5 Jul 2024
الدرس السادس: تعرّف مراتب المصادر في التفسير وطرق نسبة الأقوال إلى المفسرين
من المهارات الأساسية لمن يريد دراسة مسألة من مسائل التفسير وعلوم القرآن أن يعرف مراتب المصادر في التفسير، وأن يحسن عزو كلّ قول إلى قائله.
المصادر في التفسير على ثلاث مراتب:
وهي التي تذكر الأقوال بالإسناد من المؤلّف إلى من ينتهي إليه الإسناد، مثل ما يروي عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر وغيرهم في تفاسيرهم الأقوال عن الصحابة والتابعين وتابعيهم بأسانيدهم.
المرتبة الثانية: المصادر البديلة
وهي المصادر التي تنقل عن مصادر أصلية مفقودة مثل تفسير وكيع بن الجراح، وتفسير سفيان بن عيينة، وما فقد من تفاسير ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وعبد بن حميد، وابن مردويه، وغيرها.
وهذه التفاسير ينقل منها جماعة من العلماء الذين اطلعوا عليها؛ فمنهم من يذكر الأقوال منها بالأسانيد، ومنهم من ينقل الأقوال مجردة من الأسانيد.
وهي التي تنقل عن مصادر أصلية موجودة إما بذكر الإسناد وإما بحذفه.
المرتبة الأولى: أن يسند كلّ قولٍ إلى قائله على ما ذكر في المصادر التي يبحث فيها، ويجعل عهدة ذلك على أصحاب تلك الكتب، وهو الحدّ الأدنى في نسبة الأقوال.
المرتبة الثانية: أن يتحقق من وجود الرواية عن المفسّر في مصدر أصيل أو بديل عند عدم وجود المصدر الأصيل، ثم يتحقق من صحة الإسناد إليه، وسلامته من علل النقل القادحة، وهي مرتبة التحقيق.
وطالب التحقيق ينبغي ألا يكتفي بالمصادر الناقلة؛ لأنّ النقل فيها قد يكون بالمعنى، وقد يكون فيه تصحيف، وقد يكون القول مستخرجاً غير منصوص عليه، وقد تكون له علّة خفية، وكلّ ذلك قد يكون له أثر على دراسة المسألة.
تنبيه:
طالب العلم في هذا البرنامج يُكتفى منه بالمرتبة الأولى، وأما المرتبة الثانية فإنما نطالب بها طلاب برنامج التأهيل العالي في التفسير.
الأقوال التي تُنسب إلى المفسرين وغيرهم في كتب التفسير على خمسة أصناف:
الصنف الأول: قول لا أصل له، أي لا يوجد في المصادر الأصلية ولا البديلة ما يدل على نسبة هذا القول لمن نُسب إليه، لا بإسناد صحيح، ولا ضعيف، وإن كان قد يوجد لها ذكر في بعض الكتب، لكن عند البحث والتقصي لا نجد لهذه النسبة أصلاً.
وحكم هذا الصنف هو رد النسبة، ولا يصحّ أن تحكى إلا على سبيل البيان؛ كأن يقال: يُنسب إلى فلان، ولا أصل له.
الصنف الثاني: قول له أصل في المصادر الأصلية أو البديلة، لكن إسناده ضعيف لا يصحّ؛ والحكاية الصحيحة لهذه النسبة على مرتبتين:
الأولى: أن ينقل الإسناد الضعيف من مخرجه؛ مع التنبيه على ضعفه.
والثانية: أن يقول: روي عن فلان – بصيغة التمريض - ولا يصحّ عنه.
الصنف الثالث: قول له أصل في المصادر الأصلية أو البديلة، لكن مع تغيير في المتن، قد يحيل المعنى وقد لا يحيله؛ أو يحصل في حكاية المتن لبس وانتقال، أو استخراج غير جليّ.
فإذا كان النقل يحيل المعنى ويغيره فلا يصحّ أن ينسب القول إليه إلا مع التبيين للنص الصحيح.
وإذا كان النقل لا يحيل المعنى ؛ فالأحسن أن يُنبّه إلى النص الصحيح أو يُقال: رواه فلان عنه بمعناه.
الصنف الرابع: قول له أصل في المصادر الأصلية أو البديلة، لكنه يُروى بإسناد مختلف فيه؛ يصححه بعض أهل العلم، ويضعّفه بعضهم.
فالأحسن في مثل هذه الحال أن يشار إلى الخلاف ولا بأس أن يقال: رواه فلان عنه؛ لأنه لا يُشترط في ذكر الرواية الحكم بالصحة.
ومن أهل العلم من يتجوّز فيه فيعتمده في النسبة، ويقول: هذا قول فلان.
الصنف الخامس: قول له أصل في المصادر الأصلية أو البديلة، ويروى بإسناد صحيح؛ فهذا يقال فيه: هذا قول فلان.
ويقال: رواه فلان عن فلان، وإن زاد بإسناد صحيح فحسن.
الأمثلة والتطبيقات:
تفسير قول الله تعالى: {النجم الثاقب}- قال محمد بن جرير الطبري(ت:310هـ): (النجم الثاقب، يعني: يتوقد ضياؤه ويتوهج، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك - حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، في قوله: " {النجم الثاقب} يعني: المضيء " - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: " {النجم الثاقب} قال: هي الكواكب المضيئة، وثقوبه: إذا أضاء " - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة، في قوله: " {النجم الثاقب} قال: الذي يثقب " - حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: " {الثاقب} قال: الذي يتوهج " - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: " ثقوبه: ضوءه " - حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة: " {النجم الثاقب}: المضيء " - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: " {النجم الثاقب} قال: كانت العرب تسمي الثريا النجم. ويقال: إن الثاقب النجم الذي يقال له زحل. والثاقب أيضا: الذي قد ارتفع على النجوم. والعرب تقول للطائر إذا هو لحق ببطن السماء ارتفاعا: قد ثقب، والعرب تقول: أثقب نارك: أي أضئها"). [ جامع البيان: 24 / 290 ] |
في هذا النص نجد أنّ ابن جرير يروي الأقوال بأسانيده؛ فيعدّ مصدراً أصلياً، وقد ذكر رحمه الله هاهنا مسألتين:
في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
القول الأول: الثاقب هو المضيء الذي يتوهّج ضياءً، ورواه ابن جرير عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
قال ابن جرير: (يتوقّد ضياؤه ويتوهّج).
القول الثاني: الذي يثقب، رواه ابن جرير عن عكرمة.
القول الثالث: الذي ارتفع على النجوم، ولم ينسبه ابن جرير إلى أحد لكنه استدلّ له بقول العرب للطائر إذا هو لحق ببطن السماء ارتفاعاً: (قد ثقب).
المسألة الثانية: المراد بالنجم الثاقب.
في هذه المسألة قولان:
القول الأول: الثريا، رواه ابن جرير عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
والقول الثاني: زحل، ذكره ابن جرير ولم ينسبه إلى أحد.
المثال الثاني: تفسير قول الله تعالى: {يسألونك ماذا ينفقون قل العفو}
تفسير قول الله تعالى: {يسألونك ماذا ينفقون قل العفو} - قال إسماعيل بن عمر ابن كثير القرشي(ت:774هـ): (قال عبد بن حميد في تفسيره: حدثنا هوذة بن خليفة، عن عوف، عن الحسن في الآية {يسألونك ماذا ينفقون قل العفو} قال: "ذلك ألا تجهد مالك ثم تقعد تسأل الناس"). [تفسير ابن كثير: 1 / 580 ] |
تفسير عبد بن حميد مفقود، ونقل منه ابن كثير في تفسيره هذا القول عن الحسن البصري؛ فيكون تفسير ابن كثير مصدراً بديلاً عن المصدر المفقود، ونقول في عزو هذا القول: رواه عبد بن حميد في تفسيره عن الحسن البصري كما في تفسير ابن كثير.
المثال الثالث: معنى "الثاقب" في قول الله تعالى: {النجم الثاقب}
تفسير قول الله تعالى: {والسماء والطارق . وما أدراك ما الطارق . النجم الثاقب}- قال إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي(ت:774هـ): (وقوله: {الثاقب} قال ابن عباس: المضيء. وقال السدي: يثقب الشياطين إذا أرسل عليها. وقال عكرمة: هو مضيء ومحرق للشيطان). [تفسير القرآن العظيم: 8 / 374 ] |
فيه ثلاثة أقوال:
القول الأول: المضيء، وهو قول ابن عباس، ذكره عنه ابن كثير.
والقول الثاني: يثقب الشياطين إذا أرسل عليها، وهو قول السدي، ذكره عنه ابن كثير.
والقول الثالث: مضيء ومحرق للشياطين، وهو قول عكرمة، ذكره عنه ابن كثير.
في هذا النص ذكر ابن كثير الأقوال بغير إسناد من لدنه إلى ابن عباس وعكرمة وقتادة والسدي، فلذلك لا نقول: رواه ابن كثير، وإنما نقول: ذكره ابن كثير، أو عزاه إليهم ابن كثير، أو نسبه إليهم ابن كثير، أو نحو هذه العبارات التي تدلّ على أنّ ابن كثير لم يرو هذه الأقوال عنهم بإسناده إليهم.
ولو كان التلخيص من مصدر أصلي ينقل أقوال السلف بالإسناد من لدنه إلى من ينتهي إليه الإسناد؛ فيصح أن يقال: رواه فلان.
وذلك كما يروي ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما أقوال السلف بالأسانيد من لدنهم إلى من ينتهي إليه الإسناد من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم.
تفسير قول الله تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)}- قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (يقول تعالى ذكره: لعن المتكهّنون الّذين يتخرّصون الكذب والباطل فيتطيّبونه. واختلف أهل التّأويل في الّذين عنوا بقوله: {قتل الخرّاصون} فقال بعضهم: عني به المرتابون. ذكر من قال ذلك: - حدّثني عليٌّ قال: حدّثنا أبو صالحٍ قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {قتل الخرّاصون} يقول: « لعن المرتابون ». وقال آخرون في ذلك بالّذي قلنا فيه. ذكر من قال ذلك: - حدّثني محمّد بن سعدٍ قال: ثني أبي قال: ثني عمّي قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {قتل الخرّاصون} قال: « الكهنة ». - حدّثني محمّد بن عمرٍو قال: حدّثنا أبو عاصمٍ قال: حدّثنا عيسى، وحدّثني الحارث قال: حدّثنا الحسن قال: حدّثنا ورقاء، جميعًا، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، {قتل الخرّاصون} قال: « الّذين يخرّصون الكذب كقوله في عبس {قتل الإنسان} ». - وقد حدّثني كلّ واحدٍ، منهما بالإسناد الّذي ذكرت عنه، عن مجاهدٍ، قوله: {قتل الخرّاصون} قال: « الّذين يقولون: لا نبعث ولا يوقنون ». - حدّثنا بشرٌ قال: حدّثنا يزيد قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، {قتل الخرّاصون}: « أهل الظّنون ». - حدّثني يونس قال: أخبرنا ابن وهبٍ قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {قتل الخرّاصون} قال: « القوم الّذين كانوا يتخرّصون الكذب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، قالت طائفةٌ: إنّما هو ساحرٌ، والّذي جاء به سحرٌ، وقالت طائفةٌ: إنّما هو شاعرٌ، والّذي جاء به شعرٌ؛ وقالت طائفةٌ: إنّما هو كاهنٌ، والّذي جاء به كهانةٌ؛ وقالت طائفةٌ: {أساطير الأوّلين اكتتبها فهي تملى عليه بكرةً وأصيلاً} يتخرّصون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم »). [جامع البيان: 21 / 492-493] |
تفسير قول الله تعالى: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا}- قال الحسين بن مسعود البغوي (ت: 516هـ): ({فخذها بقوة} أي: بجد واجتهاد، وقيل: بقوة القلب وصحة العزيمة، لأنه إذا أخذه بضعف النية أداه إلى الفتور، {وأمر قومك يأخذوا بأحسنها} قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: « يحلوا حلالها، ويحرموا حرامها، ويتدبروا أمثالها، ويعملوا بمحكمها، ويقفوا عند متشابهها وكان موسى عليه السلام أشد عبادة من قومه، فأمر بما لم يؤمروا به ». قال قطرب: « بأحسنها أي بحسنها، وكلها حسن ». وقيل: أحسنها الفرائض والنوافل، وهي ما يستحق عليها الثواب، وما دونها المباح، لأنه لا يستحق عليه الثواب. وقيل: بأحسنها بأحسن الأمرين في كل شيء كالعفو أحسن من القصاص، والصبر أحسن من الانتصار). [معالم التنزيل: 3 / 281 ] - قال إسماعيل بن عمر ابن كثير القرشي (ت:776هـ): (وقوله: {فخذها بقوة} أي: بعزم على الطاعة {وأمر قومك يأخذوا بأحسنها} قال سفيان بن عيينة: حدثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: « أُمر موسى عليه السلام أن يأخذ بأشدّ ما أُمِرَ قومُه»). [ تفسير القرآن العظيم: 3 / 474 ] |
تفسير قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ . إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}- قال الحسين بن مسعود البغوي (ت: 516هـ): ({وجوه يومئذ} يعني يوم القيامة {ناضرة} قال ابن عباس: « حسنة »، وقال مجاهد: « مسرورة »، وقال ابن زيد: « ناعمة »، وقال مقاتل: « بيض يعلوها النور »، وقال السدي: « مضيئة »، وقال يمان: « مسفرة »، وقال الفراء: « مشرقة بالنعيم »). [معالم التنزيل: 8 / 284 ] |