17 Nov 2018
تفسير
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا
نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ
وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا
لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً (47)
إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ
ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا
عَظِيمًا (48)}
تفسير
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا
نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا
فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا
أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً (47)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله:
{يا أيّها الّذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزّلنا مصدّقا لما
معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردّها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنّا
أصحاب السّبت وكان أمر اللّه مفعولا}
{من قبل أن نطمس وجوها فنردّها على أدبارها} فيها ثلاثة أقوال:
1- قال بعضهم: نجعل وجوههم كأقفائهم.
2- وقال بعضهم: نجعل وجوههم منابت للشعر كأقفائهم.
3- وقال بعضهم: " الوجوه " ههنا تمثيل بأمر الدين.
المعنى: قبل أن نضلّهم مجازاة لما هم عليه من المعاندة، فنضلّهم ضلالا لا يؤمنون معه أبدا). [معاني القرآن: 2/59]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: يا أيّها الّذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزّلنا مصدّقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فنردّها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنّا أصحاب السّبت وكان أمر اللّه مفعولاً (47) إنّ اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك باللّه فقد افترى إثماً عظيماً (48)
هذا خطاب لليهود والنصارى، ولما معكم معناه من شرع وملة، لا لما كان معهم من مبدل ومغير، و «الطامس»: الدائر المغير الاعلام، كما قال ذو الرمة: [البسيط]
من كل نضّاخة الذّفرى إذا عرقت = عرضتها طامس الاعلام مجهول
ومن
ذلك قيل للأعمى المسدودة عيناه: أعمى مطموس، وقالت طائفة: «طمس الوجوه»
هنا: أن تعفى أثر الحواس فيها. وتزال الخلقة منه فيرجع كسائر الأعضاء في
الخلو من أعضاء الحواس، فيكون أرد على «الأدبار» في هذا الموضع بالمعنى، أي
خلوه من الحواس دبرا لكونه عامرا بها، وقال ابن عباس وعطية العوفي: «طمس
الوجوه» أن تزال العينان خاصة منها وترد العينان في القفا فيكون ذلك ردا
على الدبر ويمشى القهقرى، وحكى الطبري عن فرقة: أن طمس الوجوه أن تتغير
أعلامها وتصير منابت للشعر، فذلك هو الرد على الدبر، ورد على هذا القول
الطبري، وقال مالك رحمه الله: كان أول إسلام كعب أنه مر برجل من أليل وهو
يقرأ هذه الآية: يا أيّها الّذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزّلنا مصدّقاً
لما معكم فوضع كفيه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته. فأسلم مكانه، وقال:
والله لقد خفت أن لا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي، وقال مجاهد والحسن والسدي
والضحاك: ذلك تجوز، وإنما المراد به وجوه الهدى والرشد، وطمسها حتم الإضلال
والصد عنها والتصيير إلى الكفر، وهو الرد على الأدبار، وقال ابن زيد:
الوجوه هي أوطانهم وسكناهم في بلادهم التي خرجوا إليها، وطمسها: إخراجهم
منها، والرد على الأدبار: هو رجوعهم إلى الشام من حبث أتوا أولا، وأصحاب
السّبت: هم أهل أيلة الذين اعتدوا في السبت في الصيد، حسبما تقدم، وكانت
لعنتهم أن مسخوا خنازير وقردة، قاله قتادة والحسن والسدي: وأمر الله في هذا
الموضع واحد الأمور، دال على جنسها، لا واحد الأوامر، فهي عبارة عن
المخلوقات كالعذاب واللعنة هنا، أو ما اقتضاه كل موضع مما يختص به). [المحرر الوجيز: 2/574-575]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({يا
أيّها الّذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدّقًا لما معكم من قبل أن
نطمس وجوهًا فنردّها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنّا أصحاب السّبت وكان
أمر اللّه مفعولا (47) إنّ اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن
يشاء ومن يشرك باللّه فقد افترى إثمًا عظيمًا (48)}
يقول تعالى -آمرًا أهل الكتاب بالإيمان
بما نزّل على عبده ورسوله محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم من الكتاب العظيم
الّذي فيه تصديق الأخبار الّتي بأيديهم من البشارات، ومتهدّدًا لهم أن
يفعلوا، بقوله: {من قبل أن نطمس وجوهًا فنردّها على أدبارها} قال بعضهم:
معناه: من قبل أن نطمس وجوهًا. طمسها هو ردّها إلى الأدبار، وجعل أبصارهم
من ورائهم. ويحتمل أن يكون المراد: من قبل أن نطمس وجوهًا فلا يبقى لها
سمعٌ ولا بصرٌ ولا أثرٌ، ونردّها مع ذلك إلى ناحية الأدبار.
قال العوفيّ عن ابن عبّاسٍ: {من قبل أن
نطمس وجوهًا} وطمسها أن تعمى {فنردّها على أدبارها} يقول: نجعل وجوههم من
قبل أقفيتهم، فيمشون القهقرى، ونجعل لأحدهم عينين من قفاه.
وكذا قال قتادة، وعطيّة العوفيّ. وهذا
أبلغ في العقوبة والنّكال، وهذا مثلٌ ضربه اللّه لهم في صرفهم عن الحقّ
وردّهم إلى الباطل ورجوعهم عن المحجّة البيضاء إلى سبل الضّلالة يهرعون
ويمشون القهقرى على أدبارهم، وهذا كما قال بعضهم في قوله: {إنّا جعلنا في
أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون. وجعلنا من بين أيديهم سدًّا
[ومن خلفهم سدًّا فأغشيناهم فهم لا يبصرون]} [يس 8، 9] إنّ هذا مثل [سوءٍ]
ضربه اللّه لهم في ضلالهم ومنعهم عن الهدى.
قال مجاهدٌ: {من قبل أن نطمس وجوهًا} يقول: عن صراط الحق، فنردها على أدبارهم، أي: في الضّلالة.
قال ابن أبي حاتمٍ: وروي عن ابن عبّاسٍ، والحسن نحو هذا.
قال السّدّيّ: {فنردّها على أدبارها} فنمنعها عن الحقّ، قال: نرجعها كفّارًا ونردّهم قردةً.
وقال ابن زيدٍ نردّهم إلى بلاد الشّام من أرض الحجاز.
وقد ذكر أنّ كعب الأحبار أسلم حين سمع هذه الآية، قال ابن جريرٍ:
حدّثنا أبو كريبٍ، حدّثنا جابر بن نوحٍ،
عن عيسى بن المغيرة قال: تذاكرنا عند إبراهيم إسلام كعبٍ، فقال: أسلم
كعبٌ زمان عمر، أقبل وهو يريد بيت المقدس، فمرّ على المدينة، فخرج إليه
عمر فقال: يا كعب، أسلم، قال: ألستم تقرؤون في كتابكم {مثل الّذين حمّلوا
التّوراة [ثمّ لم يحملوها كمثل الحمار يحمل] أسفارًا} وأنا قد حملت
التّوراة. قال: فتركه عمر. ثمّ خرج حتّى انتهى إلى حمص، فسمع رجلًا من
أهلها حزينًا، وهو يقول: {يا أيّها الّذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا
مصدّقًا لما معكم من قبل أن نطمس وجوهًا فنردّها على أدبارها} الآية. قال
كعبٌ: يا ربّ آمنت، يا ربّ، أسلمت، مخافة أن تصيبه هذه الآية، ثمّ رجع فأتى
أهله في اليمن، ثمّ جاء بهم مسلمين.
وقد رواه ابن أبي حاتمٍ من وجهٍ آخر
بلفظٍ آخر، فقال: حدّثنا أبي، حدّثنا ابن نفيلٍ، حدّثنا عمرو بن واقدٍ، عن
يونس بن حلبسٍ عن أبي إدريس عائذ اللّه الخولانيّ قال: كان أبو مسلمٍ
الجليليّ معلّم كعبٍ، وكان يلومه في إبطائه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم قال: فبعثه إليه ينظر أهو هو؟ قال كعبٌ: فركبت حتّى أتيت المدينة،
فإذا تالٍ يقرأ القرآن، يقول: {يا أيّها الّذين أوتوا الكتاب آمنوا بما
نزلنا مصدّقًا لما معكم من قبل أن نطمس وجوهًا فنردّها على أدبارها} فبادرت
الماء فاغتسلت وإنّي لأمسح وجهي مخافة أن أطمس، ثمّ أسلمت.
وقوله: {أو نلعنهم كما لعنّا أصحاب
السّبت} يعني: الّذين اعتدوا في سبتهم بالحيلة على الاصطياد، وقد مسخوا
قردةً وخنازير، وسيأتي بسط قصّتهم في سورة الأعراف.
وقوله: {وكان أمر اللّه مفعولا} أي: إذا أمر بأمرٍ، فإنّه لا يخالف ولا يمانع). [تفسير القرآن العظيم: 2/324-325]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: إنّ اللّه لا يغفر أن يشرك به الآية، هذه مسألة الوعد والوعيد، وتلخيص الكلام فيها أن يقال: الناس أربعة أصناف، كافر مات على كفره، فهذا مخلد في النار بإجماع، ومؤمن محسن لم يذنب قطّ ومات على ذلك، فهذا في الجنة محتوم عليه حسب الخبر من الله تعالى بإجماع، وتائب مات على توبته فهو عند أهل السنة وجمهور فقهاء الأمة لاحق بالمؤمن المحسن إلا أن قانون المتكلمين أنه في المشيئة، ومذنب مات قبل توبته، فهذا موضع الخلاف، فقالت المرجئة: هو في الجنة بإيمانه ولا تضره سيئاته، وبنوا هذه المقالة على أن جعلوا آيات الوعيد كلها مخصصة في الكفار، وآيات الوعد عامة في المؤمنين، تقيّهم وعاصيهم. وقالت المعتزلة: إذا كان صاحب كبيرة فهو في النار ولا بد، وقالت الخوارج:
إذا كان صاحب كبيرة أو صغيرة فهو في النار مخلد ولا إيمان له، لأنهم يرون كل الذنوب كبائر، وبنوا هذه المقالة على أن جعلوا آيات الوعد كلها مخصصة في المؤمن المحسن الذي لم يعص قط، والمؤمن التائب، وجعلوا آيات الوعيد عامة في العصاة كفارا أو مؤمنين، وقال أهل السنة وأحق: آيات الوعد ظاهرة العموم، وآيات الوعيد ظاهرة العموم، ولا يصح نفوذ كلها لوجهه بسبب تعارضها، كقوله تعالى: لا يصلاها إلّا الأشقى الّذي كذّب وتولّى [الليل: 15- 16]، وهذه الآية هي الحاكمة ببيان ما تعارض من آيات الوعد والوعيد وقوله: ومن يعص اللّه ورسوله فإنّ له نار جهنّم [الجن: 23] فلا بد أن نقول: إن آيات الوعد لفظها لفظ عموم، والمراد بها الخصوص في المؤمن المحسن، وفي التائب، وفيمن سبق في علمه تعالى العفو عنه دون تعذيب من العصاة، وأن آيات الوعيد لفظها عموم، والمراد بها الخصوص في الكفرة وفيمن سبق في علمه تعالى أنه يعذبه من العصاة، وتحكم بقولنا: هذه الآية النص في موضع النزاع، وهي قوله تعالى: إنّ اللّه لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء فإنها جلت الشك وردت على الطائفتين، المرجئة والمعتزلة، وذلك أن قوله تعالى إنّ اللّه لا يغفر أن يشرك به فصل مجمع عليه، وقوله: ويغفر ما دون ذلك فصل قاطع بالمعتزلة راد على قولهم ردا لا محيد عنه، ولو وقفنا في هذا الموضع من الكلام لصح قول المرجئة، فجاء قوله لمن يشاء رادا عليهم، موجبا أن غفران ما دون الشرك إنما هو لقوم دون قوم، بخلاف ما زعموه من أنه مغفور لكل مؤمن.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ورامت المعتزلة أن ترد هذه الآية إلى قولها، بأن قالوا: «من يشاء» هو التائب، وما أرادوه فاسد، لأن فائدة التقسيم في الآية كانت تبطل، إذا التائب من الشرك يغفر له.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ورامت المرجئة أن ترد الآية إلى قولها، بأن قالوا: لمن يشاء معناه: يشاء أن يؤمن، لا يشاء أن يغفر له. فالمشيئة معلقة بالإيمان ممن يؤمن، لا بغفران الله لمن يغفر له، ويرد ذلك بأن الآية تقتضي على هذا التأويل أن قوله: ويغفر ما دون ذلك عام في كافر ومؤمن، فإذا خصص المؤمنون بقوله لمن يشاء وجب أن الكافرين لا يغفر لهم ما دون ذلك، ويجازون به.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وذلك وإن كان مما قد قيل- فهو مما لم يقصد بالآية على تأويل أحد من العلماء، ويرد على هذا المنزع بطول التقسيم، لأن الشرك مغفور أيضا لمن شاء الله أن يؤمن.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ومن آيات الوعيد التي احتج بها المعتزلة، قوله تعالى: ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها وغضب اللّه عليه ولعنه وأعدّ له عذاباً عظيماً [النساء: 93] والآية مخرجة عنهم لوجوه، منها: أن الأصح في تأويل قوله تعالى متعمّداً ما قال ابن عباس: إنه أراد مستحلا، وإذا استحل أحد ما حرم الله عليه فقد كفر، ويدل على ما قال ابن عباس: إنّا نجد الله تعالى في أمر القتل إذا ذكر القصاص لم يذكر الوعيد، وإذا ذكر الوعيد بالنار لم يذكر القصاص، فيظهر أن القصاص للقاتل المؤمن العاصي، والوعيد للمستحل الذي في حكم الكافر، ومنها من جهة أخرى أن الخلود إذا لم يقرن بقوله «أبدا» فجائز أن يراد به الزمن المتطاول، إذ ذلك معهود في كلام العرب، ألا ترى أنهم يحيّون الملوك بخلد الله ملكك، ومن ذلك قول امرئ القيس: [الطويل]
وهل يعمن إلّا سعيد مخلّد = قليل الهموم ما يبيت بأوجال
وقال
عبد الله بن عمرو لما نزلت قل يا عبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم لا
تقنطوا من رحمة اللّه، إنّ اللّه يغفر الذّنوب جميعاً [الزمر: 53] قال بعض
أصحاب النبي عليه السلام: والشرك يا رسول الله، فنزلت: إنّ اللّه لا يغفر
أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ولما حتم على أنه لا يغفر الشرك
ذكر قبح موضعه وقدره في الذنوب، والفرية: أشد مراتب الكذب قبحا، وهو
الاختلاق للعصبية). [المحرر الوجيز: 2/575-577]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ
أخبر تعالى: أنّه {لا يغفر أن يشرك به} أي: لا يغفر لعبدٍ لقيه وهو مشركٌ
به {ويغفر ما دون ذلك} أي: من الذّنوب {لمن يشاء} أي: من عباده.
وقد وردت أحاديث متعلّقةٌ بهذه الآية
الكريمة، فلنذكر منها ما تيسر: الحديث الأوّل: قال الإمام أحمد: حدّثنا
يزيد، أخبرنا صدقة بن موسى، حدّثنا أبو عمران الجونيّ، عن يزيد بن بابنوس
عن عائشة قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "الدّواوين عند
اللّه ثلاثةٌ؛ ديوانٌ لا يعبأ اللّه به شيئًا، وديوانٌ لا يترك اللّه منه
شيئًا، وديوانٌ لا يغفره اللّه. فأمّا الدّيوان الّذي لا يغفره اللّه،
فالشّرك باللّه، قال اللّه عزّ وجلّ: {إنّه من يشرك باللّه فقد حرّم اللّه
عليه الجنّة} [المائدة:72] وأمّا الدّيوان الّذي لا يعبأ اللّه به شيئًا،
فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربّه، من صوم يومٍ تركه، أو صلاةٍ تركها؛
فإنّ اللّه يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء. وأمّا الدّيوان الّذي لا يترك اللّه
منه شيئًا، فظلم العباد بعضهم بعضًا؛ القصاص لا محالة".
تفرّد به أحمد.
الحديث الثّاني: قال الحافظ أبو بكرٍ
البزّار في مسنده: حدّثنا أحمد بن مالكٍ، حدّثنا زائدة بن أبي الرقاد، عن
زياد النمري، عن أنس بن مالكٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال:
"الظّلم ثلاثةٌ، فظلمٌ لا يغفره اللّه، وظلمٌ يغفره اللّه، وظلمٌ لا يتركه
اللّه: فأمّا الظّلم الّذي لا يغفره اللّه فالشّرك، وقال {إنّ الشّرك
لظلمٌ عظيمٌ} [لقمان:13] وأمّا الظّلم الّذي يغفره اللّه فظلم العباد
لأنفسهم فيما بينهم وبين ربّهم، وأمّا الظّلم الّذي لا يتركه فظلم العباد
بعضهم بعضًا، حتّى يدين لبعضهم من بعضٍ".
الحديث الثّالث: قال الإمام أحمد:
حدّثنا صفوان بن عيسى، حدّثنا ثور بن يزيد، عن أبي عونٍ، عن أبي إدريس قال:
سمعت معاوية يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "كلّ
ذنبٍ عسى اللّه أن يغفره، إلا الرجل يموت كافرا، أو الرّجل يقتل مؤمنًا
متعمّدًا".
رواه النّسائيّ، عن محمّد بن مثنّى، عن صفوان بن عيسى، به.
الحديث الرّابع: قال الإمام أحمد:
حدّثنا هاشم بن القاسم، حدّثنا عبد الحميد، حدّثنا شهرٌ، حدّثنا ابن غنمٍ
أنّ أبا ذرٍّ حدّثه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "إنّ اللّه
يقول: يا عبدي، ما عبدتني ورجوتني فإنّي غافرٌ لك على ما كان فيك، يا عبدي،
إنّك إن لقيتني بقراب الأرض خطيئةً ما لم تشرك بي، لقيتك بقرابها
مغفرةً".
تفرّد به أحمد من هذا الوجه
الحديث الخامس: قال الإمام أحمد: حدّثنا
عبد الصّمد، حدّثنا أبي، حدّثنا حسينٌ، عن ابن بريدة أنّ يحيى بن يعمر
حدّثه، أنّ أبا الأسود الدّيليّ حدّثه، أنّ أبا ذرٍّ حدّثه قال: أتيت رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: "ما من عبدٍ قال: لا إله إلّا اللّه.
ثمّ مات على ذلك إلّا دخل الجنّة" قلت: وإنّ زنى وإن سرق؟ قال: "وإن زنى
وإن سرق" قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وإن زنى وإن سرق". ثلاثًا، ثمّ قال
في الرّابعة: "على رغم أنف أبي ذرٍّ"! قال: فخرج أبو ذرٍّ وهو يجرّ إزاره
وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذرٍّ". وكان أبو ذرٍّ يحدّث بهذا بعد ويقول: وإن
رغم أنف أبي ذرٍّ.
أخرجاه من حديث حسينٍ، به.
طريقٌ أخرى عنه: قال [الإمام] أحمد:
حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا الأعمش، عن زيد بن وهبٍ، عن أبي ذرٍّ قال: "كنت
أمشي مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في حرّة المدينة عشاءً، ونحن
ننظر إلى أحدٍ، فقال: "يا أبا ذرٍّ". فقلت: لبّيك يا رسول اللّه، [قال] ما
أحبّ أنّ لي أحدًا ذاك عندي ذهبًا أمسي ثالثةً وعندي منه دينارٌ، إلّا
دينارًا أرصده -يعني لدينٍ-إلّا أن أقول به في عباد اللّه هكذا". وحثا عن
يمينه وبين يديه وعن يساره. قال: ثمّ مشينا فقال: "يا أبا ذرٍّ، إنّ
الأكثرين هم الأقلّون يوم القيامة إلّا من قال هكذا وهكذا وهكذا". فحثا عن
يمينه ومن بين يديه وعن يساره. قال: ثمّ مشينا فقال: "يا أبا ذرٍّ، كما
أنت حتّى آتيك". قال: فانطلق حتّى توارى عنّي. قال: فسمعت لغطًا فقلت:
لعلّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عرض له. قال فهممت أن أتّبعه، ثمّ
ذكرت قوله: "لا تبرح حتّى آتيك" فانتظرته حتّى جاء، فذكرت له الّذي سمعت،
فقال: "ذاك جبريل أتاني فقال: من مات من أمّتك لا يشرك باللّه شيئًا دخل
الجنة". قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وإن زنى وإن سرق".
أخرجاه في الصّحيحين من حديث الأعمش، به.
وقد رواه البخاريّ ومسلمٌ أيضًا كلاهما،
عن قتيبة، عن جرير بن عبد الحميد، عن عبد العزيز بن رفيعٍ، عن زيد بن
وهبٍ، عن أبي ذرٍّ قال: خرجت ليلةً من اللّيالي، فإذا رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلّم يمشي وحده، ليس معه إنسانٌ، قال: فظننت أنّه يكره أن يمشي
معه أحدٌ. قال: فجعلت أمشي في ظلّ القمر، فالتفت فرآني، فقال: "من هذا؟ "
فقلت: أبو ذرٍّ، جعلني اللّه فداك. قال: "يا أبا ذرٍّ، تعال". قال: فمشيت
معه ساعةً فقال: "إنّ المكثرين هم المقلّون يوم القيامة إلّا من أعطاه
الله خيرا فنفخ فيه عن يمينه وشماله، وبين يديه وورائه، وعمل فيه خيرًا".
قال: فمشيت معه ساعةً فقال لي: "اجلس هاهنا"، قال: فأجلسني في قاعٍ حوله
حجارةٌ، فقال لي: "اجلس هاهنا حتّى أرجع إليك". قال: فانطلق في الحرّة
حتّى لا أراه، فلبث عنّي فأطال اللّبث، ثمّ إنّي سمعته وهو مقبلٌ، وهو
يقول: "وإن سرق وإن زنى". قال: فلمّا جاء لم أصبر حتّى قلت: يا نبيّ
اللّه، جعلني الله فداءك، من تكلم في جانب الحرّة؟ ما سمعت أحدًا يرجع
إليك شيئًا. قال: "ذاك جبريل، عرض لي من جانب الحرّة فقال: بشّر أمّتك
أنّه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنّة. قلت: يا جبريل، وإن سرق وإن
زنى؟ قال: نعم قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم. قلت: وإن سرق وإن زنى؟
قال: نعم، وإن شرب الخمر".
الحديث السادس: قال عبد بن حميدٍ في
مسنده: أخبرنا عبيد اللّه بن موسى، عن ابن أبي ليلى، عن أبي الزّبير، عن
جابرٍ قال: جاء رجلٌ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: يا رسول
اللّه، ما الموجبتان ؟ قال: "من مات لا يشرك باللّه شيئًا وجبت له الجنّة،
ومن مات يشرك باللّه شيئًا وجبت له النّار". وذكر تمام الحديث. تفرّد به
من هذا الوجه.
طريقٌ أخرى: قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا
أبي، حدّثنا الحسن بن عمرو بن خلادٍ الحرّانيّ، حدّثنا منصور بن إسماعيل
القرشيّ، حدّثنا موسى بن عبيدة، الرّبذيّ، أخبر عبد اللّه بن عبيدة، عن
جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "ما من نفسٍ
تموت، لا تشرك باللّه شيئًا، إلّا حلّت لها المغفرة، إن شاء اللّه
عذّبها، وإن شاء غفر لها: {إنّ اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك
لمن يشاء}.
ورواه الحافظ أبو يعلى في مسنده، من
حديث موسى بن عبيدة، عن أخيه عبد اللّه بن عبيدة، عن جابرٍ؛ أنّ النّبيّ
صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "لا تزال المغفرة على العبد ما لم يقع الحجاب".
قيل: يا نبيّ اللّه، وما الحجاب؟ قال: "الإشراك باللّه". قال: "ما من
نفسٍ تلقى اللّه لا تشرك به شيئًا إلّا حلّت لها المغفرة من اللّه تعالى،
إن يشأ أن يعذّبها، وإن يشأ أن يغفر لها غفر لها". ثمّ قرأ نبيّ اللّه:
{إنّ اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}.
الحديث السّابع: قال الإمام أحمد:
حدّثنا أبو نعيمٍ، حدّثنا زكريّا، عن عطيّة، عن أبي سعيدٍ الخدريّ قال: قال
رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل
الجنّة".
تفرّد به من هذا الوجه.
الحديث الثّامن: قال الإمام أحمد:
حدّثنا حسن بن موسى، حدّثنا ابن لهيعة، حدّثنا أبو قبيلٍ، عن عبد اللّه بن
ناشرٍ من بني سريع قال: سمعت أبا رهم قاصن أهل الشّام يقول: سمعت أبا
أيّوب الأنصاريّ يقول: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خرج ذات يومٍ
إليهم، فقال لهم: "إن ربكم، عز وجل، خيرني بين سبعين ألفًا يدخلون الجنّة
عفوًا بغير حسابٍ، وبين الخبيئة عنده لأمّتي". فقال له بعض أصحابه: يا
رسول الله، أيخبأ ذلك ربّك؟ فدخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثمّ
خرج وهو يكبّر، فقال: "إنّ ربّي زادني مع كلّ ألفٍ سبعين ألفًا والخبيئة
عنده" قال أبو رهمٍ: يا أبا أيّوب، وما تظنّ خبيئة رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم؟ فأكله النّاس بأفواههم فقالوا: وما أنت وخبيئة رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم؟! فقال أبو أيّوب: دعوا الرّجل عنكم، أخبركم عن
خبيئة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كما أظنّ، بل كالمستيقن. إنّ
خبيئة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يقول: من شهد أن لا إله إلّا
اللّه وحده لا شريك له، وأنّ محمّدًا عبده ورسوله مصدّقًا لسانه قلبه
أدخله الجنّة".
الحديث التّاسع: قال ابن أبي حاتمٍ:
حدّثنا أبي، حدّثنا المؤمّل بن الفضل الحرّانيّ، حدّثنا عيسى بن يونس (ح)
وأخبرنا هاشم بن القاسم الحرّانيّ -فيما كتب إليّ-قال: حدّثنا عيسى بن يونس
نفسه، عن واصل بن السّائب الرّقاشيّ، عن أبي سورة ابن أخي أبي أيّوب، عن
أبي أيّوب الأنصاريّ قال: جاء رجلٌ إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلم
فقال: إن لي ابن أخٍ لا ينتهي عن الحرام. قال: "وما دينه؟ " قال: يصلّي
ويوحّد اللّه تعالى. قال "استوهب منه دينه، فإن أبى فابتعه منه". فطلب
الرّجل ذاك منه فأبى عليه، فأتى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فأخبره،
فقال: وجدته شحيحًا في دينه. قال: فنزلت: {إنّ اللّه لا يغفر أن يشرك به
ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}.
الحديث العاشر: قال الحافظ أبو يعلى:
حدّثنا عمرو بن الضّحّاك، حدّثنا أبي، حدّثنا مستورٌ أبو همّامٍ الهنائيّ،
حدّثنا ثابتٌ عن أنسٍ قال: جاء رجلٌ إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم
فقال: يا رسول اللّه، ما تركت حاجةً ولا ذا حاجةٍ إلّا قد أتيت. قال: "أليس
تشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنّ محمّدًا رسول اللّه؟ " ثلاث مرّاتٍ. قال:
نعم. قال: "فإنّ ذلك يأتي على ذلك كلّه".
الحديث الحادي عشر: قال الإمام أحمد:
حدّثنا أبو عامرٍ، حدّثنا عكرمة بن عمّارٍ، عن ضمضم بن جوسٍ اليماميّ قال:
قال لي أبو هريرة: يا يماميّ لا تقولنّ لرجلٍ: واللّه لا يغفر اللّه لك.
أو لا يدخلك الجنّة أبدًا. قلت: يا أبا هريرة إنّ هذه كلمةٌ يقولها أحدنا
لأخيه وصاحبه إذا غضب قال: لا تقلها، فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم يقول: "كان في بني إسرائيل رجلان كان أحدهما مجتهدًا في
العبادة، وكان الآخر مسرفًا على نفسه، وكانا متآخيين وكان المجتهد لا يزال
يرى الآخر على ذنبٍ، فيقول: يا هذا أقصر. فيقول: خلّني وربّي! أبعثت عليّ
رقيبًا؟ قال: إلى أن رآه يومًا على ذنبٍ استعظمه، فقال له: ويحك! أقصر!
قال: خلّني وربّي! أبعثت عليّ رقيبًا؟ فقال: والله لا يغفر اللّه لك -أو لا
يدخلك الجنّة أبدًا-قال: فبعث اللّه إليهما ملكًا فقبض أرواحهما واجتمعا
عنده، فقال للمذنب: اذهب فادخل الجنّة برحمتي. وقال للآخر: أكنت بي
عالمًا؟ أكنت على ما في يدي قادرًا؟ اذهبوا به إلى النّار. قال: فوالّذي
نفس أبي القاسم بيده لتكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته".
ورواه أبو داود، من حديث عكرمة بن عمار، حدثني ضمضم بن جوش، به.
الحديث الثّاني عشر: قال الطّبرانيّ:
حدّثنا أبو شيخٍ عن محمّد بن الحسن بن عجلان الأصبهانيّ، حدّثنا سلمة بن
شبيبٍ، حدّثنا إبراهيم بن الحكم بن أبانٍ، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن
عبّاسٍ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "قال اللّه عزّ وجلّ: من
علم أنّي ذو قدرةٍ على مغفرة الذّنوب غفرت له ولا أبالي، ما لم يشرك بي
شيئًا".
الحديث الثّالث عشر: قال الحافظ أبو
بكرٍ البزّار والحافظ أبو يعلى [الموصليّ] حدّثنا هدبة -هو ابن خالد-حدثنا
سهل بن أبي حزمٍ، عن ثابتٍ، عن أنسٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم: "من وعده اللّه على عملٍ ثوابًا فهو منجزه له، ومن توعّده على عملٍ
عقابًا فهو فيه بالخيار". تفرّدا به.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا بحر بن نصرٍ
الخولانيّ، حدّثنا خالدٌ -يعني ابن عبد الرّحمن الخراساني-حدثنا الهيثم
بن جمار عن سلّام بن أبي مطيعٍ، عن بكر بن عبد اللّه المزنيّ، عن ابن عمر
قال: كنّا أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لا نشكّ في قاتل النّفس،
وآكل مال اليتيم، وقاذف المحصنات، وشاهد الزّور، حتّى نزلت هذه الآية: {إنّ
اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فأمسك أصحاب
النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عن الشّهادة.
ورواه ابن جريرٍ من حديث الهيثم بن حمّادٍ به.
وقال ابن أبي حاتمٍ أيضًا: حدّثنا عبد
الملك بن أبي عبد الرّحمن المقريّ حدّثنا عبد اللّه بن عاصمٍ، حدّثنا صالحٌ
-يعني المرّيّ أبو بشرٍ-عن أيّوب، عن نافعٍ، عن ابن عمر قال: كنّا لا نشك
فيمن أوجب اللّه له النّار في الكتاب، حتّى نزلت علينا هذه الآية: {إنّ
اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} قال: فلمّا سمعناها
كففنا عن الشّهادة، وأرجينا الأمور إلى اللّه، عزّ وجل
وقال البزّار: حدّثنا محمّد بن عبد
الرّحيم، حدّثنا شيبان بن أبي شيبة، حدّثنا حرب بن سريج، عن أيّوب، عن
نافعٍ، عن ابن عمر [رضي اللّه عنهما] قال: كنّا نمسك عن الاستغفار لأهل
الكبائر، حتّى سمعنا نبيّنا صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: {إنّ اللّه لا
يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وقال: "أخّرت شفاعتي لأهل
الكبائر من أمّتي يوم القيامة".
وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع،
أخبرني مجبّرٌ، عن عبد اللّه بن عمر أنّه قال: لمّا نزلت: {قل يا عبادي
الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله [إنّ الله يغفر الذّنوب
جميعًا إنّه هو الغفور الرّحيم]} [الزّمر:53]، قام رجلٌ فقال: والشّرك
باللّه يا نبيّ اللّه؟ فكره ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقال:
{إنّ اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك باللّه
فقد افترى إثمًا عظيمًا}
رواه ابن جريرٍ. وقد رواه ابن مردويه من طرقٍ عن ابن عمر.
وهذه الآية الّتي في سورة "تنزيل"
مشروطةٌ بالتّوبة، فمن تاب من أيّ ذنبٍ وإنّ تكرّر منه تاب اللّه عليه؛
ولهذا قال: {قل يا عبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله
إنّ الله يغفر الذّنوب جميعًا إنّه هو الغفور الرّحيم} [الزّمر:53] أي:
بشرط التّوبة، ولو لم يكن كذلك لدخل الشّرك فيه، ولا يصحّ ذلك، لأنّه،
تعالى، قد حكم هاهنا بأنّه لا يغفر الشّرك، وحكم بأنّه يغفر ما عداه لمن
يشاء، أي: وإن لم يتب صاحبه، فهذه أرجى من تلك من هذا الوجه، واللّه أعلم.
وقوله: {ومن يشرك باللّه فقد افترى
إثمًا عظيمًا} كقوله {إنّ الشّرك لظلمٌ عظيمٌ} [لقمان:13]، وثبت في
الصّحيحين، عن ابن مسعودٍ أنّه قال: قلت: يا رسول اللّه، أيّ الذّنب أعظم؟
قال: "أن تجعل للّه ندًّا وهو خلقك = " وذكر تمام الحديث.
وقال ابن مردويه: حدّثنا إسحق بن
إبراهيم بن زيدٍ، حدّثنا أحمد بن عمرٍو، حدّثنا إبراهيم بن المنذر، حدّثنا
معنٌ، حدّثنا سعيد بن بشيرٍ حدّثنا قتادة، عن الحسن، عن عمران بن حصينٍ؛
أنّ رسول اللّه صلّى اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "أخبركم بأكبر
الكبائر: الشّرك باللّه" ثمّ قرأ: {ومن يشرك باللّه فقد افترى إثمًا
عظيمًا} وعقوق الوالدين". ثمّ قرأ: {أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير} ). [تفسير القرآن العظيم: 2/325-331]
* للاستزادة ينظر: هنا