تفسير
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ
وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ
الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قِرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ
لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا
رَزَقَهُمُ اللّهُ وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيمًا (39) إِنَّ اللّهَ لاَ
يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ
مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ
أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا (41)
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ
تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا (42)}
تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ
يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ
وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء
قِرِينًا (38)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): ( {والّذين ينفقون أموالهم رئاء النّاس ولا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر ومن يكن الشّيطان له قرينا فساء قرينا}
{ومن يكن الشّيطان له قرينا فساء قرينا}أي: من يكن عمله بما يسوّل له الشيطان فبئس العمل عمله، {فساء قرينا} منصوب على التفسير، كما تقول: زيد نعم رجلا.
وكما قال {ساء مثلا القوم الّذين كذّبوا بآياتنا} ). [معاني القرآن: 2/51-52]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله
تعالى: والّذين ينفقون الآية- قال الطبري: الّذين في موضع خفض عطف على
الكافرين، ويصح أن يكون في موضع رفع عطفا على الّذين يبخلون على تأويل: من
رآه مقطوعا ورأى الخبر محذوفا، وقال: إنها نزلت في اليهود، ويصح أن يكون
في موضع رفع على العطف وحذف الخبر، وتقديره: بعد اليوم الآخر معذبون، وقال
مجاهد: نزلت هذه الآية في اليهود، قال الطبري: وهذا ضعيف، لأنه نفى عن
هذه الصفة الإيمان بالله واليوم الآخر، واليهود ليسوا كذلك.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله: وقول مجاهد متجه على المبالغة والإلزام، إذا
إيمانهم باليوم الآخر كلا إيمان، من حيث لا ينفعهم، وقال الجمهور: نزلت في
المنافقين، وهذا هو الصحيح، وإنفاقهم: هو ما كانوا يعطون من زكاة،
وينفقون في السفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، «رياء» ودفعا عن
أنفسهم، لا إيمانا بالله، ولا حبا في دينه ورئاء نصب على الحال من الضمير
في ينفقون والعامل ينفقون، ويكون قوله: ولا يؤمنون في الصلة، لأن الحال لا
تفرق إذا كانت مما هو في الصلة، وحكى المهدوي: أن الحال تصح أن تكون من
الّذين فعلى هذا يكون ولا يؤمنون مقطوعا ليس من الصلة، والأول أصح، وما
حكى المهدوي ضعيف، ويحتمل أن يكون ولا يؤمنون في موضع الحال، أي: غير
مؤمنين، فتكون الواو واو الحال. و «القرين»: فعيل بمعنى فاعل، من المقارنة
وهي الملازمة والاصطحاب، وهي هاهنا مقارنة مع خلطة وتواد، والإنسان كله
يقارنه الشيطان، لكن الموفق عاص له، ومنه قيل لما يلزمان الإبل والبقر
قرينان، وقيل للحبل الذي يشدان به: قرن، قال الشاعر: [البسيط]
كمدخل رأسه لم يدنه أحد = بين القرينين حتّى لزّه القرن
فالمعنى:
ومن يكن الشيطان له مصاحبا وملازما، أو شك أن يطيعه فتسوء عاقبته،
وقريناً نصب على التمييز، والفاعل ل «ساء» مضمر، تقديره ساء القرين قرينا،
على حد بئس، وقرن الطبري هذه الآية بقوله تعالى: بئس للظّالمين بدلًا
[الكهف: 50] وذلك مردود، لأن بدلًا حال، وفي هذا نظر). [المحرر الوجيز: 2/552-553]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (قوله:
{والّذين ينفقون أموالهم رئاء النّاس} ... ثمّ ذكر الباذلين المرائين
الّذي يقصدون بإعطائهم السّمعة وأن يمدحوا بالكرم، ولا يريدون بذلك وجه
اللّه، وفي حديث الّذي فيه الثّلاثة الّذين هم أوّل من تسجّر بهم النّار،
وهم: العالم والغازي والمنفق، والمراءون بأعمالهم، يقول صاحب المال: ما
تركت من شيءٍ تحبّ أن ينفق فيه إلّا أنفقت في سبيلك. فيقول اللّه: كذبت؛
إنّما أردت أن يقال: جوادٌ فقد قيل. أي: فقد أخذت جزاءك في الدّنيا وهو
الّذي أردت بفعلك.
وفي الحديث: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال لعديّ: "إنّ أباك رام أمرًا فبلغه".
وفي حديثٍ آخر: أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم سئل عن عبد اللّه بن جدعان: هل ينفعه إنفاقه، وإعتاقه؟ فقال: "لا
إنّه لم يقل يومًا من الدّهر: ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدّين".
ولهذا قال: {ولا يؤمنون باللّه ولا
باليوم الآخر [ومن يكن الشّيطان له قرينًا فساء قرينًا]} أي: إنّما حملهم
على صنيعهم هذا القبيح وعدولهم عن فعل الطّاعة على وجهها الشيطان؛ فإنّه
سوّل لهم وأملى لهم، وقارنهم فحسّن لهم القبائح {ومن يكن الشّيطان له
قرينًا فساء قرينًا} ولهذا قال الشاعر:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه = فكلّ قرينٍ بالمقارن يقتدي). [تفسير القرآن العظيم: 2/303-304]
تفسير
قوله تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللّهُ وَكَانَ اللّهُ بِهِم
عَلِيمًا (39)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله: {وماذا عليهم لو آمنوا باللّه واليوم الآخر وأنفقوا ممّا رزقهم اللّه وكان اللّه بهم عليما}
يصلح أن تكون: " ما " و " ذا " اسما واحدا، المعنى: وأي شيء عليهم.
ويجوز أن يكون: " ذا " في معنى الذي، أو تكون " ما " وحدها اسما.
المعنى: وما الّذي عليهم {لو آمنوا باللّه واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله}هذا يدل على أن الذين يبخلون {يبخلون} بما علموا {وكان اللّه بهم عليما} ). [معاني القرآن: 2/52]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: وماذا عليهم «ما» رفع بالابتداء، و «ذا» صلة، وعليهم خبر الابتداء، التقدير:
وأي شيء عليهم؟ ويصح أن تكون «ما» اسما بانفرادها، و «ذا» بمعنى «الذي» ابتداء وخبر، وجواب «لو» في قوله: ماذا فهو جواب مقدم.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله: وكأن هذا الكلام يقتضي أن الإيمان متعلق
بقدرتهم ومن فعلهم، ولا يقال لأحد: ما عليك لو فعلت إلا فيما هو مقدور له،
وهذه شبهة للمعتزلة، والانفصال عنها أن المطلوب إنما هو تكسبهم واجتهادهم
وإقبالهم على الإيمان، وأما الاختراع فالله المنفرد به، وفي هذا الكلام
تفجع ما عليهم، واستدعاء جميل يقتضي حيطة وإشفاقا وكان اللّه بهم عليماً
إخبار يتضمن وعيدا، وينبه على سوء تواطئهم، أي: لا ينفعهم كتم مع علم الله
تعالى بهم). [المحرر الوجيز: 2/553]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ
قال تعالى: {وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا ممّا رزقهم
الله [وكان اللّه بهم عليمًا]} أي: وأيّ شيءٍ يكرثهم لو سلكوا الطّريق
الحميدة، وعدلوا عن الرّياء إلى الإخلاص والإيمان باللّه، ورجاء موعوده في
الدّار الآخرة لمن أحسن عملًا وأنفقوا ممّا رزقهم اللّه في الوجوه الّتي
يحبّها اللّه ويرضاها.
وقوله: {وكان اللّه بهم عليمًا} أي: وهو
عليمٌ بنيّاتهم الصّالحة والفاسدة، وعليمٌ بمن يستحقّ التّوفيق منهم
فيوفّقه ويلهمه رشده ويقيّضه لعملٍ صالحٍ يرضى به عنه، وبمن يستحقّ الخذلان
والطّرد عن جنابه الأعظم الإلهيّ، الّذي من طرد عن بابه فقد خاب وخسر في
الدّنيا والآخرة، عياذًا باللّه من ذلك [بلطفه الجزيل] ). [تفسير القرآن العظيم: 2/304]
تفسير
قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ
حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ ثناؤه: {إنّ اللّه لا يظلم مثقال ذرّة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما} مثقال: مفعال من الثقل، أي: ما كان وزنه الذرة وقيل لكل ما يعمل " وزن مثقال " تمثيلا، لأن الصلاة والصيام والأعمال لا وزن لها.
لكنّ الناس خوطبوا فيما في قلوبهم بتمثيل ما يدرك بأبصارهم، لأن ذلك - أعني ما يبصر - أبين لهم.
وقوله - عزّ وجلّ - {وإن تك حسنة يضاعفها}
الأصل في " يكن ":
" تكون " فسقطت الضمة للجزم وسقطت الواو لسكونها وسكون النون، فأما
سقوط النون من " تكن " فأكثر الاستعمال جاء في القرآن بإثباتها،
وإسقاطها قليل - قال الله عزّ وجلّ -: {إن يكن غنيّا أو فقيرا فاللّه أولى بهما} فاجتمع في النون أنها تشبه حروف اللين، وأنها ساكنة.
فحذفت استخفافا لكثرة الاستعمال كما قالوا - لا أدر، ولا أبل، والأجود لم أبال ولا أدري.
و{حسنة} يكون فيها الرفع والنصب، المعنى: وإن تكن فعلته حسنة يضاعفها، ومن قرأ {وإن تكن حسنة} بالرفع،، رفع على اسم كان، ولا خبر لها وهي ههنا في مذهب التمام، والمعنى: وإن تحدث حسنة يضاعفها.
{ويؤت من لدنه أجرا عظيما}
و{يؤت} بغير ياء سقطت الياء للجزم، معطوف على {يضاعفها}، ووقعت " لدن " وهي في موضع جر، وفيها لغات.
يقال لد ولدن، ولدن، ولدى والمعنى واحد، ومعناه:
من قبله، إلا أنها لا تتمكن تمكن عند، لأنك تقول: " هذا القول عندي
صواب " ولا يقال: الوقت لدنيّ صواب، وتقول: عندي مال عظيم والمال
غائب عنك، و " لدن " لما يليك). [معاني القرآن: 2/52-53]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: إنّ اللّه لا يظلم مثقال ذرّةٍ وإن تك حسنةً يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً (40)
مثقال
مفعال من الثقل، و «الذرة»: الصغيرة الحمراء من النمل، وهي أصغر ما يكون
إذا مر عليها حول، لأنها تصغر وتجري كما تفعل الأفعى، تقول العرب: أفعى
جارية، وهي أشدها، وقال امرؤ القيس:
[الطويل]
من القاصرات الطّرف لو دبّ محول = من الذّرّ فوق الإتب منها لأثّرا
فالمحول الذي أتى عليه حول. وقال حسان: [الخفيف]
لو يدبّ الحوليّ من ولد ألذ = ر عليها لأندبتها الكلوم
وعبر عن الذرة يزيد بن هارون «بأنها دودة حمراء»، وهي عبارة فاسدة، وروي عن ابن عباس:
«الذرة»
رأس النملة، وقرأ ابن عباس «إن الله لا يظلم مثقال نملة» ومثقال مفعول
ثان ل يظلم، والأول مضمر التقدير، أن الله لا يظلم أحدا مثقال ويظلم لا
يتعدى إلا إلى مفعول واحد، وإنما عدي هنا إلى مفعولين بأن يقدر في معنى ما
يتعدى إلى مفعولين، كأنه قال: إن الله لا ينقص أو لا يبخس أو لا يغصب،
ويصح أن يكون نصب مثقال على أنه بيان وصفة لمقدار الظلم المنفي، فيجيء على
هذا نعتا لمصدر محذوف، التقدير: إن الله لا يظلم ظلما مثقال ذرة، كما
تقول: إن الأمير لا يظلم قليلا ولا كثيرا، أي لا يظلم ظلما قليلا ولا
كثيرا، فعلى هذا وقف يظلم على مفعول واحد، وقال قتادة عن نفسه، ورواه عن
بعض العلماء، لأن تفضل حسناتي سيئاتي بمثقال ذرة أحب إليّ من الدنيا
جميعا، وحذفت النون من «تكن» لكثرة الاستعمال، وشبهها خفة بحروف المد
واللين، وقرأ جمهور السبعة «حسنة» بالنصب على نقصان «كان» واسمها مضمر
تقديره وإن تك زنة الذرة حسنة، وقرأ نافع وابن كثير «حسنة» بالرفع على
تمام «كان» التقدير: وإن تقع حسنة أو توجد حسنة، ويضاعفها جواب الشرط،
وقرأ ابن كثير وابن عامر «يضعفها» مشددة العين بغير ألف، قال أبو علي:
المعنى فيهما واحد، وهما لغتان، وقرأ الحسن «يضعفها» بسكون الضاد وتخفيف
العين، ومضاعفة الشيء في كلام العرب: زيادة مثله إليه، فإذا قلت: ضعفت،
فقد أتيت ببنية التكثير، وإذا كانت صيغة الفعل دون التكثير تقتضي الطي
مرتين فبناء التكثير يقتضي أكثر من المرتين إلى أقصى ما تريد من العدد،
وإذا قلت ضاعفت فليس ببنية تكثير، ولكنه فعل صيغته دالة على الطي مرتين
فما زاد، هذه أصول هذا الباب على مذهب الخليل وسيبويه، وقد ذكر أبو عبيدة
معمر بن المثنى في كتاب المجاز: أن «ضاعفت» يقتضي مرارا كثيرة، وضعفت
يقتضي مرتين، وقال مثله الطبري ومنه نقل، ويدلك على تقارب الأمر في المعنى
ما قرئ به في قوله فيضاعفه له أضعافاً كثيرةً [البقرة: 245] فإنه قرئ
«يضاعفه ويضعفه» وما قرئ به في قوله تعالى: يضاعف لها العذاب ضعفين
[الأحزاب: 30] فإنها قرئ «يضعف لها العذاب ضعفين» وقال بعض المتأولين: هذه
الآية خص بها المهاجرون، لأن الله أعلم في كتابه: أن الحسنة لكل مؤمن
مضاعفة عشر مرار، وأعلم في هذه: أنها مضاعفة مرارا كثيرة جدا حسب ما روى
أبو هريرة من أنها تضاعف ألفي ألف مرة، وروى غيره من أنها تضاعف ألف ألف
مرة، ولا يستقيم أن يتضاد الخبران، فهذه مخصوصة للمهاجرين السابقين، حسبما
روى عبد الله بن عمر: أنها لما نزلت من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها
[الأنعام: 160] في الناس كافة، قال رجل: فما للمهاجرين؟ فقال ما هو أعظم
من هذا إنّ اللّه لا يظلم الآية فخصوا بهذا كما خصت نفقة سبيل الله بتضعيف
سبعمائة مرة، ولا يقع تضاد في الخبر، وقال بعضهم: بل وعد بذلك جميع
المؤمنين، وروي في ذلك أحاديث، وهي: أن الله عز وجل يجمع الأولين والآخرين
في صعيد واحد، فينادي هذا فلان بن فلان، فمن كان له عنده حق فليقم قال:
فيحب الإنسان أن لو كان له يومئذ الحق على أبيه وابنه، فيأتي كل من له حق
فيأخذ من حسناته حتى يقع الانتصاف، ولا يبقى له إلا وزن الذرة، فيقول الله
تعالى: أضعفوها لعبدي واذهبوا به إلى الجنة، وهذا يجمع معاني ما روي مما
لم نذكره، والآية تعم المؤمنين والكافرين، فأما المؤمنون فيجازون في
الآخرة على مثاقيل الذر فما زاد، وأما الكافرون فما يفعلون من خير فتقع
المكافأة عليه بنعم الدنيا ويجيئون يوم القيامة ولا حسنة لهم، ولدنه معناه
من عنده، قال سيبويه:
ولدن:
هي لابتداء الغاية، فهي تناسب أحد مواضع من، ولذلك التأما ودخلت من
عليها، والأجر العظيم: الجنة، قاله ابن مسعود وسعيد بن جبير وابن زيد،
والله إذا منّ بتفضله بلغ بعبده الغاية). [المحرر الوجيز: 2/553-556]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (
{إنّ اللّه لا يظلم مثقال ذرّةٍ وإن تك حسنةً يضاعفها ويؤت من لدنه أجرًا
عظيمًا (40) فكيف إذا جئنا من كلّ أمّةٍ بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء
شهيدًا (41) يومئذٍ يودّ الّذين كفروا وعصوا الرّسول لو تسوّى بهم الأرض
ولا يكتمون اللّه حديثًا (42)}
يخبر تعالى أنّه لا يظلم عبدًا من عباده
يوم القيامة مثقال حبّة خردلٍ ولا مثقال ذرّةٍ، بل يوفّيها به ويضاعفها
له إن كانت حسنةً، كما قال تعالى {ونضع الموازين القسط [ليوم القيامة فلا
تظلم نفسٌ شيئًا وإن كان مثقال حبّةٍ من خردلٍ أتينا بها وكفى بنا
حاسبين]} [الأنبياء: 47] وقال تعالى مخبرًا عن لقمان أنّه قال: {يا بنيّ
إنّها إن تك مثقال حبّةٍ من خردلٍ فتكن في صخرةٍ أو في السّماوات أو في
الأرض يأت بها اللّه [إنّ اللّه لطيفٌ خبيرٌ]} [لقمان: 16] وقال تعالى:
{يومئذٍ يصدر النّاس أشتاتًا ليروا أعمالهم. فمن يعمل مثقال ذرّةٍ خيرًا
يره. ومن يعمل مثقال ذرّةٍ شرًّا يره}
وفي الصّحيحين، من حديث زيد بن أسلم، عن
عطاء بن يسار، عن أبي سعيدٍ الخدري، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
في حديث الشّفاعة الطويل، وفيه: فيقول اللّه عزّ وجلّ: "ارجعوا، فمن
وجدتم في قلبه مثقال حبّة خردلٍ من إيمانٍ، فأخرجوه من النّار". وفي لفظٍ:
"أدنى أدنى أدنى مثقال ذرّةٍ من إيمانٍ فأخرجوه من النّار، فيخرجون خلقًا
كثيرًا" ثمّ يقول أبو سعيدٍ: اقرؤوا إن شئتم: {إنّ اللّه لا يظلم مثقال
ذرّةٍ [وإن تك حسنةً يضاعفها ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا]}.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو سعيدٍ
الأشجّ، حدّثنا عيسى بن يونس، عن هارون بن عنترة عن عبد اللّه بن السّائب،
عن زاذان قال: قال عبد اللّه بن مسعود: يؤتى بالعبد والأمة يوم القيامة،
فينادي منادٍ على رءوس الأوّلين والآخرين: هذا فلان بن فلانٍ، من كان له حق
فليأت إلى حقه.
فتفرح المرأة أن يكون لها الحقّ على
أبيها أو أخيها أو زوجها. ثمّ قرأ: {فلا أنساب بينهم يومئذٍ ولا يتساءلون}
[المؤمنون:101] فيغفر اللّه من حقّه ما يشاء، ولا يغفر من حقوق النّاس
شيئًا، فينصب للنّاس فينادي: هذا فلان بن فلانٍ، من كان له حقٌّ فليأت إلى
حقّه. فيقول: ربّ، فنيت الدّنيا، من أين أوتيهم حقوقهم؟ قال: خذوا من
أعماله الصّالحة، فأعطوا كل ذي حقّ حقّه بقدر طلبته فإن كان وليًّا للّه
ففضل له مثقال ذرّةٍ، ضاعفها اللّه له حتّى يدخله بها الجنّة، ثمّ قرأ
علينا: {إنّ اللّه لا يظلم مثقال ذرّةٍ وإن تك حسنةً يضاعفها} قال: ادخل
الجنّة؛ وإن كان عبدًا شقيًّا قال الملك: ربّ فنيت حسناته، وبقي طالبون
كثيرٌ؟ فيقول: خذوا من سيّئاتهم فأضيفوها إلى سيّئاته، ثمّ صكّوا له صكًّا
إلى النّار.
ورواه ابن جريرٍ من وجهٍ آخر، عن زاذان -به نحوه. ولبعض هذا الأثر شاهدٌ في الحديث الصّحيح.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثتا
أبو نعيمٍ، حدّثنا فضيلٌ -يعني ابن مرزوقٍ-عن عطيّة العوفي، حدّثني عبد
اللّه بن عمر قال: نزلت هذه الآية في الأعراب: {من جاء بالحسنة فله عشر
أمثالها} [الأنعام: 160] قال رجلٌ: فما للمهاجرين يا أبا عبد الرّحمن؟ قال:
ما هو أفضل من ذلك: {إنّ اللّه لا يظلم مثقال ذرّةٍ وإن تك حسنةً يضاعفها
ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا}.
وحدّثنا أبو زرعة، حدّثنا يحيى بن عبد
اللّه بن بكيرٍ، حدّثني عبد اللّه بن لهيعة، حدّثني عطاء بن دينارٍ، عن
سعيد بن جبيرٍ في قوله {وإن تك حسنةً يضاعفها} فأمّا المشرك فيخفّف عنه
العذاب يوم القيامة، ولا يخرج من النّار أبدًا. وقد استدلّ له بالحديث
الصّحيح أنّ العبّاس قال: يا رسول اللّه، إن أبا طالبٍ كان يحوطك وينصرك
فهل نفعته بشيءٍ؟ قال: "نعم هو في ضحضاح من نارٍ، ولولا أنا لكان في الدّرك
الأسفل من النّار".
وقد يكون هذا خاصًّا بأبي طالبٍ من دون
الكفّار، بدليل ما رواه أبو داود الطّيالسي في سننه حدّثنا عمران، حدّثنا
قتادة، عن أنسٍ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "إنّ اللّه لا
يظلم المؤمن حسنةً، يثاب عليها الرّزق في الدّنيا ويجزى بها في الآخرة،
وأمّا الكافر فيطعم بها في الدّنيا، فإذا كان يوم القيامة لم يكن له
حسنةٌ".
وقال أبو هريرة، وعكرمة، وسعيد بن جبيرٍ، والحسن وقتادة والضحاك، في قوله: {ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا} يعني: الجنّة.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الصّمد،
حدّثنا سليمان -يعني ابن المغيرة-عن عليّ بن زيدٍ، عن أبي عثمان قال: بلغني
عن أبي هريرة أنّه قال: بلغني أنّ اللّه تعالى يعطي عبده المؤمن بالحسنة
الواحدة ألف ألف حسنةٍ. قال: فقضي أنّي انطلقت حاجًّا أو معتمرًا، فلقيته
فقلت: بلغني عنك حديثٌ أنّك تقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
يقول: "إنّ اللّه يعطى عبده المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنةٍ" قال أبو هريرة:
لا بل سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "إنّ اللّه عزّ وجلّ
يعطيه ألفي ألف حسنةٍ" ثمّ تلا {يضاعفها ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا} فمن
يقدّره قدره .
رواه الإمام أحمد فقال: حدّثنا يزيد،
حدّثنا مبارك بن فضالة، عن عليّ بن زيدٍ، عن أبي عثمان قال: أتيت أبا هريرة
فقلت له: بلغني أنّك تقول: إنّ الحسنة تضاعف ألف ألف حسنةٍ؟ قال: وما
أعجبك من ذلك؟ فواللّه لقد سمعت -يعني النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم-كذا
قال أبي -يقول: "إنّ اللّه ليضاعف الحسنة ألفي ألف حسنةٍ".
عليّ بن زيدٍ في أحاديثه نكارةٌ، فاللّه أعلم). [تفسير القرآن العظيم: 2/304-306]
تفسير قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا (41)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (قوله - جلّ وعزّ - {فكيف إذا جئنا من كلّ أمّة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} أي:
فكيف تكون حال هؤلاء يوم القيامة، وحذف " تكون حالهم " لأنّ في
الكلام دليلا على ما حذف، و " كيف " لفظها لفظ الاستفهام، ومعناها
معنى التوبيخ.
قوله: {وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} أي: نأتي بكل نبي أمّة يشهد عليها ولها). [معاني القرآن: 2/53-54]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
تعالى: فكيف إذا جئنا من كلّ أمّةٍ بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيداً
(41) يومئذٍ يودّ الّذين كفروا وعصوا الرّسول لو تسوّى بهم الأرض ولا
يكتمون اللّه حديثاً (42)
تقدم
في الآية قبلها الإعلام بتحقيق الأحكام يوم القيامة، فحسن بعد ذلك
التنبيه على الحالة التي يحضر ذلك فيها، ويجاء فيها بالشهداء على الأمم،
ومعنى الآية: أن الله يأتي بالأنبياء شهداء على أممهم بالتصديق والتكذيب،
ومعنى «الأمة» في هذه الآية: غير المعنى المتعارف في إضافة الأمم إلى
الأنبياء، فإن المتعارف أن تريد بأمة محمد عليه السلام جميع من آمن به
وكذلك في كل نبي، وهي هنا جميع من بعث إليه من آمن منهم ومن كفر، وكذلك
قال المتأولون: إن الإشارة «بهؤلاء» إلى كفار قريش وغيرهم من الكفار،
وإنما خص كفار قريش بالذكر لأن وطأة الوعيد أشد عليهم منها على غيرهم و
«كيف» في موضع نصب مفعول مقدم بفعل تقديره في آخر الآية: ترى حالهم، أو
يكونون، أو نحوه، وقال مكي في الهداية:
جئنا
عامل في «كيف»، وذلك خطأ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا
قرأ هذه الآية فاضت عيناه، وكذلك ذرفت عيناه عليه السلام حين قرأها عليه
عبد الله بن مسعود في الحديث المشهور وما ذكره الطبري من شهادة أمة محمد
بتبليغ الرسل، وما جرى في معنى ذلك من القصص الذي ذكر مكي، كسؤال اللوح
المحفوظ، ثم إسرافيل ثم جبريل، ثم الأنبياء، فليست هذه آيته، وإنما آيته
لتكونوا شهداء على النّاس [البقرة: 143]). [المحرر الوجيز: 2/557]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله:
{فكيف إذا جئنا من كلّ أمّةٍ بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا} يقول
تعالى -مخبرًا عن هول يوم القيامة وشدّة أمره وشأنه: فكيف يكون الأمر
والحال يوم القيامة وحين يجيء من كلّ أمّةٍ بشهيدٍ -يعني الأنبياء عليهم
السّلام؟ كما قال تعالى: {وأشرقت الأرض بنور ربّها ووضع الكتاب وجيء
بالنّبيّين والشّهداء [وقضي بينهم بالحقّ وهم لا يظلمون]} [الزّمر: 69]
وقال تعالى: {ويوم نبعث في كلّ أمّةٍ شهيدًا عليهم من أنفسهم [وجئنا بك
شهيدًا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكلّ شيءٍ وهدًى ورحمةً وبشرى
للمسلمين]} [النّحل: 89].
قال البخاريّ: حدّثنا محمّد بن يوسف،
حدّثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد اللّه بن مسعودٍ
قال: قال لي النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم "اقرأ عليّ" قلت: يا رسول
اللّه، آقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: "نعم، إنّي أحبّ أنّ أسمعه من غيري"
فقرأت سورة النّساء، حتّى أتيت إلى هذه الآية: {فكيف إذا جئنا من كلّ أمّةٍ
بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا} قال: "حسبك الآن" فإذا عيناه تذرفان.
ورواه هو ومسلمٌ أيضًا من حديث الأعمش،
به وقد روي من طرقٍ متعدّدةٍ عن ابن مسعودٍ، فهو مقطوعٌ به عنه. ورواه
أحمد من طريق أبي حيّان، وأبي رزين، عنه.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو بكر بن
أبي الدّنيا، حدّثنا الصّلت بن مسعود الجحدري، حدّثنا فضيل بن سليمان،
حدّثنا يونس بن محمّد بن فضالة الأنصاريّ، عن أبيه قال -وكان أبي ممّن صحب
النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
أتاهم في بني ظفر، فجلس على الصّخرة الّتي في بني ظفرٍ اليوم، ومعه ابن
مسعودٍ ومعاذ بن جبلٍ وناسٌ من أصحابه، فأمر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم
قارئًا فقرأ، فأتى على هذه الآية: {فكيف إذا جئنا من كلّ أمّةٍ بشهيدٍ
وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا} فبكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى
اضطرب لحياه وجنباه، فقال: "يا ربّ هذا شهدت على من أنا بين ظهريه، فكيف
بمن لم أره؟ ".
وقال ابن جريرٍ: حدّثني عبد اللّه بن
محمّدٍ الزّهريّ، حدّثنا سفيان، عن المسعوديّ، عن جعفر بن عمرو بن حريثٍ عن
أبيه عن عبد اللّه -هو ابن مسعودٍ- {فكيف إذا جئنا من كلّ أمّةٍ بشهيدٍ}
قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "شهيدٌ عليهم ما دمت فيهم،
فإذا توفّيتني كنت أنت الرّقيب عليهم".
وأمّا ما ذكره أبو عبد اللّه القرطبي في
"التّذكرة" حيث قال: باب ما جاء في شهادة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم
على أمته: قال: أخبرنا ابن المبارك، أخبرنارجل من الأنصار، عن المنهال بن
عمرٍو، حدّثه أنّه سمع سعيد بن المسيّب يقول: ليس من يومٍ إلّا تعرض على
النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أمّته غدوة وعشيّة، فيعرفهم بأسمائهم
وأعمالهم، فلذلك يشهد عليهم، يقول اللّه تعالى: {فكيف إذا جئنا من كلّ
أمّةٍ بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا} فإنّه أثرٌ، وفيه انقطاعٌ، فإنّ
فيه رجلًا مبهمًا لم يسمّ، وهو من كلام سعيد بن المسيّب لم يرفعه. وقد قبله
القرطبيّ فقال بعد إيراده: [قد تقدّم] أنّ الأعمال تعرض على اللّه كلّ
يوم اثنين وخميسٍ، وعلى الأنبياء والآباء والأمّهات يوم الجمعة. قال: ولا
تعارض، فإنّه يحتمل أن يخصّ نبيّنا بما يعرض عليه كلّ يومٍ، ويوم الجمعة
مع الأنبياء، عليهم السّلام). [تفسير القرآن العظيم: 2/306-307]
تفسير
قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ
الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ
حَدِيثًا (42)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله: {يومئذ يودّ الّذين كفروا وعصوا الرّسول لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون اللّه حديثا}
الاختيار الضّم في الواو في {عصوا الرسول} لالتقاء السّاكنين والكسر جائز، وقد فسرناه فيما مضى.
وقوله: {لو تسوّى بهم الأرض} وبهم الأرض بضم الميم وكسرها.
{ولا يكتمون اللّه حديثا} أي: يودون أنهم لم يبعثوا، وأنهم كانوا والأرض سواء.
وقد جاء في التفسير: أن البهائم يوم القيامة تصير ترابا، فيودون أنهم يصيرون ترابا.
قوله {ولا يكتمون اللّه حديثا} فيه غير قول:
1- قال بعضهم: ودوا أن الأرض سويت بهم وأنهم لم يكتموا الله حديثا، لأن قولهم: {واللّه ربّنا ما كنّا مشركين} قد كذبوا فيه.
2- وقال بعضهم: {ولا يكتمون اللّه حديثا}مستأنف لأن ما عملوه ظاهر عند اللّه لا يقدرون على كتمه). [معاني القرآن: 2/54]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ويومئذٍ
ظرف ويصح أن يكون نصب «يوم» في هذا الموضع على الظرف، على أنه معرب مع
الأسماء غير المتمكنة، ويصح أن يكون نصبه على أنه مبني على النصب مع
الأسماء غير المتمكنة، و «الود» إنما هو في ذلك اليوم، وقرأ نافع وابن عامر
«تسّوّى» بتشديد السين والواو على إدغام التاء الثانية من تتسوى، وقرأ
حمزة والكسائي «تسّوّى» بتخفيف السين وتشديد الواو، على حذف التاء الثانية
المذكورة، وهما بمعنى واحد، واختلف فيه، فقالت فرقة: تنشق الأرض فيحصلون
فيها ثم تتسوى هي في نفسها عليهم وبهم، وقالت فرقة: معناه لو تستوي هي معهم
في أن يكونوا ترابا كآبائهم، فجاء اللفظ على أن الأرض هي المستوية معهم،
والمعنى إنما هو أنهم يستوون مع الأرض، ففي اللفظ قلب يخرج على نحو اللغة
التي حكاها سيبويه، أدخلت القلنسوة في رأسي وأدخلت فمي في الحجر، وما جرى
مجراه، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو «تسوى» على بناء الفعل للمفعول
الذي لم يسم فاعله، فيكون الله تعالى يفعل ذلك على حسب المعنيين
المتقدمين، قال أبو علي: إمالة الفتحة إلى الكسرة والألف إلى الياء في
«تسوى» حسنة، قالت طائفة: معنى الآية أن الكفار لما يرونه من الهول وشدة
المخاوف يودون أن تسوى بهم الأرض فلا ينالهم ذلك الخوف، ثم استأنف الكلام
فأخبر أنهم لا يكتمون اللّه حديثاً لنطق جوارحهم بذلك كله، حين يقول
بعضهم: واللّه ربّنا ما كنّا مشركين [الأنعام: 23] فيقول الله: كذبتم، ثم
ينطق جوارحهم فلا تكتم حديثا، وهذا قول ابن عباس، وقال فيه: إن الله إذا
جمع الأولين والآخرين ظن بعض الكفار أن الإنكار ينجي، فقالوا: واللّه
ربّنا ما كنّا مشركين، فيقول الله: كذبتم، ثم ينطق جوارحهم فلا تكتم
حديثا، وهكذا فتح ابن عباس على سائل أشكل عليه الأمر، وقالت طائفة: مثل
القول الأول، إلا أنها قالت: إنما استأنف الكلام بقوله: ولا يكتمون اللّه
حديثاً ليخبر عن أن الكتم لا ينفع، وإن كتموا، لأن الله تعالى يعلم جميع
أسرارهم وأحاديثهم، فمعنى ذلك:
وليس ذلك المقام الهائل مقاما ينفع فيه الكتم.
قال
القاضي أبو محمد رحمه الله: الفرق بين هذين القولين أن الأول يقتضي أن
الكتم لا ينفع بوجه، والآخر يقتضي أن الكتم لا ينفع وقع أو لم يقع، كما
تقول: هذا مجلس لا يقال فيه باطل، وأنت تريد لا ينتفع به ولا يستمع إليه،
وقالت طائفة: الكلام كله متصل، ومعناه: يود الذين كفروا لو تسوى بهم الأرض،
ويودون أن لا يكتموا الله حديثا، وودهم لذلك إنما هو ندم على كذبهم حين
قالوا: واللّه ربّنا ما كنّا مشركين، وقالت طائفة: هي مواطن وفرق، وقالت
طائفة: معنى الآية: يود الذين كفروا أن تسوى بهم الأرض، وأنهم لم يكتموا
الله حديثا، وهذا على جهة الندم على الكذب أيضا، كما تقول: وددت أن أعزم
كذا، ولا يكون كذا على جهة الفداء، أي يفدون كتمانهم بأن تسوى بهم الأرض،
والرّسول في هذه الآية: للجنس، شرف بالذكر وهو مفرد دل على الجمع، وقرأ أبو
السمال ويحيى بن يعمر: «وعصوا الرسول» بكسر الواو من عصوا). [المحرر الوجيز: 2/558-559]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله:
{يومئذٍ يودّ الّذين كفروا وعصوا الرّسول لو تسوّى بهم الأرض} أي: لو
انشقّت وبلعتهم، ممّا يرون من أهوال الموقف، وما يحلّ بهم من الخزي
والفضيحة والتّوبيخ، كقوله: {يوم ينظر المرء ما قدّمت يداه [ويقول الكافر
يا ليتني كنت ترابًا]} وقوله {ولا يكتمون اللّه حديثًا} أخبر عنهم بأنّهم
يعترفون بجميع ما فعلوه، ولا يكتمون منه شيئًا.
قال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن حميد، حدّثنا
حكّام، حدّثنا عمرٌو، عن مطرّف، عن المنهال بن عمرٍو، عن سعيد بن جبير
قال: أتى رجلٌ ابن عبّاسٍ فقال: سمعت اللّه، عزّ وجلّ، يقول -يعني إخبارًا
عن المشركين يوم القيامة أنّهم قالوا-: {واللّه ربّنا ما كنّا مشركين}
[الأنعام: 23] وقال في الآية الأخرى: {ولا يكتمون اللّه حديثًا} فقال ابن
العبّاس: أمّا قوله: {واللّه ربّنا ما كنّا مشركين} فإنّهم لمّا رأوا أنّه
لا يدخل الجنّة إلّا أهل الإسلام قالوا: تعالوا فلنجحد، فقالوا: {واللّه
ربّنا ما كنّا مشركين} فختم اللّه على أفواههم، وتكلّمت أيديهم وأرجلهم
{ولا يكتمون اللّه حديثًا}
وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمرٌ، عن
رجلٍ عن المنهال بن عمرٍو، عن سعيد بن جبير قال: جاء رجلٌ إلى ابن عبّاسٍ
فقال: أشياءٌ تختلف عليّ في القرآن. قال: ما هو؟ أشكّ في القرآن؟ قال: ليس
هو بالشّكّ. ولكن اختلافٌ. قال: فهات ما اختلف عليك من ذلك. قال: أسمع
اللّه يقول: {ثمّ لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا واللّه ربّنا ما كنّا مشركين}
[الأنعام: 23] وقال {ولا يكتمون اللّه حديثًا}؛ فقد كتموا! فقال ابن
عبّاسٍ: أمّا قوله: {ثمّ لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا واللّه ربّنا ما كنّا
مشركين} فإنّهم لمّا رأوا يوم القيامة أنّ اللّه لا يغفر إلّا لأهل
الإسلام ويغفر الذّنوب ولا يغفر شركًا، ولا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفره، جحد
المشركون، فقالوا: {واللّه ربّنا ما كنّا مشركين}؛ رجاء أن يغفر لهم. فختم
اللّه على أفواههم، وتكلّمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فعند ذلك:
{يودّ الّذين كفروا وعصوا الرّسول لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون اللّه
حديثًا}
وقال جويبرٌ عن الضّحّاك: إنّ نافع بن
الأزرق أتى ابن عبّاسٍ فقال: يا ابن عبّاسٍ، قول اللّه: {يومئذٍ يودّ
الّذين كفروا وعصوا الرّسول لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون اللّه حديثًا}
وقوله {واللّه ربّنا ما كنّا مشركين}؟ فقال له ابن عبّاسٍ: إنّي أحسبك قمت
من عند أصحابك فقلت ألقي على ابن عبّاسٍ متشابه القرآن. فإذا رجعت إليهم
فأخبرهم أنّ اللّه جامع النّاس يوم القيامة في بقيعٍ واحدٍ. فيقول
المشركون: إن اللّه لا يقبل من أحدٍ شيئًا إلّا ممّن وحّده، فيقولون:
تعالوا نقل فيسألهم فيقولون: {واللّه ربّنا ما كنّا مشركين} قال: فيختم على
أفواههم، وتستنطق جوارحهم، فتشهد عليهم جوارحهم أنّهم كانوا مشركين. فعند
ذلك تمنّوا لو أنّ الأرض سوّيت بهم {ولا يكتمون اللّه حديثًا} رواه ابن
جريرٍ). [تفسير القرآن العظيم: 2/307-308]
* للاستزادة ينظر: هنا