الدروس
course cover
تفسير سورة النساء [ من الآية (100) إلى الآية (101) ]
18 Nov 2018
18 Nov 2018

3365

0

0

course cover
تفسير سورة النساء

القسم الثامن

تفسير سورة النساء [ من الآية (100) إلى الآية (101) ]
18 Nov 2018
18 Nov 2018

18 Nov 2018

3365

0

0


0

0

0

0

0

تفسير قوله تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (100) وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا (101)}



تفسير قوله تعالى: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (100)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله: (ومن يهاجر في سبيل اللّه يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى اللّه ورسوله ثمّ يدركه الموت فقد وقع أجره على اللّه وكان اللّه غفورا رحيما (100)
معنى مراغم معنى مهاجر، المعنى يجد في الأرض مهاجرا، لأن المهاجر لقومه والمراغم بمنزلة واحدة، وإن اختلف اللفظان وقال الشاعر:
إلى بلد غير داني المحل... بعيد المراغم والمضطرب
وقيل المراغم ههنا المضطرب، وليس المراغم ههنا إلا المضطرب في حال هجرة، وإن كان مشتقا من الرغام، والرغام التراب وتأويل قولك راغمت فلانا أي هجرته وعاديته، ولم أبال رغم أنفه، أي وإن لصق أنفه بالتراب.
والرغام والرغائم ما يسيل من الأنف، والأنف يوصف بالرغم فيضرب مثلا لكل ذليل فيقال على رغم أنفه). [معاني القرآن: 2/96-97]

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (والمراغم: المتحول والمذهب، كذا قال ابن عباس والضحاك والربيع وغيرهم، ومنه قول النابغة الجعدي: [المتقارب]

كطود يلاذ بأركانه = عزيز المراغم والمذهب

وقول الآخر: [المتقارب]

إلى بلد غير داني المحل = بعيد المراغم والمضطرب

وقال مجاهد: «المراغم» المتزحزح عما يكره. وقال ابن زيد: «المراغم» المهاجر، وقال السدي: «المراغم» المبتغى للمعيشة.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا كله تفسير بالمعنى، فأما الخاص باللفظة، فإن «المراغم» موضع بالمراغمة، وهو أن يرغم كل واحد من المتنازعين أنف صاحبه بأن يغلبه على مراده، فكفار قريش أرغموا أنوف المحبوسين بمكة، فلو هاجر منهم مهاجر في أرض الله لأرغم أنوف قريش بحصوله في منعة منهم، فتلك المنعة هي موضع المراغمة. وكذلك الطود الذي ذكر النابغة، من صعد فيه أمام طالب له وتوقل فقد أرغم أنف ذلك الطالب. وقرأ نبيح والجراح والحسن بن عمران «مرغما» بفتح الميم وسكون الراء دون ألف. قال أبو الفتح: هذا إنما هو على حذف الزوائد من راغم، والجماعة على «مراغم»، وقال ابن عباس والربيع والضحاك وغيرهم: السّعة هنا هي السعة في الرزق، وقال قتادة: المعنى سعة من الضلالة إلى الهدى ومن العيلة إلى الغنى، وقال مالك: السعة سعة البلاد.

قال القاضي رحمه الله: والمشبه لفصاحة العرب أن يريد سعة الأرض وكثرة المعاقل، وبذلك تكون «السعة» في الرزق واتساع الصدر لهمومه وفكره وغير ذلك من وجوه الفرح، ونحو هذا المعنى قول الشاعر [حطان بن المعلّى].

لكان لي مضطرب واسع = في الأرض ذات الطّول والعرض

ومنه قول الآخر: [الوافر]

وكنت إذا خليل رام قطعي = وجدت وراي منفسحا عريضا

وهذا المعنى ظاهر من قوله تعالى: ألم تكن أرض اللّه واسعةً وقال مالك بن أنس رضي الله عنه:

الآية تعطي أن كل مسلم ينبغي أن يخرج من البلاد التي تغير فيها السنن ويعمل فيها بغير الحق، وقوله تعالى ومن يخرج من بيته الآية: حكم باق في الجهاد والمشي إلى الصلاة والحج ونحوه، أما أنه لا يقال: إن بنفس خروجه ونيته حصل في مرتبة الذي قضى ذلك الفرض أو العبادة في الجملة، ولكن يقال: وقع له بذلك أجر عظيم، وروي: أن هذه الآية نزلت بسبب رجل من كنانة، وقيل: من خزاعة من بني ليث، وقيل: من جندع، لما سمع قول الله عز وجل الذين لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلًا قال:

إني لذو مال وعبيد- وكان مريضا- فقال: أخرجوني إلى المدينة، فأخرج في سرير فأدركه الموت بالتنعيم، فنزلت الآية بسببه، واختلف في اسمه، فحكى الطبري عن ابن جبير: أنه ضمرة بن العيص، أو العيص بن ضمرة بن زنباع، وحكي عن السدي: أنه ضمرة بن جندب، وحكي عن عكرمة: أنه جندب بن ضمرة الجندعي، وحكي عن ابن جبير أيضا: أنه ضمرة بن بغيض الذي من بني ليث، وحكى أبو عمر بن عبد البر: أنه ضمرة بن العيص، وحكى المهدوي: أنه ضمرة بن نعيم، وقيل: ضمرة بن خزاعة، وقرأت الجماعة «ثم يدركه الموت» بالجزم عطفا على يخرج وقرأ طلحة بن سليمان وإبراهيم النخعي فيما ذكر أبو عمرو «ثم يدركه» برفع الكاف- قال أبو الفتح: هذا رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: ثم هو يدركه الموت فعطف الجملة من المبتدأ والخبر على الفعل المجزوم بفاعله، فهما إذن جملة، فكأنه عطف جملة على جملة، وعلى هذا حمل يونس بن حبيب قول الأعشى: [البسيط]

إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا = أو تنزلون فإنّا معشر نزل

المراد وأنتم تنزلون وعليه قول الآخر [رويشد بن كثير الطائي]: [البسيط]

إن تذنبوا ثمّ تأتيني بقيتكم = فما عليّ بذنب عندكم فوت

المعنى: ثم أنتم تأتيني. وهذا أوجه من أن يحمله على قول الآخر: [الوافر]

ألم يأتيك والأنباء تنمى = ... ... ... ...

وقرأ الحسن بن أبي الحسن وقتادة ونبيح والجراح «ثم يدركه» بنصب الكاف وذلك على إضمار «أن» كقول الأعشى: [الطويل]

لنا هضبة لا ينزل الذّلّ وسطها = ويأوي إليها المستجير فيعصما

أراد: فأن يعصم- قال أبو الفتح: وهذا ليس بالسهل وإنما بابه الشعر لا القرآن، وأنشد ابن زيد: [الوافر]

سأترك منزلي لبني تميم = والحق بالحجاز فأستريحا

والآية أقوى من هذا لتقدم الشرط قبل المعطوف.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ومن هذه الآية رأى بعض العلماء أن من مات من المسلمين وقد خرج غازيا فله سهمه من الغنيمة، قاسوا ذلك على «الأجر»، وقد تقدم معنى الهجرة فيما سلف ووقع عبارة عن الثبوت وقوة اللزوم وكذلك هي- وجب- لأن الوقوع والوجوب نزول في الأجرام بقوة. فشبه لازم المعاني بذلك.

وباقي الآية بيّن). [المحرر الوجيز: 2/643-646]

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {ومن يهاجر في سبيل اللّه يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا وسعةً} هذا تحريض على الهجرة، وترغيبٌ في مفارقة المشركين، وأنّ المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحةً وملجأً يتحصّن فيه، و "المراغم" مصدرٌ، تقول العرب: راغم فلان قومه مراغمًا ومراغمةً، قال نابغة بني جعدة.
كطودٍ يلاذ بأركانه = عزيز المراغم والمهرب
وقال ابن عبّاسٍ: "المراغم": التّحوّل من أرضٍ إلى أرضٍ. وكذا روي عن الضّحّاك والرّبيع بن أنسٍ، الثّوريّ، وقال مجاهدٌ: {مراغمًا كثيرًا} يعني: متزحزحًا عمّا يكره. وقال سفيان بن عيينة: {مراغمًا كثيرًا} يعني: بروجًا.
والظّاهر -واللّه أعلم-أنّه التّمنّع الّذي يتحصّن به، ويراغم به الأعداء.
قوله: {وسعةً} يعني: الرّزق. قاله غير واحدٍ، منهم: قتادة، حيث قال في قوله: {يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا وسعةً} إي، واللّه، من الضّلالة إلى الهدى، ومن القلّة إلى الغنى.
وقوله: {ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى اللّه ورسوله ثمّ يدركه الموت فقد وقع أجره على اللّه} أي: ومن خرج من منزله بنيّة الهجرة، فمات في أثناء الطّريق، فقد حصل له من اللّه ثواب من هاجر، كما ثبت في الصّحيحين وغيرهما من الصّحاح والمسانيد والسّنن، من طريق يحيى بن سعيدٍ الأنصاريّ عن محمّد بن إبراهيم التّيميّ، عن علقمة بن وقّاص اللّيثيّ، عن عمر بن الخطّاب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنّيّات، وإنّما لكلّ امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله، فهجرته إلى اللّه ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأةٍ يتزوّجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه".
وهذا عامٌّ في الهجرة وفي كلّ الأعمال. ومنه الحديث الثّابت في الصّحيحين في الرّجل الّذي قتل تسعةً وتسعين نفسًا. ثمّ أكمل بذلك العابد المائة، ثمّ سأل عالمًا: هل له من توبةٍ؟ فقال: ومن يحول بينك وبين التّوبة؟ ثمّ أرشده إلى أن يتحوّل من بلده إلى بلدٍ آخر يعبد اللّه فيه، فلمّا ارتحل من بلده مهاجرًا إلى البلد الآخر، أدركه الموت في أثناء الطّريق، فاختصمت فيه ملائكة الرّحمة وملائكة العذاب، فقال هؤلاء: إنّه جاء تائبًا. وقال هؤلاء: إنّه لم يصل بعد. فأمروا أنّ يقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيّتهما كان أقرب كان منها، فأمر اللّه هذه أن يقرب من هذه، وهذه أن تبعد فوجدوه أقرب إلى الأرض الّتي هاجر إليها بشبر، فقبضته ملائكة الرّحمة. وفي روايةٍ: أنّه لمّا جاءه الموت ناء بصدره إلى الأرض الّتي هاجر إليها.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا يزيد بن هارون، حدّثنا محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن إبراهيم، عن محمّد بن عبد اللّه بن عتيك، عن أبيه عبد اللّه بن عتيك قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: " من خرج من بيته مهاجرًا في سبيل اللّه-ثمّ قال بأصابعه هؤلاء الثّلاث: الوسطى والسّبّابة والإبهام، فجمعهنّ وقال: وأين المجاهدون-؟ فخرّ عن دابّته فمات فقد وقع أجره على اللّه، أو لدغته دابّةٌ فمات، فقد وقع أجره على اللّه أو مات حتف أنفه، فقد وقع أجره على اللّه -واللّه! إنّها لكلمةٌ ما سمعتها من أحدٍ من العرب قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم-ومن قتل قعصًا فقد استوجب المآب.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا عبد الرّحمن بن عبد الملك بن شيبة الحزاميّ حدّثني عبد الرّحمن بن المغيرة الحزاميّ عن المنذر بن عبد اللّه، عن هشام بن عروة، عن أبيه؛ أنّ الزّبير بن العوّام قال: هاجر خالد بن حزام إلى أرض الحبشة، فنهشته حيّةٌ في الطّريق فمات، فنزلت فيه: {ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى اللّه ورسوله ثمّ يدركه الموت فقد وقع أجره على اللّه وكان اللّه غفورًا رحيمًا} قال الزّبير: فكنت أتوقّعه وأنتظر قدومه وأنا بأرض الحبشة، فما أحزنني شيءٌ حزن وفاته حين بلغني؛ لأنّه قلّ أحدٌ ممّن هاجر من قريشٍ إلّا معه بعض أهله، أو ذوي رحمه، ولم يكن معي أحدٌ من بني أسد بن عبد العزّى، ولا أرجو غيره.
وهذا الأثر غريبٌ جدًّا فإنّ هذه القصّة مكّيّةٌ، ونزول هذه الآية مدنيّةٌ، فلعلّه أراد أنّها أنزلت تعمّ حكمه مع غيره، وإن لم يكن ذلك سبب النّزول، واللّه أعلم.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا سليمان بن داود مولى عبد اللّه بن جعفرٍ، حدّثنا سهل بن عثمان، حدّثنا عبد الرّحمن بن سليمان، عن الأشعث -هو ابن سوّار-عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: خرج ضمرة بن جندب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمات في الطّريق قبل أن يصل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فنزلت: {ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى اللّه ورسوله [ثمّ يدركه الموت فقد وقع أجره على اللّه وكان اللّه غفورًا رحيمًا]}.
وحدّثنا أبي، حدّثنا عبد اللّه بن رجاء، أنبأنا إسرائيل، عن سالمٍ، عن سعيد بن جبيرٍ عن أبي ضمرة بن العيص الزّرقي، الّذي كان مصاب البصر، وكان بمكّة فلمّا نزلت: {إلا المستضعفين من الرّجال والنّساء والولدان لا يستطيعون حيلةً} فقلت: إنّي لغنيٌّ، وإنّي لذو حيلةٍ، [قال] فتجهّز يريد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فأدركه الموت بالتّنعيم، فنزلت هذه الآية: {ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى اللّه ورسوله ثمّ يدركه الموت [فقد وقع أجره على اللّه وكان اللّه غفورًا رحيمًا]}
قال الحافظ أبو يعلى: حدّثنا إبراهيم بن زيادٍ سبلان، حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا محمّد بن إسحاق، عن حميد بن أبي حميدٍ، عن عطاء بن يزيد اللّيثيّ، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من خرج حاجًّا فمات، كتب له أجر الحاجّ إلى يوم القيامة، ومن خرج معتمرًا فمات، كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج غازيًا في سبيل اللّه فمات، كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة".
وهذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه). [تفسير القرآن العظيم: 2/390-393]



تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا (101)}

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله تعالى: وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصّلاة إن خفتم أن يفتنكم الّذين كفروا إنّ الكافرين كانوا لكم عدوًّا مبيناً (101) وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصّلاة فلتقم طائفةٌ منهم معك وليأخذوا أسلحتهم

ضربتم معناه: سافرتم. فأهل الظاهر يرون القصر في كل سفر يخرج عن الحاضرة، وهي من حيث تؤتى الجمعة، وهذا قول ضعيف، واختلف العلماء في حد المسافة التي تقصر فيها الصلاة، فقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وابن راهويه: تقصر الصلاة في أربعة برد، وذلك ثمانية وأربعون ميلا.

وحجتهم أحاديث رويت في ذلك عن ابن عمر وابن عباس، وقال الحسن والزهري: تقصر الصلاة في مسيرة يومين ولم يذكرا أميالا، وروي هذا القول عن مالك، وروي عنه أيضا: تقصر الصلاة في يوم وليلة، وهذه الأقوال الثلاثة تتقارب في المعنى، وروي عن ابن عباس وابن عمر: أن الصلاة تقصر في مسيرة اليوم التام، وقصر ابن عمر في ثلاثين ميلا، وعن مالك في العتبية فيمن خرج إلى ضيعته على مسيرة خمسة وأربعين ميلا، قال: يقصر، وعن ابن القاسم في العتبية: أن قصر في ستة وثلاثين فلا إعادة عليه، وقال يحيى بن عمر: يعيد أبدا، وقال ابن عبد الحكم: في الوقت، وقال ابن مسعود وسفيان والثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن: من سافر مسيرة ثلاث قصر، قال أبو حنيفة: ثلاثة أيام ولياليها سير الإبل ومشي الأقدام، وروي عن أنس بن مالك: أنه قصر في خمسة عشر ميلا، قال الأوزاعي: عامة العلماء في القصر في مسيرة اليوم التام، وبه نأخذ.

واختلف الناس في نوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة، فأجمع الناس على الجهاد والحج والعمرة وما ضارعها من صلة رحم وإحياء نفس، واختلف الناس فيما سوى ذلك، فالجمهور على جواز القصر في السفر المباح، كالتجارة ونحوها، وروي عن ابن مسعود أنه قال: لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد، وقال عطاء لا تقصر الصلاة إلا في سفر طاعة وسبيل من سبل الخير، وقد روي عن عطاء أنها تقصر في كل المباح، والجمهور من العلماء على أنه لا قصر في سفر المعصية، كالباغي وقاطع الطريق وما في معناهما، وروي عن الأوزاعي وأبي حنيفة إباحة القصر في جميع ذلك. وجمهور العلماء على أن المسافر لا يقصر حتى يخرج من بيوت القرية، وحينئذ هو ضارب في الأرض، وهو قول مالك في المدونة وابن حبيب وجماعة المذهب، قال ابن القاسم في المدونة: ولم يحد لنا مالك في القرب حدا، وروي عن مالك إذا كانت قرية يجمع أهلها فلا يقصر حتى يجاوزها بثلاثة أميال وإلى ذلك في الرجوع، وإن كانت لا يجمع أهلها قصر إذا جاوز بساتينها، وروي عن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرا فصلى بهم ركعتين في منزله، وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب ابن مسعود، وبه قال عطاء بن أبي رباح وسليمان بن موسى، وروي عن مجاهد أنه قال: لا يقصر المسافر يومه الأول حتى الليل، وهو شاذ، وقد ثبت أن النبي عليه السلام صلى الظهر بالمدينة أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين، وليس بينهما ثلث يوم، ويظهر من قوله تعالى فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا أن القصر مباح أو مخير فيه، وقد روى ابن وهب عن مالك: أن المسافر مخير، وقاله الأبهري، وعليه حذاق المذهب، وقال مالك في المبسوط: القصر سنة. وهذا هو جمهور المذهب، وعليه جواب المدونة بالإعادة في الوقت لمن أتم في سفره، وقال محمد بن سحنون وإسماعيل القاضي: القصر فرض، وبه قال حماد بن أبي سليمان، وروي نحوه عن عمر بن عبد العزيز، وروي عن ابن عباس أنه قال: من صلى في السفر أربعا فهو كمن صلى في الحضر ركعتين، وحكى ابن المنذر عن عمر بن الخطاب: أنه قال: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم، وقد خاب من افترى، ويؤيد هذا قول عائشة: فرضت الصلاة ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر، واختلف العلماء في معنى قوله تعالى: أن تقصروا فذهب جماعة من العلماء إلى أنه القصر إلى اثنين من أربع، روي عن علي بن أبي طالب أنه قال: سأل قوم من التجار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنّا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله تعالى وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصّلاة ثم انقطع الكلام، فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي عليه السلام، فصلى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم، فهلا شددتم عليهم، فقال قائل منهم: إن لهم أخرى في أثرها، فأنزل الله تعالى بين الصلاتين إن خفتم أن يفتنكم الّذين كفروا إلى آخر صلاة الخوف، وذكر الطبري في سرد هذه المقالة حديث يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب، إن الله تعالى يقول إن خفتم وقد أمن الناس، فقال عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله عن ذلك فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته»، قال الطبري: وهذا كله قول حسن، إلا أن قوله تعالى: وإذا كنت تؤذن بانقطاع ما بعدها مما قبلها، فليس يترتب من لفظ الآية، إلا أن القصر مشروط بالخوف، وفي قراءة أبيّ بن كعب «أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا» - بسقوط إن خفتم وثبتت في مصحف عثمان رضي الله عنه، وذهبت جماعة أخرى إلى أن هذه الآية إنما هي مبيحة القصر في السفر للخائف من العدو، فمن كان آمنا فلا قصر له، وروي عن عائشة أنها كانت تقول في السفر: أتموا صلاتكم، فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر، فقالت: إنه كان في حرب وكان يخاف، وهل أنتم تخافون؟ وقال عطاء: كان يتم الصلاة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة وسعد بن أبي وقاص، وأتم عثمان بن عفان، ولكن علل ذلك بعلل غير هذه، وكذلك علل إتمام عائشة رضي الله عنها أيضا بغير هذا وقال آخرون: القصر المباح في هذه الآية إنما هو قصر الركعتين إلى ركعة، والركعتان في السفر إنما هي تمام، وقصرها أن تصير ركعة، قال السدي: إذا صليت في السفر ركعتين فهو تمام، والقصر لا يحل إلا أن يخاف، فهذه الآية مبيحة أن تصلي كل طائفة ركعة لا تزيد عليها شيئا، ويكون للإمام ركعتان، وروي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: ركعتان في السفر تمام غير قصر، إنما القصر في صلاة المخافة يصلي الإمام بطائفة ركعة، ثم يجيء هؤلاء فيصلي بهم ركعة، فتكون للإمام ركعتان ولهم ركعة، ركعة، وقال نحو هذا سعيد بن جبير وجابر بن عبد الله وكعب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وفعله حذيفة بطبرستان وقد سأله الأمير سعيد بن العاصي ذلك، وروى ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك في غزوة ذي قرد ركعة بكل طائفة ولم يقضوا، وقال مجاهد عن ابن عباس: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة، وروى جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك بأصحابه يوم حارب خصفة وبني ثعلبة، وروى أبو هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك بين ضجنان وعسفان، وقال آخرون: هذه الآية مبيحة القصر من حدود الصلاة وهيئتها عند المسايفة واشتعال الحرب، فأبيح لمن هذه حاله أن يصلي إيماء برأسه، ويصلي ركعة واحدة حيث توجه إلى تكبيرتين إلى تكبيرة على ما تقدم من أقوال العلماء في تفسير قوله تعالى: فإن خفتم فرجالًا أو ركباناً [البقرة: 239] ورجح الطبري هذا القول، وقال: إنه يعادله قوله فإذا اطمأننتم فأقيموا الصّلاة أي بحدودها وهيئتها الكاملة، وقرأ الجمهور «تقصروا» بفتح التاء وضم الصاد، وروى الضبي عن أصحابه «تقصروا» بضم التاء وكسر الصاد وسكون القاف وقرأ الزهري «تقصّروا» بضم التاء وفتح القاف وكسر الصاد وشدها. ويفتنكم معناه: يمتحنكم بالحمل عليكم وإشغال نفوسكم في صلاتكم، ونحو

هذا قول صاحب الحائط: لقد أصابتني في مالي هذا فتنة، وأصل الفتنة الاختبار بالشدائد، وإلى هذا المعنى ترجع كيف تصرفت، وعدو وصف يجري على الواحد والجماعة، و «مبين» مفعل من أبان، المعنى: قد جلحوا في عدواتكم وراموكم كل مرام). [المحرر الوجيز: 3/5-9]

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصّلاة إن خفتم أن يفتنكم الّذين كفروا إنّ الكافرين كانوا لكم عدوًّا مبينًا (101)}
يقول تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض} أي: سافرتم في البلاد، كما قال تعالى: {علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله [وآخرون يقاتلون في سبيل الله]} الآية [المزّمّل: 20].
وقوله: {فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصّلاة} أي: تخفّفوا فيها، إمّا من كمّيّتها بأن تجعل الرّباعيّة ثنائيّةً، كما فهمه الجمهور من هذه الآية، واستدلّوا بها على قصر الصّلاة في السّفر، على اختلافهم في ذلك: فمن قائلٍ لا بدّ أن يكون سفر طاعةٍ، من جهادٍ، أو حجٍّ، أو عمرةٍ، أو طلب علمٍ، أو زيارةٍ، وغير ذلك، كما هو مرويٌّ عن ابن عمر وعطاءٍ، ويحكى عن مالكٍ في روايةٍ عنه نحوه، لظاهر قوله: {إن خفتم أن يفتنكم الّذين كفروا}
ومن قائلٍ لا يشترط سفر القربة، بل لا بدّ أن يكون مباحًا، لقوله: {فمن اضطرّ في مخمصةٍ غير متجانفٍ لإثمٍ [فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ]} [المائدة: 3] أباح له تناول الميتة مع اضطراره إلّا بشرط ألّا يكون عاصيًا بسفره. وهذا قول الشّافعيّ وأحمد وغيرهما من الأئمّة.
وقد قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدّثنا وكيع، حدّثنا الأعمش، عن إبراهيم قال: جاء رجلٌ فقال: يا رسول اللّه، إنّي رجلٌ تاجرٌ، أختلف إلى البحرين "فأمره أن يصلّي ركعتين" وهذا مرسلٌ.
ومن قائلٍ: يكفي مطلق السّفر، سواءٌ كان مباحًا أو محظورًا، حتّى لو خرج لقطع الطّريق وإخافة السّبيل، ترخّص، لوجود مطلق السّفر. وهذا قول أبي حنيفة، رحمه الله، والثوري وداود، لعموم الآية وخالفهم الجمهور. وأمّا قوله: {إن خفتم أن يفتنكم الّذين كفروا} فقد يكون هذا خرّج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية، فإنّ في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفةً، بل ما كانوا ينهضون إلّا إلى غزوٍ عامٍّ، أو في سرية خاصة، وسائر الأحيان حرب الإسلام وأهله، والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب أو على حادثةٍ فلا مفهوم له، كقوله {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصّنًا} [النّور: 33]، وكقوله: {وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم} الآية [النّساء: 23].
وقال الإمام أحمد: حدّثنا ابن إدريس، حدّثنا ابن جريج، عن ابن أبي عمّارٍ، عن عبد اللّه بن بابيه، عن يعلى بن أميّة قال: سألت عمر بن الخطّاب قلت: {ليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصّلاة إن خفتم أن يفتنكم الّذين كفروا} وقد أمّن اللّه النّاس ؟ فقال لي عمر: عجبت ممّا عجبت منه، فسألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن ذلك، فقال: "صدقةٌ تصدّق اللّه بها عليكم، فاقبلوا صدقته".
وهكذا رواه مسلمٌ وأهل السّنن، من حديث ابن جريجٍ، عن عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن أبي عمّارٍ، به. وقال التّرمذيّ: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقال عليّ بن المدينيّ: هذا حديثٌ صحيحٌ من حديث عمر، ولا يحفظ إلّا من هذا الوجه، ورجاله معروفون وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدّثنا أبو نعيمٍ، حدّثنا مالك بن مغول، عن أبي حنظلة الحذّاء قال: سألت ابن عمر عن صلاة السّفر فقال: ركعتان. فقلت: أين قوله تعالى: {إن خفتم أن يفتنكم الّذين كفروا} ونحن آمنون؟ فقال: سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
وقال ابن مردويه: حدّثنا عبد اللّه بن محمّد بن عيسى، حدّثنا عليّ بن محمّد بن سعيدٍ، حدّثنا منجاب، حدّثنا شريك، عن قيس بن وهبٍ، عن أبي الودّاك: سألت ابن عمر عن ركعتين في السّفر؟ فقال: هي رخصةٌ، نزلت من السّماء، فإن شئتم فردّوها.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدّثنا يزيد بن هارون، حدّثنا ابن عون، عن ابن سيرين، عن ابن عبّاسٍ قال: صلّينا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بين مكّة والمدينة، ونحن آمنون، لا نخاف بينهما، ركعتين ركعتين.
وكذا رواه النّسائيّ، عن محمّد بن عبد الأعلى، عن خالدٍ الحذّاء عن عبد اللّه بن عونٍ، به قال أبو عمر بن عبد البر: وهكذا رواه أيوب، وهشام، ويزيد بن إبراهيم التّستري، عن محمّد بن سيرين، عن ابن عبّاسٍ، رضي اللّه عنهما، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، مثله.
قلت: وهكذا رواه التّرمذيّ والنّسائيّ جميعًا، عن قتيبة، عن هشيم، عن منصور بن زاذان، عن محمّد بن سيرين، عن ابن عبّاسٍ، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خرج من المدينة إلى مكّة، لا يخاف إلّا ربّ العالمين، فصلّى ركعتين، ثمّ قال التّرمذيّ: صحيحٌ.
وقال البخاريّ: حدّثنا أبو معمر، حدّثنا عبد الوارث، حدّثنا يحيى بن أبي إسحاق قال: سمعت أنسًا يقول: خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من المدينة إلى مكّة، فكان يصلّي ركعتين ركعتين، حتّى رجعنا إلى المدينة. قلت: أقمتم بمكّة شيئًا؟ قال: أقمنا بها عشرًا.
وهكذا أخرجه بقيّة الجماعة من طرقٍ عن يحيى بن أبي إسحاق الحضرميّ، به.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا وكيع، حدّثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن وهبٍ الخزاعي قال: صلّيت مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم الظّهر والعصر بمنًى -أكثر ما كان النّاس وآمنه -ركعتين.
ورواه الجماعة سوى ابن ماجه من طرقٍ، عن أبي إسحاق السّبيعي، عنه، به ولفظ البخاريّ: حدّثنا أبو الوليد، حدّثنا شعبة، أنبأنا أبو إسحاق، سمعت حارثة بن وهبٍ قال: صلّى بنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم آمن ما كان بمنى ركعتين.
وقال البخاريّ: حدّثنا مسدّد، حدّثنا يحيى، حدّثنا عبيد اللّه، أخبرنا نافعٌ، عن عبد اللّه بن عمر قال: صلّيت مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ركعتين، وأبي بكرٍ وعمر، ومع عثمان صدرًا من إمارته، ثمّ أتمّها.
وكذا رواه مسلمٌ من حديث يحيى بن سعيدٍ القطّان [الأنصاريّ] به.
وقال البخاريّ: حدّثنا قتيبة، حدّثنا عبد الواحد، عن الأعمش، حدّثنا إبراهيم، سمعت عبد الرّحمن بن يزيد يقول: صلّى بنا عثمان بن عفّان، رضي اللّه عنه، بمنًى أربع ركعاتٍ، فقيل في ذلك لعبد اللّه بن مسعودٍ فاسترجع، ثمّ قال: صلّيت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بمنًى ركعتين، وصلّيت مع أبي بكرٍ بمنى ركعتين، وصلّيت مع عمر بن الخطّاب بمنًى ركعتين، فليت حظّي مع أربع ركعاتٍ ركعتان متقبّلتان.
ورواه البخاريّ أيضًا من حديث الثّوريّ، عن الأعمش، به. وأخرجه مسلمٌ من طرقٍ، عنه. منها عن قتيبة كما تقدّم.
فهذه الأحاديث دالّةٌ صريحًا على أنّ القصر ليس من شرطه وجود الخوف؛ ولهذا قال من قال من العلماء: إنّ المراد من القصر هاهنا إنّما هو قصر الكيفيّة لا الكمّيّة. وهو قول مجاهدٍ، والضّحّاك، والسّدّيّ كما سيأتي بيانه، واعتضدوا أيضًا بما رواه الإمام مالكٌ، عن صالح بن كيسان، عن عروة بن الزّبير، عن عائشة، رضي اللّه عنها، أنّها قالت: فرضت الصّلاة ركعتين ركعتين في السّفر والحضر، فأقرّت صلاة السّفر؛ وزيد في صلاة الحضر.
وقد روى هذا الحديث البخاريّ عن عبد اللّه بن يوسف التنّيسي، ومسلمٌ عن يحيى بن يحيى، وأبو داود عن القعنبي، والنّسائي عن قتيبة، أربعتهم عن مالكٍ، به.
قالوا: فإذا كان أصل الصّلاة في السّفر هي الثّنتين، فكيف يكون المراد بالقصر هاهنا قصر الكمّيّة؛ لأنّ ما هو الأصل لا يقال فيه: {فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصّلاة}؟
وأصرح من ذلك دلالةً على هذا، ما رواه الإمام أحمد: حدّثنا وكيع، حدّثنا سفيان -وعبد الرّحمن حدّثنا سفيان -عن زبيد الياميّ، عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى، عن عمر، رضي اللّه عنه، قال: صلاة السّفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، تمامٌ غير قصرٍ، على لسان محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم.
وهكذا رواه النّسائيّ وابن ماجه، وابن حبّان في صحيحه، من طرقٍ عن زبيد الياميّ به.
وهذا إسنادٌ على شرط مسلمٍ. وقد حكم مسلمٌ في مقدّمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى، عن عمر. وقد جاء مصرّحًا به في هذا الحديث وفي غيره، وهو الصّواب إن شاء اللّه. وإن كان يحيى بن معين، وأبو حاتمٍ، والنّسائيّ قد قالوا: إنّه لم يسمع منه. وعلى هذا أيضًا، فقد وقع في بعض طرق أبي يعلى الموصلي، من طريق الثّوريّ، عن زبيد، عن عبد الرّحمن [بن أبي ليلى] عن الثّقة، عن عمر فذكره، وعند ابن ماجه من طريق يزيد بن أبي زياد بن أبي الجعد، عن زبيدٍ، عن عبد الرّحمن، عن كعب بن عجرة، عن عمر، به.، فاللّه أعلم.
وقد روى مسلمٌ في صحيحه، وأبو داود، والنّسائيّ، وابن ماجه، من حديث أبي عوانة الوضّاح بن عبد اللّه اليشكري -زاد مسلمٌ والنّسائيّ: وأيّوب بن عائدٍ -كلاهما عن بكير بن الأخنس، عن مجاهدٍ، عن عبد اللّه بن عبّاسٍ قال: فرض اللّه الصّلاة على لسان نبيّكم في الحضر أربعًا، وفي السّفر ركعتين وفي الخوف ركعةً، [هكذا رواه وكيعٌ وروح بن عبادة عن أسامة بن زيدٍ اللّيثيّ: حدّثني الحسن بن مسلم بن يساف عن طاوسٍ عن ابن عبّاسٍ قال: فرض اللّه ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم الصّلاة في الحضر أربعًا وفي السّفر ركعتين] فكما يصلّى في الحضر قبلها وبعدها، فكذلك يصلّى في السّفر.
ورواه ابن ماجه من حديث أسامة بن زيدٍ، عن طاوسٍ نفسه.
فهذا ثابتٌ عن ابن عبّاسٍ، رضي اللّه عنهما ولا ينافي ما تقدّم عن عائشة لأنّها أخبرت أنّ أصل الصّلاة ركعتان، ولكن زيد في صلاة الحضر، فلمّا استقرّ ذلك صحّ أن يقال: إنّ فرض صلاة الحضر أربعٌ، كما قاله ابن عبّاسٍ، واللّه أعلم. لكن اتّفق حديث ابن عبّاسٍ وعائشة على أنّ صلاة السّفر ركعتان، وأنّها تامّةٌ غير مقصورةٍ، كما هو مصرّحٌ به في حديث عمر، رضي اللّه عنه، وإذا كان كذلك، فيكون المراد بقوله تعالى: {فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصّلاة} قصر الكيفيّة كما في صلاة الخوف؛ ولهذا قال: {إن خفتم أن يفتنكم الّذين كفروا [إنّ الكافرين كانوا لكم عدوًّا مبينًا]}.
ولهذا قال بعدها: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصّلاة [فلتقم طائفةٌ منهم معك]} الآية فبيّن المقصود من القصر هاهنا وذكر صفته وكيفيته؛ ولهذا لما اعتضد البخاريّ
"كتاب صلاة الخوف" صدّره بقوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصّلاة} إلى قوله: {إنّ اللّه أعدّ للكافرين عذابًا مهينًا}
وهكذا قال جويبر، عن الضّحّاك في قوله: {فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصّلاة} قال: ذاك عند القتال، يصلّي الرّجل الرّاكب تكبيرتين حيث كان وجهه.
وقال أسباطٌ، عن السّدّيّ في قوله: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصّلاة إن خفتم} الآية: إنّ الصّلاة إذا صلّيت ركعتين في السّفر فهي تمامٌ، التّقصير لا يحلّ، إلّا أن تخاف من الّذين كفروا أن يفتنوك عن الصّلاة، فالتّقصير ركعةٌ.
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ: {فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصّلاة} يوم كان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه بعسفان والمشركون بضجنان، فتوافقوا، فصلّى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بأصحابه صلاة الظّهر أربع ركعاتٍ، بركوعهم وسجودهم وقيامهم معًا جميعًا، فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم.
روى ذلك ابن أبي حاتمٍ. ورواه ابن جريرٍ، عن مجاهدٍ والسّدّيّ، وعن جابرٍ وابن عمر، واختار ذلك أيضًا، فإنّه قال بعد ما حكاه من الأقوال في ذلك: وهو الصّواب. وقال ابن جريرٍ: حدّثني محمّد بن عبد اللّه بن عبد الحكم، حدّثنا ابن أبي فديك، حدّثنا ابن أبي ذئبٍ، عن ابن شهابٍ، عن أميّة بن عبد اللّه بن خالد بن أسيدٍ: أنّه قال لعبد اللّه بن عمر: إنّا نجد في كتاب اللّه قصر صلاة الخوف، ولا نجد قصر صلاة المسافر؟ فقال عبد اللّه: إنّا وجدنا نبيّنا صلّى اللّه عليه وسلّم يعمل عملًا عملنا به.
فقد سمّى صلاة الخوف مقصورةً، وحمل الآية عليها، لا على قصر صلاة المسافر، وأقرّه ابن عمر على ذلك، واحتجّ على قصر الصّلاة في السّفر بفعل الشّارع لا بنصّ القرآن.
وأصرح من هذا ما رواه ابن جريرٍ أيضًا: حدّثني أحمد بن الوليد القرشيّ، حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، حدّثنا شعبة، عن سماك الحنفيّ: سألت ابن عمر عن صلاة السّفر، فقال: ركعتان تمام غير قصرٍ، إنّما القصر صلاة المخافة. فقلت: وما صلاة المخافة؟ فقال: يصلّي الإمام بطائفةٍ ركعةً، ثمّ يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء، ويجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء، فيصلّي بهم ركعةً، فيكون للإمام ركعتان، ولكلّ طائفةٍ ركعةٌ ركعةٌ). [تفسير القرآن العظيم: 2/393-398]




* للاستزادة ينظر: هنا