18 Nov 2018
تفسير قوله تعالى: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا (87)}
تفسير
قوله تعالى: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ
مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا
وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا (85)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله: {من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيّئة يكن له كفل منها وكان اللّه على كلّ شيء مقيتا} الكفل في اللغة:
النصيب، أخذ من قولهم أكفلت البعير إذا أدرت على سنامه أو على
موضع من ظهره كساء، وركبت عليه وإنما قيل له كفل، واكتفل البعير؛
لأنه لم يستعمل الظهر كله، إنما استعمل نصيب من الظهر، ولم يستعمل
كله.
وقوله: {وكان اللّه على كلّ شيء مقيتا}
قال بعضهم: "المقيت" القدير.
وقال بعضهم: "المقيت"
الحفيظ، وهو عندي - واللّه أعلم - بالحفيظ أشبه، لأنه من القوت
مشتق، يقال: قت الرجل أقوته قوتا إذا حفظت عليه نفسه بما يقوته.
والقوت: اسم ذلك الشيء الذي يحفظ نفسه، ولا فضل فيه على قدرة الحفظ، فمعنى المقيت - واللّه أعلم -: الحفيظ الذي يعطي الشيء قدر الحاجة من الحفظ قال الشاعر:
ألي الفضل أم عليّ إذا... حوسبت إني على الحساب مقيت). [معاني القرآن: 2/85-86]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: من يشفع شفاعةً حسنةً الآية. أصل الشفاعة والشفعة ونحوها من الشفع، وهو الزوج في العدد، لأن الشافع ثان لوتر المذنب، والشفيع ثان لوتر المشتري، واختلف في هذه الآية المتأولون، فقال الطبري: المعنى من يشفع وتر الإسلام بالمعونة للمسلمين، أو من يشفع وتر الكفر بالمعونة على الإسلام، ودله على هذا التأويل ما تقدم من أمر القتال، وقال مجاهد والحسن وابن زيد وغيرهم: هي في شفاعات الناس بينهم في حوائجهم، فمن يشفع لينفع فله نصيب، ومن يشفع ليضر فله كفل، وقال الحسن وغيره: «الشفاعة الحسنة» هي في البر والطاعة، والسيئة هي في المعاصي، وهذا كله قريب بعضه من بعض، «والكفل» النصيب، ويستعمل في النصيب من الخير ومن الشر، وفي كتاب الله تعالى يؤتكم كفلين من رحمته [الحديد: 28] ومقيتاً معناه قديرا، ومنه قول الشاعر، وهو الزبير بن عبد المطلب: [الوافر]
وذي ضغن كففت النّفس عنه = وكنت على إذايته مقيتا
أي قديرا، وعبر عنه ابن عباس ومجاهد، بحفيظ وشهيد، وعبد الله بن كثير، بأنه الواصب القيم بالأمور، وهذا كله يتقارب، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقيت» على من رواها هكذا أي من هو تحت قدرته وفي قبضته من عيال وغيره، وذهب مقاتل بن حيان، إلى أنه الذي يقوت كل حيوان، وهذا على أن يقال أقات بمعنى قات، وعلى هذا يجيء قوله عليه السلام «من يقيت» من أقات وقد حكى الكسائي «أقات» يقيت، فأما قول الشاعر [السموأل بن عادياء]: [الخفيف]
ليت شعري وأشعرنّ إذا ما = قرّبوها مطويّة ودعيت
أإلى الفضل أم عليّ؟ إذا حو = سبت، إنّي على الحساب مقيت
فقال فيه الطبري: إنه من غير هذا المعنى المتقدم، وإنه بمعنى موقوت.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا يضعفه أن يكون بناء فاعل بمعنى بناء مفعول). [المحرر الوجيز: 2/616-618]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {من يشفع شفاعةً حسنةً يكن له نصيبٌ منها} أي: من سعى في أمرٍ، فترتّب عليه خيرٌ، كان له نصيبٌ من ذلك {ومن يشفع شفاعةً سيّئةً يكن له كفلٌ منها} أي: يكون عليه وزرٌ من ذلك الأمر الّذي ترتّب على سعيه ونيّته، كما ثبت في الصّحيح أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "اشفعوا تؤجروا ويقضي اللّه على لسان نبيّه ما شاء".قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: وإذا حيّيتم الآية. التحية وزنها تفعلة من حيي، وهذا هو الأغلب من مصدر فعل في المعتل، وروي عن مالك أن هذه الآية في تشميت العاطس، وفيه ضعف، لأنه ليس في الكلام على ذلك دلالة، أما أن الرد على المشمت مما يدخل بالقياس في معنى رد التحية، وهذا هو منحى مالك رحمه الله إن صح ذلك عنه والله أعلم، واختلف المتأولون، فقالت فرقة: التحية أن يقول الرجل: سلام عليك، فيجب على الآخر أن يقول: عليك السلام ورحمة الله، فإن قال البادئ: السلام عليك ورحمة الله، قال الراد عليك السلام ورحمة الله وبركاته، فإن قال البادئ: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقد انتهى ولم يبق للراد أن يحيي بأحسن منها، فهاهنا يقع الرد المذكور في الآية، فالمعنى عند أهل هذه القالة إذا حيّيتم بتحيّةٍ، فإن نقص المسلم من النهاية فحيوا بأحسن. وإن انتهى فردوا، وقالت فرقة: إنما معنى الآية تخيير الراد، فإذا قال البادئ: السلام عليك، فللراد أن يقول، وعليك السلام فقط، وهذا هو الرد، وله أن يقول، وعليك السلام ورحمة الله، وهذا هو التحية بأحسن منها، وقال ابن عباس وغيره: المراد بالآية، إذا حيّيتم بتحيّةٍ، فإن كانت من مؤمن فحيوا بأحسن منها، وإن كانت من كافر فردوا على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقال لهم: وعليكم، وروي عن ابن عمرو وابن عباس وغيرهما، انتهى السلام إلى البركة، وجمهور أهل العلم على أن لا يبدأ أهل الكتاب بسلام، فإن سلم أحد ساهيا أو جاهلا فينبغي أن يستقيله سلامه، وشذ قوم في إباحة ابتدائهم، والأول أصوب، لأن به يتصور إذ لا لهم، وقال ابن عباس: كل من سلم عليك من خلق الله فرد عليه وإن كان مجوسيا، وقال عطاء: الآية في المؤمنين خاصة، ومن سلم من غيرهم قيل له: عليك، كما في الحديث، وأكثر أهل العلم على أن الابتداء بالسلام سنة مؤكدة، ورده فريضة، لأنه حق من الحقوق، قاله الحسن بن أبي الحسن وغيره، وحسيباً معناه:
حفيظا، وهو فعيل من الحساب، وحسنت هاهنا هذه الصفة، إذ معنى الآية في أن يزيد الإنسان أو ينقص أو يوفي قدر ما يجيء به). [المحرر الوجيز: 2/618-619]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {وإذا حيّيتم بتحيّةٍ فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها} أي: إذا سلّم عليكم المسلم، فردّوا عليه أفضل ممّا سلّم، أو ردّوا عليه بمثل ما سلّم [به] فالزّيادة مندوبةٌ، والمماثلة مفروضةٌ.قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: اللّه لا إله إلاّ هو ليجمعنّكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من اللّه حديثاً (87) فما لكم في المنافقين فئتين واللّه أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضلّ اللّه ومن يضلل اللّه فلن تجد له سبيلاً (88)
لما تقدم الإنذار والتحذير الذي تضمنه قوله تعالى إنّ اللّه كان على كلّ شيءٍ حسيباً [النساء: 86] تلاه مقويا له الإعلام بصفة الربوبية، وحال الوحدانية، والإعلام بالحشر، والبعث من
القبور، للثواب، والعقاب، إعلاما بقسم، والمقسم به تقديره وهو: أو وحقه، أو وعظمته، ليجمعنّكم والجمع هنا بمعنى الحشر، فلذلك حسنت بعده إلى، أي: إليه السوق والحشر، والقيامة: أصلها القيام، ولما كان قيام الحشر من أذل الحال وأضعفها إلى أشد الأهوال وأعظمها لحقته هاء المبالغة ولا ريب فيه تبرئة هي وما بعدها بمثابة الابتداء تطلب الخبر، ومعناه: لا ريب فيه في نفسه وحقيقة أمره، وإن ارتاب فيه الكفرة فغير ضائر، ومن أصدق من اللّه حديثاً؟ ظاهره الاستفهام ومعناه تقرير الخبر، تقديره:
لا
أحد أصدق من الله تعالى، لأن دخول الكذب في حديث البشر إنما علته الخوف
والرجاء أو سوء السجية، وهذه منفية في حق الله تعالى وتقدست أسماؤه، والصدق
في حقيقته أن يكون ما يجري على لسان المخبر موافقا لما في قلبه، وللأمر
المخبر عنه في وجوده، وحديثاً نصب على التمييز). [المحرر الوجيز: 2/619]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله:
{اللّه لا إله إلا هو} إخبارٌ بتوحيده وتفرّده بالإلهيّة لجميع
المخلوقات، وتضمّن قسمًا، لقوله: {ليجمعنّكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه}
وهذه اللّام موطّئةٌ للقسم، فقوله: {اللّه لا إله إلا هو} خبرٌ وقسم أنّه
سيجمع الأوّلين والآخرين في صعيدٍ واحدٍ فيجازي كلّ عاملٍ بعمله.
وقوله تعالى: {ومن أصدق من اللّه حديثًا} أي: لا أحد أصدق منه في حديثه وخبره، ووعده ووعيده، فلا إله إلّا هو، ولا ربّ سواه). [تفسير القرآن العظيم: 2/370]
* للاستزادة ينظر: هنا