الدرس الأول
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): (بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد: فإني أحمد الله الكريم حمدًا يرتضيه لجلاله، وأشكره شكر معترف بإحسانه وإفضاله، فمنه بدأ وإليه يعود، فهو الرحيم الودود، وأسأله أن يصلي على عبده وحبيبه محمد صلاة تليق برحمته، وأن يجزيه عنا أفضل ما جزى نبيًا عن أمته، صلى الله عليه وعلى جميع إخوانه من النبيين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ثم أشكر الله الكريم، على فضله الظاهر الجسيم من تيسير كتاب: تيسير البيان لمعرفة أحكام القرآن، الذي هو نظام عقده ونسيج وحده، فأسأله أن يتم إنعامه، ويقدر تمامه، ولما ألهمني الله سبحانه لوضعه وذكرت فيه جملة نافعة في معرفة لسان العرب وسعتها وسننها في كلامها، وعادتها في بيانها، وتركيب مبانيها، وترتيب معانيها، الذي لا سبيل لأحد إلى معرفة علم القرآن إلا بمعرفته، والاطلاع على حقيقته، رأيت أني أجمع جزءً لطيفًا في معاني الحروف وأفرده عنه لأجعله عدة في حياتي وذخرًا في وفاتي بلطف الله ورحمته إن شاء الله إنه قريب مجيب.
وذكرت فيه مباحث نفيسة، ونفائس لطيفة، فرحم الله الكريم سيدًا حليمًا، وماجدًا كريمًا، وجد صوابًا فصوبه وقرره، وأظهره ويسره، وغلب الحسد وقهره فعرف الحق وقدره فقد قيل: ما هو مثل كالمثال: اعرف الرجال بالحق ولا تعرف الحق بالرجال ولله القائل:
ما الحازم الشهم مقدامًا ولا بطلٍ = إن لم يكن للهوى بالحق غلابا
أو وجد خلاف ذلك فبين خلله وغرره، ثم لم شعثه وستره.
وأي جوادٍ لا يقال له هلا
وما القول إلى مخطئٌ ومصيبُ
وليعلم أني ألفته في ضيق من الزمان، وانقطاع عن المدائن والبلدان، وقلما اجتمع عندي في فن من فنون العلم كتابان، فهذا معذرتي إلى سائر الإخوان، وأسأل الله الكريم الوهاب، أن ينفع به سائر الأصحاب في دار الدنيا ودار المآب، إنه على كل شيء قدير). [مصابيح المغاني: 59-60]
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): (باب الهمزة وما أوله الهمزة
وإنما بدأت الهمزة لشرفها وفضلها على غيرها، فإنها حرف اختصت به العرب في لسانها وانفردت به في كلامها، أعني في عرض الكلام مثل: قرأ وشاء ولا يكون في شيء من اللغات إلا ابتداء، وقال أبو عبيد أيضًا: وقد انفردت العرب بالألف واللام اللتين للتعريف – في أول الكلام – كقولنا: الرجل، والفرس: فليستا في شيء من لغات الأمم غير العرب.
ثم هذه مقدمة في الهمزة وضعتها في كتابي هذا لينتفع بها ذو الفهم والتعليم وإن كانت خارجة عماله وضعت هذا الكتاب ولكني وضعتها لشدة الحاجة إليها وكثرة النفع بها ولشرف هذا الحرف واختصاصه، فإنه يدخل على الأسماء والأفعال كغيره من الحروف، ويختص بالدخول على الحروف كألف القطع التي في أوائل الأدوات نحو إلى وألا وأم وأما، وألف الوصل التي تدخل على لام التعريف وعلى قولهم: أيمن الله في القسم، وتدخل على مثلها كألف الاستفهام الداخلة على ألف الوصل، وألف القطع وألف لام التعريف، وها أنا أبين ذلك كله بيانًا شافيًا كافيًا فأقول: الألف تنقسم إلى ثلاثة أقسام: ألف أصل، وألف قطع، وألف وصل.
فأما ألف الأصل فتكون في الأسماء والأفعال دون الحروف.
فالتي في الأسماء هي التي تثبت في الكلمة في حال تصغيرها.
وأما التي في الأفعال: فهي التي تثبت في تصريف الفعل الماضي والمستقبل وتكون فاء الفعل كقولك أكل يأكل وأمر يأمر وأذن يأذن، فأكل يأكل على وزن فعل يفعل فالألف بحذاء الفاء.
وأما ألف القطع فتكون في الأسماء والأفعال والحروف.
فأما التي في الأسماء: فهي التي في أوائل الأسماء كلها إلا في عشرة أسماء فإن ألفها وصل وهي: ابن وابنة وامرؤ وامرأة واثنان واثنتان واسم واست وألف لام التعريف وألف المصدر سوى مصدر الفعل الرباعي ومصدر الفعل الثلاثي المهموز أوله نحو: أخذ يأخذ أخذًا، وأمر يأمر أمرًا.
واختلف النحويون في ألف ايمن الله في القسم فقال سيبويه، رحمة الله عليه، هي ألف وصل واشتقاقه من اليمن، وقال الفراء: هي ألف قطع وهي جمع يمين، وإليه ذهب ابن كيسان، وابن درستويه رحمهم الله تعالى ولكل حجة وليس ذكرها من غرضي.
وأما التي في الأفعال: فالتي في الفعل الرباعي والأمر منه نحو: أكرم زيدًا عمرًا وأكرم يا زيد عمرًا، والتي في لفظ المخبر عن نفسه نحو: أنا أذهب وأركب وأنطلق، وأما التي في الحروف فهي التي في أوائل الأدوات نحو: أن، وأم، وإلى، وأما، وأو، وقد علم بهذا حقيقة ألف الوصل وهي أيضًا تكون في الأسماء والأفعال والحروف.
فأما التي في الأسماء ففي عشرة أسماء كما تقدم.
وأما التي في الأفعال فتكون في فعل الأمر ما خلا الرباعي وتدخل على الماضي في الخماسي والسداسي خاصة دون الثلاثي كقولك: اكتسب واستخرج.
وحكم ألف الوصل إذا وصلت بها الكلام أسقطتها وإذا ابتدأت بها كسرتها إلا في فعل الأمر إذا كان مضموم الثالث نحو يدخل، ويقعد، فإذا أمرت منه تقول: أدخل، أقعد بالضم، وإلا الألف الداخلة على الحرف أو على ما يشبه الحرف. وهي الداخلة على لام التعريف وعلى أيمن الله في القسم للفرق بين الحروف وما يشبهه وبين غيره، وهذا الكلام على القول باسميتها كما هو مذهب الجمهور وقال الزجاج والرماني بحرفيتها.
وحكم ألف المصادر من جميع ما تقدم حكم أفعالها، فأما ألف القطع فإنها قد تكون مرفوعة ومنصوبة ومكسورة، ويجب الكسر في المصدر من الرباعي كقولك أكرم إكرامًا كسروا الهمزة منه لئلا يلتبس بالجمع؛ لأنه ليس في كلام العرب شيء على وزن أفعال بفتح الهمزة إلا وهو جمع مثل أنياب وأحمال إلا ثلاثة عشر اسمًا فإنها ليست بجمع وقد عدها أهل النحو في كتبهم.
«فصل»
تختص الألف من بين سائر الحروف بدخولها على مثلها من جنسها وذلك كألف الاستفهام تدخل على ألف الوصل وعلى ألف القطع وعلى ألف لام التعريف، فأما إذا دخلت على ألف الوصل فإنه تسقط ألف الوصل وتثبت ألف الاستفهام مفتوحة كما هي عليه؛ لأنه إنما أتي بهمزة الوصل توصلًا إلى النطق بالساكن فلما دخلت عليها ألف الاستفهام استغنى بها عنها نحو: ابن زيد أنت؟
قال الشاعر:
فقالت أين قيس ذا = وبعض الشيب يعجبها
فقطع الألف لأنها ألف استفهام، وقال ذو الرمة:
أستحدث الركب عن أشياعهم خبرًا = أم راجع القلب من أطرابه طرب
ومنه قوله جل جلاله: {أستكبرت أم كنت من العالين} {أتخذتم عند الله عهدًا} {أصطفى البنات على البنين} ونحو ذلك.
وأما إذا دخلت على ألف لام التعريف همزت الأولى ومددت الثانية لا غير وأشممت الفتحة بلا نبرة كقولك: الرجل قال هذا، قال معن بن أوس:
فوالله ما أدري ألحب شفه = وسل عليه جسمه أم تعبدا
ومنه قوله جل جلاله: {آلله خيرٌ أما يشركون}، {آلذكرين حرم أم الأنثيين}، {آلآن وقد عصيت قبل}، وإنما أتوا بمدة هنا ولم يأتوا بها في الداخلة على ألف الوصل؛ لأن ألف لام التعريف مفتوحة وألف الاستفهام مفتوحة أيضًا فلو لم يبدلوا منها مدة في الاستفهام لالتبس الاستفهام بالخبر ولم يحتاجوا أن يبدلوا منها مدة في الاستفهام لالتبس الاستفهام بالخبر ولم يحتاجوا أن يبدلوا من همزة الوصل مدة لأن أصلها الكسر فلما دخلت عليها همزة الاستفهام اكتفى بفتحها فارقًا ولم يحتج إلى فرق آخر.
وأما إذا دخلت على ألف القطع فلا تخلو ألف القطع إمَّا أن تكون مفتوحة أو مضمومة أو مكسورة.
فإن كانت مفتوحة: نظرت فإن كانت مفتوحة ولا ألف بعدها ففيها ثلاث لغات: منهم يهمزها همزتين مقصورتين، ومنهم من يدخل ألفًا بين الهمزتين استثقالًا للجمع بينهما، ومنهم يهمز همزة واحدة مطولة وتقدير ذلك: أن تدخل بين الهمزتين ألفًا فتصير الهمزة الأولى مع الألف همزة بمد تلين الهمزة الثانية وتترك نبرتها وتشم حركتها بلا نبرة ومنه قوله تعالى: {آنذرتهم}، {آسلمتم}، {آرباب متفرقون} ونحوه وقد قرئ على هذه الوجوه كلها.
قال الأعشى:
أأن رأت رجلًا أعشى أضربه = ريب المنون ودهر متبلٌ خبل
وقال ذو الرمة:
فيا ظبية الوعساء بين جلاجل = وبين النقا آأنت أم أم سالم
وقال مزرد أخو الشماخ:
تضاللت فاستشرفته فعرفته = فقلت له آأنت زيد الأراقم
فإن كان بعد همزة القطع ألف همزت همزة واحدة مطولة ولم تدخل بين الهمزتين ألفًا ولم تشم الفتحة وذلك كقولك: آمن بفلان؟ وآثرت فلانًا؟ ومنه قوله سبحانه: {قال فرعون آمنتم به} {وقالوا آلهتها خيرٌ أم هو} والفرق بين هذا وبين ما قبله أن ألف القطع في آمن ونحوه ألف أبدلت من فاء الفعل فلو أدخلوا بين ألف الاستفهام وبين ألف افعل ألفًا كما فعلوا في آنذرتهم ونحوه لاجتمع أربع ألفات، وذلك خروج عن كلام العرب.
وإن كانت مضمومة ففيها أربع لغات: منهم من يهمزها جميعًا مقصورتين كقولك أأكرمك، أأعطيك؟
ومنهم من يدخل ألفًا فيقول آأكرمك بهمزتين.
ومنهم من يبدل ألف القطع واوًا مع قصر الهمزة ومع مدها أي بترك نبرها وتليينها وبشمها حركة الضمة كما تقدم، ومنه قوله تعالى: {قل أؤنبئكم بخيرٍ من ذلكم}.
{أألقي الذكر عليه من بيننا} {أأنزل عليه الذكر}، وقد قرئ بالوجوه كلها.
وإن كانت مكسورة ففيها أربع لغات أيضًا:
منهم من يهمزها جميعًا همزتين مقصورتين كقولك: أإنك ذاهب.
ومنهم من يقول: آإنك بهمزتين ومدة بينهما، ومنهم من يقلب ألف القطع ياء مكسورة بترك نبرتها وتليينها وبشمها مع قصر الهمزة ومدها، ومنه قوله تعالى: {أءذا متنا} {أءنا لمبعوثون} وقد قرئ ذلك بالوجوه كلها.
وأنشد أبو زيد:
حزق إذا ما القوم أبدوا فكاهة = تفكر آإياه يعنون أم قردا
وهذا ما قدر الله سبحانه من تيسير هذه المقدمة النافعة.
وأما المعاني المتعلقة بالهمزة فأقول:
الهمزة موضوعة لمعنيين:
أحدهما: نداء القريب دون البعيد كقول الشاعر:
أفاطم مهلًا بعض هذا التدلل = وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
وقد يزاد فيها مدة فتكون لنداء البعيد كقولك آزيد.
الوجه الثاني: الاستفهام الحقيقي وهي أصل أدوات الاستفهام ولذلك يستفهم بها عن التصور الذي هو طلب معرفة ماهية المسئول عنه نحو: أقائم زيد أم عمرو؟ ويستفهم بها عن التصديق الذي هو حكم على الماهية نحو: أزيد قائم؟ وليس ذلك لغيرها من الأدوات، فهل مختصة بالتصديق نحو: هل قام زيد؟ وبقية الأدوات مختصة بطلب التصور نحو: من جاءك؟ وما صنعت؟ وكم مالك؟ وأين بيتك؟ ومتى سفرك؟ ولأجل هذه الأصالة جاز حذفها مع بقاء معناها إذا دل عليها الخطاب، قال الشاعر:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريًا = بسبعٍ رمين الجمر أم بثمان
وقال آخر:
تروح إلي الحي أم تبتكر = وماذا يضرك أن تنتظر
وعليه قراءة ابن محيصن: [سواءٌ عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم] بحذف الهمزة لأن أم تدل على الهمزة، وأما إذا لم يدل الخطاب فلا يجوز حذفها وقد أنكر على عمر بن أبي ربيعة قوله:
ثم قالوا تحبها قلت: بهرًا
فإن قيل: قد حذفها امرؤ القيس في قوله:
أصاح ترى برقًا أريك وميضه
فالجواب أن ألف النداء دلت على همزة الاستفهام.
وقد ترد مع ذلك لمعان أخر بحسب مناسبة المقام، أحدها: التسوية، وذلك في كل همزة يصح حلول المصدر محلها كقوله تعالى: {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم}.
{سواءٌ عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم}، وكقول الشاعر:
ما أبالي أنب بالحزن تيسٌ = أم لحاني بظهر غيبٍ لئيم
الثاني: الإنكار والتكذيب كقوله تعالى: {أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثًا}، وقوله تعالى: {فاستفهم ألربك البنات ولهم البنون}، وكقول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي = ومسنونةٌ زرقٌ كأنياب أغوال
وجعل منه ابن هشام رحمه الله تعالى: {أليس الله بكافٍ عبده}، وقول الشاعر:
ألستم خير من ركب المطايا = وأندى العالمين بطون راح
ومثل قوله تعالى: {ألست بربكم}، وهذا غفلة منه وسهو، فإن معنى الهمزة في ذلك التقرير إذ المخاطب بالمدح لا ينكر ذلك في نفسه ولم يتقدم ما يقتضي النفي لفضلهم حتى ينكره الشاعر ويبطله وإنما أراد التقرير وحملهم على الإقرار بما قاله لهم، وكذا لا منكر لربوبية الله سبحانه ولا نافي لها حينئذٍ، ولهذا كان جوابهم: بلى، وإنما أراد حملهم على الإقرار بربوبيته جل جلاله، نعم يحتمل قوله تعالى: {أليس الله بكافٍ عبده} الإنكار عليهم فكأنهم لما خوفوه بغير الله جل جلاله أنكر عليهم فعلهم ونفاه وأبطله ولكنه في التقرير أظهر منه في الإنكار والتكذيب.
الثالث: اللوم والتوبيخ، كقول الله سبحانه: {أتعبدون ما تنحتون}، وقوله تعالى: {أتأتون الذكران من العالمين}، وكقول العجاج:
أطربًا وأنت قنسري = والدهر بالإنسان دواري
أي: وأنت شيخ.
الرابع: التقرير: ومعناه حملك المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد استقر عنده ثبوته أو نفيه كقول الله سبحانه: {ألست بربكم} وقوله تعالى: {أليس ذلك بقادرٍ على أن يحيي الموتى}، وقوله تعالى: {أليس الله بأحكم الحاكمين}.
الخامس: التهكم نحو: {أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا}.
السادس: الأمر، كقوله تعالى: {وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم}، أي: أسلموا، ذكره بعضهم.
السابع: التعجب نحو قوله تعالى: {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل}.
الثامن: الاستبطاء، كقوله تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق}.
ووقع لي معنى تاسع ولم أره لأحد وهو الامتنان، كقوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك}.
(فصل)
أجل بسكون اللام حرف جواب مثل نعم، قال الأخفش: إلا أنه أحسن من نعم في التصديق ونعم أحسن منه في الاستفهام فإذا قال: «سوف أذهب» قلت: أجل، وكان أحسن من نعم، وإذا قال: أتذهب؟ قلت: نعم، وكان أحسن من أجل، وقيل: تختص أجل بالخبر، وهو اختيار جماعة منهم الزمخشري، وابن مالك). [مصابيح المغاني: 61-77]
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): ( (فصل)
إذ، وإذ ما، وإذا، وإذن.
أما «إذ» فإنها اسم إمَّا دائمًا أو غالبًا، وسيأتي بيان ذلك قريبًا إن شاء الله تعالى: «وحقه أن يكون مضافًا إلى جملة فتقول: جئتك إذ قام زيد، وإذ زيد قائم» وإذ يقوم زيد، إذا كان بمعنى الماضي كقول الله تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت}.
فإذا لم تضف نونت قال أبو ذؤيب:
نهيتك عن طلابك أم عمروٍ = بعافيةٍ وأنت إذ صحيح
وإذا حذفت بعض الجملة قدرت تمامها، قال الشاعر:
هل ترجعن ليالٍ قد مضين لنا = والعيش منقلب إذ ذاك أفنانا
التقدير: والعيش منقلب أفنانًا إذ ذاك كذلك.
ولها معان ستة:
الأول: وهو المشهور: تكون بمعنى الزمن الماضي ولها أربعة استعمالات:
أولها: وهو الغالب عليها أن تكون ظرفًا بمعنى الحين نحو قوله تعالى: {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا}.
ثانيها: أن تكون مضافًا إليها اسم زمان نحو يومئذ، وحينئذ، وقد يحذف المضاف أيضًا قال أبو ذؤيب:
نهيتك عن طلابك أم عمرو = بعافية وأنت إذ صحيح
ثالثها: أن تكون اسمًا مفعولًا به كقوله تعالى: {واذكروا إذ كنتم قليلًا فكثركم} والغالب على المذكورة في أوائل القصص في القرآن العزيز أن تكون مفعولًا بها والتقدير: اذكر، نحو: {وإذا قال ربك للملائكة}.
ولا يجوز أن تكون ظرفًا ليذكر لأنه يقتضي طلب المحال وهو طلب الذكر في ذلك الزمن الذي قد مضى قبل وجود المخاطبين والمراد ذكر الوقت نفسه لا الذكر فيه.
رابعها: أن تكون بدلًا من المفعول به نحو قوله تعالى: {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت}.
ومنه جمهور النحاة الاستعمالين الأخيرين، وإنما هي فيهما ظرف لمفعول محذوف تقديره: واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم قليلًا، واذكر قصة مريم إذا انتبذت.
المعنى الثاني: واختاره ابن مالك أن تكون اسمًا للزمن المستقبل نحو قول الله تعالى: {يومئذٍ تحدث أخبارها} وقوله تعالى: {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس} والجمهور لا يثبتون هذا المعنى لإذ وينزلون المستقبل الواجب الوقوع منزلة الماضي الذي قد وقع، وربما تأول بعضهم ذلك فقال: قال الله تعالى ذلك لعيسى لما رفعه إليه.
واحتج المثبتون بقوله تعالى: {فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم} فإن يعلمون مستقبل لفظًا ومعنى لدخول حرف التنفيس عليه، ويقول الشاعر:
ستندم إذ يأتي عليك رعيلنا = بأرعن جرارٍ كثيرٍ صواهله
والجمهور ينزلونه أيضًا على ما تقدم.
الثالث: تكون للتعليل، كقوله تعالى: {ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون}، أي: ولن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب لأجل ظلمكم في الدنيا، ومثله: {وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفكٌ قديم}.
ومنه قول الشاعر:
فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم = إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر
وهل هذه حرف بمنزلة لام العلة لبعد تقديرها بالظرف أو ظرف وإنما استفيد التعليل من قوة الكلام لا من اللفظ؟ كما إذا قال: ضربته إذ أساء.
فإنه إذا أراد الوقت اقتضى ظاهر الحال وقرينة المقال أن الإساءة سبب الضرب وفي ذلك قولان والجمهور قائلون بظرفيتها ومانعون حرفيتها.
الرابع: تكون للمفاجأة نص عليه سيبويه وهي الواقعة بعد بينا وبينما ولا يليها إلا الفعل الواجب، تقول: بينا أنا كذلك إذ جاء زيد، قال الشاعر:
استقدر الله خيرًا وارضين به = فبينما العسر إذ دارت مياسير
وكذلك اختلفوا هل هي ظرف زمان أو مكان أو حرف بمعنى المفاجأة؟
الخامس: تكون زائدة للتوكيد، قاله أبو عبيدة، وابن قتيبة، وحملا عليه آيات من القرآن العزيز، كقوله: {وإذ قال ربك للملائكة}، واختار الأصمعي زيادتها بعد بينما واستفصح، وتبعه ابن الشجري وأنشد:
فبينا نحن نرقبه أتانا = معلق وفضةٍ وزناد راع
السادس: تكون للتحقيق بمعنى قد، وقد حمل عليه قوله تعالى: {وإذ قالت الملائكة} وما أشبه ذلك، قال ابن هشام: وهذا والذي قبله ليسا بشيء.
وأما إذما فإنها تأتي أداة شرط وجزاء تجزم فعلين مضارعين، قال العباس بن مرداس:
إذ ما أتيت على الرسول فقل له = حقًا عليك إذا اطمأن المجلس
يا خير من ركب المطي ومن مشى = فوق التراب إذا تعد الأنفس
وهي حرف عند سيبويه، وظرف عند المبرد والفارسي، وابن السراج.
وأما إذا فتأتي على أوجه:
الأول: أن تكون اسمًا للزمن المستقبل وتختص بالجملة الفعلية، وإن قع بعدها اسم فهو مرفوع بفعل مقدر، ومعناها الشرط وتحتاج إلى جواب كسائر أدوات الجزاء ولكنها لا تجزم إلا في الضرورة، كقول الشاعر:
واستغنٍ ما أغناك ربك بالغنى = وإذا تصبك خصاصة فتحمل
ومن شرطها أن يكون التعليق بها على أمر معلوم مقطوع بوقوعه كقول: إذا زالت الشمس آتيك بخلاف إن، فإنها لا يكون التعليق بها إلا في مبهم مشكوك فيه، ولهذا ذكر الله سبحانه في المتحقق الوقوع، إذا، فقال: {وإذا مسكم الضر في البحر}، وقال فيما لا يتحقق فيه الوقوع إلا على بعد وشك: {وإذا مسه الشر فذو دعاءٍ عريضٍ}.
ولأجل هذا ضعفوا التأويل المروي عن إسحاق بن راهويه في قوله صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه في ساعة واحدة» إن معناه: إذا اشتهى الولد ولكن لا يشتهيه، وسيأتي مزيد بيان في الكلام على إن.
ولها ثلاثة استعمالات:
أحدها: أن يكون المأمور به قبل الفعل تقول: إذا أتيت المسجد فالبس أحسن الثياب، ومنه قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم}، وقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم}.
ثانيها: أن يكون في الفعل نحو قوله: إذا قرأت فترسل.
ثالثها: أن يكون بعد الفعل نحو قوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا}، وقوله تعالى: {وإذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله}.
الثاني: أن تكون للمفاجأة فتختص بالجمل الاسمية إمَّا حرفًا، كما قاله الأخفش، أو ظرف مكان، كما قاله المبرد وابن عصفور، واختاره ابن مالك، وإمَّا ظرف زمان كما قاله الزجاج والزمخشري.
ومعناها الحال، كقول الله جل جلاله: {فإذا هي حية تسعى}، {فإذا هي بيضاء للناظرين}، وترتفع الجملة بعدها على الابتداء والخبر ورد في القرآن العظيم، وهذا مذهب سيبويه، وأجاز الكسائي النصب ورواه عن العرب وأنكره سيبويه، والواقعة في مناظرتهما في ذلك مشهورة.
واختصت الفجائية بمصاحبة الفاء من بين حروف العطف لدلالتها على الربط الفوري لأن المفاجأة كالفور، والفاء مختصة بالفور.
الثالث: أن تكون جوابًا للشرط بمنزلة الجواب بالفاء والفعل، وتقع بعدها جملة مبتدأة كقول الله سبحانه: {وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون} معناه: فهم يقنطون، وكقوله تعالى: {فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون} وقد اجتمعت الشرطية والجزائية في قوله تعالى: {ثم إذا دعاكم دعوةً من الأرض إذا أنتم تخرجون}.
وفي قوله تعالى: {فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون}.
الرابع: أن تكون اسمًا للزمن الماضي كإذ في قول بعضهم، واختاره ابن مالك كقوله تعالى: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا}، وقوله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهوًا انفضوا إليها} وقول الشاعر:
وندمانٍ بزيد الكأس طيبًا = سقيت إذا تغورت النجوم
الخامس: أن تكون بمعنى الزمن الحاضر، كقوله تعالى: {والليل إذا يغشى}، {والنجم إذا هوى}، ولا يجوز أن يكون معناها هنا الاستقبال؛ لأنه يلزم منه أن تكون ظرفًا لفعل القسم، أي: إذا يغشى الليل أقسم لأن القسم إنشاء في الحال لا إخبار عن قسم يأتي، ولأن قسمه سبحانه قديم، والتقدير: أقسم بالليل وقت غشيانه.
السادس: أن تكون زائدة، ذكره قوم وأنشدوا قول عبد مناف بن ربع الهذلي:
حتى إذا أسلكوهم في قتائدةٍ = شلا كما تطرد الجمالة الشردا
المعنى: حتى أسلكوهم ... وقول الآخر:
فإذا وذلك لا مهاه لذكره = والذكر يعقب صالحًا بفساد
والمعنى: وذلك، وحملوا عليه قول الله تعالى: {إذا السماء انشقت} وحملوا الماضي هنا على تأويل المستقبل كقوله تعالى: {أتى أمر الله}، وقوله تعالى: {اقتربت الساعة}، وأنكر قوم زيادتها وقالوا: التقدير إذا انشقت السماء، فهو جواب لها، وقول القائل: حتى إذا أسلكوهم، فجوابه: شلا، يقول: حتى إذا أسلكوهم شلا، وأما البيت الثاني فالواو مقحمة والمعنى: فإذا ذلك.
وأما «إذن» فالكلام في حقيقتها وحكمها ومعناها.
أما حقيقتها فقيل اسم، وقال الجمهور بحرفيتها وعلى هذا فقيل: إنها مركبة من إذ وإن والصحيح أنها بسيطة.
وأما حكمها فالنصب للفعل المضارع، وشرط إعمالها ثلاثة أمور:
أحدها: التصدر في أول الكلام، فإن تأخرت ووقعت حشوًا أهملت كقول الشاعر:
لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها = وأمكنني منها إذن لا أقيلها
وأما قول الشاعر:
لا تتركني فيهم شطيرًا = إني إذن أهلك أو أطيرا
فقيل: ضرورة، أو الخبر محذوف، أي: إني لا أستطيع ذلك ثم استأنف ما بعده.
ثانيها: أن يكون الفعل مستقبلًا، فإن كان الواقع بعدها فعل الحال لم تعمل فيه ووجب الرفع كقولك: إذن تصدق، جوابًا لمن قال: إني أحبك؛ لأن الحال لا تعمل فيها العوامل الناصبة.
ثالثها: أن يكون المستقبل متصلًا بها، فإن فصلت بينهما وجب الرفع، كقولك: إذن يا عبد الله أكرمك، ويجوز الفصل بالقسم، كقول الشاعر:
إذن والله نرميهم بحربٍ = تشيبُ الطفل من قبل المشيب
وروى عن سيبويه عن عيسى بن عمر: أن ناسًا من العرب يرفعون ما بعده في الجواب.
ويوقف عليها بالألف تشبيهًا بالتنوين، وقيل: بالنون كـ «إن ولن» ويروى عن المبرد والمازني.
وأما معناها: فالجواب والمكافأة على الفعل، قال الشاعر:
ازجر حمارك لا يرتع بروضتنا = إذن يرد وقيد العير مكروب
ويروى:
ازجر حمارك لا تنزع سويته
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إني إذن صائم».
ثم اختلف شراح كلام سيبويه، فقال الشلوبين معناها الجاب والجزاء في كل موضع، وقال الفارسي: في أكثر المواضع.
وقد تتمحض للجواب بدليل أنه يقال: أحبك، فتقول: إذن أظنك صادقًا وهذا لا مجازاة فيه). [مصابيح المغاني: 78-92]
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): ( (فصل)
أل ترد على أربعة أوجه:
أحدها: أن تكون اسمًا موصولًا بمعنى الذي وهي الداخلة على اسم الفاعل واسم المفعول.
الثاني: تكون حرف تعريف وتنقسم إلى تعريف عهد وتعريف جنس.
فأما العهد: فقد يكون ذكريا: كقول الله سبحانه: {كما أرسلنا إلى فرعون رسولًا فعصى فرعون الرسول}، وقوله سبحانه: {كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري}، ومعيار هذا أن يسد الضمير مسدها مع مصحوبها، كقولك: فعصاه فرعون، وإن سد مسدها دون مصحوبها فهي لبيان متعلق المعهود، كقول الله سبحانه: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى}، وكقولك ضرب زيد الظهر والبطن، أي: المأوى له، وظهره وبطنه.
وقد يكون ذهنيًا: كقول الله جل جلاله: {إذ هما في الغار}، وقوله تعالى: {بالواد المقدس}، وقوله تعالى: {إذ يبايعونك تحت الشجرة}.
وكقول الشاعر:
ولقد أمر على اللئيم يسبني = فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
وهذا يقرب في المعنى من النكرة، ولأجل قربه من النكرة قدرت الجملة بعده وصفًا لا حالًا.
وقد يكون حضوريًا: كقول الله سبحانه: {اليوم أكملت لكم دينكم} وأما الجنس فإن خلفتها كلمة «كل» حقيقة فهي موضوعة لاستغراق أفراد الجنس كقول الله سبحانه: {وخلق الإنسان ضعيفًا}، وإن خلفتها مجازًا فهي موضوعة لاستغراق خصائص أفراد الجنس مبالغة نحو: زيد الرجل علمًا، وإن لم تخلفها في الحالين فهي موضوعة لتعريف ماهية الجنس، كقوله تعالى: {وجعلنا من الماء كل شيء حي}، وكقولك: والله لا أتزوج النساء ولا ألبس الثياب، ولهذا يحنث بواحد منها.
والفائدة في هذه وإن شاركها الجنس المنكر في تعريف حقيقة الماهية أن هذه تدل على حقيقة الماهية بقيد حضورها في الذهن بخلاف الجنس المنكر فإنه يدل على حقيقة الماهية دلالة مطلقة من غير اعتبار قيد.
ومرادنا بكل الخالفة كل الإفرادية لا المجموعية، فإن معنى قوله تعالى: {وخلق الإنسان ضعيفًا}، وخلق كل فرد من أفراد الإنسان ضعيفًا لا مجموع الإنسان وإن كان الضعف صادقًا على المجموع، ولهذا لا يجوز وصف الجنس بلفظ الجمع.
الثالث: أن تكون زائدة، أي: غير معرفة، وتنقسم إلى لازمة وغير لازمة، فغير اللازمة كالألف واللام التي يقصد بها التفخيم ولمح الصفة في الأصل المنقول عنه، وذلك في بعض الأعلام كالحارث والعباس والضحاك والحسن والحسين وذلك في أسماء مسموعة ولا يقاس عليها غيرها من الأعلام كمحمد وصالح وعمرو وزيد.
وأما اللازمة فكالتي في بعض الأسماء المقارنة لوضعها كالسموءل والآن واللات والعزى، أو المقارنة للتعريف بها كالنجم للثريا، والمدينة لطيبة الشريفة والبيت للكعبة المشرفة.
وهذه اللام الزائدة أعني اللازمة وغير اللازمة هي الداخلة على اسم الله وصفاته جل جلاله، وإنما كانت هذه لازمة لأن الأعلام مستغنية عن التعريف بالألف واللام، بل لا يجامعها التعريف بالألف واللام، ولما غلبت هذه الأسماء على هذه المسميات مع اقترانها باللام دون اقترانها كانت أعلامًا معها ولا تكون أعلامًا بدونها، وهي في الحقيقة لام العهد، لكن الفرق بين مصحوب هذه اللام ومصحوب لام العهد التقدم ذكرها أن هذه مسماها معنى جزئي متعين تعيينًا مطلقًا، فإذا قلت: زرت البيت، وسافرت إلى المدينة ورأيت النجم، علم سامعك أنك إنما أردت الكعبة وطيبة والثريا ولا يفهم أنك أردت غير ذلك إلا إذا كانت ثم قرينة من عهد فحينئذٍ يفهم ما عهد منك وهذا هو السر الموجب للزوم اللام في هذه الأعلام دون تلك، وفرق ظاهر بين الذي تعرف عين مسماه بلفظه والذي لا تعرف عين مسماه إلا بلفظه من غيره وبين الذي يعرف في أول وهلة والذي يعرف في ثاني وهلة فهذا هو الفرق بين علم العهد ومسمى العهد ولم أر واحدًا سبقني إلى تحقيق هذا، والحمد لله رب العالمين.
فإن قلت: فما الفرق بين علم الجنس واسم الجنس؟
قلنا: قال الشيخ أبو العباس القرافي: هذا السؤال «من نفائس المباحث ومشكلات المطالب وكان الخسرو شاهي يقرره ولم أسمعه إلا منه، وكان يقول ما في الديار المصرية من يعرفه».
وهو أن الوضع فرع التصور، فإذا استحضر الواضع صورة الأسد ليضع لها لفظًا فتلك الصورة الكائنة في ذهنه هي جزئية بالنسبة إلى مطلق صورة الأسد، فإن صورة الأسد واقعة في هذا الزمان، ومثلها تقع في زمان آخر وفي ذهن شخص آخر والجميع مشترك في مطلق صوة الأسد فهذه الصورة جزئية في مطلق صورة الأسد، فإن وضع لها من حيث خصوصها فهو علم الجنس، أو من حيث عمومها فهو اسم الجنس، وهي من حيث خصوصها وعمومها تنطبق على كل أسد في العالم بسب أنا إنما أخذناها في الذهن مجردة عن جميع الخصوصيات فتنطبق على الجميع، فلا جرم يصدق لفظ الأسد وأسامة على كل أسد لوجود المشترك فيها كلها، فيقع الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس بخصوص الصورة الذهنية، وانتهى جوابه هكذا حكاه وقرره أبو العباس وكأنه ارتضاه وهو جواب فاسد باطل؛ لأنه لو كان الأمر على ما ذكر من أن الأسماء بحسب التصور في الذهن، فإن تصورت ماهية جزئية وسميتها من حيث خصوصها كان علم الجنس وإن تصورتها كلية مشتركة كان اسم الجنس للزم ذلك في كل جنس من الأجناس، وكان يجب أن يقال في كل واحد من الرجال والفرس والطير والبر والتمر والشعير والنعم هو علم جنس باعتبار خصوص الصورة الذهنية، واسم جنس باعتبار عموم الصورة الذهنية، ولم يقل بهذا أحد من الفضلاء ومن ارتكب ذلك، وقال به فقد هدم لغة العرب التي نزل بها التنزيل، ووجب الإعراض عنه؛ لأن العرب إنما تريد بالكلام والتسمية فهم السامع معاني المسميات لتتعارف بذلك في مخاطباتها فلا تحتاج إلى من يعلمها لغتها، ويفهمها معاني أسمائها، ولو كان الأمر على ما ذكر هذا القائل لما عرف بعضها خطاب بعض، وكان يقول القائل: بأن الكلمة موضوعة لمعنى خاص تارة، ولمعنى عام تارة أخرى، ولما جاز أن يعلق بذلك حكمًا من أحكام لسانها لعدم الوثوق بفهم المعنى.
والجواب الحق: أن علم الجنس واقع على معنى كلي مشترك كاسم الجنس لا فرق بينهما في المعنى ولهذا لقبه أهل العلم باللسان بعلم الجنس، وذلك لأن الاسم المعرف لا يخلو إمَّا أن يكون المراد به نفس حقيقة الماهية مجردة عن الوحدة والتعدد فهو اسم الجنس وفي معناه علم الجنس، وإمَّا أن يكون المراد به فردًا معينًا فهو المعهود الخارجي وفي معناه علم الخاص كزيد وعمرو، وإمَّا أن يكون المراد به فردًا غير معين فهو المعهود الذهني كقوله:
ولقد أمر على اللئيم يسبني
وفي معناه النكرة.
وإنما الفرق بين علم الجنس واسم الجنس من جهة الأحكام العربية فعلم الجنس لا تدخل عليه أل كما لا تدخل على علم الشخص، ولا تدخله الإضافة كالعلم أيضًا وإذا اجتمع فيه مع العلمية علة أخرى امتنع من الصرف، كقولك: أسامة وثعالة، وغير ذلك من أحكام الأعلام الشخصية فهو يشبه العلم في أحكامه، ويشبه الجنس في معناه، وقد ذكر هذا كما ذكرته أئمة اللسان فقالوا: علم الجنس شائع في جنسه لا يختص به واحد دون آخر كالنكرة، ولم يعلقوا معرفة حقيقتهما على التصور الجزئي والكلي والله أعلم). [مصابيح المغاني: 92-98]