18 Nov 2018
تفسير قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله
تعالى فبما نقضهم الآية، إخبار عن أشياء واقعوها هي في الضد مما أمروا به
وذلك أن الميثاق الذي رفع الطور من أجله نقضوه، والإيمان الذي تضمنه
ادخلوا الباب سجّداً إذ ذلك التواضع إنما هو ثمرة الإيمان والإخبات جعلوا
بدله كفرهم بآيات الله، وقولهم: حبة في شعرة وحنطة في شعيرة، ونحو ذلك مما
هو استخفاف بأمر الله وكفر به، وكذلك أمروا أن لا يعتدوا في السبت، وفي
ضمن ذلك الطاعة وسماع الأمر، فجعلوا بدل ذلك الانتهاء إلى انتهاك أعظم
حرمة، وهي قتل الأنبياء، وكذلك أخذ «الميثاق الغليظ» منهم تضمن فهمهم بقدر
ما التزموه، فجعلوا بدل ذلك تجاهلهم. وقولهم قلوبنا غلفٌ أي هي في حجب
وغلف، فهي لا تفهم، وأخبر الله تعالى أن ذلك كله عن طبع منه على قلوبهم،
وأنهم كذبة فيما يدعونه من قلة الفهم، وقرأ نافع «تعدّوا» بسكون العين وشد
الدال المضمومة، وروى عنه ورش «تعدّوا» بفتح العين وشد الدال المضمومة،
وقرأ الباقون «لا تعدوا» ساكنة العين خفيفة الدال مضمومة، وقرأ الأعمش
والحسن «لا تعتدوا» وقوله تعالى: فبما ما زائدة مؤكدة، التقدير فبنقضهم،
وحذف جواب هذا الكلام بليغ منهم، متروك مع ذهن السامع، تقديره لعناهم
وأذللناهم، وحتمنا على الموافين منهم الخلود في جهنم). [المحرر الوجيز: 3/59-60] قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (ثم
قال تعالى: وبكفرهم أي في أمر عيسى عليه السلام، وقولهم على مريم بهتانا،
يعني رميهم إياها بالزنا مع رؤيتهم الآية في كلام عيسى في المهد، وإلا
فلولا الآية لكانوا في قولهم جارين على حكم البشر في إنكار حمل من غير ذكر و
«البهتان»: مصدر من قولك بهته إذا قابله بأمر مبهت يحار معه الذهن وهو
رمي بباطل). [المحرر الوجيز: 3/60] قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله
تعالى: وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول اللّه وما قتلوه وما
صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الّذين اختلفوا فيه لفي شكٍّ منه ما لهم به من
علمٍ إلاّ اتّباع الظّنّ وما قتلوه يقيناً (157) بل رفعه اللّه إليه وكان
اللّه عزيزاً حكيماً (158) وإن من أهل الكتاب إلاّ ليؤمننّ به قبل موته
ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً (159) هذه
الآية والتي قبلها عدد الله تعالى فيها أقوال بني إسرائيل وأفعالهم على
اختلاف الأزمان وتعاقب القرون، فاجتمع من ذلك توبيخ خلفهم المعاصرين لمحمد
صلى الله عليه وسلم، وبيان الحجة في أن وجبت لهم اللعنة وضربت عليهم الذلة
والمسكنة، فهذه الطائفة التي قالت إنّا قتلنا المسيح غير الذين نقضوا
الميثاق في الطور، وغير الذين اتخذوا العجل، وقول بني إسرائيل إنما هو إلى
قوله: عيسى ابن مريم وقوله عز وجل: رسول اللّه إنما هو إخبار من الله
تعالى بصفة لعيسى وهي الرسالة، على جهة إظهار ذنب هؤلاء المقرين بالقتل،
ولزمهم الذنب وهم لم يقتلوا عيسى لأنهم صلبوا ذلك الشخص على أنه عيسى،
وعلى أن عيسى كذاب ليس برسول، ولكن لزمهم الذنب من حيث اعتقدوا أن قتلهم
وقع في عيسى فكأنهم قتلوه، وإذا كانوا قتلوه فليس يرفع الذنب عنهم
اعتقادهم أنه غير رسول، كما أن قريشا في تكذيبها رسول الله لا ينفعهم فيه
اعتقادهم أنه كذاب، بل جازاهم الله على حقيقة الأمر في نفسه، ثم أخبر
تعالى أن بني إسرائيل ما قتلوا عيسى ولا صلبوه ولكن شبه لهم، واختلفت
الرواة في هذه القصة وكيفيتها اختلافا شديدا أنا أختصر عيونه، إذ ليس في
جميعه شيء يقطع بصحته، لأنه لم يثبت عن النبي عليه السلام فيه شيء، وليس
لنا متعلق في ترجيح شيء منه إلا ألفاظ كتاب الله، فالذي لا نشك فيه أن
عيسى عليه السلام كان يسيح في الأرض ويدعو إلى الله، وكانت بنو إسرائيل
تطلبه، وملكهم في ذلك الزمان يجعل عليه الجعائل، وكان عيسى قد انضوى إليه
الحواريون يسيرون معه حيث سار، فلما كان في بعض الأوقات شعر بأمر عيسى،
فروي أن أحد الحواريين رشي عليه فقبل الرشوة ودل على مكانه فأحيط به، ثم
ندم ذلك الحواري وخنق نفسه، وروي أن رجلا من اليهود جعل له جعل فما زال
ينقر عليه حتى دل على مكانه، فلما أحس عيسى وأصحابه بتلاحق الطالبين بهم
دخلوا بيتا بمرأى من بني إسرائيل فروي: أنهم عدوهم ثلاثة عشر، وروي ثمانية
عشر وحصروا ليلا فروي أن عيسى فرق الحواريين عن نفسه تلك الليلة، ووجههم
إلى الآفاق، وبقي هو ورجل معه فرفع عيسى وألقي شبهه على الرجل فصلب ذلك
الرجل، وروي أن الشبه ألقي على اليهودي الذي دل عليه فصلب، وروي أن عيسى
عليه السلام لما أحيط بهم قال لأصحابه: أيكم يلقى شبهي عليه فيقتل ويخلص
هؤلاء وهو رفيقي في الجنة؟ فقال سرجس: أنا، وألقي عليه شبه عيسى، ويروى أن
شبه عيسى عليه السلام ألقي على الجماعة كلها، فلما أخرجهم بنو إسرائيل
نقص واحد من العدة، فأخذوا واحدا ممن ألقي عليه الشبه حسب هذه الروايات
التي ذكرتها، فصلب ذلك الشخص، وروي: أن الملك والمتناولين لم يخف عليهم
أمر رفع عيسى عليه السلام لما رأوه من نقصان العدة واختلاط الأمر، فصلب
ذلك الشخص وأبعد الناس عن خشبته أياما حتى تغير ولم تثبت له صفة، وحينئذ
دنا الناس منه ومضى الحواريون يحدثون بالآفاق أن عيسى صلب، فهذا أيضا يدل
على أنه فرقهم وهو في البيت، أو على أن الشبه ألقي على الكل، وروي أن هذه
القصة كلها لم يكن فيها إلقاء شبه شخص عيسى على أحد وإنما المعنى ولكن
شبّه لهم أي شبه عليهم الملك الممخرق، ليستديم ملكه، وذلك أنه لما نقص
واحد من الجماعة
وفقد عيسى عمد إلى أحدهم وبطش بصلبه وفرق الناس عنه. وقال: هذا عيسى قد
صلب وانحل أمره، وقوله تعالى وإنّ الّذين اختلفوا فيه يعني اختلاف
المحلولين لأخذه، لأنهم حين فقدوا واحدا من العدد وتحدث برفع عيسى اضطربوا
واختلفوا، وعلى رواية من روى أنه ألقي شبه يوشك أنه بقي في ذلك الشبه
مواضع للاختلاف، لكن أجمعوا على صلب واحد على غير ثقة ولا يقين أيهم هو. قال
القاضي- رحمه الله: الذي صح فيه نقل الكافة عن حواسها هو أن شخصا صلب،
وأما هل هو عيسى أم لا؟ فليس من علم الحواس، فلذلك لم ينفع في ذلك نقل كافة
اليهود والنصارى، ونفى الله عنهم أن يكون لهم في أمره علم على ما هو به،
ثم استثنى اتباع الظن وهو استثناء متصل، إذ الظن والعلم يضمهما جنس واحد
أنهما من معتقدات النفس، وقد يقول الظان على طريق التجوز: علمي في هذا
الأمر أنه كذا، وهو يعني ظنه. وقوله تعالى: وما قتلوه يقيناً اختلف
المتأولون في عود الضمير من قتلوه فقالت فرقة: هو عائد على الظن كما تقول:
قتلت هذا الأمر علما، فالمعنى وما صح ظنهم عندهم ولا تحققوه يقينا، هذا
قول ابن عباس والسدي وجماعة، وقال قوم: الضمير عائد على عيسى، أخبر أنهم
لم يقتلوه يقينا، فيصح لهم الإصفاق ويثبت نقل كافتهم، ومضمن الكلام أنهم
ما قتلوه في الحقيقة جملة واحدة لا يقينا ولا شكا، لكن لما حصلت في ذلك
الدعوى صار قتله عندهم مشكوكا فيه، وقال قوم من أهل اللسان: الكلام تام في
قوله وما قتلوه ويقيناً مصدر مؤكد للنفي في قوله وما قتلوه المعنى يخبركم
يقينا، أو يقص عليكم يقينا، أو أيقنوا بذلك يقينا). [المحرر الوجيز: 3/60-63] قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله
تعالى بل رفعه اللّه إليه يعني إلى سمائه وكرامته، وعيسى عليه السلام حي
في السماء الثانية على ما تضمن حديث الإسراء في ذكر ابني الخالة عيسى
ويحيى ذكره البخاري في حديث المعراج، وذكره غيره، وهو هناك مقيم حتى ينزله
الله لقتل الدجال، وليملأ الأرض عدلا، ويحيا فيها أربعين سنة ثم يموت كما
يموت البشر). [المحرر الوجيز: 3/63] قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله
تعالى: وإن من أهل الكتاب إلّا ليؤمننّ به قبل موته اختلف المتأولون في
معنى الآية فقال ابن عباس وأبو مالك والحسن بن أبي الحسن وغيرهم: الضمير في
موته راجع إلى عيسى، والمعنى أنه لا يبقى من أهل الكتاب أحد إذا نزل عيسى
إلى الأرض إلا يؤمن بعيسى كما يؤمن سائر البشر، وترجع الأديان كلها
واحدا، وقال مجاهد وابن عباس أيضا وغيرهما: الضمير في به لعيسى وفي موته
للكتابي الذي تضمنه قوله وإن من أهل الكتاب التقدير: وإن من أهل الكتاب
أحد، قالوا: وليس يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى روح الله، ويعلم أنه نبي ولكن
عند المعاينة للموت، فهو إيمان لا ينفعه، كما لم ينفع فرعون إيمانه عند
المعاينة، وقال هذا القول عكرمة والضحاك والحسن بن أبي الحسن أيضا، وقال
عكرمة أيضا: الضمير في به لمحمد عليه السلام، وقبل موته للكتابي، قال: وليس
يخرج يهودي ولا نصراني من الدنيا حتى يؤمن بمحمد، ولو غرق أو سقط عليه
جدار فإنه يؤمن في ذلك الوقت، وفي مصحف أبي بن كعب «قبل موتهم» ففي هذه
القراءة تقوية لعود الضمير على الكتابي، وقرأ الفياض بن غزوان «وإنّ من أهل
الكتاب» بتشديد «إن». والضمير المستتر في يكون هو لعيسى عليه السلام في
جل الأقوال، ولمحمد عليه السلام في قول عكرمة). [المحرر الوجيز: 3/63-64]
تفسير
قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ
اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا
غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ
إِلاَّ قَلِيلاً (155)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله:
(فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات اللّه وقتلهم الأنبياء بغير حقّ
وقولهم قلوبنا غلف بل طبع اللّه عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلّا قليلا
(155)
(فبما نقضهم ميثاقهم)
" ما " لغو في اللفظ، المعنى فبنقضهم ميثاقهم حقّا، فكما أن حقّا لتوكيد الأمر فكذلك " ما " دخلت للتوكيد.
وتأويل نقضهم ميثاقهم أن اللّه عزّ وجلّ أخذ عليهم الميثاق في أن يبينوا ما أنزل عليهم من ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره.
قال اللّه عزّ وجل: (وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للنّاس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم).
والجالب للباء والعامل فيها قوله عزّ وجلّ: (حرّمنا عليهم طيّبات أحلّت لهم).
المعنى بنقضهم ميثاقهم، والأشياء التي ذكرت بعده.
وقوله " فبظلم " بدل من قوله: فبما نقضهم.
وقوله: (قلوبنا غلف) أي أوعية للعلم.
(بل طبع اللّه عليها بكفرهم).
وإن شئت أدغمت اللام في الطاء، وكذلك: (بل تؤثرون الحياة الدّنيا)
يدغم فتقول: بـ طبع، وبـ تؤثرن، جعل اللّه مجازاتهم على كفرهم أن طبع على قلوبهم.
وقوله: (وقولهم على مريم بهتانا عظيما).
البهتان الكذب الذي يحيّر من شذته وعظمه، وذلك أنّ اليهود – لعنها اللّه -
رمت مريم، وهي صفوة الله على نساء العالمين، بأمر عظيم). [معاني القرآن: 2/127-128]
وهذه من الذّنوب الّتي ارتكبوها، ممّا
أوجب لعنتهم وطردهم وإبعادهم عن الهدى، وهو نقضهم المواثيق والعهود الّتي
أخذت عليهم، وكفرهم بآيات اللّه، أي: حججه وبراهينه، والمعجزات الّتي
شاهدوها على أيدي الأنبياء، عليهم السّلام.
قوله {وقتلهم الأنبياء بغير حقٍّ} وذلك
لكثرة إجرامهم واجترائهم على أنبياء اللّه، فإنّهم قتلوا جمًّا غفيرًا من
الأنبياء [بغير حقٍّ] عليهم السّلام.
وقولهم: {قلوبنا غلفٌ} قال ابن عبّاسٍ،
ومجاهدٌ، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والسّدّيّ، وقتادة، وغير واحدٍ: أي في
غطاءٍ. وهذا كقول المشركين: {وقالوا قلوبنا في أكنّةٍ ممّا تدعونا إليه
[وفي آذاننا وقرٌ ومن بيننا وبينك حجابٌ فاعمل إنّنا عاملون]} [فصّلت: 5].
وقيل: معناه أنّهم ادعوا أنّ قلوبهم غلف للعلم، أي: أوعيةٌ للعلم قد حوته
وحصّلته. رواه الكلبيّ، عن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ. وقد تقدّم نظيره في
سورة البقرة.
قال اللّه تعالى: {بل طبع اللّه عليها
بكفرهم} فعلى القول الأوّل كأنّهم يعتذرون إليه بأنّ قلوبهم لا تعي ما
يقول؛ لأنّها في غلفٍ وفي أكنّةٍ، قال اللّه [تعالى] بل هو مطبوعٌ عليها
بكفرهم. وعلى القول الثّاني عكس عليهم ما ادّعوه من كلّ وجهٍ، وقد تقدّم
الكلام على مثل هذا في سورة البقرة.
{فلا يؤمنون إلا قليلا} أي: مردت قلوبهم على الكفر والطّغيان وقلّة الإيمان). [تفسير القرآن العظيم: 2/447-448]
تفسير قوله تعالى: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)}
تفسير قوله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ
إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا
قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ
اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ
اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله:
(وقولهم إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول اللّه وما قتلوه وما
صلبوه ولكن شبّه لهم وإنّ الّذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه ما لهم به من
علم إلّا اتّباع الظّنّ وما قتلوه يقينا (157)
(إنّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول اللّه).
أي باعترافهم بقتلهم إياه.
(وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم).
فإنما عذّبوا أو يعذبون عذاب من قتل، أو كان شبّه لهم لأنهم قد أتوا الأمر على أنّه قتل نبي.
وجاء في التفسير أن عيسى لما أراد اللّه جل ثناؤه رفعه إليه وتطهيره منهم،
قال لأصحابه؛ أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنة،
فقال رجل منهم أنا فألقى عليه شبهه فقتل.
ورفع الله عيسى إليه، وهذا كله غير ممتنع، لأنا لا نشك في أنه شبّه لهم.
وقوله: (وإنّ الّذين اختلفوا فيه لفي شكّ منه).
أي الذين اختلفوا في قتله شاكون، لأن بعضهم زعم أنّه إله، وما قتل.
وبعضهم ذكر إنّه قتل، وهم في ذلك شاكون.
(ما لهم به من علم إلّا اتّباع الظّنّ).
(اتّباع) منصوب بالاستثناء، وهو استثناء ليس من الأول.
المعنى ما لهم به من علم لكنهم يتبعون الظن.
وإن رفع جاز على أن يجعل عليهم اتباع الظن.
كما تقول العرب: تحيتك الضرب وعتابك السيف.
قال الشاعر:
وخيل قد دلفت لها بخيل=تحية بينهم ضرب وجيع
وقوله عزّ وجلّ: (وما قتلوه يقينا).
قال بعضهم: الهاء للعلم. المعنى وما قتلوا علمهم يقينا، كما تقول: أنا أقتل الشيء علما، تأويله إني أعلمه علما تامّا.
وقال بعضهم: (وما قتلوه) الهاء لعيسى كما قال: وما قتلوه وما صلبوه.
وكلا القولين جائز). [معاني القرآن: 2/128-129]
وكان من خبر اليهود -عليهم لعائن اللّه
وسخطه وغضبه وعقابه-أنّه لمّا بعث اللّه عيسى ابن مريم بالبيّنات والهدى،
حسدوه على ما آتاه اللّه من النّبوّة والمعجزات الباهرات، الّتي كان يبرّئ
بها الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن اللّه، ويصوّر من الطّين طائرًا
ثمّ ينفخ فيه فيكون طائرًا يشاهد طيرانه بإذن اللّه، عزّ وجلّ، إلى غير
ذلك من المعجزات الّتي أكرمه اللّه بها وأجراها على يديه، ومع هذا كذّبوه
وخالفوه، وسعوا في أذاه بكلّ ما أمكنهم، حتّى جعل نبيّ اللّه عيسى، عليه
السّلام، لا يساكنهم في بلدة، بل يكثر السّياحة هو وأمّه، عليهما السّلام،
ثمّ لم يقنعهم ذلك حتّى سعوا إلى ملك دمشق في ذلك الزّمان -وكان رجلًا
مشركًا من عبدة الكواكب، وكان يقال لأهل ملّته: اليونان-وأنهوا إليه: أنّ
ببيت المقدس رجلًا يفتن النّاس ويضلّهم ويفسد على الملك رعاياه. فغضب
الملك من هذا، وكتب إلى نائبه بالقدس أن يحتاط على هذا المذكور، وأن يصلبه
ويضع الشّوك على رأسه، ويكفّ أذاه على النّاس. فلمّا وصل الكتاب امتثل
متولّي بيت المقدس ذلك، وذهب هو وطائفةٌ من اليهود إلى المنزل الّذي فيه
عيسى، عليه السّلام، وهو في جماعةٍ من أصحابه، اثنا عشر أو ثلاثة عشر
-وقيل: سبعة عشر نفرًا-وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر ليلة السّبت، فحصروه
هنالك. فلمّا أحسّ بهم وأنّه لا محالة من دخولهم عليه، أو خروجه عليهم
قال لأصحابه: أيّكم يلقى عليه شبهي، وهو رفيقي في الجنّة؟ فانتدب لذلك
شابٌّ منهم، فكأنّه استصغره عن ذلك، فأعادها ثانيةً وثالثةً وكلّ ذلك لا
ينتدب إلّا ذلك الشّابّ -فقال: أنت هو-وألقى الله عليه شبه عيسى، حتى كأنه
هو، وفتحت روزنة من سقف البيت، وأخذت عيسى عليه السّلام سنةٌ من النّوم،
فرفع إلى السّماء وهو كذلك، كما قال [اللّه] تعالى: {إذ قال اللّه يا عيسى
إنّي متوفّيك ورافعك إليّ [ومطهّرك من الّذين كفروا]} الآية [آل عمران:
55].
فلمّا رفع خرج أولئك النّفر فلمّا رأى
أولئك ذلك الشّاب ظنّوا أنّه عيسى، فأخذوه في اللّيل وصلبوه، ووضعوا الشّوك
على رأسه، فأظهر اليهود أنّهم سعوا في صلبه وتبجّحوا بذلك، وسلّم لهم
طوائف من النّصارى ذلك لجهلهم وقلّة عقلهم، ما عدا من كان في البيت مع
المسيح، فإنّهم شاهدوا رفعه، وأمّا الباقون فإنّهم ظنّوا كما ظنّ اليهود
أنّ المصلوب هو المسيح ابن مريم، حتّى ذكروا أنّ مريم جلست تحت ذلك المصلوب
وبكت، ويقال: إنّه خاطبها، واللّه أعلم.
وهذا كلّه من امتحان اللّه عباده؛ لما
له في ذلك من الحكمة البالغة، وقد أوضح اللّه الأمر وجلّاه وبيّنه وأظهره
في القرآن العظيم، الّذي أنزله على رسوله الكريم، المؤيّد بالمعجزات
والبيّنات والدّلائل الواضحات، فقال تعالى -وهو أصدق القائلين، وربّ
العالمين، المطّلع على السّرائر والضّمائر، الّذي يعلم السّرّ في السموات
والأرض، العالم بما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون-: {وما قتلوه
وما صلبوه ولكن شبّه لهم} أي: رأوا شبهه فظنّوه إيّاه؛ ولهذا قال: {وإنّ
الّذين اختلفوا فيه لفي شكٍّ منه ما لهم به من علمٍ إلا اتّباع الظّنّ
[وما قتلوه يقينًا بل رفعه اللّه إليه]} يعني بذلك: من ادّعى قتله من
اليهود، ومن سلّمه من جهّال النّصارى، كلّهم في شكٍّ من ذلك وحيرةٍ وضلالٍ
وسعر. ولهذا قال: {وما قتلوه يقينًا} أي: وما قتلوه متيقّنين أنّه هو، بل
شاكّين متوهّمين). [تفسير القرآن العظيم: 2/448-449]
تفسير قوله تعالى: {بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله: (بل رفعه اللّه إليه وكان اللّه عزيزا حكيما (158)
إدغام اللام في الراء هو الكلام وعليه القراءة، لأن اللام قريبة من مخرج
الراء، والراء متمكنة، وفيها كالتكرير، فلذلك اختير الإدغام فيها، وإن
لم تدغم لأنه من كلمتين جاز). [معاني القرآن: 2/129]
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أحمد بن
سنان، حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرٍو، عن سعيد بن
جبيرٍ، عن ابن عباس قال: لمّا أراد اللّه أن يرفع عيسى إلى السّماء، خرج
على أصحابه -وفي البيت اثنا عشر رجلًا من الحواريّين-يعني: فخرج عليهم من
عينٍ في البيت، ورأسه يقطر ماءً، فقال: إنّ منكم من يكفر بي اثنتي عشرة
مرّةً، بعد أن آمن بي. ثمّ قال: أيّكم يلقى عليه شبهي، فيقتل مكاني ويكون
معي في درجتي؟ فقام شابٌّ من أحدثهم سنًّا، فقال له: اجلس. ثمّ أعاد عليهم
فقام ذلك الشّابّ، فقال: اجلس. ثمّ أعاد عليهم فقام الشّابّ فقال: أنا.
فقال: أنت هو ذاك. فألقي عليه شبه عيسى ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى
السّماء. قال: وجاء الطّلب من اليهود فأخذوا الشّبه فقتلوه، ثمّ صلبوه وكفر
به بعضهم اثنتي عشرة مرّةً، بعد أن آمن به، وافترقوا ثلاث فرقٍ، فقالت
طائفةٌ: كان اللّه فينا ما شاء ثمّ صعد إلى السّماء. وهؤلاء اليعقوبية،
وقالت فرقةٌ: كان فينا ابن اللّه ما شاء، ثمّ رفعه اللّه إليه. وهؤلاء
النّسطوريّة، وقالت فرقةٌ: كان فينا عبد اللّه ورسوله ما شاء، ثمّ رفعه
اللّه إليه. وهؤلاء المسلمون، فتظاهرت الكافرتان على المسلمة، فقتلوها، فلم
يزل الإسلام طامسًا حتّى بعث اللّه محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم.
وهذا إسنادٌ صحيحٌ إلى ابن عبّاسٍ،
ورواه النّسائيّ عن أبي كريب، عن أبي معاوية، بنحوه وكذا ذكر غير واحدٍ من
السّلف أنّه قال لهم: أيّكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني، وهو رفيقي في
الجنّة؟
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن حميدٍ،
حدّثنا يعقوب القمّي، عن هارون بن عنترة، عن وهب بن منبّه قال: أتي عيسى
وعنده سبعة عشر من الحواريّين في بيتٍ وأحاطوا بهم. فلمّا دخلوا عليه
صوّرهم اللّه، عزّ وجلّ، كلّهم على صورة عيسى، فقالوا لهم: سحرتمونا.
ليبرزنّ لنا عيسى أو لنقتلنّكم جميعًا. فقال عيسى لأصحابه: من يشري نفسه
منكم اليوم بالجنّة؟ فقال رجلٌ منهم: أنا. فخرج إليهم وقال: أنا عيسى -وقد
صوّره اللّه على صورة عيسى-فأخذوه وقتلوه وصلبوه. فمن ثمّ شبّه لهم،
فظنّوا أنّهم قد قتلوا عيسى، وظنّت النّصارى مثل ذلك أنّه عيسى، ورفع
اللّه عيسى من يومه ذلك. وهذا سياقٌ غريبٌ جدًّا.قال ابن جريرٍ: وقد روي
عن وهبٍ نحو هذا القول، وهو ما حدّثني به المثنّى، حدّثنا إسحاق، حدّثنا
إسماعيل بن عبد الكريم، حدّثني عبد الصّمد بن معقل: أنّه سمع وهبًا يقول:
إنّ عيسى ابن مريم لمّا أعلمه اللّه أنّه خارجٌ من الدّنيا، جزع من الموت
وشقّ عليه، فدعا الحواريّين فصنع لهم طعامًا، فقال: احضروني اللّيلة، فإنّ
لي إليكم حاجةً. فلمّا اجتمعوا إليه من اللّيل عشّاهم وقام يخدمهم. فلمّا
فرغوا من الطّعام أخذ يغسل أيديهم ويوضّئهم بيده، ويمسح أيديهم بثيابه،
فتعاظموا ذلك وتكارهوه، فقال: ألا من ردّ عليّ شيئًا اللّيلة ممّا أصنع،
فليس منّي ولا أنا منه. فأقرّوه، حتّى إذا فرغ من ذلك قال: أمّا ما صنعت
بكم اللّيلة، ممّا خدمتكم على الطّعام، وغسلت أيديكم بيدي، فليكن لكم بي
أسوةٌ، فإنّكم ترون أنّي خيركم، فلا يتعظّم بعضكم على بعضٍ، وليبذل بعضكم
نفسه لبعضٍ، كما بذلت نفسي لكم. وأمّا حاجتي اللّيلة الّتي أستعينكم عليها
فتدعون لي اللّه، وتجتهدون في الدّعاء أن يؤخّر أجلي. فلمّا نصبوا أنفسهم
للدّعاء، وأرادوا أن يجتهدوا، أخذهم النّوم حتّى لم يستطيعوا دعاءً، فجعل
يوقظهم ويقول: سبحان اللّه! أما تصبرون لي ليلةً واحدةً تعينونني فيها؟
قالوا: واللّه ما ندري ما لنا. لقد كنّا نسمر فنكثر السّمر، وما نطيق
اللّيلة سمرا، وما نريد دعاءً إلّا حيل بيننا وبينه. فقال: يذهب بالرّاعي
وتفرّق الغنم. وجعل يأتي بكلامٍ نحو هذا ينعي به نفسه. ثمّ قال: الحقّ،
ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الدّيك ثلاث مرّاتٍ، وليبيعنّي أحدكم بدراهم
يسيرة، وليأكلن ثمني، فخرجوا وتفرّقوا، وكانت اليهود تطلبه، وأخذوا شمعون
أحد الحواريّين، وقالوا: هذا من أصحابه. فجحد وقال: ما أنا بصاحبه فتركوه،
ثمّ أخذه آخرون، فجحد كذلك. ثمّ سمع صوت ديكٍ فبكى وأحزنه، فلمّا أصبح
أتى أحد الحواريّين إلى اليهود فقال: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح؟
فجعلوا له ثلاثين درهمًا، فأخذها ودلّهم عليه، وكان شبّه عليهم قبل ذلك،
فأخذوه فاستوثقوا منه، وربطوه بالحبل، وجعلوا يقودونه ويقولون، له: أنت
كنت تحيي الموتى، وتنهر الشّيطان، وتبرئ المجنون، أفلا تنجي نفسك من هذا
الحبل؟ ويبصقون عليه، ويلقون عليه الشّوك، حتّى أتوا به الخشبة الّتي
أرادوا أن يصلبوه عليها، فرفعه اللّه إليه، وصلبوا ما شبّه لهم فمكث
سبعًا.
ثمّ إن أمّه والمرأة الّتي كان يداويها
عيسى عليه السّلام، فأبرأها اللّه من الجنون، جاءتا تبكيان حيث المصلوب،
فجاءهما عيسى فقال: علام تبكيان؟ فقالتا: عليك. فقال: إنّي قد رفعني اللّه
إليه، ولم يصبني إلّا خيرٌ، وإنّ هذا شبّه لهم فأمرا الحواريّين يلقوني
إلى مكان كذا وكذا. فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر. وفقدوا الّذي كان باعه
ودلّ عليه اليهود، فسأل عنه أصحابه فقال: إنّه ندم على ما صنع فاختنق،
وقتل نفسه فقال: لو تاب لتاب اللّه عليه. ثمّ سألهم عن غلامٍ كاد يتبعهم،
يقال له: يحيى، قال: هو معكم، فانطلقوا، فإنّه سيصبح كلّ إنسانٍ يحدّث
بلغة قومه، فلينذرهم وليدعهم. سياقٌ غريبٌ جدًّا.
ثمّ قال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن حميدٍ،
حدّثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان اسم ملك بني إسرائيل الّذي بعث إلى
عيسى ليقتله رجلًا منهم، يقال له: داود، فلمّا أجمعوا لذلك منه، لم يفظع
عبدٌ من عباد اللّه بالموت -فيما ذكر لي-فظعه ولم يجزع منه جزعه، ولم يدع
اللّه في صرفه عنه دعاءه، حتّى إنّه ليقول -فيما يزعمون-"اللّهمّ إنّ كنت
صارفًا هذه الكأس عن أحدٍ من خلقك فاصرفها عنّي" وحتّى إنّ جلده من كرب ذلك
ليتفصّد دمًا. فدخل المدخل الّذي أجمعوا أن يدخلوا عليه فيه ليقتلوه هو
وأصحابه، وهم ثلاثة عشر بعيسى، عليه السّلام، فلمّا أيقن أنّهم داخلون عليه
قال لأصحابه من الحواريّين -وكانوا اثني عشر رجلًا فطرس ويعقوب بن زبدي
ويحنّس أخو يعقوب، وأنداربيس، وفيلبس، وأبرثلما ومنى وتوماس، ويعقوب بن
حلفيا، وتداوسيس، وقثانيا ويودس زكريّا يوطا.
قال ابن حميدٍ: قال سلمة، قال ابن
إسحاق: وكان [فيهم فيما] ذكر لي رجلٌ اسمه سرجس، فكانوا ثلاثة عشر رجلًا
سوى عيسى، عليه السّلام، جحدته النّصارى، وذلك أنّه هو الّذي شبّه لليهود
مكان عيسى [عليه السّلام] قال: فلا أدري ما هو؟ من هؤلاء الاثني عشر، أو
كان ثالث عشر، فجحدوه حين أقرّوا لليهود بصلب عيسى، وكفروا بما جاء به
محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم من الخبر عنه. فإن كانوا ثلاثة عشر فإنّهم
دخلوا المدخل حين دخلوا وهم بعيسى أربعة عشر، وإن كانوا اثني عشر، فإنّهم
دخلوا المدخل [حين دخلوا] وهم ثلاثة عشر.
قال ابن إسحاق: وحدّثني رجلٌ كان
نصرانيًّا فأسلم: أنّ عيسى حين جاءه من اللّه {إنّي متوفّيك ورافعك إليّ}
قال: يا معشر الحواريّين، أيّكم يحبّ أن يكون رفيقي في الجنّة على أن يشبّه
للقوم في صورتي، فيقتلوه في مكاني؟ فقال سرجس: أنا، يا روح اللّه. قال:
فاجلس في مجلسي. فجلس فيه، ورفع عيسى، عليه السّلام، فدخلوا عليه فأخذوه
فصلبوه، فكان هو الّذي صلبوه وشبّه لهم به، وكانت عدّتهم حين دخلوا مع عيسى
معلومةً، قد رأوهم وأحصوا عدّتهم. فلمّا دخلوا عليه ليأخذوه وجدوا عيسى،
فيما يرون وأصحابه، وفقدوا رجلًا من العدّة، فهو الّذي اختلفوا فيه وكانوا
لا يعرفون عيسى، حتّى جعلوا ليودس زكريّا يوطا ثلاثين درهمًا على أن
يدلّهم عليه ويعرّفهم إيّاه، فقال لهم: إذا دخلتم عليه فإنّي سأقبله، وهو
الّذي أقبّل، فخذوه. فلمّا دخلوا وقد رفع عيسى، ورأى سرجس في صورة عيسى،
فلم يشكل أنّه عيسى، فأكبّ عليه فقبّله فأخذوه فصلبوه.
ثمّ إن يودس زكريّا يوطا ندم على ما
صنع، فاختنق بحبلٍ حتّى قتل نفسه، وهو ملعونٌ في النّصارى، وقد كان أحد
المعدودين من أصحابه، وبعض النّصارى يزعم أنّ يودس زكريّا يوطا هو الّذي
شبّه لهم، فصلبوه وهو يقول: "إنّي لست بصاحبكم. أنا الّذي دللتكم عليه".
واللّه أعلم أيّ ذلك كان.
وقال ابن جريرٍ، عن مجاهدٍ: صلبوا رجلًا شبّهوه بعيسى، ورفع اللّه، عزّ وجلّ، عيسى إلى السّماء حيًّا.
واختار ابن جريرٍ أنّ شبه عيسى ألقي على جميع أصحابه). [تفسير القرآن العظيم: 2/449-452]
تفسير قوله تعالى: {وَإِن مِّنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)}
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ) : (وقوله: (وإن من أهل الكتاب إلّا ليؤمننّ به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا (159)
المعنى: وما مهم من أحد إلّا ليؤمننّ به، وكذلك قوله: (وإن منكم إلا واردها).
المعنى: ما منكم أحد إلا واردها، وكذلك (وما منّا إلّا له مقام معلوم)
المعنى: وما منا أحد إلا له مقام معلوم.
ومثله قول الشاعر:
لو قلت ما في قومها لم تيثم=يفضلها في حسب وميسم
المعنى: ما في قومها أحد يفضلها.
فالمعنى (ليؤمننّ به قبل موته)، فالهاء في " موته " راجعة على كافر في بعض
الأقاويل، وقد قيل: ما من أحد إلا ليؤمننّ بعيسى ممن كفر به قبل
موته؛ لأن الميت قبل موته يعاين عمله فيعلم صالحه من طالحه، وكل كافر
إذا عاين آمن بكل نبي كفر به قبل موته.
وقالوا في الهاء في قوله: (ليؤمننّ به) أي بعيسى.
وقال بعضهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
والقولان واحد، لأن من كفر بنبي عاين قبل موته أنه كان على ضلال، وآمن حيث لا ينفعه الإيمان.
وقال بعضهم: (إلّا ليؤمننّ به) أي سيؤمن بعيسى إذا نزل لقتل المسيح
الدجّال، وهذا بعيد في اللغة؛ لأنه قال: (وإن من أهل الكتاب إلّا ليؤمننّ
به قبل موته).
والذين يبقون إلى ذلك الوقت إنما هم شرذمة منهم، ولكنه يحتمل أنهم كلهم
يقولون إن عيسى الذي ينزل لقتل الدجال. نحن نؤمن، فيجوز على هذا.
واللّه أعلم بحقيقته). [معاني القرآن: 2/129-130]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا}
قال ابن جريرٍ: اختلف أهل التّأويل في
معنى ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ به} يعني
بعيسى {قبل موته} يعني: قبل موت عيسى-يوجه ذلك إلى أنّ جميعهم يصدّقون به
إذا نزل لقتل الدّجّال، فتصير الملل كلّها واحدةً، وهي ملّة الإسلام
الحنيفيّة، دين إبراهيم، عليه السّلام.
ذكر من قال ذلك:
حدّثنا ابن بشّارٍ، حدّثنا عبد الرّحمن،
حدّثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {وإن من
أهل الكتاب إلا ليؤمننّ به قبل موته} قال: قبل موت عيسى ابن مريم. وقال
العوفيّ عن ابن عبّاسٍ مثل ذلك.
وقال أبو مالكٍ في قوله: {إلا ليؤمننّ
به قبل موته} قال: ذلك عند نزول عيسى ابن مريم، عليه السّلام، لا يبقى أحدٌ
من أهل الكتاب إلا آمن به.
وقال الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: {وإن من
أهل الكتاب إلا ليؤمننّ به قبل موته} يعني: اليهود خاصّةً. وقال الحسن
البصريّ: يعني النّجاشيّ وأصحابه. ورواهما ابن أبي حاتمٍ.
وقال ابن جريرٍ: وحدّثني يعقوب، حدّثنا
ابن عليّة، حدّثنا أبو رجاءٍ، عن الحسن: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ
به قبل موته} قال: قبل موت عيسى. واللّه إنّه الآن حيٌّ عند اللّه، ولكن
إذا نزل آمنوا به أجمعون.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا
عليّ بن عثمان اللّاحقيّ، حدّثنا جويريّة بن بشرٍ قال: سمعت رجلًا قال
للحسن: يا أبا سعيدٍ، قول اللّه، [عزّ وجلّ] {وإن من أهل الكتاب إلا
ليؤمننّ به قبل موته} قال: "قبل موت عيسى. إنّ اللّه رفع إليه عيسى [إليه]
وهو باعثه قبل يوم القيامة مقامًا يؤمن به البرّ والفاجر".
وكذا قال قتادة، وعبد الرّحمن بن زيد بن
أسلم، وغير واحدٍ. وهذا القول هو الحقّ، كما سنبيّنه بعد بالدّليل
القاطع، إن شاء اللّه، وبه الثّقة وعليه التّكلان.
قال ابن جريرٍ: وقال آخرون: معنى ذلك:
{وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ به} قبل موت الكتابيّ. ذكر من كان يوجه ذلك
إلى أنّه إذا عاين علم الحقّ من الباطل؛ لأنّ كلّ من نزل به الموت لم
تخرج نفسه حتّى يتبيّن له الحقّ من الباطل في دينه.
قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ به قبل موته} قال لا يموت يهوديٌّ حتّى يؤمن بعيسى.
حدّثني المثنّى، حدّثنا أبو حذيفة،
حدّثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ في قوله: {إلا ليؤمننّ به قبل
موته} كلّ صاحب كتابٍ يؤمن بعيسى قبل موته -قبل موت صاحب الكتاب-وقال ابن
عبّاسٍ: لو ضربت عنقه لم تخرج نفسه حتّى يؤمن بعيسى.
حدّثنا ابن حميد، حدّثنا أبو نميلة يحيى
بن واضحٍ، حدّثنا حسين بن واقدٍ، عن يزيد النّحويّ، عن عكرمة، عن ابن
عبّاسٍ قال: لا يموت اليهوديّ حتّى يشهد أنّ عيسى عبد اللّه ورسوله، ولو
عجّل عليه بالسّلاح.
حدّثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن
الشّهيد، حدّثنا عتّاب بن بشير عن خصيف، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ:
{وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ به قبل موته} قال: هي في قراءة أبيٍّ:
{قبل موتهم} ليس يهوديٌّ يموت أبدًا حتّى يؤمن بعيسى. قيل لابن عبّاسٍ:
أرأيت إن خرّ من فوق بيتٍ؟ قال: يتكلّم به في الهويّ. فقيل: أرأيت إن ضربت
عنق أحدٍ منهم؟ قال: يلجلج بها لسانه.
وكذا روى سفيان الثّوريّ عن خصيفٍ، عن
عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ به قبل موته} قال:
لا يموت يهوديٌّ حتّى يؤمن بعيسى، عليه السّلام، وإنّ ضرب بالسيف تكلم به،
قال: وإنّ هوى تكلّم [به] وهو يهوي.
وكذا روى أبو داود الطّيالسيّ، عن شعبة،
عن أبي هارون الغنوي عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ. فهذه كلّها أسانيد صحيحةٌ
إلى ابن عبّاسٍ، وكذا صحّ عن مجاهدٍ، وعكرمة، ومحمّد بن سيرين. وبه يقول
الضّحّاك وجويبر، والسّدّيّ، وحكاه عن ابن عبّاسٍ، ونقل قراءة أبيّ بن
كعبٍ: "قبل موتهم".
وقال عبد الرّزّاق، عن إسرائيل، عن
فراتٍ القزّاز، عن الحسن في قوله: {إلا ليؤمننّ به قبل موته} قال: لا يموت
أحدٌ منهم حتّى يؤمن بعيسى قبل أن يموت.
وهذا يحتمل أن يكون مراد الحسن ما تقدّم عنه، ويحتمل أن يكون مراده ما أراده هؤلاء
قال ابن جريرٍ: وقال آخرون: معنى ذلك: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم قبل موت الكتابيّ.
ذكر من قال ذلك:
حدّثني ابن المثنّى، حدّثنا الحجّاج بن
منهال، حدّثنا حمّادٌ، عن حميدٍ قال: قال عكرمة: لا يموت النّصرانيّ ولا
اليهوديّ حتّى يؤمن بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم في قوله: {وإن من أهل
الكتاب إلا ليؤمننّ به قبل موته}
ثمّ قال ابن جريرٍ: وأولى هذه الأقوال
بالصّحّة القول الأول، وهو أنّه لا يبقى أحدٌ من أهل الكتاب بعد نزول عيسى،
عليه السّلام، إلّا آمن به قبل موته، أي قبل موت عيسى، عليه السّلام، ولا
شكّ أنّ هذا الّذي قاله ابن جريرٍ، رحمه [اللّه] هو الصّحيح؛ لأنّه
المقصود من سياق الآي في تقرير بطلان ما ادّعته اليهود من قتل عيسى وصلبه،
وتسليم من سلّم لهم من النّصارى الجهلة ذلك، فأخبر اللّه أنّه لم يكن
الأمر كذلك، وإنّما شبّه لهم فقتلوا الشّبيه وهم لا يتبيّنون ذلك، ثمّ
إنّه رفعه إليه، وإنّه باقٍ حيٌّ، وإنّه سينزل قبل يوم القيامة، كما دلّت
عليه الأحاديث المتواترة -الّتي سنوردها إن شاء اللّه قريبًا-فيقتل مسيح
الضّلالة، ويكسر الصّليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية -يعني: لا يقبلها من
أحدٍ من أهل الأديان، بل لا يقبل إلّا الإسلام أو السّيف-فأخبرت هذه
الآية الكريمة أن يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذٍ، ولا يتخلّف عن التّصديق
به واحدٌ منهم؛ ولهذا قال: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ به قبل موته}
أي: قبل موت عيسى، الّذي زعم اليهود ومن وافقهم من النّصارى أنّه قتل
وصلب.
{ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا} أي:
بأعمالهم الّتي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السّماء وبعد نزوله إلى الأرض.
فأمّا من فسّر هذه الآية بأنّ المعنى: أنّ كلّ كتابيٍّ لا يموت حتّى يؤمن
بعيسى أو بمحمّدٍ، عليهما [الصّلاة و] والسّلام فهذا هو الواقع، وذلك أنّ
كلّ أحدٍ عند احتضاره يتجلي له ما كان جاهلًا به، فيؤمن به، ولكن لا يكون
ذلك إيمانًا نافعًا له، إذا كان قد شاهد الملك، كما قال تعالى في [أوّل]
هذه السّورة: {وليست التّوبة للّذين يعملون السّيّئات حتّى إذا حضر أحدهم
الموت قال إنّي تبت الآن [ولا الّذين يموتون وهم كفّارٌ]} الآية [النّساء:
18] وقال تعالى: {فلمّا رأوا بأسنا قالوا آمنّا بالله وحده [وكفرنا بما
كنّا به مشركين. فلم يك ينفعهم إيمانهم لمّا رأوا بأسنا]} الآيتين [غافرٍ:
84، 85] وهذا يدلّ على ضعف ما احتجّ به ابن جريرٍ في ردّ هذا القول، حيث
قال: ولو كان المراد بهذه الآية هذا، لكان كلّ من آمن بمحمّدٍ أو بالمسيح،
ممّن كفر بهما -يكون على دينهما، وحينئذٍ لا يرثه أقرباؤه من أهل دينه؛
لأنّه قد أخبر الصّادق أنّه يؤمن به قبل موته. فهذا ليس بجيّدٍ؛ إذ لا يلزم
من إيمانه في حالةٍ لا ينفعه إيمانه أنّه يصير بذلك مسلمًا، ألا ترى إلى
قول ابن عبّاسٍ: ولو تردّى من شاهقٍ أو ضرب بسيفٍ أو افترسه سبع، فإنّه لا
بدّ أن يؤمن بعيسى" فالإيمان في مثل هذه الحالات ليس بنافعٍ، ولا ينقل
صاحبه عن كفره لما قدّمناه، واللّه أعلم.
ومن تأهل هذا جيّدًا وأمعن النّظر،
اتّضح له أنّ هذا، وإن كان هو الواقع، لكن لا يلزم منه أن يكون المراد بهذه
الآية هذا، بل المراد بها ما ذكرناه من تقرير وجود عيسى، عليه السّلام،
وبقاء حياته في السّماء، وأنّه سينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة؛ ليكذّب
هؤلاء وهؤلاء من اليهود والنّصارى الّذين تباينت أقوالهم فيه وتضادّت
وتعاكست وتناقضت، وخلت عن الحقّ، ففرّط هؤلاء اليهود وأفرط هؤلاء النّصارى:
تنقّصه اليهود بما رموه به وأمّه من العظائم، وأطراه النّصارى بحيث
ادّعوا فيه بما ليس فيه، فرفعوه في مقابلة أولئك عن مقام النّبوّة إلى
مقام الرّبوبيّة، تعالى اللّه عن قول هؤلاء وهؤلاء علوًّا كبيرًا، وتنزّه
وتقدّس لا إله إلّا هو.
ذكر الأحاديث الواردة في نزول عيسى ابن
مريم إلى الأرض من السّماء في آخر الزّمان قبل يوم القيامة، وأنّه يدعو
إلى عبادة اللّه وحده لا شريك له:
قال البخاريّ، رحمه اللّه، في كتاب ذكر
الأنبياء، من صحيحه المتلقّى بالقبول: (نزول عيسى ابن مريم-عليه السّلام):
حدّثنا إسحاق بن إبراهيم، حدّثنا يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا أبي، عن
صالحٍ، عن ابن شهابٍ، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة قال: قال رسول
اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "والّذي نفسي بيده ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن
مريم حكمًا عدلًا فيكسر الصّليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض
المال حتّى لا يقبله أحدٌ، حتّى تكون السّجدة خيرًا من الدّنيا وما فيها".
ثمّ يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ به
قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا}
وكذا رواه مسلمٌ عن الحسن الحلواني وعبد
بن حميدٍ كلاهما، عن يعقوب، به وأخرجه البخاريّ ومسلمٌ، أيضًا، من حديث
سفيان بن عيينة، عن الزّهريّ، به وأخرجاه من طريق اللّيث عن الزّهريّ به
ورواه ابن مردويه من طريق محمّد بن أبي حفصة، عن الزّهريّ، عن سعيد بن
المسيّب، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "يوشك
أن يكون فيكم ابن مريم حكمًا عدلا يقتل الدّجّال، ويقتل الخنزير، ويكسر
الصّليب، ويضع الجزية، ويفيض المال، وتكون السّجدة واحدةً للّه ربّ
العالمين". قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ
به قبل} موت عيسى ابن مريم، ثمّ يعيدها أبو هريرة ثلاث مرّاتٍ.
طريقٌ أخرى عن أبي هريرة: قال الإمام
أحمد: حدّثنا روحٌ، حدّثنا محمّد بن أبي حفصة، عن الزّهري، عن حنظلة بن
عليٍّ الأسلميّ، عن أبي هريرة؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال:
"ليهلّن عيسى ابن مريم بفجّ الرّوحاء بالحجّ أو العمرة أو ليثنّينّهما
جميعًا".
وكذا رواه مسلمٌ منفردًا به من حديث سفيان بن عيينة، واللّيث بن سعدٍ، ويونس بن يزيد، ثلاثتهم عن الزّهريّ به.
وقال أحمد: حدّثنا يزيد، حدّثنا سفيان
-هو ابن حسينٍ-عن الزّهريّ، عن حنظلة، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم: "ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الخنزير، ويمحو الصّليب،
وتجمع له الصّلاة، ويعطي المال حتّى لا يقبل، ويضع الخراج، وينزل
الرّوحاء فيحجّ منها أو يعتمر أو يجمعهما" قال: وتلا أبو هريرة: {وإن من
أهل الكتاب إلا ليؤمننّ به قبل موته [ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا]}
فزعم حنظلة أنّ أبا هريرة قال: يؤمن به قبل موت عيسى، فلا أدري هذا كلّه
حديث النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أو شيءٌ قاله أبو هريرة.
وكذا رواه ابن أبي حاتمٍ، عن أبيه، عن أبي موسى محمّد بن المثنّى، عن يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسينٍ عن الزّهريّ، به.
طريقٌ أخرى: قال البخاريّ: حدّثنا ابن
بكير، حدّثنا اللّيث، عن يونس، عن ابن شهابٍ، عن نافعٍ مولى أبي قتادة
الأنصاريّ؛ أنّ أبا هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "كيف
أنتم إذا نزل فيكم المسيح ابن مريم، وإمامكم منكم؟ " تابعه عقيلٌ
والأوزاعيّ.
وهكذا رواه الإمام أحمد، عن عبد
الرّزّاق، عن معمر، وعن عثمان بن عمر، عن ابن أبي ذئبٍ، كلاهما عن
الزّهريّ، به. وأخرجه مسلمٌ من رواية يونس والأوزاعيّ وابن أبي ذئبٍ، به.
طريقٌ أخرى: قال الإمام أحمد: حدّثنا
عفّان، حدّثنا همّام، أنبأنا قتادة، عن عبد الرّحمن، عن أبي هريرة؛ أنّ
النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلم قال: "الأنبياء إخوةٌ لعلات أمّهاتهم شتّى
ودينهم واحدٌ، وإنّي أولى النّاس بعيسى ابن مريم؛ لأنّه لم يكن بيني وبينه
نبيٌّ، وإنّه نازلٌ، فإذا رأيتموه فاعرفوه: رجلٌ مربوعٌ إلى الحمرة
والبياض، عليه ثوبان ممصّران، كأنّ رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، فيدقّ
الصّليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويدعو النّاس إلى الإسلام، ويهلك
اللّه في زمانه الملل كلّها إلّا الإسلام، ويهلك اللّه في زمانه المسيح
الدّجّال، ثمّ تقع الأمنة على الأرض، حتّى ترتع الأسود مع الإبل، والنّمار
مع البقر، والذّئاب مع الغنم، ويلعب الصّبيان بالحيّات لا تضرّهم، فيمكث
أربعين سنةً، ثمّ يتوفى ويصلّي عليه المسلمون".
وكذا رواه أبو داود، عن هدبة بن خالدٍ،
عن همّام بن يحيى. رواه ابن جريرٍ -ولم يورد عند هذه الآية سواه-عن بشر بن
معاذٍ، عن يزيد بن هارون، عن سعيد بن أبي عروبة -كلاهما عن قتادة، عن عبد
الرّحمن بن آدم-وهو مولى أمّ برثن -صاحب السّقاية، عن أبي هريرة، عن
النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فذكر نحوه، وقال: فيقاتل النّاس على
الإسلام.
وقد روى البخاريّ، عن أبي اليمان، عن
شعيبٍ، عن الزّهريّ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلّم يقول: "أنا أولى النّاس بعيسى ابن مريم، والأنبياء أولاد
علّاتٍ، ليس بيني وبينه نبيٌّ".
ثمّ روى عن محمّد بن سنان: عن فليح بن
سليمان، عن هلال بن عليٍّ، عن عبد الرّحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة قال:
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم "أنا أولى النّاس بعيسى ابن مريم في
الدّنيا والآخرة، والأنبياء إخوةٌ لعلّاتٍ، أمّهاتهم شتّى ودينهم واحدٌ"
وقال إبراهيم بن طهمان، عن موسى بن عقبة، عن صفوان بن سليمٍ، عن عطاء بن
يسارٍ، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم..
حديثٌ آخر: قال مسلمٌ في صحيحه: حدّثني
زهير بن حربٍ، حدّثنا معلى بن منصورٍ، حدّثنا سليمان بن بلالٍ، حدّثنا
سهيلٌ، عن أبيه، عن أبي هريرة؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال:
"لا تقوم السّاعة حتّى ينزل الرّوم بالأعماق -أو بدابقٍ-فيخرج إليهم جيشٌ
من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذٍ، فإذا تصافّوا قال الرّوم: خلوا
بيننا وبين الّذين سبوا منّا نقاتلهم. فيقول المسلمون: لا واللّه لا نخلّي
بينكم وبين إخواننا. فيقاتلونهم، فينهزم ثلثٌ لا يتوب اللّه عليهم أبدًا،
ويقتل ثلثه أفضل الشهداء عند الله [عز وجل] ويفتح الثّلث لا يفتنون أبدًا
فيفتتحون قسطنطينيّة، فبينما هم يقسمون الغنائم قد علّقوا سيوفهم
بالزّيتون، إذ صاح فيهم الشّيطان: إنّ المسيح قد خلفكم في أهليكم. فيخرجون،
وذلك باطلٌ. فإذا جاؤوا الشّام خرج، فبينما هم يعدّون للقتال: يسوّون
الصّفوف، إذ أقيمت الصّلاة، فينزل عيسى ابن مريم فأمّهم فإذا رآه عدوّ
اللّه ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لانذاب حتّى يهلك ولكن يقتله
اللّه بيده، فيريهم دمه في حربته".
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا
هشيم، عن العوّام بن حوشب، عن جبلة بن سحيم، عن مؤثر بن عفازة، عن ابن
مسعودٍ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "لقيت ليلة أسري بي
إبراهيم وموسى وعيسى، عليه السّلام، فتذاكروا أمر السّاعة، فردّوا أمرهم
إلى إبراهيم، فقال: لا علم لي بها. فردّوا أمرهم إلى موسى، فقال: لا علم لي
بها. فردّوا أمرهم إلى عيسى، فقال: أمّا وجبتها فلا يعلم بها أحدٌ إلّا
اللّه، وفيما عهد إليّ ربّي -عزّ وجل-أنّ الدّجّال خارجٌ قال: ومعي قضيبان،
فإذا رآني ذاب كما يذوب الرّصاص قال: فيهلكه اللّه إذا رآني حتّى إنّ
الحجر والشّجر يقول: يا مسلم، إنّ تحتي كافرًا فتعال فاقتله: قال: فيهلكهم
اللّه، ثمّ يرجع النّاس إلى بلادهم وأوطانهم، فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج،
وهم من كل حدب ينسلون، فيطؤون بلادهم، فلا يأتون على شيءٍ إلّا أهلكوه،
ولا يمرّون على ماءٍ إلّا شربوه، قال: ثمّ يرجع النّاس إليّ يشكونهم،
فأدعو اللّه عليهم، فيهلكهم ويميتهم، حتّى تجوى الأرض من نتن ريحهم، وينزل
اللّه المطر، فيجترف أجسادهم حتّى نقذفهم في البحر، ففيما عهد إليّ ربّي
-عزّ وجلّ-أنّ ذلك إذا كان كذلك أنّ السّاعة كالحامل المتمّ، لا يدري
أهلها متى تفجؤهم بولادها ليلًا أو نهارًا.
رواه ابن ماجه، عن محمّد بن بشّار، عن يزيد بن هارون، عن العوّام بن حوشب، به نحوه.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا
يزيد بن هارون، أخبرنا حمّاد بن سلمة، عن عليّ بن زيدٍ، عن أبي نضرة قال:
أتينا عثمان بن أبي العاص في يوم جمعةٍ؛ لنعرض عليه مصحفًا لنا على مصحفه،
فلمّا حضرت الجمعة أمرنا فاغتسلنا، ثمّ أتينا بطيبٍ فتطيّبنا، ثمّ جئنا
المسجد فجلسنا إلى رجلٍ، فحدّثنا عن الدّجّال، ثمّ جاء عثمان بن أبي العاص
فقمنا إليه، فجلسنا فقال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول:
"يكون للمسلمين ثلاثة أمصارٍ: مصرٌ بملتقى البحرين، ومصرٌ بالحيرة، ومصرٌ
بالشّام. فيفزع النّاس ثلاث فزعاتٍ، فيخرج الدّجّال في أعراض النّاس، فيهزم
من قبل المشرق، فأوّل مصرٍ يرده المصر الّذي بملتقى البحرين، فيصير أهلهم
ثلاث فرقٍ: فرقةٌ تقيم تقول: نشامه ننظر ما هو؟ وفرقةٌ تلحق بالأعراب،
وفرقةٌ تلحق بالمصر الّذي يليهم. ومع الدّجّال سبعون ألفًا عليهم السّيجان
وأكثر من معه اليهود والنّساء، ثمّ يأتي المصر الّذي يليه، فيصير أهله
ثلاث فرقٍ: فرقةٌ تقول: نشامّه وننظر ما هو؟ وفرقةٌ تلحق بالأعراب، وفرقةٌ
تلحق بالمصر الّذي يليهم بغرب الشّام وينحاز المسلمون إلى عقبة أفيق
فيبعثون سرحًا لهم، فيصاب سرحهم، فيشتدّ ذلك عليهم وتصيبهم مجاعةٌ شديدةٌ
وجهدٌ شديدٌ، حتّى إنّ أحدهم ليحرق وتر قوسه فيأكله، فبينما هم كذلك إذ
نادى منادٍ من السّحر: "يا أيّها النّاس، أتاكم الغوث ثلاثًا" فيقول بعضهم
لبعضٍ: إنّ هذا لصوت رجلٍ شبعان، وينزل عيسى ابن مريم، عليه السّلام، عند
صلاة الفجر، فيقول له أميرهم: روح اللّه، تقدّم صلّ. فيقول: هذه الأمّة
أمراء، بعضهم على بعضٍ. فيتقدّم أميرهم فيصلّي، فإذا قضى صلاته أخذ عيسى
حربته، فيذهب نحو الدّجال، فإذا رآه الدّجّال ذاب كما يذوب الرّصاص، فيضع
حربته بين ثندوته فيقتله وينهزم أصحابه، فليس يومئذٍ شيءٌ يواري أحدًا،
حتّى إنّ الشّجرة لتقول: يا مؤمن، هذا كافرٌ. ويقول الحجر: يا مؤمن، هذا
كافرٌ". تفرّد به أحمد من هذا الوجه.
حديثٌ آخر: قال أبو عبد اللّه محمّد بن
يزيد بن ماجه في سننه المشهورة: حدّثنا عليّ بن محمّد، حدّثنا عبد الرّحمن
المحاربيّ، عن إسماعيل بن رافعٍ أبي رافعٍ، عن أبي زرعة الشّيبانيّ يحيى
بن أبي عمرٍو، عن أبي أمامة الباهليّ قال: خطبنا رسول اللّه صلّى اللّه
عليه وسلّم، فكان أكثر خطبته حديثًا حدّثناه عن الدّجّال، وحذّرناه، فكان
من قوله أن قال: "لم تكن فتنةٌ في الأرض، منذ ذرأ اللّه ذرّية آدم، عليه
السّلام، أعظم من فتنة الدّجّال، وإنّ اللّه لم يبعث نبيًّا إلّا حذّر
أمّته الدّجّال. وأنا آخر الأنبياء، وأنتم آخر الأمم، وهو خارجٌ فيكم لا
محالة، فإن يخرج وأنا بين ظهرانيكم، فأنا حجيجٌ لكلّ مسلمٍ، وإن يخرج من
بعدي فكلٌّ [امرئ] حجيج نفسه، واللّه خليفتي على كلّ مسلمٍ وإنّه يخرج من
خلّة بين الشّام والعراق، فيعيث يمينًا ويعيث شمالا".
" [ألا] يا عباد اللّه، أيّها النّاس،
فاثبتوا. وإنّي سأصفه لكم صفةً لم يصفها إيّاه نبيٌّ قبلي: إنّه يبدأ فيقول
أنا نبيٌّ" فلا نبيّ بعدي، ثمّ يثنّي فيقول: "أنا ربّكم"، ولا ترون ربّكم
حتّى تموتوا. وإنّه أعور وإنّ ربّكم، عزّ وجلّ، ليس بأعور، وإنّه مكتوبٌ
بين عينيه: كافرٌ، يقرؤه كلّ مؤمنٍ، كاتبٍ وغير كاتبٍ. وإنّ من فتنته أنّ
معه جنّةً ونارًا، فناره جنّةٌ وجنّته نارٌ. فمن ابتلي بناره فليستغث
باللّه وليقرأ فواتح الكهف، فتكون عليه بردًا وسلامًا، كما كانت النّار على
إبراهيم [عليه السّلام] وإنّ من فتنته أن يقول لأعرابيّ: أرأيت إن بعثت
لك أباك وأمّك أتشهد أنّي ربّك؟ فيقول: نعم. فيتمثّل له شيطانان في صورة
أبيه وأمّه، فيقولان: يا بنيّ، اتّبعه، فإنّه ربّك. وإنّ من فتنته أن
يسلّط على نفسٍ واحدةٍ فيقتلها وينشرها بالمنشار، حتّى يلقى شقّين ثمّ
يقول: انظروا إلى عبدي هذا، فإنّي أبعثه الآن، ثمّ يزعم أنّ له ربًّا
غيري. فيبعثه اللّه، فيقول له الخبيث: من ربّك، فيقول: ربّي اللّه. وأنت
عدوّ اللّه، الدّجّال، واللّه ما كنت بعد أشدّ بصيرةً بك مني اليوم". قال
أبو حسن الطّنافسيّ: فحدّثنا المحاربيّ، حدّثنا عبيد اللّه بن الوليد
الوصّافيّ، عن عطيّة، عن أبي سعيدٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم: "ذلك الرّجل أرفع أمّتي درجةً في الجنّة".
قال: قال أبو سعيدٍ: واللّه ما كنّا نرى ذلك الرّجل إلّا عمر بن الخطّاب، حتّى مضى لسبيله.
قال المحاربيّ: ثمّ رجعنا إلى حديث أبي
رافعٍ قال: وإنّ من فتنته أن يأمر السّماء أن تمطر، فتمطر، ويأمر الأرض أن
تنبت، فتنبت، [وإنّ من فتنته أن يمر بالحيّ فيكذّبونه، فلا تبقى لهم
سائمة إلّا هلكت] وإنّ من فتنته أن يمرّ بالحيّ فيصدّقونه، فيأمر السّماء
أن تمطر، فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت، فتنبت. حتّى تروح مواشيهم من يومهم
ذلك أسمن ما كانت وأعظمه، وأمدّه خواصر، وأدرّه ضروعا، وإنّه لا يبقى شيءٌ
من الأرض إلّا وطئه وظهر عليه، إلّا مكّة والمدينة، فإنّه لا يأتيهما من
نقب من نقابهما إلّا لقيته الملائكة بالسّيوف صلتة، حتّى ينزل عند الظّريب
الأحمر، عند منقطع السّبخة، فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فلا يبقى
منافقٌ ولا منافقةٌ إلّا خرج إليه، فتنفى الخبث منها كما ينفي الكير خبث
الحديد، ويدعى ذلك اليوم يوم الخلاص.
فقالت أمّ شريك بنت أبي العكر يا رسول
اللّه، فأين العرب يومئذٍ؟ قال: "هم قليلٌ، وجلّهم ببيت المقدس، وإمامهم
رجلٌ صالحٌ، فبينما إمامهم قد تقدّم يصلي بهم الصّبح إذ نزل [عليهم] عيسى
[ابن مريم] عليه السّلام، الصّبح، فرجع ذلك الإمام ينكص، يمشي القهقرى؛
ليقدّم عيسى يصلّي بالنّاس، فيضع عيسى، عليه السّلام، يده بين كتفيه ثمّ
يقول: تقدّم فصلّ، فإنّها لك أقيمت. فيصلّي بهم إمامهم، فإذا انصرف قال
عيسى، عليه السّلام: افتحوا الباب. فيفتح، ووراءه الدّجّال، معه سبعون ألف
يهوديٍّ كلّهم ذو سيفٍ محلًّى وساجٍ، فإذا نظر إليه الدّجّال ذاب كما يذوب
الملح في الماء، وينطلق هاربًا، ويقول عيسى [عليه السّلام] إن لي فيك
ضربة لن تستبقني بها. فيدركه عند باب لدّ الشّرقيّ، فيقتله، ويهزم اللّه
اليهود، فلا يبقى شيءٌ ممّا خلق اللّه تعالى يتوارى به اليهوديّ إلّا أنطق
اللّه ذلك الشّيء، لا حجر، ولا شجر، ولا حائط، ولا دابّة -إلّا الغرقدة
فإنّها من شجرهم لا تنطق-إلّا قال: يا عبد اللّه المسلم، هذا يهوديٌّ،
فتعال اقتله.
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
"وإنّ أيّامه أربعون سنةً، السّنة كنصف السّنة، والسّنة كالشّهر، والشّهر
كالجمعة، وآخر أيّامه كالشّررة، يصبح أحدكم على باب المدينة فلا يبلغ
بابها الآخر حتّى يمسي". فقيل له: يا نبيّ اللّه كيف نصلّي، في تلك
الأيّام القصار؟ قال: "تقدّرون فيها الصّلاة كما تقدّرون في هذه الأيّام
الطّوال. ثمّ صلّوا".
قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
"فيكون عيسى ابن مريم في أمّتي حكمًا عدلًا وإمامًا مقسطا، يدقّ الصّليب،
ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويترك الصّدقة، فلا يسعى على شاةٍ ولا بعيرٍ،
وترتفع الشّحناء والتّباغض، وتنزع حمة كلّ ذات حمةٍ، حتّى يدخل الوليد
يده في الحيّة فلا تضرّه، وتفرّ الوليدة الأسد فلا يضرّها، ويكون الذّئب
في الغنم كأنّه كلبها، وتملأ الأرض من السّلم كما يملأ الإناء من الماء،
وتكون الكلمة واحدةً، فلا يعبد إلّا اللّه، وتضع الحرب أوزارها، وتسلب
قريشٌ ملكها، وتكون الأرض كفاثور الفضّة تنبت نباتها كعهد آدم، حتّى يجتمع
النّفر على القطف من العنب فيشبعهم، ويجتمع النّفر على الرّمّانة
فتشبعهم، ويكون الثّور بكذا وكذا، من المال، ويكون الفرس بالدّريهمات.
قيل: يا رسول اللّه، وما يرخص الفرس؟ قال: "لا تركب لحربٍ أبدًا" قيل له: فما يغلي الثّور؟ قال: "تحرث الأرض كلّها".
وإنّ قبل خروج [الدّجّال] ثلاث سنواتٍ
شدادٍ، يصيب النّاس فيها جوعٌ شديدٌ، يأمر اللّه السّماء في السّنة [الأولى
أن تحبس ثلث مطرها، ويأمر الأرض فتحبس ثلث نباتها، ثمّ يأمر السّماء في
الثّانية فتحبس ثلثي مطرها، ويأمر الأرض فتحبس ثلثي نباتها، ثمّ يأمر اللّه
السّماء في السّنة] الثّالثة فتحبس مطرها كلّه، فلا تقطر قطرةً، ويأمر
الأرض أن تحبس نباتها كلّه، فلا تنبت خضراء، فلا تبقى ذات ظلف إلّا هلكت،
إلّا ما شاء اللّه".
فقيل: فما يعيش النّاس في ذلك الزّمان؟ قال: "التّهليل والتّكبير والتّسبيح والتّحميد، ويجري ذلك عليهم مجرى الطّعام".
قال ابن ماجه: سمعت أبا الحسن الطّنافسي
يقول: سمعت عبد الرّحمن المحاربيّ يقول: ينبغي أنّ يدفع هذا الحديث إلى
المؤدّب، حتّى يعلّمه الصّبيان في الكتّاب.
هذا حديثٌ غريبٌ جدًّا من هذا الوجه،
ولبعضه شواهد من أحاديث أخر؛ ولنذكر حديث النّوّاس بن سمعان هاهنا لشبهه
بسياقه هذا الحديث، قال مسلم بن الحجّاج في صحيحه:
حدّثنا أبو خيثمة زهير بن حربٍ، حدّثنا
الوليد بن مسلمٍ، حدّثني عبد الرّحمن بن يزيد بن جابرٍ، حدّثني يحيى بن
جابرٍ الطّائيّ قاضي حمص، حدّثني عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه جبير بن نفير
الحضرميّ أنّه سمع النّوّاس بن سمعان الكلابيّ (ح) وحدّثنا محمّد بن
مهران الرّازّيّ، حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، حدّثنا عبد الرّحمن بن يزيد بن
جابرٍ، عن يحيى بن جابرٍ الطّائيّ، عن عبد الرّحمن بن جبيرٍ، عن أبيه
جبير، بن نفير، عن النّوّاس بن سمعان قال: ذكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه
وسلّم الدّجّال ذات غداةٍ، فخفّض فيه ورفّع، حتّى ظننّاه في طائفة
النّخل، فلمّا رحلنا إليه عرف ذلك فينا، فقال: "ما شأنكم؟ " قلنا: يا رسول
اللّه، ذكرت الدّجّال غداةً فخفّضت فيه ورفّعت حتّى ظننّاه في طائفة
النّخل فقال: "غير الدّجّال أخوفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه
دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤٌ حجيج نفسه، واللّه خليفتي على كلّ
مسلمٍ: إنّه شابٌّ قطط عينه طافيةٌ، كأنّي أشبّهه بعبد العزّى بن قطن، من
أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، إنّه خارج خلّة بين الشّام
والعراق، فعاث يمينًا وعاث شمالًا. يا عباد اللّه، فاثبتوا": قلنا: يا
رسول اللّه، وما لبثته في الأرض؟ قال: "أربعين يومًا، يومٌ كسنةٍ، ويومٌ
كشهرٍ، ويومٌ كجمعةٍ، وسائر أيامه كأيّامكم".
قلنا: يا رسول اللّه، فذلك اليوم الّذي
كسنةٍ أتكفينا فيه صلاة يومٍ؟ قال: "لا اقدروا له قدره". قلنا: يا رسول
اللّه، وما إسراعه في الأرض؟ قال كالغيث استدبرته الرّيح، فيأتي على قومٍ
فيدعوهم، فيؤمنون به ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت،
فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذري، وأسبغه ضروعا، وأمدّه خواصر، ثمّ
يأتي القوم فيدعوهم، فيردّون عليه قوله، فينصرف عنهم، فيصبحون ممحلين ليس
بأيديهم شيءٌ من أموالهم. ويمرّ بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك. فتتبعه
كنوزها كيعاسيب النّحل. ثمّ يدعو رجلًا ممتلئًا شبابًا، فيضربه بالسّيف،
فيقطعه جزلتين رمية الغرض، ثمّ يدعوه فيقبل ويتهلّل وجهه ويضحك فبينما هو
كذلك إذ بعث اللّه المسيح ابن مريم، عليه السّلام، فينزل عند المنارة
البيضاء شرقيّ دمشق، بين مهرودتين، واضعًا كفّيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ
رأسه قطر، وإذا رفعه تحدّر منه جمان كاللّؤلؤ، ولا يحل لكافرٍ يجد ريح
نفسه إلّا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطليه حتّى يدركه بباب لدّ
فيقتله.
ثمّ يأتي عيسى، عليه السّلام، قومًا قد
عصمهم اللّه منه فيمسح عن وجوههم ويحدّثهم بدرجاتهم في الجنّة، فبينما هو
كذلك إذ أوحى اللّه، عزّ وجلّ، إلى عيسى إنّي قد أخرجت عبادًا لي لا يدان
لأحدٍ بقتالهم، فحرّز عبادي إلى الطّور.
ويبعث اللّه يأجوج ومأجوج وهم من كلّ
حدب ينسلون، فيمرّ أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها، ويمرّ آخرهم
فيقولون: لقد كان بهذه مرّة ماءٌ. ويحصر نبيّ اللّه عيسى وأصحابه، حتّى
يكون رأس الثّور لأحدهم خيرًا من مائة دينارٍ لأحدكم اليوم، فيرغب نبيّ
اللّه عيسى وأصحابه، فيرسل اللّه عليهم النّغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت
نفسٍ واحدةٍ.
ثمّ يهبط نبيّ اللّه عيسى وأصحابه إلى
الأرض، فلا يجدون في الأرض موضع شبرٍ إلّا ملأه زهمهم ونتنهم، فيرغب نبيّ
اللّه عيسى وأصحابه إلى اللّه، فيرسل اللّه طيرًا كأعناق البخت، فتحملهم
فتطرحهم حيث شاء اللّه.
ثمّ يرسل اللّه مطرًا لا يكن منه بيت
مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتّى يتركها كالزلفة، ثمّ يقال للأرض: أخرجي ثمرك
وردّي بركتك. فيومئذٍ تأكل العصابة من الرّمّانة، ويستظلّون بقحفها،
ويبارك اللّه في الرّسل حتّى إنّ اللّقحة من الإبل لتكفي الفئام من النّاس
واللّقحة من الفم لتكفي الفخذ من النّاس، فبينما هم كذلك إذ بعث اللّه
ريحًا طيّبةً، فتأخذهم تحت آباطهم، فتقبض الله روح كلّ مؤمنٍ وكلّ مسلمٍ،
ويبقى شرار النّاس يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم السّاعة".
ورواه الإمام أحمد وأهل السّنن من حديث
عبد الرّحمن بن يزيد بن جابرٍ، به. وسنذكره أيضًا من طريق أحمد، عند قوله
تعالى في سورة الأنبياء: {حتّى إذا فتحت يأجوج ومأجوج [وهم من كل حدبٍ
ينسلون]} [الأنبياء: 96].
حديثٌ آخر: قال مسلمٌ في صحيحه أيضًا:
حدّثنا عبيد اللّه بن معاذ بن معاذٍ العنبريّ، حدّثنا أبي، حدّثنا شعبة، عن
النّعمان بن سالمٍ قال: سمعت يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعودٍ الثّقفيّ
يقول: سمعت عبد اللّه بن عمرٍو -وجاءه رجلٌ فقال-: ما هذا الحديث الّذي
تحدث به تقول: إنّ السّاعة تقوم إلى كذا وكذا؟ فقال: سبحان اللّه؟! -أو: لا
إله إلّا اللّه، أو كلمةً نحوها-لقد هممت ألّا أحدّث أحدًا شيئًا أبدًا،
إنّما قلت:إنّكم سترون بعد قليلٍ أمرًا عظيمًا: يحرّق البيت، ويكون ويكون.
ثمّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "يخرج الدّجّال في
أمّتي، فيمكث أربعين، لا أدري أربعين يومًا، أو أربعين شهرًا، أو أربعين
عامًا، فيبعث اللّه تعالى عيسى ابن مريم، كأنّه عروة بن مسعودٍ، فيطلبه
فيهلكه، ثمّ يمكث النّاس سبع سنين ليس بين اثنين عداوةٌ، ثمّ يرسل اللّه
ريحًا باردةً من قبل الشّام، فلا يبقى على وجه الأرض أحدٌ في قلبه مثقال
ذرّةٍ من خيرٍ -أو إيمانٍ-إلّا قبضته، حتّى لو أنّ أحدكم دخل في كبد جبلٍ
لدخلته عليه حتّى تقبضه" قال: سمعتها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
قال: "فيبقى شرار النّاس في خفّة الطّير وأحلام السّباع، لا يعرفون
معروفًا، ولا ينكرون منكرًا، فيتمثّل لهم الشّيطان فيقول: ألا تستجيبون؟
فيقولون: فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم في ذلك دارٌّ رزقهم،
حسنٌ عيشهم. ثمّ ينفخ في الصّور فلا يسمعه أحدٌ إلّا أصغى ليتًا، ورفع
ليتًا، قال: وأوّل من يسمعه رجلٌ يلوط حوض إبله، قال: فيصعق ويصعق النّاس.
ثمّ يرسل اللّه -أو قال: ينزل اللّه-مطرًا كأنّه الطّل -أو قال:
الظّلّ-نعمان الشّاكّ -فتنبت منه أجساد النّاس، ثمّ ينفخ فيه أخرى فإذا هم
قيامٌ ينظرون. ثمّ يقال: يا أيّها النّاس، هلمّوا إلى ربّكم، {وقفوهم
إنّهم مسئولون} [الصّافّات: 24] قال: "ثمّ يقال: أخرجوا بعث النّار.
فيقال: من كم؟ فيقال: من كلّ ألفٍ تسعمائةٍ وتسعةً وتسعين". قال {يجعل
الولدان شيبًا} [المزّمّل:17] وذلك {يوم يكشف عن ساقٍ} [القلم: 42].
ثمّ رواه مسلمٌ والنّسائيّ في تفسيره جميعًا عن محمّد بن بشّارٍ، عن غندر، عن شعبة، عن النّعمان بن سالمٍ، به.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا عبد
الرّزّاق، أخبرنا معمرٌ، عن الزّهريّ، عن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن
ثعلبة الأنصاريّ، عن عبد اللّه بن يزيد الأنصاريّ، عن مجمّع بن جارية قال:
سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "يقتل ابن مريم المسيح
الدّجّال بباب لدّ -أو: إلى جانب لدّ".
ورواه أحمد أيضًا، عن سفيان بن عيينة من
حديث الليث والأوزاعي، ثلاثتهم عن الزّهري، عن عبد اللّه بن عبيد اللّه
بن ثعلبة، عن عبد الرّحمن بن يزيد عن عمه مجمّع ابن جارية عن رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "يقتل ابن مريم الدّجّال بباب لد".
وكذا رواه التّرمذيّ، عن قتيبة، عن
اللّيث، به. وقال: هذا حديثٌ صحيحٌ. قال: وفي الباب عن عمران بن حصينٍ،
ونافع بن عتبة، وأبي برزة، وحذيفة بن أسيدٍ، وأبي هريرة. وكيسان، وعثمان بن
أبي العاص، وجابرٍ، وأبي أمامة، وابن مسعودٍ، وعبد اللّه بن عمرٍو، وسمرة
بن جندب، والنّوّاس بن سمعان، وعمرو بن عوفٍ، وحذيفة بن اليمان، رضي
اللّه عنهم .
ومراده برواية هؤلاء ما فيه ذكر
الدّجّال. وقتل عيسى ابن مريم، عليه السّلام، له. فأمّا أحاديث ذكر
الدّجّال فقط فكثيرةٌ جدًّا، وهي أكثر من أن تحصر؛ لانتشارها وكثرة رواتها
في الصّحاح والحسان والمسانيد، وغير ذلك.
حديثٌ آخر: قال الإمام أحمد: حدّثنا
سفيان، عن فرات، عن أبي الطّفيل، عن حذيفة بن أسيدٍ الغفاري قال: أشرف
علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من غرفةٍ ونحن نتذاكر السّاعة،
فقال: "لا تقوم السّاعة حتّى ترون عشر آياتٍ: طلوع الشّمس من مغربها،
والدّخان، والدّابّة، وخروج يأجوج ومأجوج، ونزول عيسى ابن مريم، والدّجّال،
وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسفٌ بالمغرب، وخسفٌ بجزيرة العرب. ونارٌ
تخرج من قعر عدن، تسوق -أو تحشر-النّاس، تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم
حيث قالوا".
وهكذا رواه مسلمٌ وأهل السّنن من حديث
فرات القزّاز به. ورواه مسلمٌ أيضًا من رواية عبد العزيز بن رفيع عن أبي
الطّفيل عن أبي سريحة حذيفة بن أسيد الغفاريّ، موقوفًا واللّه أعلم.
فهذه أحاديث متواترةٌ عن رسول اللّه
صلّى اللّه عليه وسلّم من رواية أبي هريرة، وابن مسعودٍ، وعثمان بن أبي
العاص، وأبي أمامة، والنّوّاس بن سمعان، وعبد اللّه بن عمرو بن العاص،
ومجمّع بن جارية وأبي سريحة وحذيفة بن أسيد، رضي اللّه عنهم.
وفيها دلالةٌ على صفة نزوله ومكانه، من
أنّه بالشّام، بل بدمشق، عند المنارة الشّرقيّة، وأنّ ذلك يكون عند إقامة
الصّلاة للصّبح وقد بنيت في هذه الأعصار، في سنة إحدى وأربعين وسبعمائةٍ
منارةٌ للجامع الأمويّ بيضاء، من حجارةٍ منحوتةٍ، عوضا عن المنارة الّتي
هدمت بسبب الحريق المنسوب إلى صنيع النّصارى -عليهم لعائن اللّه المتتابعة
إلى يوم القيامة-وكان أكثر عمارتها من أموالهم، وقويت الظّنون أنّها هي
الّتي ينزل عليها [المسيح] عيسى ابن مريم، عليه السّلام، فيقتل الخنزير،
ويكسر الصّليب، ويضع الجزية، فلا يقبل إلّا الإسلام كما تقدّم في
الصّحيحين، وهذا إخبارٌ من النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بذلك، وتقريرٌ
وتشريعٌ وتسويغٌ له على ذلك في ذلك الزّمان، حيث تنزاح عللهم، وترتفع شبههم
من أنفسهم؛ ولهذا كلّهم يدخلون في دين الإسلام متابعة لعيسى، عليه
السّلام، وعلى يديه؛ ولهذا قال تعالى: {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ به
قبل موته [ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا]}.
وهذه الآية كقوله [تعالى] {وإنّه لعلمٌ
للسّاعة} [الزّخرف: 61] وقرئ: "علم" بالتّحريك، أي إشارةٌ ودليلٌ على
اقتراب السّاعة، وذلك لأنّه ينزل بعد خروج المسيح الدّجّال، فيقتله اللّه
على يديه، كما ثبت في الصّحيح: "إنّ اللّه لم يخلق داءً إلّا أنزل له
شفاءً" ويبعث اللّه في أيّامه يأجوج ومأجوج، فيهلكهم اللّه [به] ببركة
دعائه، وقد قال تعالى: {حتّى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدبٍ ينسلون.
واقترب الوعد الحقّ} الآية [الأنبياء: 96، 97].
صفة عيسى عليه السّلام:
قد تقدّم في حديث عبد الرّحمن بن آدم،
عن أبي هريرة [رضي اللّه عنه] فإذا رأيتموه فاعرفوه: رجلٌ مربوعٌ إلى
الحمرة والبياض، عليه ثوبان ممصّران، كأنّ رأسه يقطر وإن لم يصبه بللٌ".
وفي حديث النّوّاس بن سمعان: "فينزل عند المنارة البيضاء شرقيّ دمشق، بين
مهرودتين واضعًا كفّيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه
تحدّر منه مثل جمان اللّؤلؤ، ولا يحلّ لكافرٍ يجد ريح نفسه إلّا مات ونفسه
ينتهي حيث ينتهي طرفه".
وروى البخاريّ ومسلمٌ، من طريق
الزّهريّ، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى
اللّه عليه وسلّم: "ليلة أسري بي لقيت موسى"، قال: فنعته "فإذا رجلٌ -حسبته
قال:-مضطربٌ رجل الرّأس، كأنّه من رجال شنوءة". قال: "ولقيت عيسى" فنعته
النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال: "ربعة أحمر، كأنّما خرج من ديماسٍ
-يعني الحمّام-ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به" الحديث.
وروى البخاريّ، من حديث مجاهدٍ، عن ابن
عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "رأيت موسى وعيسى
وإبراهيم، فأمّا عيسى فأحمر جعد عريض الصّدر، وأمّا موسى فآدم جسيمٌ سبطٌ،
كأنّه من رجال الزّط".
وله ولمسلمٍ من طريق موسى بن عقبة، عن
نافعٍ قال: قال عبد اللّه بن عمر: ذكر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يومًا
بين ظهراني النّاس المسيح الدّجّال فقال: "إنّ اللّه ليس بأعور، ألا إنّ
المسيح الدّجّال أعور العين اليمنى، كأنّ عينه عنبةٌ طافيةٌ وأراني اللّه
عند الكعبة في المنام، فإذا رجلٌ آدم، كأحسن ما ترى من أدم الرّجال، تضرب
لمّته بين منكبيه، رجل الشّعر، يقطر رأسه ماءً، واضعًا يديه على منكبي
رجلين، وهو يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ فقالوا: المسيح ابن مريم ثمّ رأيت
وراءه رجلًا جعدًا قططًا، أعور عين اليمنى، كأشبه من رأيت بابن قطن، واضعًا
يديه على منكبي رجلٍ يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ قالوا: المسيح
الدّجّال". تابعه عبيد اللّه عن نافعٍ.
ثمّ رواه البخاريّ عن أحمد بن محمّدٍ
المكّي، عن إبراهيم بن سعدٍ، عن الزّهريّ، عن سالمٍ، عن أبيه قال: لا
واللّه ما قال النّبيّ صلّى اللّه عليه سلّم لعيسى [عليه السّلام] أحمر،
ولكن قال: "بينما أنا نائمٌ أطوف بالكعبة، فإذا رجلٌ آدم سبط الشّعر،
يتهادى بين رجلين ينطف رأسه ماءً -أو يهراق رأسه ماءً-فقلت: من هذا؟
فقالوا: ابن مريم. فذهبت ألتفت، فإذا رجلٌ أحمر جسيمٌ، جعد الرّأس، أعور
عينه اليمنى، كأنّ عينه عنبةٌ طافيةٌ. قلت: من هذا؟ قالوا: الدّجّال. وأقرب
النّاس به شبهًا ابن قطن". قال الزّهريّ: رجلٌ من خزاعة هلك في
الجاهليّة.
هذه كلّها ألفاظ البخاريّ، رحمه اللّه،
وقد تقدّم في حديث عبد الرّحمن بن آدم عن أبي هريرة: أنّ عيسى، عليه
السّلام، يمكث في الأرض بعد نزوله أربعين سنةً، ثمّ يتوفى ويصلّي عليه
المسلمون.
وفي حديث عبد اللّه بن عمرٍو عند مسلمٍ:
أنّه يمكث سبع سنين، فيحتمل -واللّه أعلم-أن يكون المراد بلبثه في الأرض
أربعين سنةً، مجموع إقامته فيها قبل رفعه وبعد نزوله، فإنّه رفع وله ثلاثٌ
وثلاثون سنةً في الصّحيح، وقد ورد ذلك في حديثٍ في صفة أهل الجنّة: أنّهم
على صورة آدم وميلاد عيسى ثلاثٍ وثلاثين سنةً. وأمّا ما حكاه ابن عساكر
عن بعضهم أنّه رفع وله مائةٌ وخمسون سنةً، فشاذٌّ غريبٌ بعيدٌ. وذكر
الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة عيسى ابن مريم من تاريخه، عن بعض
السّلف: أنّه يدفن مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في حجرته، فاللّه
أعلم.
وقوله تعالى: {ويوم القيامة يكون عليهم
شهيدًا} قال قتادة: يشهد عليهم أنّه قد بلّغهم الرّسالة من اللّه، وأقرّ
بالعبوديّة للّه عزّ وجلّ، وهذا كقوله تعالى في آخر سورة المائدة: {وإذ قال
اللّه يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للنّاس [اتّخذوني وأمّي إلهين من دون
اللّه قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقٍّ إن كنت قلته فقد
علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنّك أنت علام الغيوب. ما قلت
لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا اللّه ربّي وربّكم وكنت عليهم شهيدًا ما
دمت فيهم فلمّا توفّيتني كنت أنت الرّقيب عليهم وأنت على كلّ شيءٍ شهيدٌ.
إن تعذّبهم فإنّهم عبادك وإن تغفر لهم فإنّك أنت] العزيز الحكيم} [المائدة:
116 -118] ). [تفسير القرآن العظيم: 2/452-467]
* للاستزادة ينظر: هنا