٍ، عن أبيه: {خلق
الإنسان ضعيفًا} أي: في أمر النّساء، وقال وكيعٌ: يذهب عقله عندهنّ.
وقال موسى الكليم عليه الصّلاة والسّلام
لنبيّنا صلوات اللّه وسلامه عليه ليلة الإسراء حين مرّ عليه راجعًا من
عند سدرة المنتهى، فقال له: ماذا فرض عليكم ؟ فقال: "أمرني بخمسين صلاةً
في كلّ يومٍ وليلةٍ" فقال له: ارجع إلى ربّك فاسأله التّخفيف؛ فإنّ أمّتك
لا تطيق ذلك، فإنّي قد بلوت النّاس قبلك على ما هو أقلّ من ذلك فعجزوا،
وإنّ أمّتك أضعف أسماعًا وأبصارًا وقلوبًا، فرجع فوضع عشرًا، ثمّ رجع إلى
موسى فلم يزل كذلك حتّى بقيت خمسًا [قال اللّه عزّ وجلّ: "هنّ خمسٌ وهنّ
خمسون، الحسنة بعشر أمثالها"] الحديث). [تفسير القرآن العظيم: 2/267-268]
* للاستزادة ينظر: هنا