الدروس
course cover
الدرس الأول
12 Oct 2022
12 Oct 2022

1099

0

0

course cover
الصاحبي في فقه اللغة

القسم الأول

الدرس الأول
12 Oct 2022
12 Oct 2022

12 Oct 2022

1099

0

0


0

0

0

0

0

الدرس الأول


قال أحمد بن فارس بن زكرياء الرازي (ت: 395هـ): (بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وبه نستعين، وصلّى الله تعالى على محمد وآله.

قال الشيخ الفاضل أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا أدام الله تأييده:

هذا الكتاب "الصاحبي" في فقه اللغة العربية وسنن العرب في كلامها. وإنّما عنونته بهذا الاسم لأنّي لما ألّفته أودعته خزانة الصّاحب الجليل كافي الكفاة، عمر الله عراص العلم والأدب والخير والعدل بطول عمره، تجمّلاً بذلك وتحسّناً، إذ كان يقبله كافي الكفاة من علم وأدب مرضيّاً مقبولاً، وما يرذله أو ينفيه منفيّاً مرذولاً، ولأنّ أحسن ما في كتابنا هذا مأخوذٌ عنه ومفاد منه. فأقول:

إن لعلم العرب أصلاً وفرعاً: أمّا الفرع فمعرفة الأسماء والصفات كقولنا: "رجل" و"فرس" و"طويل" و"قصير". وهذا هو الّذي يبدأ به عند التعلّم.

وأمّا الأصل فالقول على موضوع اللغة وأوّليتها ومنشأها، ثمّ على رسوم العرب في مخاطبتها، وما لها من الافتنان تحقيقاً ومجازاً.

والنّاس في ذلك رجلان: رجلٌ شغل بالفرع فلا يعرف غيره، وآخر جمع الأمرين معاً، وهذه هي الرّتبة العليا، لأن بها يعلم خطاب القرآن والسّنة، وعليها يعول أهل النّظر والفتيا، وذلك أن طالب العلم العلوي يكتفي من سماء "الطويل" باسم الطويل، ولا يضيره أن لا يعرف "الأشقّ" و"الأمقّ" وإن كان في علم ذلك زيادة فضل.

وإنّما لم يضره خفاء ذلك عليه، لأنّه لا يكاد يجد منه في كتاب الله جل ثناؤه شيئًا فيحوج إلى علمه؛ ويقل مثله أيضاً في ألفاظ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ كانت ألفاظه -صلى الله عليه وسلم- هي السّهلة العذبة.

ولو أنه لم يعلم توسّع العرب في مخاطباتها لعيّ بكثير من علم محكم الكتاب والسنّة، ألا تسمع قول الله جل ثناؤه: {ولا تطرد الّذين يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه} إلى آخر الآية? فسرّ هذه الآية في نطقها لا يكون بمعرفةٍ غريب اللغة والوحشيّ من الكلام، وإنّما معرفته بغير ذلك مما لعلّ كتابنا هذا يأتي على أكثره بعون الله تعالى.

والفرق بين معرفة الفروع ومعرفة الأصول أن متوسّماً بالأدب لو سئل عن "الجزم والتسويد" في علاج النوق، فتوقف أو عيّ به أو لم يعرفه، لم ينقصه ذلك عند أهل المعرفة نقصاً شائناً، لأن كلام العرب أكثر من أن يحصى.

ولو قيل له: هل تتكلم العرب في النّفي بما لا تتكلم به في الإثبات، ثمّ لم يعلمه لنقصه ذلك في شريعة الأدب عند أهل الأدب، لا أنّ ذلك يردد دينه أو يجرّه لمأثم.

كما أن متوسّماً للنّحو لو سئل عن قول القائل:

لهنّك من عبسية لوسيمة ... على هنوات كاذبٌ من يقولها

فتوقّف أو فكّر أو استمهل, لكان أمره في ذلك عند أهل الفضل هيّناً، لكن لو قيل له مكان "لهنّك" ما أصل القسم، وكم حروفه، وما الحروف الخمسة المشبّهة بالأفعال الّتي يكون الاسم بعدها منصوباً وخبره مرفوعاً? فلم يجب لحكم عليه بأنّه لم يشامّ صناعة النحو قط.

فهذا الفصل بين الأمرين.

والذي جمعناه في مؤلّفنا هذا مفرّق في أصناف العلماء المتقدمين رضي الله عنهم وجزاهم عنا أفضل الجزاء.

وإنّما لنا فيه اختصار مبسوط أو بسط مختصرٍ أو شرح مشكلٍ أو جمع متفرقٍ.


فأوّل ذلك:

باب القول على لغة العرب أتوقيف، أم اصطلاح؟

أقول: إن لغة العرب توقيف. ودليل ذلك قوله جلّ ثناؤه: {وعلّم آدم الأسماء كلّها} فكان ابن عبّاس يقول: علّمه الأسماء كلّها وهي هذه الّتي يتعارفها الناس من: دابة، وأرض، وسهل، وجبل، وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها.

وروى خصيف عن مجاهد قال: علمه اسم كلّ شيء.

وقال غيرهما: إنما علّمه أسماء الملائكة.

وقال آخرون: علّمه ذرّيته أجمعين.

والذي نذهب إليه في ذلك ما ذكرناه عن ابن عباس.

فإن قال قائل: لو كان ذلك كما تذهب إليه لقال: "ثمّ عرضهن أو عرضها"

فلما قال: "عرضهم" علم أن ذلك لأعيان بني آدم أو الملائكة، لأن موضوع الكناية في كلام العرب أن يقال لما يعقل "عرضهم" ولما لا يعقل "عرضها أو عرضهن".

قيل له: إنما قال ذلك والله أعلم لأنه جمع ما يعقل وما لا يعقل فغلّب ما يعقل، وهي سنّة من سنن العرب، أعني باب التغليب. وذلك كقوله جل ثناؤه: {واللّه خلق كلّ دابّةٍ من ماءٍ فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربعٍ} فقال: {منهم} تغليباً لمن يمشي على رجلين وهم بنو آدم.

فإن قال: أفتقولون في قولنا: سيف, وحسام, وعضب إلى غير ذلك من أوصافه أنه توقيف حتّى لا يكون شيء منه مصطلحاً عليه?

قيل له: كذلك نقول.

والدليل على صحّة ما نذهب إليه إجماع العلماء على احتجاج بلغة القوم فيما يختلفون فيه أو يتفقون عليه، ثمّ احتجاجهم بأشعارهم، ولو كانت اللغة مواضعةً واصطلاحاً لم يكن أولئك في الاحتجاج بهم بأولى منا في الاحتجاج بنا لو اصطلحنا على لغة اليوم ولا فرق.

ولعلّ ظاناً يظن أن اللغة الّتي دللنا على أنها توقيف إنما جاءت جملة واحدة وفي زمان واحد.

وليس الأمر كذا، بل وقّف الله جلّ وعزّ آدم عليه السلام على ما شاء أن يعلمه إياه مما احتاج إلى علمه في زمانه، وانتشر من ذلك ما شاء الله.

ثمّ علّم بعد آدم عليه السلام من عرب الأنبياء صلوات الله عليهم نبياً نبياً ما شاء أن يعلمه، حتّى انتهى الأمر إلى نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم، فآتاه الله جلّ وعزّ من ذلك ما لم يؤته أحداً قبله، تماماً على ما أحسنه من اللغة المتقدمة.

ثمّ قر الأمر قراره فلا نعلم لغة من بعده حدثت.

فإن تعمّل اليوم لذلك متعمّل وجد من نقّاد العلم من ينفيه ويرده.

ولقد بلغنا عن أبي الأسود أن أمراً كلمه ببعض ما أنكره أبو الأسود فسأله أبو الأسود عنه فقال: "هذه لغة لم تبلغك" فقال له: "يا ابن أخي إنه لا خير لك فيما لم يبلغني" فعرّفه بلطف أن الذي تكلم به مختلق.

وخلةٌ أخرى أنه لم يبلغنا أن قوماً من العرب في زمانٍ يقارب زمانه أجمعوا على تسمية شيء من الأشياء مصطلحين عليه، فكنا نستدل بذلك على اصطلاح قد كان قبلهم.

وقد كان في الصحابة رضي الله تعالى عنهم -وهم البلغاء والفصحاء- النظر في العلوم الشريفة ما لا خفاء به. وما علمناهم اصطلحوا على اختراع لغةٍ أو إحداث لفظةٍ لم تتقدمهم.

ومعلوم أن حوادث العالم لا تنقضي إلاّ بانقضائه ولا تزول إلاّ بزواله.

وفي كل ذلك دليل على صحة ما ذهبنا إليه من هذا الباب).  [الصاحبي في فقه اللغة: 3-9]


هيئة الإشراف

#2

11 Oct 2022

قال أحمد بن فارس بن زكرياء الرازي (ت: 395هـ): (

باب القول على الخط العربي وأول من كتب به

يروى أن أول من كتب الكتاب العربيّ والسّريانيّ والكتب كلها آدم عليه السلام، قبل موته بثلاثمائة سنة، كتبها في طين وطبخه. فلما أصاب الأرض الغرق وجد كلّ قوم كتاباً فكتبوه، فأصاب إسماعيل عليه السلام الكتاب العربيّ.

وكان ابن عباس يقول: "أوّل من وضع الكتاب العربيّ إسماعيل عليه السلام، وضعه على لفظه ومنطقه".

والروايات في هذا الباب تكثر وتختلف.

والذي نقوله فيه: إن الخطّ توقيف، وذلك لظاهر قوله عز وجل: {اقرأ باسم ربّك الّذي خلق، خلق الإنسان من علقٍ، اقرأ وربّك الأكرم، الّذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم} وقال جلّ ثناؤه: {والقلم وما يسطرون} وإذا كان كذا فليس ببعيد أن يوقّف آدم عليه السلام أن غيره من الأنبياء عليهم السلام على الكتاب.

فأما أن يكون مخترع اخترعه من تلقاء نفسه, فشيءٌ لا تعلم صحته إلاّ من خبر صحيح.

وزعم قوم أن العرب العاربة لم تعرف هذه الحروف بأسمائها، وأنهم لم يعرفوا نحواً ولا إعراباً ولا رفعاً ولا نصباً ولا همزاً.

قالوا والدليل على ذلك ما حكاه بعضهم عن بعض الأعراب أنه قيل له: أتهمز إسرائيل? فقال: "إني إذن لرجل سوء! "

قالوا: وإنّما قال ذلك لأنه لم يعرف من الهمز إلاّ الضغط والعصر.

وقيل لآخر: أتجرّ فلسطين? فقال: "إني إذن لقويٌّ! ".

قالوا: وسمع بعض فصحاء العرب ينشد:

نحن بني علقمة الأخيارا

فقيل له: لم نصبت "بني"? فقال: ما نصبته، وذلك أنه لم يعرف من النّصب إلاّ إسناد الشيء.

قالوا: وحكى الأخفش عن أعرابي فصيح أنه سئل أن ينشد قصيدة على الدال فقال: وما الدال؟

وحكي أن أبا حيّة النّميري سئل أن ينشد قصيدة على الكاف فقال:

كفى بالنّأي من أسماء كاف ... وليس لسقمها إذ طال شاف

قلنا: والأمر في هذا بخلاف ما ذهب إليه هؤلاء ومذهبنا فيه التوقيف فنقول: إن أسماء هذه الحروف داخلة في الأسماء الّتي أعلم الله جلّ ثناؤه أنه علّمها آدم عليه السلام، وقد قال جل وعزّ: {علّمه البيان}، فهل يكون أوّل البيان إلاّ علم الحروف الّتي يقع بها البيان? ولم لا يكون الذي علّم آدم عليه السلام الأسماء كلّها هو الّذي علّمه الألف والباء والجيم والدال؟

فأما من حكي عنه من الأعراب, الّذين لم يعرفوا الهمز والجرّ والكاف والدال, فإنّا لم نزعم أن العرب كلها مدراً ووبراً قد عرفوا الكتابة كلها والحروف أجمعها، وما العرب في قديم الزمان إلاّ كنحن اليوم: فما كلٌّ يعرف الكتابة والخطّ والقراءة.

وأبو حيّة كان أمس؛ وقد كان قبله بالزمن الأطول من يعرف الكتابة ويخطّ ويقرأ.

وكان في أصحاب رسول الله -صلى الله عليه سلم- كاتبون منهم أمير المؤمنين عليٌّ صلوات الله تعالى عليه وعثمان وزيد وغيرهم.

فحدثني أبو الحسن عليّ بن إبراهيم القطّان, قال أخبرنا عليّ بن عبد العزيز عن أبي عبيد قال: حدثنا ابن مهديّ, عن ابن المبارك قال حدثني أبو واثل شيخٌ من أهل اليمن عن هانئ قال:

كنت عند عثمان رضي الله تعالى عنه، وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتف شاه إلى أبي بن كعب فيها "لم يتسنّ" و"فأمهل الكافرين" و"لا تبديل للخلق" قال فدعا بالدّواة فمحا إحدى اللامين وكتب {لخلق اللّه} ومحا "فأمهل" وكتب {فمهّل} وكتب {لم يتسنّه} ألحق فيها هاءً.

أفيكون جهل أبي حيّة بالكتابة حجةً على هؤلاء الأئمة؟

والذي نقوله في الحروف هو قولنا في الإعراب والعروض.

والدليل على صحة هذا وأن القوم قد تداولوا الإعراب أنا نستقرئ قصيدة الحطيئة الّتي أوّلها:

شاقتك أظعانٌ لليلى ... دون ناظرة بواكر

فنجد قوافيها كلّها عند الترنّم والإعراب تجيء مرفوعة، ولولا علم الحطيئة بذلك لأشبه أن يختلف إعرابها، لأن تساويها في حركة واحدة اتفاقاً من غير قصد لا يكاد يكون.

فإن قال قائل: فقد تواترت الرّوايات بأن أبا الأسود أول من وضع العربية، وأن الخليل أول من تكلم في العروض.

قيل له: نحن لا ننكر ذلك، بل نقول إن هذين العلمين قد كانا قديماً وأتت عليهما الأيام, وقلاّ في أيدي الناس، ثمّ جددهما هذان الإمامان.

وقد تقدم دليلنا في معنى الإعراب.

وأما العروض فمن الدليل على أنه كان متعارفاً معلوماً اتفاق أهل العلم على أن المشركين لما سمعوا القرآن قالوا أو من قال منهم: "إنه شعر" فقال الوليد بن المغيرة منكراً عليهم "لقد عرضت ما يقرؤه محمد على أقراء الشعر: هزجه ورجزه, وكذا وكذا، فلم أره يشبه شيئاً من ذلك".

أفيقول الوليد هذا، وهو لا يعرف بحور الشعر؟

وقد زعم ناس أنّ علوماً كانت في القرون الأوائل والزمن المتقادم، وأنها درست وجدّدت منذ زمان قريب، وترجمت وأصلحت منقولة من لغة إلى لغة. وليس ما قالوا ببعيد، وإن كانت تلك العلوم بحمد الله وحسن توفيقه مرفوضة عندنا.

فإن قال: فقد سمعناكم تقولون: إن العرب فعلت كذا ولم تفعل كذا، من أنها لا تجمع بين ساكنين، ولا تبتدئ بساكن، ولا تقف على متحرك، وأنها تسمي الشخص الواحد الأسماء الكثيرة، وتجمع الأشياء الكثيرة تحت الاسم الواحد.

قلنا: نحن نقول إن العرب تفعل كذا بعدما وطأناه أن ذلك توقيف حتّى ينتهي الأمر إلى الموقّف الأول.

ومن الدليل على عرفان القدماء من الصحابة وغيرهم بالعربية كتابتهم المصحف على الّذي يعلله النحويّون في ذوات الواو والياء والهمز والمدّ والقصر فكتبوا ذوات الياء بالياء وذوات الواو بالواو ولم يصوّروا الهمزة إذا كان ما قبلها ساكناً في مثل "الخبء" و"الدفء" و"الملء" فصار ذلك كلّه حجة، وحتى كره من العلماء ترك اتباع المصحف من كره.

فحدثني عبد الرحمن بن حمدان عن محمد بن الجهم السّمرّيّ عن الفرّاء قال: "اتباع المصحف -إذا وجدت له وجهاً من كلام العرب- وقراءة القراء أحبّ إليّ من خلافه".

قال: وقد كان أبو عمرو بن العلاء يقرأ: (إن هذين لساحران) ولست أجترئ على ذلك. وقرأ: (فأصّدّق وأكون) فزاد واواً في الكتاب ولم أستحبّ ذلك.

والذي قاله الفرّاء حسن، وما بحسن قول ابن قتيبة في أحرف ذكرها، وقد خالف الكتّاب المصحف في هذا.


باب القول في أن لغة العرب أفضل اللغات وأوسعها

قال جلّ ثناؤه: {وإنّه لتنزيل ربّ العالمين، نزل به الرّوح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ} فوصفه جلّ ثناؤه بأبلغ ما يوصف به الكلام، وهو البيان.

وقال جلّ ثناؤه: {خلق الإنسان، علّمه البيان} فقدّم جلّ ثناؤه ذكر البيان على جميع ما توحّد بخلقه وتفرّد بإنشائه، من شمس وقمر ونجم وشجر وغير ذلك من الخلائق المحكمة والنشايا المتقنة. فلمّا خصّ جلّ ثناؤه اللسان العربيّ بالبيان علم أن سائر اللغات قاصرةٌ عنه وواقعة دونه.

فإن قال قائل: فقد يقع البيان بغير اللسان العربي، لأن كلّ من أفهم بكلامه على شرط لغته فقد بيّن.

قيل له: إن كنت تريد أن المتكلّم بغير اللغة العربية قد يعرب عن نفسه حتّى يفهم السامع مراده فهذا أخس مراتب البيان، لأن الأبكم قد يدلّ بإشارات وحركات له على أكثر مراده ثمّ لا يسمّى متكلماً، فضلا عن أن يسمّى بيّناً أو بليغاً.

وإن أردت أنّ سائر اللغات تبيّن إبانة اللغة العربية فهذا غلط، لأنا لو احتجنا إلى أن نعبر عن السيف وأوصافه باللغة الفارسية لما أمكننا ذلك إلاّ باسم واحد، ونحن نذكر للسيف بالعربية صفات كثيرةً، وكذلك الأسد والفرس وغيرهما من الأشياء المسمّاة بالأسماء المترادفة. فأين هذا من ذاك، وأين لسائر اللغات من السّعة ما للغة العرب? هذا ما لا خفاء به على ذي نهية.

وقد قال بعض علمائنا حين ذكر ما للعرب من الاستعارة والتمثيل والقلب والتقدير والتأخير وغيرها من سنن العرب في القرآن فقال: ولذلك لا يقدر أحد من التراجم على أن ينقله إلى شيء من الألسنة كما نقل الإنجيل عن السريانية إلى الحبشية والرّومية وترجمت التوراة والزّبور وسائر كتب الله عزّ وجلّ بالعربية، لأن العجم لم تتّسع في المجاز اتساع العرب.

ألا ترى أنك لو أردت أن تنقل قوله جلّ ثناؤه: {وإمّا تخافنّ من قومٍ خيانةً فانبذ إليهم على سواءٍ} لم تستطع أن تأتي بهذه الألفاظ المؤدّية عن المعنى الّذي أودعته حتّى تبسط مجموعها وتصل مقطوعها وتظهر مستورها فتقول: "إن كان بينك وبين قوم هدنة وعهد فخفت منهم خيانة ونقضاً فأعلمهم أنّك قد نقضت ما شرطته لهم وآذنهم بالحرب لتكون أنت وهم في العلم بالنقض على استواء".

وكذلك قوله جلّ ثناؤه: {فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا}.

فإن قال قائل: فهل يوجد في سنن العرب ونظومها ما يجري هذا المجرى?

قيل له: إن كلام الله جلّ ثناؤه أعلى وأرفع من أن يضاهى أو يقابل أو يعارض به كلام، وكيف لا يكون كذلك وهو كلام العليّ الأعلى خالق كلّ لغة ولسان، لكنّ الشعراء قد يؤمنون إيماء ويأتون بالكلام الّذي لو أراد مريد نقله لاعتاص وما أمكن إلاّ بمبسوطٍ من القول وكثير من اللفظ. ولو أراد أن يعبّر عن قول امرئ القيس:

فدع عنك نهبا صيح في حجراته

بالعربية فضلاً عن غيرها لطال عليه.

وكذا قول القائل:

"والظن على الكاذب".

و"نجارها نارها".

و"عيّ بالإسناف".

و"انشأي يرم لك".

و"هو باقعة".

و"قلبٌ لو رفع".

و"على يد فاخضم".

و"شأنك إلاّ تركه متفاقم".

وهو كثير بمثله طالت لغة العرب اللغات.

ولو أراد معبرٌ بالأعجمية أن يعبر عن الغنيمة والإخفاق واليقين والشكّ والظاهر والباطن, والحق والباطل, والمبين والمشكل, والاعتزاز والاستسلام لعيّ به. والله جلّ ثناؤه أعلم حيث يجعل الفضل.

ومما اختصت به لغة العرب -بعد الّذي تقدم ذكره- قلبهم الحروف عن جهاتها، ليكون الثاني أخفّ من الأول، نحو قولهم: "ميعاد" ولم يقولوا "موعاد" وهما من الوعد، إلاّ أن اللفظ الثاني أخفّ.

ومن ذلك تركهم الجمع بين السّاكنين، وقد تجتمع في لغة العجم ثلاث سواكن.

ومنه قولهم: "يا حار" ميلاً إلى التخفيف.

ومن اختلاسهم الحركات في مثل:

فاليوم أشرب غير مستحقبٍ

ومنه الإدغام، وتخفيف الكلمة بالحذف، نحو "لم يك" و"لم أبل".

ومن ذلك إضمارهم الأفعال، نحو "امرؤ أتقى الله" و"أمر مبكياتك، لا أمر مضحكاتك".

وممّا لا يمكن نقله البتّة: أوصاف السيف والأسد والرمح وغير ذلك من الأسماء المترادفة. ومعلوم أن العجم لا تعرف للأسد غير اسم واحد، فأما نحن فنخرج له خمسين ومائة اسم.

وحدثني أحمد بن محمد بن بندار قال: سمعت أبا عبد الله بن خالويه الهمذاني يقول: جمعت للأسد خمسمائة اسم وللحيّة مائتين.

وأخبرني عليّ بن أحمد بن الصباح قال: حدثنا أبو بكر بن دريد قال: حدثنا ابن أخي الأصمعي عن عمه أن الرشيد سأله عن شعر لابن حزام العكليّ ففسره، فقال: "يا أصمعي، إن الغريب عندك لغير غريب" فقال: "يا أمير المؤمنين، ألا أكون كذلك وقد حفظت للحجر سبعين اسماً?".

وهذا كما قاله الأصمعي. ولكافي الكفاة -أدام الله أيامه وأبقى للمسلمين فضله- في ذلك كتاب مجرد.

فأين لسائر الأمم ما للعرب?

ومن ذا يمكنه أن يعبّر عن قولهم: ذات الزّمين، وكثرة ذات اليد، ويد الدهر، وتخاوصت النجوم، ومجّت الشمس ريقها، ودرأ الفيء، ومفاصل القول، وأتى بالأمر من فصّه.

وهو رحب العطن، وغمر الرداء، ويخلق ويفري.

وهو ضيق المجمّ، قلق الوضين، رابط الجأش.

وهو ألوى، بعيد المستمرّ.

وهو شراب بأنقع.

وهو جذيلها المحكّك وعذيقها المرجّب.

وما أشبه هذا من بارع كلامهم ومن الإيماء اللطيف والإشارة الدّالة.

وما في كتاب الله جلّ ثناؤه من الخطاب العالي أكثر وأكثر، قال الله جلّ وعزّ: {ولكم في القصاص حياةٌ}, و{يحسبون كلّ صيحةٍ عليهم}، و{وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط اللّه بها}, و{إن يتّبعون إلّا الظّنّ وإنّ الظّنّ لا يغني من الحقّ شيئًا}, و{إنّما بغيكم على أنفسكم}، و{ولا يحيق المكر السّيّئ إلّا بأهله} وهو أكثر من أن نأتي عليه.

وللعرب بعد ذلك كلم تلوح في أثناء كلامهم كالمصابيح في الدّجى، كقولهم للجموع للخير: قثوم، وهذا أمر قاتم الأعماق، أسود النواحي، واقتحف الشراب كلّه، وفي هذا الأمر مصاعب وقحم، وامرأة حييّة قدعة، وتقادعوا تقادع الفراش في النار، وله قدم صدق، وذا أمر أنت أردته ودبّرته، وتقاذفت بنا النّوى، واشتفّ الشراب، ولك قرعة هذا الأمر خياره، وما دخلت لفلان قريعة بيت، وهو يبهر القرينة إذا جاذبته، وهم على قرو واحد أي طريقة، وهؤلاء قرابين الملك، وهو قشع: إذا لم يثبت على أمر، وقشبه بقبيح لطخه وصبي قصع لا يكاد يشبّ، وأقلت مقاصر الظلام، وقطّع الفرس الخيل تقطيعاً إذا خلّفها، وليس أقعس لا يكاد يبرح، وهو منزول قفر.

وهذه كلمات من قرحة واحدة، فكيف إذا جال الطرف في سائر الحروف مجاله؟

ولو تقصينا ذلك لجاوزنا الغرض ولما حوته أجلاد وأجلاد).  [الصاحبي في فقه اللغة: 10-25]

هيئة الإشراف

#3

12 Oct 2022

قال أحمد بن فارس بن زكرياء الرازي (ت: 395هـ): (

باب: القول في لغة العرب هل يجوز أن يحاط بها؟

قال بعض الفقهاء: "كلام العرب لا يحيط به إلاّ نبيّ".

وهذا كلام حريٌّ أن يكون صحيحاً. وما بلغنا أنّ أحداً ممن مضى ادعى حفظ اللغة كلها.

فأما الكتاب المنسوب إلى الخليل وما في خاتمته من قوله: "هذا آخر كلام العرب" فقد كان الخليل أورع وأتقى لله جلّ ثناؤه من أن يقول ذلك.

ولقد سمعت عليّ بن مهرويه يقول: سمعت هارون بن هزاري يقول: سمعت سفيان بن عيينة يقول: "من أحبّ أن ينظر إلى رجل خلق من الذّهب والمسك فلينظر إلى الخليل بن أحمد".

وأخبرني أبو داود سليمان بن يزيد عن ذلك المصاحفي عن النّضر بن شميل قال: "كنا نميّل بين ابن عون والخليل بن أحمد أيّهما تقدّم في الزّهد والعبادة فلا ندري أيهما تقدم".

قال: وسمعت النضر بن شميل يقول: "ما رأيت أعلم بالسّنة بعد ابن عون من الخليل بن أحمد".

قال: وسمعت النضر يقول: "أكلت الدنيا بأدب الخليل وكتبه وهو في خصّ لا يشعر به".

قلنا: فهذا مكان الخليل من الدين، أفتراه يقدم على أن يقول: "هذا آخر كلام العرب؟ ".

ثمّ أن في الكتاب الموسوم به من الإخلال ما لا خفاء به على علماء اللغة، ومن نظر في سائر الأصناف الصحيحة علم صحة ما قلناه.


باب القول في اختلاف لغات العرب

اختلاف لغات العرب من وجوه:

أحدها: الاختلاف في الحركات كقولنا: "نستعين" و"نستعين" بفتح النون وكسرها. قال الفرّاء: هي مفتوحة في لغة قريش، وأسدٌ وغيرهم يقولونها بكسر النون.

والوجه الآخر: الاختلاف في الحركة والسكون مثل قولهم: "معكم" و"معكم" أنشد الفرّاء:

ومن يتّق فإنّ الله معه ... ورزق الله مؤتابٌ وغاد

ووجه أخر: وهو الاختلاف في إبدال الحروف نحو: "أولئك" و"ألالك". أنشد الفرّاء:

ألا لك قومي لم يكونوا أشابةً ... وهل يعظّ الضّلّيل إلا ألالكا

ومنها قولهم: "أنّ زيداً" و"عنّ زيداً".

ومن ذلك: الاختلاف في الهمز والتليين نحو: "مستهزءون" و"مستهزون".

ومنه: الاختلاف في التقديم والتأخير نحو: "صاعقة" و"صاقعة".

ومنها: الاختلاف في الحذف والإثبات نحو "استحييت" و"استحيت" و"وصددت" و"أصددت".

ومنها: الاختلاف في الحرف الصحيح يبدل حرفًا معتلا نحو: "أما زيد", و"أيما زيد".

ومنها: الاختلاف في الإمالة والتفخيم في مثل "قضى" و"رمى" فبعضهم يفخم وبعضهم يميل.

ومنها: الاختلاف في الحرف الساكن يستقبله مثله، فمنهم من يكسر الأول ومنهم من يضم، فيقولون: "اشتروا الضلالة" و"اشترو الضلالة".

ومنها: الاختلاف في التذكير والتأنيث فإن من العرب من يقول "هذه البقر" ومنهم من يقول "هذا البقر" و"هذه النخيل" و"هذا النخيل".

ومنها: الاختلاف في الإدغام نحو: "مهتدون" و"مهدّون".

ومنها: الاختلاف في الإعراب نحو: "ما زيدٌ قائماً" و"ما زيدٌ قائم" و"إنّ هذين" و"إنّ هذان" وهي بالألف لغة لبني الحارث بن كعب يقولون لكلّ ياء ساكنة انفتح ما قبلها ذلك. وينشدون:

تزوّد منّا بين أذناه ضربةً ... دعته إلى هابي التراب عقيم

وذهب بعض أهل العلم إلى أن الإعراب يقتضي أن يقال: "إن هذان" قال: وذلك أن "هذا" اسم منهوك، ونهكه أنه على حرفين أحدهما حرف علة وهي الألف و"ها" كلمة تنبيه ليست من الاسم في شيء، فلما ثنّي احتيج إلى ألف التثنية، فلم يوصل إليها لسكون الألف الأصلية، واحتيج إلى حذف إحداهما فقالوا: إن حذفنا الألف الأصلية بقي الاسم على حرف واحد، وإن أسقطنا ألف التثنية كان في النون منها عوض ودلالة على معنى التثنية، فحذفوا ألف التثنية.

فلما كانت الألف الباقية هي ألف الاسم، واحتاجوا إلى إعراب التثنية لم يغيروا الألف عن صورتها لأن الإعراب واختلافه في التثنية والجمع إنما يقع على الحرف الّذي هو علامة التثنية والجمع، فتركوها على حالها في النصب والخفض.

قال: ومما يدلّ على هذا المذهب قوله جلّ ثناؤه: {فذانك برهانان من ربّك} لم تحذف النون -وقد أضيف- لأنه لو حذفت النون لذهب معنى التثنية أصلاً، لأنه لم تكن للتثنية ها هنا علامة إلاّ النون وحدها، فإذا حذفت أشبهت الواحد لذهاب علامة التثنية.

ومنها: الاختلاف في صورة الجمع نحو "أسرى" و"أسارى".

ومنها: الاختلاف في التحقيق والاختلاس نحو: "يأمركم" و"يأمركم" و"عفي له" و"عفي له".

ومنها: الاختلاف في الوقف على هاء التأنيث مثل "هذه أمّه" و"هذه أمّت".

ومنها: الاختلاف في الزّيادة نحو: "أنظر" و"أنظور". أنشد الفراء:

الله يعلم أنّا في تلفّتنا ... يوم الفراق إلى جيراننا صور

وأنّني حيث ما يثني الهوى بصري ... من حيث ما سلكوا أدنو فأنظور

وكلّ هذه اللغات مسماة منسوبة إلى أصحابها، لكن هذا موضع اختصار، وهي -وإن كانت لقوم دون قوم- فإنها لما انتشرت تعاورها كلٌّ.

ومن الاختلاف: اختلاف التضادّ، وذلك قول حمير للقائم "ثب" أي اقعد.

فحدثنا علي بن إبراهيم القطّان عن المفسر عن القتيبي عن إبراهيم بن مسلم عن الزبير عن ظمياء بنت عبد العزيز بن موألة قالت: حدثني أبي عن جدّي موألة أن عامر بن الطّفيل قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوثّبه وسادة، يريد فرشه إياه وأجلسه عليها.

والوثاب: الفراش بلغة حمير.

قال: وهم يسمّون الملك إذا كان لا يغزو "موثبان" يريدون أن يطيل الجلوس ولا يغزو، ويقولون للرجل "ثب" أي اجلس.

وروي أن زيد بن عبد الله بن دارم وفد على بعض ملوك حمير فألفاه في متصيّد له على جبل مشرف، فسلم عليه وانتسب له، فقال له الملك "ثب" أي اجلس، وظن الرجل أنه أمره بالوثوب من الجبل فقال: "لتجدني أيّها الملك مطواعاً" ثمّ وثب من الجبل فهلك، فقال: الملك: ما شأنه? فخبّروه قصته وغلطه في الكلمة، فقال: "أما أنه ليست عندنا عربية: من دخل ظفار حمّر" وظفار المدينة الّتي كان بها، وإليها ينسب الجزع الظفّاري. من دخل ظفار فليتعلم الحميرية.


باب القول في أفصح العرب

أخبرني أبو الحسين أحمد بن محمد مولى بني هاشم بقزوين، قال: حدثنا أبو الحسين محمد بن عباس الخشكي، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي عبيد الله قال:

أجمع علماؤنا بكلام العرب، والرّواة لأشعارهم، والعلماء بلغاتهم وأيامهم ومحالّهم أن قريشاً أفصح العرب ألسنةً وأصفاهم لغةً. وذلك أن الله جل ثناؤه اختارهم من جميع العرب واصطفاهم واختار منهم نبيّ الرحمة محمداً -صلى الله عليه وسلم- فجعل قريشاً قطّان حرمه، وجيران بيته الحرام، وولاته.

فكانت وفود العرب من حجاجها وغيرهم يفدون إلى مكة للحج، ويتحاكمون إلى قريش في أمورهم. وكانت قريش تعلمهم مناسكهم وتحكم بينهم.

ولن تزل العرب تعرف لقريش فضلها عليهم وتسمّيها أهل الله لأنهم الصّريح من ولد إسماعيل عليه السلام، لم تشبهم شائبة، ولم تنقلهم عن مناسبهم ناقلة، فضيلةً من الله -جلّ ثناؤه- لهم وتشريفاً. إذ جعلهم رهط نبيّه الأذنين، وعترته الصالحين.

وكانت قريش، مع فصاحتها وحسن لغاتها ورقّة ألسنتها، إذا أتتهم الوفود من العرب تخيّروا من كلامهم وأشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم. فاجتمع ما تخيّروا من تلك اللغات إلى نحائرهم وسلائقهم الّتي طبعوا عليها. فصاروا بذلك أفصح العرب.

ألا ترى أنك لا تجد في كلامهم عنعنة تميم, ولا عجرفيّة قيس, ولا كشكشة أسد, ولا كسكسة ربيعة, ولا الكسر الّذي تسمعه من أسد وقيس مثل: "تعلمون" و"نعلم" ومثل "شعير" و"بعير"؟.


باب اللغات المذمومة

أما العنعنة الّتي تذكر عن تميم فقلبهم الهمزة في بعض كلامهم عيناً. يقولون: "سمعت عنّ فلاناً قال كذا" يريدون "أنّ".

وروي في حديث قيلة: "تحسب عنّي نائمةٌ" قال أبو عبيد: أرادت تحسب أني، وهذه لغة تميم. قال ذو الرمّة:

أعن ترسّمت من خرقاء منولة ... ماء الصّبابة من عينيك مسجوم

أراد "أن", فجعل مكان الهمزة عيناً.

وأما الكشكشة الّتي في أسد فقال قوم: إنهم يبدلون الكاف شيناً فيقولون: "عليش" بمعني "عليك". وينشدون:

فعيناش عيناها وجيدش جيدها ... ولونش إلاّ أنها غير عاطل

وقال آخرون: يصلون بالكاف شيناً، فيقولون: "عليكش".

وكذلك الكسكسة الّتي في ربيعة إنما هي أن يصلوا بالكاف سيناً، فيقولون: "عليكس".

وحدثني عليّ بن أحمد الصبّاحيّ، قال سمعت ابن دريد يقول: حروفٌ لا تتكلم بها العرب إلاّ ضرورة، فإذا اضطرّوا إليها حوّلوها عند التكلم بها إلى أقرب الحروف من مخارجها.

فمن تلك الحروف الحرف الّذي بين الباء والفاء. مثل "بور" إذا اضطروا. فقالوا: "فور".

ومثل الحرف الّذي بين القاف والكاف والجيم -وهي لغة سائرة في اليمن- مثل: "جمل" إذا اضطرّوا قالوا: "كمل".

قال: والحرف الّذي بين الشين والجيم والياء: في المذكر "غلامج" وفي المؤنث "غلامش".

فأما بنو تميم فإنهم يلحقون القاف باللّهاة حتّى تغلظ جداً فيقولون: "القوم" فيكون بين الكاف والقاف، وهذه لغة فيهم. قال الشاعر:

ولا أكول لكدر الكوم قد نضجت ... ولا أكول لباب الدّار مكفول

وكذلك الياء تجعل جيماً في النّسب. يقولون: "غلامج" أي "غلامي".

وكذلك الياء المشدّدة تحوّل جيماً في النّسب. يقولون: "بصرجّ" و"كوفجّ" قال الرّاجز:

خالي عويفٌ وأبو علجّ

المطعمان اللحم بالعشجّ

وبالغداة فلق البرنجّ

وكذلك ما أشبهه من الحروف المرغوب عنها. كالكاف الّتي تحوّل شيناً.

قلنا: أما الّذي ذكره ابن دريد في "بور" و"فور" فصحيح. وذلك أن بور ليس من كلام العرب، فلذلك يحتاج العربيّ عند تعريبه إياه أن يصيّره فاءً.

وأما سائر ما ذكره فليس من باب الضرورة في شيء. وأيّ ضرورة بالقائل إلى أن يقلب الكاف شيناً، وهي ليست في سجع ولا فاصلة? ولكن هذه لغات للقوم على ما ذكرناه في باب اختلاف اللغات.

فأما من زعم أن ولد إسماعيل عليه السلام يعيّرون ولد قحطان أنهم ليسوا عرباً، ويحتجّون عليهم بأنّ لسانهم الحميريّة وأنهم يسمّون اللّحية بغير اسمها مع قول الله جلّ ثناؤه في قصة من قال: لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي- وأنهم يسمّون الذّيب "القلوب" مع قوله: {وأخاف أن يأكله الذّئب} ويسمون الأصابع "الشنّاتر" وقد قال الله جلّ ثناؤه: {يجعلون أصابعهم في آذانهم} وأنهم يسمّون الصّديق "الخلم" والله جل ثناؤه يقول: {أو صديقكم} وما أشبه هذا. فليس اختلاف اللّغات قادحاً في الأنساب.

ونحن -وإن كنا نعلم أن القرآن نزل بأفصح اللغات- فلسنا ننكر أن يكون لكلّ قوم لغة. مع أن قحطان تذكر أنهم العرب العاربة، وأن من سواهم العرب المتعرّبة، وأن إسماعيل عليه السلام بلسانهم نطق، ومن لغتهم أخذ، وإنّما كانت لغة أبيه -صلى الله عليه وسلم- العبرية وليس ذا موضوع مفاخرة فنستقصي.

ومما يفسد الكلام ويعيبه الخزم ولا نريد به الخزم المستعمل في الشعر، وإنما نريد قول القائل:

ولئن قومٌ أصابوا غرّةً ... وأصبنا من زمان رققا

للقد كنّا لدى أزماننا ... لشريجين لباسٍ وتقى

فزاد لاماً على "لقد" وهو قبيح جداً.

ويزعم ناسٌ أن هذا تأكيد كقول الآخر:

فلا والله لا يلفى لما بي ... ولا للما بهم أبداً دواءٌ

فزاد لاماً على "لما" وهذا أقبح من الأول. فأما التأكيد فإن هذا لا يزيد الكلام قوة، بل يقبّحه.

ومثله قول الآخر:

وصالياتٍ ككما يوثفين

شوكل ذا من أغاليط من يغلط، والعرب لا تعرفه).  [الصاحبي في فقه اللغة: 26-40]