الدروس
course cover
تفسير سورة النساء [ من الآية (29) إلى الآية (30) ]
17 Nov 2018
17 Nov 2018

4053

0

0

course cover
تفسير سورة النساء

القسم الثالث

تفسير سورة النساء [ من الآية (29) إلى الآية (30) ]
17 Nov 2018
17 Nov 2018

17 Nov 2018

4053

0

0


0

0

0

0

0

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا (30)}


تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلّا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إنّ اللّه كان بكم رحيما}
فحرم اللّه - جلّ وعزّ - المال إلّا أن يوجد على السّبل التي ذكر من الفرائض في المواريث والمهور والتسري والبيع والصدقات التي ذكر وجوهها.
{إلّا أن تكون تجارة}المعنى: إلا أن تكون الأموال تجارة، ومن قرأ إلا أن تكون تجارة، فمعناه: إلا أن تقع تجارة.
{عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم} فاعلم أن التجارة تصح برضا البّيع والمشترى). [معاني القرآن: 2/44]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: يا أيّها الّذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم ولا تقتلوا أنفسكم إنّ اللّه كان بكم رحيماً (29) ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً وكان ذلك على اللّه يسيراً (30)

هذا استثناء ليس من الأول، والمعنى: لكن إن كانت تجارة فكلوها، وقرأ المدنيون وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو: «تجارة» بالرفع على تمام «كان» وأنها بمعنى: وقع، وقرأت فرقة، هي الكوفيون حمزة وعاصم والكسائي: «تجارة» بالنصب على نقصان «كان»، وهو اختيار أبي عبيد.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهما قولان قويان، إلا أن تمام «كان» يترجح عند بعض، لأنها صلة «لأن» فهي محطوطة عن درجتها إذا كانت سليمة من صلة وغيرها، وهذا ترجيح ليس بالقوي ولكنه حسن، وأن في موضع نصب، ومن نصب «تجارة» جعل اسم كان مضمرا، تقديره الأموال أموال تجارة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، أو يكون التقدير: إلا أن تكون التجارة تجارة، ومثل ذلك قول الشاعر:

[الطويل] إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا أي: إذا كان اليوم يوما، والاستثناء منقطع في كل تقدير وفي قراءة الرفع. فأكل الأموال بالتجارة جائز بإجماع الأمّة، والجمهور على جواز الغبن في التجارة، مثال ذلك: أن يبيع الرجل ياقوتة بدرهم وهي تساوي مائة، فذلك جائز، ويعضده حديث النبي صلى الله عليه وسلم «لا يبع حاضر لباد» لأنه إنما أراد بذلك أن يبيع البادي باجتهاده، ولا يمنع الحاضر الحاضر من رزق الله في غبنه، وقالت فرقة: الغبن إذا تجاوز الثلث مردود، وإنما أبيح منه المتقارب المتعارف في التجارات، وأما المتفاحش الفادح فلا، وقاله ابن وهب من أصحاب مالك رحمه الله. وعن تراضٍ معناه عن رضا، إلا أنها جاءت من المفاعلة، إذ التجارة من اثنين. واختلف أهل العلم في التراضي، فقالت طائفة: تمامه وجزمه بافتراق الأبدان بعد عقدة البيع، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه: اختر فيقول: قد اخترت، وذلك بعد العقدة أيضا، فينجزم حينئذ، هذا هو قول الشافعي وجماعة من الصحابة، وحجته حديث النبي صلى الله عليه وسلم «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار»، وهو حديث ابن عمر وأبي برزة، ورأيهما- وهما الراويان- أنه افتراق الأبدان.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والتفرق لا يكون حقيقة إلا بالأبدان، لأنه من صفات الجواهر، وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله: تمام التراضي أن يعقد البيع بالألسنة فتنجزم العقدة بذلك ويرتفع الخيار، وقالا في الحديث المتقدم: إنه التفرق بالقول، واحتج بعضهم بقوله تعالى: وإن يتفرّقا يغن اللّه كلًّا من سعته [النبأ: 130] فهذه فرقة بالقول لأنها بالطلاق، قال من احتج للشافعي: بل هي فرقة بالأبدان، بدليل تثنية الضمير، والطلاق لا حظّ للمرأة فيه، وإنما حظها في فرقة البدن التي هي ثمرة الطلاق، قال الشافعي: ولو كان معنى قوله: يتفرقا بالقول الذي هو العقد لبطلت الفائدة في قوله: البيعان بالخيار، لأنه لا يشك في أن كل ذي سلعة مخير ما لم يعقد، فجاء الإخبار لا طائل فيه، قال من احتجّ لمالك: إنما القصد في الحديث الإخبار عن وجوب ثبوت العقد، فجاء قوله: البيعان بالخيار توطئة لذلك، وإن كانت التوطئة معلومة، فإنها تهيئ النفس لاستشعار ثبوت العقد ولزومها، واستدل الشافعي بقوله عليه السلام: «لا يسم الرجل على سوم أخيه، ولا يبع الرجل على بيع أخيه» فجعلها مرتبتين لأن حالة البيعين بعد العقد قبل التفرق تقتضي أن يفسد مفسد بزيادة في السلعة فيختار ربها حل الصفقة الأولى، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك الإفساد، ألا ترى أنه عليه السلام قال: «لا يخطب الرجل على خطبة أخيه» فهي في درجة لا يسم، ولم يقل: لا ينكح على نكاح أخيه لأنه لا درجة بعد عقد النكاح تقتضي تخييرا بإجماع من الأمة، قال من يحتج لمالك رحمه الله: قوله عليه السلام: لا يسم ولا يبع، هي درجة واحدة كلها قبل العقد، وقال: لا يبع تجوزا في لا يسم، إذ ماله إلى البيع، فهي جميعا بمنزلة قوله: لا يخطب، والعقد جازم فيهما جميعا.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقوله في الحديث «إلا بيع الخيار» معناه عند المالكيين: المتساومان بالخيار ما لم يعقدا، فإذا عقدا بطل الخيار إلا في بيع الخيار الذي عقد من أوله على خيار مدة ما، فإنه لا يبطل الخيار فيه، ومعناه عند الشافعيين: المتبايعان بعد عقدهما مخيران ما داما في مجلسهما، إلا بيعا يقول فيه أحدهما لصاحبه اختر فيختار، فإن الخيار ينقطع بينهما وإن لم يتفرقا، فإن فرض بيع خيار فالمعنى إلا بيع الخيار فإنه يبقي الخيار بعد التفرق بالأبدان، وقوله تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم قرأ الحسن «ولا تقتّلوا» على التكثير، فأجمع المتأولون أن المقصد بهذه الآية النهي عن أن يقتل بعض الناس بعضها، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل، أو بأن يحملها على غرر ربما مات منه، فهذا كله يتناوله النهي، وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد خوفا على نفسه منه، فقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجاجه). [المحرر الوجيز: 2/527-530]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({يا أيّها الّذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم ولا تقتلوا أنفسكم إنّ اللّه كان بكم رحيمًا (29) ومن يفعل ذلك عدوانًا وظلمًا فسوف نصليه نارًا وكان ذلك على اللّه يسيرًا (30) إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفّر عنكم سيّئاتكم وندخلكم مدخلا كريمًا (31)}
نهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يأكلوا أموال بعضهم بعضًا بالباطل، أي: بأنواع المكاسب الّتي هي غير شرعيّةٍ، كأنواع الرّبا والقمار، وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحيل، وإن ظهرت في غالب الحكم الشّرعيّ ممّا يعلم اللّه أنّ متعاطيها إنّما يريد الحيلة على الرّبا، حتّى قال ابن جريرٍ:
حدّثني ابن المثنّى، حدّثنا عبد الوهّاب، حدّثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ -في الرّجل يشتري من الرّجل الثّوب فيقول: إن رضيته أخذته وإلّا رددته ورددت معه درهمًا-قال: هو الّذي قال اللّه عزّ وجلّ: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عليّ بن حرب الموصلي، حدثنا ابن فضيلٍ، عن داود الأوديّ عن عامرٍ، عن علقمة، عن عبد اللّه [ {يا أيّها الّذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}] قال: إنّها [كلمةٌ] محكمةٌ، ما نسخت، ولا تنسخ إلى يوم القيامة.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: لمّا أنزل اللّه: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} قال المسلمون: إنّ اللّه قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، والطّعام هو أفضل الأموال، فلا يحلّ لأحدٍ منّا أن يأكل عند أحدٍ، فكيف للنّاس ! فأنزل اللّه بعد ذلك: {ليس على الأعمى حرجٌ} [النّور: 61] الآية، [وكذا قال قتادة بن دعامة].
وقوله: {إلا أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم} قرئ: تجارةٌ بالرّفع وبالنّصب، وهو استثناءٌ منقطعٌ، كأنّه يقول: لا تتعاطوا الأسباب المحرّمة في اكتساب الأموال، لكنّ المتاجر المشروعة الّتي تكون عن تراضٍ من البائع والمشتري فافعلوها وتسبّبوا بها في تحصيل الأموال. كما قال [اللّه] تعالى: {ولا تقتلوا النّفس الّتي حرّم اللّه إلا بالحقّ} [الأنعام: 151]، وكقوله {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} [الدخان: 56].
ومن هذه الآية الكريمة احتجّ الشّافعيّ [رحمه اللّه] على أنّه لا يصحّ البيع إلّا بالقبول؛ لأنّه يدلّ على التّراضي نصا، بخلاف المعاطاة فإنّها قد لا تدلّ على الرّضا ولا بدّ، وخالف الجمهور في ذلك مالكٌ وأبو حنيفة وأحمد وأصحابهم، فرأوا أنّ الأقوال كما تدلّ على التّراضي، وكذلك الأفعال تدلّ في بعض المحالّ قطعًا، فصحّحوا بيع المعاطاة مطلقًا، ومنهم من قال: يصحّ في المحقّرات، وفيما يعدّه النّاس بيعًا، وهو احتياط نظرٍ من محقّقي المذهب، واللّه أعلم.
قال مجاهدٌ: {إلا أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم} بيعًا أو عطاءً يعطيه أحدٌ أحدًا. ورواه ابن جريرٍ [ثمّ] قال: وحدّثنا ابن وكيع، حدّثنا أبي، عن القاسم، عن سليمان الجعفي، عن أبيه، عن ميمون بن مهران قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "البيع عن تراض والخيار بعد الصّفقة ولا يحلّ لمسلمٍ أن يغشّ مسلمًا". هذا حديثٌ مرسلٌ.
ومن تمام التّراضي إثبات خيار المجلس، كما ثبت في الصّحيحين: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا" وفي لفظ البخاريّ: "إذا تبايع الرّجلان فكلّ واحدٍ منهما بالخيار ما لم يتفرّقا".
وذهب إلى القول بمقتضى هذا الحديث الشّافعيّ، وأحمد [بن حنبلٍ] وأصحابهما، وجمهور السّلف والخلف. ومن ذلك مشروعيّة خيار الشّرط بعد العقد إلى ثلاثة أيّامٍ، [كما هو متّفقٌ عليه بين العلماء إلى ما هو أزيد من ثلاثة أيّامٍ] بحسب ما يتبيّن فيه مال البيع، ولو إلى سنةٍ في القرية ونحوها، كما هو المشهور عن مالكٍ، رحمه اللّه. وصحّحوا بيع المعاطاة مطلقًا، وهو قولٌ في مذهب الشّافعيّ، ومنهم من قال: يصحّ بيع المعاطاة في المحقّرات فيما يعدّه النّاس بيعًا، وهو اختيار طائفةٍ من الأصحاب.
وقوله: {ولا تقتلوا أنفسكم} أي: بارتكاب محارم اللّه وتعاطي معاصيه وأكل أموالكم بينكم بالباطل {إنّ اللّه كان بكم رحيمًا} أي: فيما أمركم به، ونهاكم عنه.
قال الإمام أحمد: حدّثنا حسن بن موسى، حدّثنا ابن لهيعة، حدّثنا يزيد بن أبي حبيبٍ، عن عمران بن أبي أنسٍ، عن عبد الرّحمن بن جبير، عن عمرو بن العاص، رضي اللّه عنه، أنّه قال لمّا بعثه النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عام ذات السّلاسل قال: احتلمت في ليلةٍ باردةٍ شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيمّمت ثمّ صلّيت بأصحابي صلاة الصّبح، قال: فلمّا قدمت على رسول اللّه صلّى عليه وسلّم ذكرت ذلك له، فقال: "يا عمرو صلّيت بأصحابك وأنت جنبٌ! " قال: قلت يا رسول اللّه إنّي احتلمت في ليلةٍ باردةٍ شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فذكرت قول اللّه [عز وجلّ] {ولا تقتلوا أنفسكم إنّ اللّه كان بكم رحيمًا} فتيمّمت ثمّ صلّيت. فضحك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولم يقل شيئًا.
وهكذا رواه أبو داود من حديث يحيى بن أيّوب، عن يزيد بن أبي حبيبٍ، به. ورواه أيضًا عن محمّد بن أبي سلمة، عن ابن وهبٍ، عن ابن لهيعة وعمر بن الحارث، كلاهما عن يزيد بن أبي حبيبٍ، عن عمران بن أبي أنسٍ، عن عبد الرّحمن بن جبيرٍ المصريّ، عن أبي قيسٍ مولى عمرو بن العاص، عنه، فذكر نحوه. وهذا، واللّه أعلم، أشبه بالصّواب.
وقال أبو بكر بن مردويه: حدّثنا عبد الرّحمن بن محمّد بن حامدٍ البلخي، حدّثنا محمّد بن صالح بن سهلٍ البلخيّ، حدثنا عبيد عبد اللّه بن عمر القواريريّ، حدّثنا يوسف بن خالدٍ، حدّثنا زياد بن سعدٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: أنّ عمرو بن العاص صلّى بالنّاس وهو جنب، فلمّا قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ذكروا ذلك له، فدعاه فسأله عن ذلك، فقال: يا رسول اللّه، خفت أن يقتلني البرد، وقد قال اللّه تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم [إنّ اللّه كان بكم رحيمًا]} قال: فسكت عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
ثمّ أورد ابن مردويه عند هذه الآية الكريمة من حديث الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من قتل نفسه بحديدةٍ فحديدته في يده، يجأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنّم خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بسمٍّ، فسمّه في يده، يتحسّاه في نار جهنّم خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا، ومن تردّى من جبلٍ فقتل نفسه، فهو مترد في نار جهنّم خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا".
وهذا الحديث ثابتٌ في الصّحيحين وكذلك رواه أبو الزّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بنحوه، وعن أبي قلابة، عن ثابت بن الضّحّاك، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من قتل نفسه بشيءٍ عذّب به يوم القيامة". وقد أخرجه الجماعة في كتبهم من طريق أبي قلابة وفي الصّحيحين من حديث الحسن، عن جندب بن عبد اللّه البجلي قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "كان رجلٌ ممّن كان قبلكم وكان به جرح، فأخذ سكّينًا نحر بها يده، فما رقأ الدّم حتّى مات، قال اللّه عزّ وجلّ: عبدي بادرني بنفسه، حرّمت عليه الجنّة".
ولهذا قال اللّه تعالى: {ومن يفعل ذلك عدوانًا وظلمًا} أي: ومن يتعاطى ما نهاه الله عنه متعديا فيه ظالمًا في تعاطيه، أي: عالمًا بتحريمه متجاسرًا على انتهاكه {فسوف نصليه نارًا [وكان ذلك على اللّه يسيرًا]} وهذا تهديدٌ شديدٌ ووعيدٌ أكيدٌ، فليحذر منه كلّ عاقلٍ لبيبٍ ممّن ألقى السّمع وهو شهيدٌ). [تفسير القرآن العظيم: 2/268-270]


تفسير قوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا (30)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): ( {ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على اللّه يسيرا}أي: ومن يأكلها ويقتل النفس - لأن قوله: {ولا تقتلوا أنفسكم} أي: لا يقتل بعضكم بعضا، فمن فعل ذلك عدوانا وظلما، معنى العدوان: أن يعدوا ما أمر به، والظلم: أن يضع الشيء في غير موضعه.
وقوله:
{فسوف نصليه نارا}
و{نصليه نارا} وعد اللّه - جلّ وعزّ - على أكل الأموال ظلما وعلى القتال النار.

{وكان ذلك على اللّه يسيرا} أي: سهلا، يقال قد يسر الشيء فهو يسير إذا سهل، وقد عسر الشيء وعسر إذا لم يسهل فهو عسير). [معاني القرآن: 2/44-45]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً اختلف المتأولون في المشار إليه بذلك، فقال عطاء: ذلك عائد على القتل لأنه أقرب مذكور، وقالت فرقة: ذلك عائد على أكل المال بالباطل وقتل النفس، لأن النهي عنهما جاء متسقا مسرودا، ثم ورد الوعيد حسب النهي، وقالت فرقة ذلك عائد على كل ما نهى عنه من القضايا من أول السورة إلى قوله تعالى: ومن يفعل ذلك وقال الطبري: ذلك عائد على ما نهى عنه من آخر وعيد، وذلك قوله تعالى: يا أيّها الّذين آمنوا لا يحلّ لكم أن ترثوا النّساء كرهاً [النساء: 19] لأن كل ما نهي عنه من أول السورة قرن به وعيد إلا من قوله: يا أيّها الّذين آمنوا لا يحلّ لكم أن ترثوا النّساء كرهاً فإنه والنواهي بعده لا وعيد معها، إلا قوله: ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً والعدوان: تجاوز الحد، ونصليه معناه: نمسه حرها، كما تعرض الشاة المصلية، أي نحرقه بها، وقرأ الأعمش والنخعي، «نصليه» بفتح النون، وقراءة الجمهور بضم النون على نقل صلى بالهمز، وقراءة هذين على لغة من يقول: صليته نارا، بمعنى أصليته، وحكى الزجّاج أنها قد قرئت «نصلّيه» بفتح الصاد وشد اللام المكسورة ويسير ذلك على الله عز وجل، لأن حجته بالغة، وحكمه لا معقب له). [المحرر الوجيز: 2/531]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ولهذا قال اللّه تعالى: {ومن يفعل ذلك عدوانًا وظلمًا} أي: ومن يتعاطى ما نهاه الله عنه متعديا فيه ظالمًا في تعاطيه، أي: عالمًا بتحريمه متجاسرًا على انتهاكه {فسوف نصليه نارًا [وكان ذلك على اللّه يسيرًا]} وهذا تهديدٌ شديدٌ ووعيدٌ أكيدٌ، فليحذر منه كلّ عاقلٍ لبيبٍ ممّن ألقى السّمع وهو شهيدٌ). [تفسير القرآن العظيم: 2/270-271] (م)


* للاستزادة ينظر: هنا