18 Nov 2018
تفسير
قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ
أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ
اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّواْ
لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ
تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ
اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا
(89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم
مِّيثَاقٌ أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ
يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ
فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ
وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ
عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن
يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى
الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ
إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ
عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا (91)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله:
فما لكم في المنافقين الآية. الخطاب للمؤمنين، وهذا ظاهره استفهام،
والمقصد منه التوبيخ، واختلف المتأولون فيمن المراد ب المنافقين؟ فقال ابن
عباس: هم قوم كانوا بمكة فكتبوا إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى
المدينة، أنهم قد آمنوا وتركوا الهجرة، وأقاموا بين أظهر الكفار، ثم سافر
قوم منهم إلى الشام فأعطتهم قريش بضاعات وقالوا لهم: إنكم لا تخافون أصحاب
محمد، لأنكم تخدعونهم بإظهار الإيمان لهم، فاتصل خبرهم بالمدينة، فاختلف
المؤمنون فيهم، فقالت طائفة: نخرج إلى أعداء الله المنافقين، وقالت طائفة:
بل هم مؤمنون لا سبيل لنا إليهم، فنزلت الآية، وقال مجاهد: بل نزلت في قوم
جاؤوا إلى المدينة من مكة، فأظهروا الإسلام، ثم قالوا: لنا بضاعات بمكة
فانصرفوا إليها وأبطنوا الكفر، فاختلف فيهم أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم. قال
القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذان القولان يعضدهما ما في آخر الآية من
قوله تعالى حتّى يهاجروا [النساء: 89]، وقال زيد بن ثابت: نزلت في
المنافقين الذين رجعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، عبد الله
بن أبيّ وأصحابه، لأن أصحاب النبي عليه السلام اختلفوا فيهم، وقال السدي:
بل نزلت في قوم منافقين كانوا بالمدينة فطلبوا الخروج عنها نفاقا وكفرا،
وقالوا: إنّا اجتويناها، وقال ابن زيد: إنما نزلت في المنافقين الذين
تكلموا في حديث الإفك، لأن الصحابة اختلفوا فيهم. قال
القاضي أبو محمد رحمه الله: الاختلاف في هذه النازلة كان بين أسيد بن
حضير وسعد بن عبادة، حسبما وقع في البخاري، وكان لكل واحد أتباع من
المؤمنين على قوله، وكل من قال في هذه الآية: إنها فيمن كان بالمدينة يرد
عليه قوله: حتّى يهاجروا [النساء: 89] لكنهم يخرجون المهاجرة إلى هجر ما
نهى الله عنه، وترك الخلاف والنفاق، كما قال عليه السلام، والمهاجر من هجر
ما نهى الله عنه، وفئتين معناه فرقتين، ونصبهما على الحال كما تقول: ما
لك قائما، هذا مذهب البصريين، وقال الكوفيون: نصبه بما يتضمنه ما لكم من
الفعل، والتقدير ما لكم كنتم فئتين، أو صرتم، وهذا الفعل المقدر ينصب
عندهم النكرة والمعرفة، كما نقول ما لك الشاتم لزيد، وخطأ هذا القول
الزجّاج، لأن المعرفة لا تكون حالا، وأركسهم معناه رجعهم في كفرهم
وضلالهم، «والركس» الرجيع، ومنه حديث النبي عليه السلام في الاستنجاء،
«فأخذ الحجرين وألقى الروثة، وقال إنها ركس» ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
[البسيط] فأركسوا في حميم النّار إنّهم = كانوا عصاة وقالوا الإفك والزّورا وحكى
النضر بن شميل والكسائي، «ركس وأركس» بمعنى واحد، أي رجعهم، ومن قال من
المتأولين: أهلكهم أو أضلهم فإنما هي بالمعنى، لأن ذلك كله يتضمنه ردهم إلى
الكفر، وبما كسبوا معناه بما اجترحوا من الكفر والنفاق، أي إن كفرهم بخلق
من الله واختراع وبتكسب منهم، وقوله: أتريدون
استفهام معناه الإبعاد واليأس مما أرادوه، والمعنى أتريدون أيها المؤمنون
القائلون: بأن أولئك المنافقين مؤمنون أن تسموا بالهدى من قد يسره الله
لضلالة وحتمها عليه، ثم أخبر تعالى أنه من يضلل فلا سبيل إلى إصلاحه ولا
إلى إرشاده). [المحرر الوجيز: 2/619-622] قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
تعالى: ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءً فلا تتّخذوا منهم أولياء
حتّى يهاجروا في سبيل اللّه فإن تولّوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا
تتّخذوا منهم وليًّا ولا نصيراً (89) الضمير
في ودّوا عائد على المنافقين، وهذا كشف من الله لخبث معتقدهم، وتحذير
للمؤمنين منهم. والمعنى تمنوا كفركم، وهي غاية المصائب بكم، وهذا الود منهم
يحتمل أن يكون عن حسد منهم لهم على ما يرون للمؤمنين من ظهور في الدنيا،
فتجري الآية مع ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا
حسدا من عند أنفسهم، ويحتمل أمر المنافقين أن يكون أنهم رأوا المؤمنين على
غير شيء فودوا رجوعهم إلى عبادة الأصنام، والأول أظهر، وقوله: فلا تتّخذوا
الآية. هذا نهي عن موالاتهم حتى يهاجروا، لأن الهجرة في سبيل الله تتضمن
الإيمان، وفي سبيل اللّه معناه في طريق مرضاة الله، لأن سبل الله كثيرة،
وهي طاعاته كلها، المعنى فإن أعرضوا عن الهجرة وتولوا عن الإيمان فخذوهم،
وهذا أمر بالحمل عليهم ومجاهرتهم بالقتال). [المحرر الوجيز: 2/622] قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
تعالى: إلاّ الّذين يصلون إلى قومٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ أو جاؤكم حصرت
صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء اللّه لسلّطهم عليكم
فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السّلم فما جعل اللّه
لكم عليهم سبيلاً (90) كان
هذا الحكم في أول الإسلام قبل أن يستحكم أمر الطاعة من الناس، فكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم قد هادن من العرب قبائل، كرهط هلال بن عويمر
الأسلمي، وسرقة بن مالك بن جعشم، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف، فقضت هذه
الآية بأنه من وصل من المشركين الذين لا عهد بينهم وبين النبي صلى الله
عليه وسلم إلى هؤلاء أهل العهد فدخل في عدادهم وفعل من الموادعة فلا سبيل
عليه، قال عكرمة والسدي وابن زيد: ثم لما تقوى الإسلام وكثر ناصروه نسخت
هذه والتي بعدها بما في سورة براءة، وقال أبو عبيدة وغيره: يصلون في هذا
الموضع معناه، ينتسبون، ومنه قول الأعشى: [الطويل] إذا اتّصلت قالت: أبكر بن وائل = وبكر سبتها والأنوف رواغم يريد إذا انتسبت. قال
القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا غير صحيح، قال الطبري: قتال رسول الله
صلى الله عليه وسلم قريشا وهم قرابة السابقين إلى الإسلام يقضي بأن قرابة
من له ميثاق أجدر بأن تقاتل، فإن قيل: إن النبي عليه السلام لم يقاتل قريشا
إلا بعد نسخ هذه الآية، قيل: التواريخ تقضي بخلاف ذلك، لأن الناسخ لهذه
الآية هي سورة براءة، ونزلت بعد فتح مكة وإسلام جميع قريش، وقوله تعالى: أو
جاؤكم عطف على يصلون، ويحتمل أن يكون على قوله: بينكم وبينهم ميثاقٌ
والمعنى في العطفين مختلف وهذا أيضا حكم كان قبل أن يستحكم أمر الإسلام،
فكان المشرك إذا اعتزل القتال وجاء إلى دار الإسلام مسالما كارها لقتال
قومه، مع المسلمين ولقتال المسلمين مع قومه لا سبيل عليه، وهذه نسخت أيضا
بما في براءة. وحصرت: ضاقت وحرجت، ومنه الحصر في القول، وهو: ضيق الكلام
على المتكلم، وقرأ الحسن وقتادة «حصرة» كذا قال الطبري: وحكى ذلك المهدوي
عن عاصم من رواية حفص، وحكي عن الحسن أنه قرأ «حصرات» وفي مصحف أبيّ سقط أو
جاؤكم، وحصرت عند جمهور النحويين في موضع نصب على الحال بتقدير قد حصرت. قال
القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا يصحب الفعل الماضي إذا كان في موضع
الحال والداعي إليه أن يفرق بين تقدير الحال وبين خبر مستأنف، كقولك جاء
زيد ركب الفرس، فإن أردت بقولك ركب الفرس خبرا آخر عن زيد، لم تحتج إلى
تقدير قد، وإن أردت به الحال من زيد قدرته بقد، قال الزجاج: حصرت خبر بعد خبر، وقال المبرد: حصرت دعاء عليهم. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقال بعض المفسرين: لا يصح هنا الدعاء، لأنه يقتضي الدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا قومهم، ذلك فاسد. قال
المؤلف: وقول المبرد يخرج على أن الدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا المسلمين
تعجيز لهم، والدعاء عليهم بأن لا يقاتلوا قومهم تحقير لهم، أي هم أقل
وأحقر، ويستغنى عنهم، كما تقول إذا أردت هذا المعنى: لا جعل الله فلانا
عليّ ولا معي أيضا، بمعنى استغنى عنه واستقل دونه، واللام في قوله: لسلّطهم
جواب لو، وفي قوله: فلقاتلوكم لام المحاذاة والازدواج، لأنها بمثابة
الأولى، لو لم تكن الأولى كنت تقول: لو شاء الله لقاتلوكم، والمعنى تقرير
المؤمنين على مقدار النقمة وصرفها، أي لو شاء الله لقواهم وجرأهم عليكم،
فإذ قد أنعم الله عليكم بالهدنة فاقبلوها وأطيعوا فيها، وقرأت طائفة
«فلقتلوكم». وقرأ الجحدري والحسن «فلقتّلوكم» بتشديد التاء، والمعنى فإن
اعتزلوكم أي هادنوكم وتاركوكم في القتل، والسّلم هنا الصلح، قاله الربيع،
ومنه قول الطرماح بن حكيم: وذاك أن تميما غادرت سلما = للأسد كل حصان رعثة الكبد وقال
الربيع: السّلم هاهنا الصلح، وكذا قرأته عامة القراء، وقرأ الجحدري
«السلم» بسكون اللام، وقرأ الحسن «السّلم» بكسر السين وسكون اللام، فمعنى
جملة هذه الآية، خذوا المنافقين الكافرين واقتلوهم حيث وجدتموهم، إلا من
دخل منهم في عداد من بينكم وبينهم ميثاقٌ والتزم مهادنتكم أو من جاءكم وقد
كره قتالكم وقتال قومه، وهذا بفضل الله عليكم ودفاعه عنكم، لأنه لو شاء
لسلط هؤلاء الذين هم بهذه الصفة من المتاركة عليكم فلقاتلوكم، فإن اعتزلوكم
أي إذا وقع هذا فلم يقاتلوكم، فلا سبيل لكم عليهم، وهذا والذي في سورة
الممتحنة من قوله تعالى لا ينهاكم اللّه عن الّذين لم يقاتلوكم في الدّين
ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم، إنّ اللّه يحبّ المقسطين
[الممتحنة: 8] منسوخ بما في سورة براءة، قاله قتادة وابن زيد وغيرهما). [المحرر الوجيز: 2/622-625] قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
تعالى: ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلّما ردّوا إلى
الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السّلم ويكفّوا أيديهم
فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مبيناً (91) لما
وصف الله تعالى فيما تقدم صفة المحقين في المتاركة، المجدين في إلقاء
السلم، نبه على طائفة مخادعة مبطلة مبطنة كانوا يريدون الإقامة في مواضعهم
مع أهليهم، يقولون لهم: نحن معكم وعلى دينكم، ويقولون أيضا للمسلمين إذا
وفدوا وأرسلوا: نحن معكم وعلى دينكم خبثة منهم وخديعة، قيل: كانت
أسد وغطفان بهذه الصفة، وقيل: نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي، كان ينقل
بين النبي عليه السلام والكفار الأخبار، وقيل: نزلت في قوم يجيئون من مكة
إلى النبي عليه السلام رياء، يظهرون الإسلام ثم يرجعون إلى قريش فيكفرون،
ففضح الله تعالى هؤلاء، وأعلم أنهم على غير صفة من تقدم، وقوله: إلى
الفتنة معناه إلى الاختبار، حكي أنهم كانوا يرجعون إلى قومهم فيقال
لأحدهم: قل: ربي الخنفساء، وربي العود، وربي العقرب، ونحوه، فيقولها، ومعنى
أركسوا رجعوا رجع ضلالة أي أهلكوا في الاختيار بما واقعوه من الكفر، وقرأ
عبد الله بن مسعود، «ركسوا» بضم الراء من غير ألف، وحكاه عنه أبو الفتح
بشد الكاف على التضعيف، والخلاف في السّلم حسبما تقدم، وهذه الآية حض على
قتل هؤلاء المخادعين إذا لم يرجعوا عن حالهم إلى حال الآخرين المعتزلين
الملقين للسلم. قال
القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله: وتأمل فصاحة الكلام في أن سياقه في
الصيغة المتقدمة قبل هذه سياق إيجاب الاعتزال. وإيجاب إلقاء السلم، ونفي
المقاتلة، إذ كانوا محقين في ذلك معتقدين له، وسياقه في هذه الصيغة
المتأخرة سياق نفي الاعتزال، ونفي إلقاء السلم، إذ كانوا مبطلين فيه
مخادعين، والحكم سواء على السياقين، لأن الذين لم يجعل الله عليهم سبيلا لو
لم يعتزلوا لكان حكمهم حكم هؤلاء الذين جعل عليهم «سلطان مبين»، وكذلك
هؤلاء الذين عليهم السلطان، إذ لم يعتزلوا، لو اعتزلوا لكان حكمهم حكم
الذين لا سبيل عليهم. ولكنهم بهذه العبارة تحت القتل إن لم يعتزلوا،
وثقفتموهم مأخوذ من الثقاف، أي ظفرتم بهم مغلوبين متمكنا منهم، والسلطان
الحجة، قال عكرمة: حيث ما وقع السلطان في كتاب الله تعالى فهو الحجة). [المحرر الوجيز: 2/625-626]
تفسير قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي
الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ
أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ
فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله:
{فما لكم في المنافقين فئتين واللّه أركسهم بما كسبوا أتريدون
أن تهدوا من أضلّ اللّه ومن يضلل اللّه فلن تجد له سبيلا }
هذا خطاب للمسلمين، وذلك أن قوما من المنافقين
قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - قد اجتوينا المدينة، فلو أذنت
لنا فخرجنا إلى البدو، فلما خرجوا لم يزالوا يرحلون مرحلة مرحلة حتى لحقوا
بالمشركين، فقال قوم من المسلمين: هم كفار هم كفار، وقال قوم: هم مسلمون حتى نعلم أنهم بدّلوا، فأمر اللّه بأن يتفق المسلمون على تكفير من احتال على النبي - صلى الله عليه وسلم - وخالفه فقال - عزّ وجلّ -: {فما لكم في المنافقين فئتين} أي: أيّ شيء لكم في الاختلاف في أمرهم {واللّه أركسهم بما كسبوا}
وتأويل {أركسهم} في اللغة: نكسهم وردّهم، يقال أركسه وركسه.
ومعنى {واللّه أركسهم بما كسبوا} أي: ردّهم إلى حكم الكفار.
وقوله: {أتريدون أن تهدوا من أضلّ اللّه} أي: أتقولون أن هؤلاء مهتدون واللّه قد أضلّهم.
{ومن يضلل اللّه فلن تجد له سبيلا} أي: طريقا إلى الحجة.
وقال النحويون في نصب {فئتين} إنها منصوبة على الحال.
وقال سيبويه: إذا قلت مالك قائما، فإنما معناه; لم قمت ونصب على تأويل أي شيء يستقر لك في هذه الحال.
قال
غيره إن " قائما " ههنا منصوب على جهة فعل " مال " ويجيز مالك
قائما، ومالك القائم يا هذا، ومالك القائم خطأ، لأن القائم معرفة فلا
يجوز أن تقع حالا، و " ما " حرف من حروف الاستفهام لا تعمل عمل
كان، ولو جاز مالك القائم يا هذا، جاز أن يقول ما عندك القائم، وما
بك القائم، وبالإجماع أن ما عندك القائم خطأ، فمالك القائم مثله لا
فرق في ذلك). [معاني القرآن: 2/87-88]
يقول تعالى منكرًا على المؤمنين في
اختلافهم في المنافقين على قولين، واختلف في سبب ذلك، فقال الإمام أحمد:
حدّثنا بهز، حدّثنا شعبة، قال عديّ بن ثابتٍ: أخبرني عبد اللّه بن يزيد، عن
زيد بن ثابتٍ: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خرج إلى أحد، فرجع
ناسٌ خرجوا معه، فكان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيهم فرقتين:
فرقةٌ تقول: نقتلهم. وفرقةٌ تقول: لا فأنزل اللّه: {فما لكم في المنافقين
فئتين} فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّها طيبة، وإنّها تنفي
الخبث كما تنفي النّار خبث الفضّة".
أخرجاه في الصّحيحين، من حديث شعبة.
وقد ذكر محمّد بن إسحاق بن يسار في وقعة
أحدٍ أنّ عبد اللّه بن أبيّ بن سلولٍ رجع يومئذٍ بثلث الجيش، رجع
بثلاثمائةٍ وبقي النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في سبعمائةٍ.
وقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: نزلت في
قومٍ كانوا بمكّة، قد تكلّموا بالإسلام، كانوا يظاهرون المشركين، فخرجوا من
مكّة يطلبون حاجةً لهم، فقالوا: إن لقينا أصحاب محمّدٍ فليس علينا منهم
بأسٌ، وأنّ المؤمنين لمّا أخبروا أنّهم قد خرجوا من مكّة، قالت فئةٌ من
المؤمنين: اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم، فإنّهم يظاهرون عليكم عدوّكم.
وقالت فئةٌ أخرى من المؤمنين: سبحان اللّه! أو كما قالوا: أتقتلون قومًا قد
تكلّموا بمثل ما تكلّمتم به؟ أمن أجل أنّهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم
تستحلّ دماؤهم وأموالهم. فكانوا كذلك فئتين، والرّسول عندهم لا ينهى
واحدًا من الفريقين عن شيءٍ فأنزل اللّه: {فما لكم في المنافقين فئتين}
رواه ابن أبي حاتمٍ، وقد روي عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن وعكرمة ومجاهدٍ والضّحّاك وغيرهم قريبٌ من هذا.
وقال زيد بن أسلم، عن ابنٍ لسعد بن
معاذٍ: أنّها نزلت في تقاول الأوس والخزرج في شأن عبد اللّه بن أبيٍّ، حين
استعذر منه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على المنبر في قضيّة الإفك.
وهذا غريبٌ، وقيل غير ذلك.
وقوله: {واللّه أركسهم بما كسبوا} أي: ردّهم وأوقعهم في الخطأ.
قال ابن عبّاسٍ: {أركسهم} أي: أوقعهم. وقال قتادة: أهلكهم. وقال السّدّيّ: أضلّهم.
وقوله: {بما كسبوا} أي: بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرّسول واتّباعهم الباطل.
{أتريدون أن تهدوا من أضلّ اللّه ومن يضلل اللّه فلن تجد له سبيلا} أي: لا طريق له إلى الهدى ولا مخلص له إليه). [تفسير القرآن العظيم: 2/370-371]
تفسير قوله تعالى: {وَدُّواْ لَوْ
تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ
مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن
تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ
تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا (89)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله عزّ وجلّ:
{ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتّخذوا منهم أولياء
حتّى يهاجروا في سبيل اللّه فإن تولّوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم
ولا تتّخذوا منهم وليّا ولا نصيرا}
{فلا تتّخذوا منهم أولياء حتّى يهاجروا في سبيل اللّه} أي: لا تتخذوا من هؤلاء الذين احتالوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى فارقوه أولياء، أي: لا تقولوا إنهم مؤمنون {حتى يهاجروا في سبيل اللّه}، أي: حتى يرجعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {فإن تولّوا}أي: تولوا عن أن يهاجروا، ولزموا الإقامة على ما هم عليه {فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتّخذوا منهم وليّا ولا نصيرا} ). [معاني القرآن: 2/88]
تفسير قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ
يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ
جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ
قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ
فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ
السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله:
{إلّا الّذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت
صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء اللّه لسلّطهم عليكم
فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السّلم فما جعل
اللّه لكم عليهم سبيلا} أي: فاقتلوهم إلا من اتصل بقوم بينكم وبينهم ميثاق.
ويروى أن: هؤلاء اتصلوا ببني مدلج وكانوا صلحا للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله: {أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم} معناه: ضاقت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم.
وقال النحويون إن {حصرت صدورهم} معناه: أو جاءوكم قد حصرت صدورهم، لأن حصرت لا يكون حالا إلا بقد.
وقال بعضهم {حصرت صدورهم} خبر بعد خبر، كأنه قال: {أو جاءوكم}، ثم أخبر فقال: {حصرت صدورهم أن يقاتلوكم}
وقوله جلّ وعزّ: {ولو شاء اللّه لسلّطهم عليكم فلقاتلوكم} أي: ضيق صدورهم عن قتالكم إنما هو لقذف اللّه الرعب في صدورهم.
وقرأ بعضهم "حصرة صدورهم" على الحال). [معاني القرآن: 2/89]
وقد روى ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي
حدّثنا أبو سلمة حدّثنا حمّاد بن سلمة عن عليّ بن زيد بن جدعان، عن الحسن:
أنّ سراقة بن مالكٍ المدلجيّ حدّثهم قال: لمّا ظهر -يعني النبي صلّى اللّه
عليه وسلّم -على أهل بدرٍ وأحد، وأسلم من حولهم قال سراقة: بلغني أنّه
يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي -بني مدلج -فأتيته فقلت: أنشدك
النّعمة. فقالوا: صهٍ فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "دعوه، ما
تريد؟ ". قال: بلغني أنّك تريد أن تبعث إلى قومي، وأنا أريد أنّ توادعهم،
فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام، وإن لم يسلموا لم تخشن قلوب قومك
عليهم. فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بيد خالد بن الوليد فقال:
"اذهب معه فافعل ما يريد". فصالحهم خالدٌ على ألّا يعينوا على رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم وإن أسلمت قريشٌ أسلموا معهم، [ومن وصل إليهم من
النّاس كانوا على مثل عهدهم] فأنزل اللّه: {ودّوا لو تكفرون كما كفروا
فتكونون سواءً فلا تتّخذوا منهم أولياء}
ورواه ابن مردويه من طريق حمّاد بن
سلمة، وقال فأنزل اللّه: {إلا الّذين يصلون إلى قومٍ بينكم وبينهم ميثاقٌ}
فكان من وصل إليهم كانوا معهم على عهدهم وهذا أنسب لسياق الكلام.
وفي صحيح البخاريّ في قصّة صلح الحديبية فكان من أحبّ أن يدخل في صلح قريشٍ وعهدهم، ومن أحبّ أن يدخل في صلح محمّدٍ وأصحابه وعهدهم.
وقد روي عن ابن عبّاسٍ أنّه قال: نسخها قوله: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين [حيث وجدتموهم]} [التّوبة: 5].
وقوله: {أو جاءوكم حصرت صدورهم [أن
يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم]} الآية، هؤلاء قومٌ آخرون من المستثنين عن
الأمر بقتالهم، وهم الّذين يجيئون إلى المصافّ وهم حصرةٌ صدورهم أي: ضيّقةٌ
صدورهم مبغضين أن يقاتلوكم، ولا يهون عليهم أيضًا أن يقاتلوا قومهم معكم،
بل هم لا لكم ولا عليكم. {ولو شاء اللّه لسلّطهم عليكم فلقاتلوكم} أي: من
لطفه بكم أن كفّهم عنكم {فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السّلم}
أي: المسالمة {فما جعل اللّه لكم عليهم سبيلا} أي: فليس لكم أن تقتلوهم،
ما دامت حالهم كذلك، وهؤلاء كالجماعة الّذين خرجوا يوم بدرٍ من بني هاشمٍ
مع المشركين، فحضروا القتال وهم كارهون، كالعبّاس ونحوه، ولهذا نهى
النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يومئذ عن قتل العباس وعبّر بأسره). [تفسير القرآن العظيم: 2/372]
تفسير قوله تعالى: {سَتَجِدُونَ
آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا
رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ
يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ
أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ
وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا (91)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ:
{ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلّ ما ردّوا إلى
الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السّلم ويكفّوا
أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا
مبينا} ستجدون من يظهر لكم الصلح ليأمنكم، وإذا سنحت فتنة كانوا مع أهلها عليكم.
وقوله: {كلّ ما ردّوا إلى الفتنة أركسوا فيها} أي: انتكسوا عن عهدهم الذي عقدوه.
وقوله: {فإن لم يعتزلوكم} أي: فإن لم يعتزلوا قتالكم ولم يعاونوا عليكم.
{ويلقوا إليكم السّلم} أي: المقادة والاستسلام.
{ويكفّوا أيديهم} أي: عن الحرب.
{فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا} أي: حجة بينة بأنهم غدرة، لا يفون بما يفارقونكم عليه من الهدنة والصلح). [معاني القرآن: 2/89-90]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله:
{ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم [كلّما ردّوا إلى الفتنة
أركسوا فيها]} الآية، هؤلاء في الصّورة الظّاهرة كمن تقدّمهم، ولكن نيّة
هؤلاء غير نيّة أولئك، فإنّ هؤلاء منافقون يظهرون للنّبيّ صلّى اللّه عليه
وسلّم ولأصحابه الإسلام؛ ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم
ويصانعون الكفّار في الباطن، فيعبدون معهم ما يعبدون، ليأمنوا بذلك
عندهم، وهم في الباطن مع أولئك، كما قال تعالى: {وإذا خلوا إلى شياطينهم
قالوا إنّا معكم [إنّما نحن مستهزئون]} [البقرة: 14] وقال هاهنا: {كلّما
ردّوا إلى الفتنة أركسوا فيها} أي: انهمكوا فيها.
وقال السّدّيّ: الفتنة هاهنا: الشّرك.
وحكى ابن جريرٍ، عن مجاهدٍ: أنّها نزلت في قومٍ من أهل مكّة، كانوا يأتون
النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فيسلّمون رياءً، ثمّ يرجعون إلى قريشٍ
فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا، فأمر بقتالهم إن
لم يعتزلوا ويصلحوا؛ ولهذا قال تعالى: {فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم
السّلم ويكفّوا أيديهم} أي: عن القتال {فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم} أي:
أين لقيتموهم {وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانًا مبينًا} أي: بيّنا
واضحًا). [تفسير القرآن العظيم: 2/373]
* للاستزادة ينظر: هنا