18 Nov 2018
تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا (139)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (واختلف
المتأولون في المراد بقوله تعالى: إنّ الّذين آمنوا ثمّ كفروا ثمّ آمنوا
ثمّ كفروا فقالت طائفة منهم قتادة وأبو العالية: الآية في اليهود
والنصارى، آمنت اليهود بموسى والتوراة ثم كفروا، وآمنت النصارى بعيسى
والإنجيل ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ورجح الطبري
هذا القول، وقال الحسن بن أبي الحسن: الآية في الطائفة من أهل الكتاب
التي قالت آمنوا بالّذي أنزل على الّذين آمنوا وجه النّهار واكفروا آخره
[آل عمران: 72] وقال مجاهد وابن زيد: الآية في المنافقين، فإن منهم من كان
يؤمن ثم يكفر، ثم يؤمن ثم يكفر، يتردد في ذلك، فنزلت هذه الآية فيمن
ازداد كفرا بأن تم على نفاقه حتى مات. قال
القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا هو القول المترجح، وقول الحسن بن أبي
الحسن جيد محتمل، وقول قتادة وأبي العالية وهو الذي رجح الطبري قول ضعيف،
تدفعه ألفاظ الآية، وذلك أن الآية إنما هي في طائفة يتصف كل واحد منها بهذه
الصفة من التردد بين الكفر والإيمان، ثم يزداد كفرا بالموافاة، واليهود
والنصارى لم يترتب في واحد منهم إلا إيمان واحد وكفر واحد، وإنما يتخيل
فيهم الإيمان والكفر مع تلفيق الطوائف التي لم تتلاحق في زمان واحد، وليس
هذا مقصد الآية، وإنما توجد هذه الصفة في شخص من المنافقين، لأن الرجل
الواحد منهم يؤمن ثم يكفر، ثم يوافي على الكفر وتأمل قوله تعالى: لم يكن
اللّه ليغفر لهم فإنها عبارة تقتضي أن هؤلاء محتوم عليهم من أول أمرهم،
ولذلك ترددوا وليست هذه العبارة مثل أن يقول: لا
يغفر الله لهم، بل هي أشد، وهي مشيرة إلى استدراج من هذه حاله وإهلاكه،
وهي عبارة تقتضي لسامعها أن ينتبه ويراجع قبل نفوذ الحتم عليه، وأن يكون من
هؤلاء، وكل من كفر كفرا واحدا ووافى عليه فقد قال الله تعالى: إنه لا
يغفر له، ولم يقل «لم يكن الله ليغفر له» فتأمل الفرق بين العبارتين فإنه
من دقيق غرائب الفصاحة التي في كتاب الله تعالى، كأن قوله لم يكن اللّه
حكم قد تقرر عليهم في الدنيا وهم أحياء). [المحرر الوجيز: 3/45-46] قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
تعالى: بشّر المنافقين بأنّ لهم عذاباً أليماً (138) الّذين يتّخذون
الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزّة فإنّ العزّة للّه
جميعاً (139) وقد نزّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات اللّه يكفر بها
ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتّى يخوضوا في حديثٍ غيره إنّكم إذاً مثلهم
إنّ اللّه جامع المنافقين والكافرين في جهنّم جميعاً (140) في
هذه الآية دليل ما على أن التي قبلها إنما هي في المنافقين، كما ترجح
آنفا، وجاءت البشارة هنا مصرحا بقيدها، فلذلك حسن استعمالها في المكروه،
ومتى جاءت مطلقة فإنما عرفها في المحبوب). [المحرر الوجيز: 3/46] قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم
نص تعالى في صفة المنافقين على أشدها ضررا على المؤمنين، وهي موالاتهم
الكفار واطراحهم المؤمنين، ونبه على فساد ذلك ليدعه من عسى أن يقع في نوع
منه من المؤمنين غفلة أو جهالة أو مسامحة، ثم وقف تعالى على جهة التوبيخ
على مقصدهم في ذلك، أهو طلب العزة والاستكثار بهم أي ليس الأمر كذلك بل
العزة كلها لله يؤتيها من يشاء، وقد وعد بها المؤمنين، وجعل العاقبة
للمتقين، والعزّة أصلها: الشدة
والقوة، ومنه الأرض العزاز أي: الصلبة، ومنه عزّني [ص: 23] أي: غلبني
بشدته، واستعز المرض إذا قوي، إلى غير هذا من تصاريف اللفظة). [المحرر الوجيز: 3/47]
تفسير
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ
ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ
لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله: (إنّ الّذين آمنوا ثمّ كفروا ثمّ آمنوا ثمّ كفروا ثمّ ازدادوا كفرا لم يكن اللّه ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا (137)
قيل فيه غير قول: قال
بعضهم يعنى به اليهود لأنّهم آمنوا بموسى ثم كفروا بعزير ثم آمنوا بعزير ثم
كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
وقيل جائز أن يكون محارب آمن ثم كفر ثم آمن ثم كفر.
وقيل جائز أن يكون منافق أظهر الإيمان وأبطن الكفر ثم آمن بعد ثم كفر وازداد كفرا بإقامته على الكفر.
فإن قال قائل: اللّه جلّ
وعزّ لا يغفر كفر مرة واحدة فلم قيل ههنا فيمن آمن ثمّ كفر ثمّ آمن ثمّ
كفر: (لم يكن اللّه ليغفر لهم) وما الفائدة في هذا؟ فالجواب في هذا -
واللّه أعلم - أن اللّه عزّ وجلّ يغفر للكافر إذا آمن بعد كفره، فإن كفر
بعد إيمانه لم يغفر اللّه له الكفر الأول، لأن اللّه جلّ وعزّ يقبل التوبة،
فإذا كفر بعد إيمان قبله كفر فهو مطالب بجميع كفره.
ولا يجوز أن يكون إذا آمن بعد ذلك لا يغفر له، لأن اللّه جل ثناؤه يغفر لكل مؤمن بعد كفره.
والدليل على ذلك قوله جلّ وعزّ: (وهو الّذي يقبل التّوبة عن عباده ويعفو عن السّيّئات).
وهذا في القرآن كثير، وهو شبيه بالإجماع أيضا.
ومعنى: (ولا ليهديهم سبيلا)
أي لا يجعلهم بكفرهم مهتدين بل يضلهم، لأنه جلّ وعزّ يضل الفاسقين). [معاني القرآن: 2/119-120]
يخبر تعالى عمّن دخل في الإيمان ثمّ رجع
عنه، ثمّ عاد فيه ثمّ رجع، واستمرّ على ضلاله وازداد حتّى مات، فإنّه لا
توبة بعد موته، ولا يغفر اللّه له، ولا يجعل له ممّا هو فيه فرجًا ولا
مخرجًا، ولا طريقًا إلى الهدى؛ ولهذا قال: {لم يكن اللّه ليغفر لهم ولا
ليهديهم سبيلا}
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا
أحمد بن عبدة، حدّثنا حفص بن جميع، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ في
قوله: {ثمّ ازدادوا كفرًا} قال: تمّموا على كفرهم حتّى ماتوا. وكذا قال
مجاهدٌ.
وروى ابن أبي حاتمٍ من طريق جابرٍ
المعلّى، عن عامرٍ الشّعبي، عن عليٍّ، رضي اللّه عنه، أنّه قال: يستتاب
المرتدّ، ثلاثًا، ثمّ تلا هذه الآية: {إنّ الّذين آمنوا ثمّ كفروا ثمّ
آمنوا ثمّ كفروا ثمّ ازدادوا كفرًا لم يكن اللّه ليغفر لهم ولا ليهديهم
سبيلا} ). [تفسير القرآن العظيم: 2/434]
تفسير قوله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله - جلّ وعزّ: (بشّر المنافقين بأنّ لهم عذابا أليما (138)
معنى (أليم) موجع.
قال " بشر " أي اجعل في مكان بشارتهم " لهم العذاب " العرب تقول تحيتك الضرب، وعتابك السيف أي لك - بدلا من التحية... هذا.
قال الشاعر:
وخيل قد دلفت لها بخيل... تحية بينهم ضرب وجيع). [معاني القرآن: 2/120]
تفسير قوله تعالى: {الَّذِينَ
يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا
(139)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله جلّ وعزّ (الّذين يتّخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزّة فإنّ العزّة للّه جميعا (139)
(أيبتغون عندهم العزّة)
أي أيبتغي المنافقون عند الكافرين العزة.
والعزة المنعة وشدة الغلبة وهو مأخوذ من قولهم أرض عزاز.
قال الأصمعي: العزاز: النفل من الأرض والصّلب الحجارة، الذي يسرع منه جري الماء والسيل هذا لفظ الأصمعي.
فتأويل العزة الغلبة والشدة التي لا يتعلق بها إذلال.
قالت الخنساء:
كأن لم يكونوا حمى يتقى... إذ الناس إذ ذاك من عزّ بزّا
أي من قوى وغلب سلب.
ويقال: قد استعز على المريض إذا اشتد وجعه، وكذلك قول الناس:
يعزّ علي أن تفعل، أي يشتد، فأما قولهم قد عزّ الشيء إذا لم يوجد فتأويله قد اشتد وجوده أي صعب أن يوجد، والمآب، واحد). [معاني القرآن: 2/120-121]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ
وصفهم بأنّهم يتّخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، بمعنى أنّهم معهم
في الحقيقة، يوالونهم ويسرّون إليهم بالمودّة، ويقولون لهم إذا خلوا بهم:
إنّما نحن معكم، إنّما نحن مستهزئون. أي بالمؤمنين في إظهارنا لهم
الموافقة. قال اللّه تعالى منكرًا عليهم فيما سلكوه من موالاة الكافرين:
{أيبتغون عندهم العزّة}؟
ثمّ أخبر تعالى بأنّ العزّة كلّها للّه
وحده لا شريك له، ولمن جعلها له. كما قال في الآية الأخرى: {من كان يريد
العزّة فللّه العزّة جميعًا} [فاطرٍ: 10]، وقال تعالى: {وللّه العزّة
ولرسوله وللمؤمنين ولكنّ المنافقين لا يعلمون} [المنافقون: 8].
والمقصود من هذا التّهييج على طلب
العزّة من جناب اللّه، والالتجاء إلى عبوديّته، والانتظام في جملة عباده
المؤمنين الّذين لهم النّصرة في هذه الحياة الدّنيا، ويوم يقوم الأشهاد.
ويناسب أن يذكر هاهنا الحديث الّذي رواه الإمام أحمد:
حدّثنا حسين بن محمّدٍ، حدّثنا أبو بكر
بن عيّاشٍ، عن حميد الكنديّ، عن عبادة بن نسيّ، عن أبي ريحانة أنّ النّبيّ
صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "من انتسب إلى تسعة آباءٍ كفّارٍ، يريد بهم
عزًّا وفخرًا، فهو عاشرهم في النّار".
تفرّد به أحمد وأبو ريحانة هذا هو
أزديٌّ، ويقال: أنصاريٌّ. اسمه شمعون بالمعجمة، فيما قاله البخاريّ، وقال
غيره: بالمهملة، واللّه أعلم). [تفسير القرآن العظيم: 2/435]
* للاستزادة ينظر: هنا