13 Jul 2024
الدرس السابع: تعرّف حجج الأقوال
تعرّف حجج الأقوال من أخصّ المهارات التي تعين الطالب على إحسان فهم مسائل التفسير، وتبني الملكة التفسيرية.
وهو أصل مهمّ في توجيه أقوال المفسرين، والتفطّن لعلل الأقوال، وسبل كشفها، ومآخذ ردّها.
وعلم التفسير من أوسع العلوم، ومسائله كثيرة جداً لا تحصر ولا تُستقصى، ولذلك يعمد أكثر المفسّرين إلى الاختصار والاقتصار على ما يتحقق به التنبيه على المراد، لتعسّر شرح الحجة لكلّ قول في كلّ مسألة، وذلك مجزئ في أكثر المسائل التي لا يكون فيها خلاف أو تكون أقوال المفسرين فيها متقاربة أو الاختلاف فيها اختلاف تنوّع.
وأما في مسائل الخلاف القوي والمتوسّط فلا يمكن للدارس أن يحرر المسألة تحريراً حسناً إلا بتفهّم حجج الأقوال، ومعرفة توجيهها.
وكم من قول تبادر إلى الذهن بُعْدُه وله وجهٌ صحيح، وحجة مقبولة.
وكم من مسألة اختُلف فيها على أقوال يُظنّ أنّها متضادّة متنافرة فلما عُرف توجيهها تبيّنت صحتها وأمكن الجمع بينها.
والفرقان بين المقلّد والمتّبع أنّ المقلد يقلّد شيخه أو مفسراً من المفسرين دون معرفة حجة قوله.
والمتّبع هو الذي يتعرّف حجة القول، ويتبيّن صحّته ويتّبع إمامه عليه على بصيرة ومعرفة.
فالاتباع الصحيح محمود، والتقليد مع القدرة على الاجتهاد مذموم، وتقليد المخطئ على خطئه بعد تبيّنه لا يجوز.
وطالب العلم لا يمكنه الانتقال من التقليد إلى الاجتهاد فجأة، وإنما يحتاج في ذلك إلى دراسة وتمرّن وتدريب كثير أصله قائم على تعرّف الحجج ونقدها.
حجج الأقوال في التفسير على مرتبتين:
وهي الحجج التي يذكرها المفسر في تفسيره، فمنها ما يكون ذكرها جلياً ومنها ما يُشار إليه اختصاراً.
وهي حجج تُستخرج بأدوات علمية معروفة لدى أهل العلم، وهي على أنواع، وكلّ نوع له أمثلة كثيرة.
والذي يُطالب به دارس هذه الدورة هو التمرن على استخلاص الحجج المنصوص عليها؛ لأن إتقان هذه المهارة أصل مهمّ لبناء المهارات المتقدمة في توجيه أقوال المفسرين عليها، ومن لم يحسن استخلاص الحجج المنصوص عليها كان استخراج ما لم يذكر أشقّ عليه وأصعب.
أمثلة على الاحتجاج لأقوال المفسّرين:
تفسير قول الله تعالى: {كأنّهم حُمُرٌ مستنفرة . فرّت من قسورة}- قال عبد الحقّ بن غالب ابن عطية الأندلسي(ت:542هـ): (اختلف المفسرون في معنى القسورة فقال ابن عباس وأبو موسى الأشعري وقتادة وعكرمة: «القسورة» الرماة، وقال ابن عباس أيضا وأبو هريرة وجمهور من اللغويين: «القسورة» الأسد، ومنه قول الشاعر: مضمر تحذره الأبطال … كأنه القسورة الرئبال وقال ابن جبير: « القسورة: رجال القنص » وقاله ابن عباس أيضاً، وقيل: «القسورة» ركز الناس، وقيل: «القسورة» الرجال الشداد، قال لبيد: إذا ما هتفنا هتفة في ندينا … أتانا الرجال العاندون القساور وقال ثعلب: «القسورة» سواد أول الليل خاصة لا آخره، أو اللفظة مأخوذة من القسر الذي هو الغلبة والقهر). |
ذكر ابن عطية في في معنى القسورة ستة أقوال:
القول الأول: القسورة الرماة، وهو قول ابن عباس، وأبي موسى الأشعري، وقتادة، وعكرمة فيما ذكره ابن عطية.
ولم يذكر ابن عطية حجة لهذا القول.
القول الثاني: القسورة الأسد، وهو قول أبي هريرة، ورواية عن ابن عباس، وقول جمهور من اللغويين فيما ذكره ابن عطية.
واحتجّ له بقول الشاعر:
مضمّر تحذره الأبطالْ … كأنه القسورة الرئبالْ
القول الثالث: القسورة: رجال القنص، وهو قول سعيد بن جبير، فيما ذكره ابن عطية.
ولم يحتجّ له ابن عطية.
القول الرابع: القسورة: ركز الناس، أي: أصواتهم، ولم ينسبه ابن عطية لأحد ولم يحتجّ له.
القول الخامس: القسورة: الرجال الشداد، ولم ينسبه لأحد، واحتجّ له بقول لبيد:
إذا ما هتفنا هتفة في نديّنا … أتانا الرجال العاندون القساور
القول السادس: القسورة: سواد أوّل الليل خاصة لا آخره، وهو قول ثعلب.
قال ابن عطية: (أو اللفظة مأخوذة من القسر الذي هو الغلبة والقهر).
تفسير قول الله تعالى: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه}- قال إسماعيل بن عمر ابن كثير القرشي(ت:774هـ): (وقوله: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه} اختلف المفسرون في معنى هذا على قولين: أحدهما: وأن لو استقام القاسطون على طريقة الإسلام وعدلوا إليها واستمروا عليها، {لأسقيناهم ماء غدقا} أي: كثيراً. والمراد بذلك سعة الرزق كقوله تعالى: {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} وكقوله: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} وعلى هذا يكون معنى قوله: {لنفتنهم فيه} أي: لنختبرهم، كما قال مالك، عن زيد بن أسلم: {لنفتنهم} لنبتليهم، من يستمر على الهداية ممن يرتد إلى الغواية؟ ذكر من قال بهذا القول: قال العوفي، عن ابن عباس: {وأن لو استقاموا على الطريقة} يعني بالاستقامة: الطاعة. وقال مجاهد: {وأن لو استقاموا على الطريقة} قال: الإسلام. وكذا قال سعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، وعطاء، والسدي، ومحمد بن كعب القرظي. وقال قتادة: {وأن لو استقاموا على الطريقة} يقول: لو آمنوا كلهم لأوسعنا عليهم من الدنيا. وقال مجاهد: {وأن لو استقاموا على الطريقة} أي: طريقة الحق. وكذا قال الضحاك، واستشهد على ذلك بالآيتين اللتين ذكرناهما، وكل هؤلاء أو أكثرهم قالوا في قوله: {لنفتنهم فيه} أي لنبتليهم به. وقال مقاتل: فنزلت في كفار قريش حين منعوا المطر سبع سنين. والقول الثاني: {وأن لو استقاموا على الطريقة} الضلالة {لأسقيناهم ماء غدقا} أي: لأوسعنا عليهم الرزق استدراجا، كما قال: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} وكقوله: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون} وهذا قول أبي مجلز لاحق بن حميد؛ فإنه في قوله: {وأن لو استقاموا على الطريقة} أي: طريقة الضلالة. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وحكاه البغوي عن الربيع بن أنس، وزيد بن أسلم، والكلبي، وابن كيسان. وله اتجاه، ويتأيّد بقوله: {لنفتنهم فيه}). |
ذكر ابن كثير قولين في مسألة المراد بالطريقة هنا:
القول الأول: طريقة الطاعة والإسلام والإيمان، وهو حاصل قول ابن عباس، وسعيد بن المسيب، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء، ومحمد بن كعب القرظي، والسدي، وقتادة كما ذكره ابن كثير عنه.
واحتجّ له بقول الله تعالى: {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} وقوله تعالى: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض}.
القول الثاني: طريقة الضلالة، وهو قول أبي مجلز فيما ذكره ابن كثير، وقال: (وحكاه البغوي عن الربيع بن أنس، وزيد بن أسلم، والكلبي، وابن كيسان).
واحتجّ له بقول الله تعالى: {فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون}، وقوله تعالى: {أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون}.
فالعطاء على القول الأول عطاء ثواب وبركة في الدنيا.
والعطاء على القول الثاني عطاء استدراج.
تفسير قول الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} - قالَ ابنُ القيّم محمد بن أبي بكر الزُّرعي الدمشقي(ت:751هـ): (وقال أبو داود الطيالسي: ثنا عبد المؤمن هو ابن عبد الله؛ قال: كنا عند الحسن فأتاه يزيد بن أبي مريم السلولي يتوكأ على عصا؛ فقال يا أبا سعيد أخبرني عن قول الله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} فقال الحسن: (نعم والله إن الله ليقضي القضية في السماء ثم يضرب لها أجلا أنه كائن في يوم كذا وكذا في ساعة كذا وكذا في الخاصة والعامة حتى إن الرجل ليأخذ العصا ما يأخذها إلا بقضاء وقدر). قال: يا أبا سعيد والله لقد أخذتها وإني عنها لغني ثم لا صبر لي عنها!! قال الحسن: (أولا ترى؟!!). واختلف في الضمير في قوله: {من قبل أن نبرأها}:
والتحقيق أن يقال: هو عائد على البرية التي تعمّ هذا كله، ودل عليه السياق وقوله: {نبرأها}؛ فينتظم التقادير الثلاثة انتظاما واحدا، والله أعلم). [شفاء العليل: 7] |
ذكر ابن القيّم رحمه الله تعالى في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
القول الأول : عائد على الأنفس.
وهذا القول لم ينسبه ابن القيّم هنا لأحد اختصاراً، وهو رواية عن ابن عباس، وقال به الحسن البصري، والضحاك، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وابن جرير، والفراء، ورجّحه مكي بن أبي طالب.
وحجة هذا القول: أن الأنفس أقرب مذكور يحتمله عود الضمير، وهذا الاحتجاج يستند إلى قاعدة التفسير وهي أنّ الأصل أن يعود الضمير إلى أقرب مذكور.
وهذا الأصل قد يُخرج عنه إذا زاحمه ما هو أولى بالاعتبار.
القول الثاني: عائد على الأرض
وهذا القول لم ينسبه ابن القيم لأحد، ومكي بن أبي طالب في الهداية، وابن عطية في تفسيره أحد ثلاثة أقوال.
ولم يذكر حجة لهذا القول.
ويمكن أن يُحتجّ له بأنّ الأرض أوسع المذكورات فالعود إليها يحوي ما عداها؛ فالأنفس المصابة بالمصائب تعيش في الأرض، والمصائب محلّها الأرض.
القول الثالث: عائد على المصيبة
وهذا القول لم ينسبه ابن القيّم لأحد، وقد ذكره مكي بن أبي طالب، وابن عطية أحد ثلاثة أقوال، وعزاه الثعلبي والبغوي لابن عباس وليس له أصل عنه.
ولم يذكر حجة لهذا القول، ويمكن أن يُحتجّ له بأنّ السياق في الحديث عن المصيبة وذكر محلها تفصيل بعد إجمال، ويصح أن يقال: ما أصاب من مصيبة إلا في كتاب.
واختار الثعلبي عود الضمير على الأرض والأنفس.
ترجيح ابن القيم:
قال ابن القيّم رحمه الله: (والتحقيق أن يقال: هو عائد على البرية التي تعمّ هذا كله، ودلَّ عليه السياق وقوله: {نبرأها}؛ فينتظم التقادير الثلاثة انتظاما واحدا، والله أعلم).
والقول بعود الضمير على هذه الثلاثة اختاره المهدوي، وابن عطية، وابن كثير، وشيخنا ابن عثيمين.
لكن قول ابن القيم فيه زيادة ذكر عود الضمير على البريّة أي من قبل أن نبرأ البرية، وهو مبني على عود الضمير على غير مذكور إذا كان في السياق ما يدلّ عليه، كما قال الله تعالى: {اعدلوا هو أقرب للتقوى} مرجع الضمير إلى العدل وهو المصدر المستفاد من الفعل {اعدلوا}.
وابن كثير تابع شيخه ابن القيم على هذا فقال: (والأحسن عوده على الخليقة والبريّة؛ لدلالة الكلام عليها).
فقوله: (لدلالة الكلام عليها) إشارة لحجة القول.
تفسير قول الله تعالى: {وأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا}- قال مكي بن أبي طالب القيسي(ت:437هـ): (والمساجد جمع مسجِد، ومسجِد يعني السجود، فكأنه قال: وأن السجود لله لا لغيره. ويجوز أن يكون جمع مسجَد هو موضع السجود. وقال الفراء (يقال) {[وَ] أَنَّ المساجد لِلَّهِ}، يراد به مساجد الرجل، ما يسجد عليه من جبهته ويديه وركبتيه وصدور قدميه، وأنكر ذلك النحاس وغيره). |
في معنى المساجد أربعة أقوال:
القول الأول: المساجِد هي الأماكن المخصصة للصلاة، سواء أكانت مبنية أو محددة في الأرض؛ كما في الحديث الصحيح: (من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة).
فهذه المساجد التي هي مواضع الصلاة والذكر والدعاء هي لله تعالى وحده؛ فلا يجوز أن يشرك مع الله فيها أحد، وهذا قول جمهور المفسرين.
وهذا القول له ثلاث حجج:
الأولى: أنّه هو المعنى المعهود في الذهن عند إطلاق هذه الكلمة.
والثانية: أنه هو المعنى المعهود في القرآن لهذه الكلمة.
والثالثة: أنه أقرب إلى مقصد الآية؛ فإنّ المشركين وضعوا في المسجد الحرام أصناماً لهم كثيرة يدعونها من دون الله؛ والمساجد إنما تبنى لعبادة الله تعالى وحده.
ولَمَّا نزلت هذه الآية {وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً} لم يكن في الأرض إلا مسجدان معروفان: المسجد الحرام والمسجد الأقصى وهما معظمان عند العرب وعند أهل الكتاب تعظيماً كبيراً، ولهما شأن عظيم، وجمعهما على مساجد يفيد التعظيم أيضاً.
القول الثاني: المساجِد جمعُ مسجَد، وهو الموضع الذي يُسجد فيه من الأرض، يقال: هذا مسجَده، وهذه مساجِده؛ أي مواقع سجوده على الأرض.
وهذا القول ذكره أبو منصور الأزهري في تهذيب اللغة.
وحجة هذا القول: أنّ كلّ موضع يسجد فيه الساجد فإنما هو لله تعالى؛ فلا يجوز أن يُسجد في أرض الله لغير الله.
القول الثالث: هي مواضع السجود من جسد الإنسان، وهذا القول مروي عن سعيد بن جبير والربيع بن أنس البكري وذكره الفراء وجهاً في التفسير.
وحجة هذا القول: أنّ هذه الأعضاء هي المساجد التي يسجد بها الساجد، مفردها مسجَد، وهي {لله} لأن الله تعالى هو الذي خلقها؛ فلا يجوز أن تسجد هذه الأعضاء إلا الله.
كما يقال: مسامع جمع مسمَع، ومنابت الشعر، جمع منبَت، ويقال: مغابن، ومفاتن، وغيرها.
وقال جرير بن عطية: وقد دَميَت مواقعُ ركبتيها من التبراك …………
أي ما يمسّ الأرض من ركبتيها عند بروكها؛ فسماها مواقِع.
وأما إنكار النحاس فلم أقف عليه في كتبه.
القول الرابع: المساجد مصدر كالمضارب فهي بمعنى السجود يقال سجدت سجوداً ومسجِداً ومساجِد، وهذا قول ابن قتيبة رحمه الله في تأويل مشكل القرآن.
وهذا القول له حجتان:
- إحداهما: أنّ المساجد أي السجدات التي تُسجد؛ فيجب أن تكون لله تعالى وحده، وهذا كما يقال: العبادة لله أي: لا لغيره، والحجّ لله أي: لغيره.
- والأخرى: أنّ المساجد التي يسجدها العبد إنما تنفع صاحبها إذا كانت لله تعالى، وأما ما يكون منه من سجود لغير الله تعالى فإنه باطل لا ينفعه، وتقرير المعنى هذا هذا الوجه: أنّ المساجِد المعتبرة النافعة إنما هي المساجِد التي تكون لله تعالى وحده.
وفيه أنّ كل سجود لغير الله تعالى فهو باطل، كما قال تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} وقال: {وقدمنا إلى ما علموا من عمل فجعلناه هباء منثوراً}.
والخلاصة أنّ المساجد يصحّ أن تكون جمع مسجِدٍ بكسر الجيم، وأن تكون جمع مسجَدٍ بفتح الجيم.
والمسجِد بكسر الجيم يُطلق على معنيين:
أحدهما: المكان المخصص للصلاة والذكر والدعاء.
والآخر: مصدر ميمي للسجود، يقال: سجد يسجُدُ سجوداً ومسجِداً
والمسجَد بفتح الجيم يُطلق على معنيين:
أحدهما: موضع السجود على الأرض، والجمع مساجِد.
والآخر: العضو الذي يُسجد عليه، ويُجمع على مساجِد.
وهذه الأوجه كلّها صحيحة من جهة اللغة، قد استوفت شروط قبول القول في التفسير، والصيغة الصرفية لمفردة {المساجد} تحتملها كلها، لكن القول الأول هو أولى الأقوال وأظهرها وأقربها إلى مقصد الآية، مع صحة الأوجه الأخرى في تفسير هذه الآية.
تفسير قول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}- قال إسماعيل بن عمر ابن كثير القرشي(ت:774هـ): (هذا تهديد للنصارى وتوبيخ وتقريع على رؤوس الأشهاد. هكذا قاله قتادة وغيره، واستدل قتادة على ذلك بقوله تعالى: {هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} وقال السدي: « هذا الخطاب والجواب في الدنيا ». قال ابن جرير: « هذا هو الصواب، وكان ذلك حين رفعه الله إلى سماء الدنيا ». واحتج ابن جرير على ذلك بمعنيين: أحدهما: أن الكلام بلفظ المضي. والثاني: قوله: {إن تعذبهم} و {إن تغفر لهم} وهذان الدليلان فيهما نظر؛ لأن كثيرا من أمور يوم القيامة ذكر بلفظ المضي، ليدل على الوقوع والثبوت. ومعنى قوله: {إن تعذبهم فإنهم عبادك} الآية: التبري منهم ورد المشيئة فيهم إلى الله، وتعليق ذلك على الشرط لا يقتضي وقوعه، كما في نظائر ذلك من الآيات. والذي قاله قتادة وغيره هو الأظهر، والله أعلم: أن ذلك كائن يوم القيامة، ليدل على تهديد النصارى وتقريعهم وتوبيخهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة. وقد روي بذلك حديث مرفوع، رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله، مولى عمر بن عبد العزيز، وكان ثقة، قال: سمعت أبا بردة يحدث عمر بن عبد العزيز عن أبيه أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة دعي بالأنبياء وأممهم، ثم يدعى بعيسى فيذكره الله نعمته عليه، فيقر بها، فيقول: {يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك} الآية، ثم يقول: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله}؟ فينكر أن يكون قال ذلك، فيؤتى بالنصارى فيسألون، فيقولون: نعم، هو أَمَرَنا بذلك ». قال: « فيطول شعر عيسى عليه السلام؛ فيأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده؛ فيجاثيهم بين يدي الله عز وجل مقدار ألف عام، حتى ترفع عليهم الحجة، ويرفع لهم الصليب، وينطلق بهم إلى النار». وهذا حديث غريب عزيز). [تفسير القرآن العظيم: 3 / 232 ] |
تفسير قول الله تعالى: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ}- قال إسماعيل بن عمر ابن كثير القرشي(ت:774هـ): (وقد اختلف المفسرون في الضمير الذي في قوله: {ليعلم} إلى من يعود؟ فقيل: إنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب القمي عن جعفر، عن سعيد بن جبير في قوله: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا} قال: « أربعة حفظة من الملائكة مع جبريل، {ليعلم} محمد صلى الله عليه وسلم {أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا} » ورواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي به. وهكذا رواه الضحاك، والسدي، ويزيد بن أبي حبيب. وقال عبد الرزاق، عن معمر عن قتادة: {ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم} قال: « ليعلم نبي الله أن الرسل قد بلغت عن الله، وأن الملائكة حفظتها ودفعت عنها ». وكذا رواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة. واختاره ابن جرير. وقيل غير ذلك، كما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله: {إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا} قال: « هي معقبات من الملائكة يحفظون النبي من الشيطان، حتى يتبين الذي أرسل به إليهم، وذلك حين يقول:،{ليعلم} أهل الشرك {أن قد أبلغوا رسالات ربهم} ». وكذا قال ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم} قال: « ليعلم من كذب الرسل أن قد أبلغوا رسالات ربهم ». وفي هذا نظر. وقال البغوي: قرأ يعقوب: [ليُعلم] بالضم، أي: ليعلم الناس أن الرسل بلغوا. ويحتمل أن يكون الضمير عائدا إلى الله عز وجل، وهو قول حكاه ابن الجوزي في "زاد المسير" ويكون المعنى في ذلك: أنه يحفظ رسله بملائكته ليتمكنوا من أداء رسالاته، ويحفظ ما بين إليهم من الوحي؛ ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم، ويكون ذلك كقوله: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه} وكقوله: {وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين} إلى أمثال ذلك، مع العلم بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها قطعا لا محالة؛ ولهذا قال بعد هذا: {وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا}). [ تفسير القرآن العظيم: 8 / 247-248 ] |
تفسير قول الله تعالى: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ}- قال الحسين بن مسعود البغوي (ت:516هـ): ({وأيدهم بروح منه} قوَّاهم بنصر منه، قال الحسن: « سمَّى نَصْرَه إيَّاهم روحاً لأنَّ أمرهم يحيا به ».وقال السدي: « يعني بالإيمان ».وقال الربيع: « يعني بالقرآن وحجته، كما قال: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} ».وقيل: برحمة منه.وقيل: أمدهم بجبريل عليه السلام). [ معالم التنزيل: 8 / 63 ]- قال أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي (ت:597): (قوله عز وجل: {وَأَيَّدَهُمْ} أي قوّاهم {بِرُوحٍ مِنْهُ} في المراد بالروح هاهنا خمسة أقوال: أحدها: أنه النصر، قاله ابن عباس والحسن؛ فعلى هذا سمي النصر روحاً لأن أمرهم يحيا به. والثاني: الإيمان، قاله السدي. والثالث: القرآن، قاله الربيع. والرابع: الرحمة، قاله مقاتل. والخامس: جبريل عليه السلام أيَّدهم به يوم بدر، ذكره الماوردي). [ زاد المسير: 4 / 252 ] |