الدرس الثاني
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): ( (فصل)
ألاَ بالفتح والتخفيف، وألاَّ بالفتح والتشديد، وإلى بالكسر والتخفيف، وإلاَّ بالكسر والتشديد.
أما ألاَ بفتح الهمزة والتخفيف فلها خمسة معان:
أحدها: التنبيه فتفيد التحقيق فتقول: ألا إن زيدًا خارج، كما تقول: اعلم أن زيدًا خارج، فتدخل على كلام مكتف بنفسه كقولك: ألا يا زيد أقبل، ألا إن القوم خارجون، ومنه قوله تعالى: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم}، {ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون}.
وقول الشاعر:
ألا يا زيدُ والضحاك سيرا = فقد جاوزتما خمر الطريق
الثاني: التوبيخ والإنكار وهو الغالب عليها كقول الشاعر:
ألا ارعواء لمن ولت شبيبته = وآذنت بمشيبٍ بعده هرم
الثالث: التمني وهو كثير، كقول الشاعر:
ألا عمر ولى مستطاع رجوعه = فيرأب ما أثأت يد الغفلات
ومنه عند يونس والأخفش قول الشاعر:
ألا رجلًا جزاه الله خيرًا = يدل على محصلةٍ تبيت
وقال: إن تنوين رجلًا للضرورة، كقوله:
سلام الله يا مطر عليها
الرابع: الاستفهام عن النفي وهو قليل حتى توهم الشلوبين عدم وقوعه، قال الشاعر:
ألا اصطبار لسلمى أم لها جلدٌ = إذن ألاقي الذي لاقاه أمثالي
الخامس: العرض والتحضيض ومعناهما طلب الشيء، ولكن العرض طلب بلين والتحضيض طلب بحث، ويختص هذا القسم بالدخول على الجملة الفعلية، كقوله سبحانه وتعالى: {ألا تحبون أن يغفر الله لكم}.
{ألا تقاتلون قومًا نكثوا أيمانهم}، ومن التحضيض عند الخليل قول الشاعر:
ألا رجلًا جزاه الله خيرًا
والتقدير: ألا تروني رجلًا هذه صفته، وحذف الفعل لدلالة المعنى عليه، وقدر بعضهم نصب رجلًا بفعل محذوف يفسره ما بعده، والتقدير: ألا جزى الله رجلًا جزاه خيرًا، وضعف هذا بأن القائل إنما قصد طلب هذا الرجل الدال وبتقدير الدعاء يفوت الطلب، ولقائل أن يقول: بالدعاء يحصل الطلب لما فيه من الترغيب على تحصيل المطلوب ورجح قول الخليل على قول يونس والأخفش لخلوه من الضرورة.
وأما ألَّا بالفتح والتشديد فإنها تستعمل على وجهين: مفردة ومركبة.
فأما المفردة: فهي حرف يختص بالجمل الفعلية كسائر أدوات التحضيض، وقد تبدل همزتها هاء، قال الشاعر:
ونبئت ليلى أرسلت بشفاعةٍ = إليَّ فهلا نفس ليلى شفيعها
وأما المركبة: فنحو قوله تعالى: {ألا تعلوا عليَّ}، وقوله تعالى: {ما منعك ألَّا تسجد إذ أمرتك}، وقول الشاعر:
ولا ألوم البيض ألا تسخرا = وقد رأين الشمط القفندرا
وهي مركبة من أن ولا، فقد تكون أن: المخففة، وقد تكون الناصبة للفعل، وقد تكون المفسرة، وقد تكون لا: الناهية، وقد تكون لا النافية، وقد تكون الزائدة.
وأما إلى بالكسر والتخفيف: فهي حرف من حروف الجر، ومعناها: انتهاء الغاية الزمانية والمكانية، كقوله سبحانه: {ثم أتموا الصيام إلى الليل}، وكقوله سبحانه: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى}، ثم إن دلت قرينة على دخول الغيا دخل كقولك: قرأت القرآن إلى آخره، وإن دلت على خروجه خرج، كقوله تعالى: {فنظرةٌ إلى ميسرة}.
وإن لم يدل على شيء فقيل: إن كان من الجنس دخل، كقوله تعالى: {وأيديكم إلى المرافق}، {وأرجلكم إلى الكعبين}، وقيل: بالدخول مطلقًا، وقيل بعدمه مطلقًا، قال ابن هشام: «وهو الصحيح لأن الأكثر في الاستعمال عدم الدخول فيجب الحمل عليه عند التردد».
ثم تأتي لمعان أخر:
أحدها: تكون بمعنى مع، قاله الكوفيون وجماعة من البصريين كقولهم: الذود إلى الذود، قال امرؤ القيس:
له كفل كالدعص لبده الندى = إلى حارك مثل الغبيط المذاب
وقال آخر:
شد خت غرة السوابق فيهم = في وجوه إلى اللمام الجعاد
ومنه قول الله سبحانه: {من أنصاري إلى الله}، وقوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم}، وقوله تعالى: {وإذا خلوا إلى شياطينهم}، وأول ذلك المانعون بالغاية.
الثاني: التبيين: وهي أن تكون مبينة لفاعلية مجرورها بعدما يفيد حبا أو بغضًا من فعل تعجب أو اسم تفضيل، كقوله تعالى: {قال رب السجن أحب إلي}.
الثالث: تكون بمعنى اللام، نحو قوله تعالى: {والأمر إليك}.
وقيل: إن إلى هنا لانتهاء الغاية أي: منته إليك، ونحو قول الشاعر:
فالحق ببجلة ناسبهم وكن معهم = حتى يعيروك مجدًا غير موطود
واترك تراث خفاف إن هم هلكوا = وأنت حي إلى رعلٍ ومطرود
يقول: «اترك تراث خفاف لرعل ومطرود، وخفاف ورعل ومطرود بنو أب واحج».
الرابع: أن تكون بمعنى: «في» ذكره جماعة في قول النابغة الذبياني:
فلا تتركني بالوعيد كأنني = إلى الناس مطلي به القار أجرب
وقال طرفة:
وإن يلتق الحي الجميع تلاقني = إلى ذروة البيت الكريم المصمد
أي: في ذروة البيت، وقيل: إنها هنا بمعنى مع، أي: مع ذروة البيت.
قال ابن مالك: ويمكن أن يكون منه قوله تعالى: {ليجمعنكم إلى يوم القيامة}.
الخامس: تكون بمعنى الباء، ذكره بعضهم، وأنشد قول كثير:
ولقد لهوت إلى الكواعب كالدمى = بيض الوجوه حديثهن رخيم
أراد: لهوت بكواعب، وأنشد قول النابغة أيضًا:
فلا عمرو الذي أثني عليه = وما رفع الحجيج إلى ألال
أراد: وما رفع الحجيج أصواتهم بألال.
السادس: تكون بمعنى عند، ذكره ابن هشام وأنشد:
أم لا سبيل إلى الشباب وذكره = أشهى إلي من الرحيق السلسل
والذي يظهر لي أن معناها في البيت التبيين للفاعل المجرور بها كما في قوله تعالى: {رب السجن أحب إلي}، ولا يتقيد التبيين بالحب والبغض ولو استشهد بقول الراعي كان أجود، قال:
ثقال إذا زار النساء خريدةٌ = حصان فقد سادت إلي الغوانيا
السابع: تكون زائدة مؤكدة، أثبت ذلك الفراء مستدلًا بقراءة بعضهم: {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم} بفتح الواو، أي: تهواهم، ولكن خرجت هذه القراءة على تضمن (تهوى) معنى تميل، كذا أثبته أبو عبيدة وخرج عليه قوله تعالى: {وإذ أوحيت إلى الحواريين}، وجعلت: أوحيت بمعنى: أمرت.
وأما إلا بالكسر والتشديد فإنها تستعمل على وجهين مفردة ومركبة فأما المفردة فهي أم حروف الاستثناء وتأتي على خمسة أوجه:
الأول: الاستثناء: وهو إخراج المستثنى مما دخل فيه المستثنى منه فقد يكون من موجب كقوله تعالى: {فشربوا منه إلا قليلًا منهم}، وقد يكون من منفي كقوله تعالى: {ما فعلوه إلا قليلٌ منهم}، ويكون فيها من المعنى تحقيق ما نفي عن الاسم الذي قبلها، وخالف الحنفية في هذا، وخالف المتأخرون منهم في النوعين: الاستثناء من الإثبات ومن النفي، وقالوا: الكل سواء في عدم إثبات نقيض المحكوم به بعد إلا.
وصورة المسألة: أنا إذا قلنا: قام القوم إلا زيدًا، فقد اتفق الفريقان على أن «إلا» مخرجة، وزيدًا مخرجٌ، وما قبل «إلا» مخرج منه غير أنه تقدم قبل إلا شيئان القيام والحكم به، والقاعدة العقلية أن من خرج من نقيض دخل في النقيض الآخر، فمن خرج من العدم دخل في الوجود وبالعكس.
واختلفوا في إن زيدًا هل هو مخرج من القيام وهو مذهب الشافعية والمالكية أو من الحكم به وهو مذهب الحنفية، فعندنا لما خرج من القيام دخل في عدم القيام فهو غير قائم، وعندهم خرج من الحكم بالقيام فدخل في عدم الحكم به فهو غير محكوم عليه.
لنا أنه لو كان كذلك لم تفد كلمة الشهادة الإسلام، لأنه يلزم أن يكون الله سبحانه غير محكوم له باستحقاق الألوهية، لأنه حينئذٍ مستثنى من الحكم فهو غير محكوم له بشيء من الإلاهية، وتعالى الله سبحانه عن ذلك.
ولأنه لو قال عند الحاكم، ليس له عندي إلا مائة درهم، يلزم أن يكون غير معترف، فلا يلزمه الحاكم شيئًا؛ لأنه نفي لغير المائة والمائة غير محكوم عليها.
وأجابوا بأن الإلاهية إنما تثبت والمائة إنما لزمت بقرائن الأحوال الدالة على ثبوت ذلك الحكم لذلك المستثنى لا باللفظ لغة بل عرفًا، وربما احتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة إلا بطهور».
«لا نكاح إلا بولي» ونحو ذلك فقالوا: لو كان الاستثناء من النفي إثباتًا لزم ثبوت صحة الصلاة عند الطهور، وصحة النكاح عند وجود الولي وهو خلاف الإجماع.
والجواب: أن الاستثناء من الشروط ليس محل النزاع، فإنه لا يلزم من القضاء بالنفي لأجل عدم الشرط أن يقتضي بالوجود لأجل وجوده لما تقرر عند الجميع أن الشرط لا يلزم من وجوده وجود ولا عدم فلينتبه لذلك.
والاستثناء متصل نحو: قام القوم إلا زيدًا، ومنفصل نحو: ما في الدار أحد إلا حمارًا. وهو مقدر بلكن عند البصريين، ويسوى عند الكوفيين، وفي كلام التقديرين معنى المغايرة، لن رجح البصريون تقديرهم بأن لكن حرف، وسوى اسم، وتقدير الحرف بالحرف أولى من تقديره بالاسم، وقد ورد به القرآن الكريم واللسان العربي كثيرًا، قال الله سبحانه {طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى}.
وقال تعالى: {فبشرهم بعذاب أليم إلا الذين آمنوا}، وقال تعالى: {فلا يظهر على غيبه أحدًا إلا من ارتضى من رسولٍ فإنه يسلك}.
وقال الشاعر:
كذب الشباب عليَّ إلا أنني = أضربت عن لذاته فقلاني
والاختيار نصب المستثنى على كل تقدير لانقطاعه من الذي قبله، قال الله تعالى: {ما لهم به من علم إلا اتباع الظن}، وقال الشاعر:
وقفت فيها أصيلًا كي أسائلها = عيت جوابًا وما بالربع من أحد
إلا أواري لأيا ما أبينها = والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد
وبنو تميم يبدلونه مجازًا فيقولون: ما في الدار أحدٌ إلا حمار، ولكن ضبطهما أعني المتصل والمنفصل مشكل، فإن كثيرًا من الفضلاء يعتقد أن المنقطع هو الاستثناء من غير الجنس، وليس كذلك فإن قوله: {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} منقطع، وقوله تعالى: {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارةٍ عن تراض منكم}، منقطع، مع أن المحكوم عليه بعد إلا هو عين الأموال التي حكم عليها قبل إلا، فينبغي أن يعلم أن المتصل عبارة عن: الحكم على جنس ما حكم عليه أولًا بنقيض ما حكم به أولًا فمتى انخرم قيد من هذين القيدين كان منقطعًا فيكون المنقطع هو: الحكم على غير جنس ما حكم عليه أولًا، أو الحكم بغير نقيض ما حكم به أولًا، وعلى هذا يكون الاستثناء في الآيتين منقطعًا للحكم فيهما بغير النقيض، فإن نقيض {لا يذوقون فيها الموت}: يذوقون فيها الموت ولم يحكم به، وإنما حكم بالذوق في الدنيا لا في الآخرة، ونقيض {لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل}: كلوها بالباطل ولم يحكم به، فافهم ذلك.
واختلف أهل العلم بالأصول في المنقطع هل هو استثناء على سبيل الحقيقة أو على سبيل المجاز على مذهبين.
وفي الاستثناء مسائل:
الأولى: يجوز أن يتقدم الاستثناء على المستثنى منه، قال الكميت:
ومالي إلا آل أحمد شيعةٌ = ومالي إلا مشعبَ الحق مشعبُ
الثانية: يجوز استثناء الأقل من الأكثر، والكثير مما هو أقل منه، ويجوز استثناء الأكثر.
يقول الله عز وجل: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين}، والغاوون أكثر بدليل قوله تعالى: {ولقد صدَّق عليهم ابليس ظنه}، مع قوله تعالى: {ولا تجد أكثرهم شاكرين}، وقال قوم: لا يجوز استثناء الأكثر.
ثم اختلف هؤلاء في المساوي فجوزه قوم ومنعه آخرون وهو قول مالك والقاضي أبي بكر الباقلاني وقول البصريين، وابعد قوم فقالوا: لا يجوز استثناء عقد تام، وإنما يجوز الكسر، فلا يجوز عشرة إلا واحدًا بل إلا نصف واحدٍ أو كسر من كسوره، وكذلك لا يجوز مائة إلا عشرة، وإلا ألف إلا مائة، لأن نسبة الواحد إلى العشرة كنسبة العشرة إلى المائة وكنسبة المائة إلى الألف، وزعموا أنه لم يقع في الكتاب والسنة إلا مذهبهم
قال الله تعالى: {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لله تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدًا» والصحيح الأول.
الثالثة: إذا تعقب الاستثناء جملًا، فإن منع الدليل من رجوعه إلى الجمل الأخيرة رجع إلى الجملة الأولى، كقوله تعالى: {وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلًا}، وذلك لأن من أصابهم فضل الله ورحمته لا يتبعون الشيطان إلا كلهم ولا بعضهم، والمردود إليهم الأمر المصون بالاستنباط لا يخرج منهم أحد عن علمه، فتعين رجوعه إلى الإذاعة وقد قيل: إن الاستثناء راجع إلى الجملة الوسطى وهي المردود إليهم، وكقوله تعالى: {فاسر بأهلك بقطعٍ من الليل ولا يتلفت منكم أحدٌ إلا امرأتك} على قراءة النصب.
وإن دل الدليل على عوده إلى الجميع رجع كقول الله سبحانه: {كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين أولئك جزاؤهم} إلى قوله: {إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم}.
وإن دل الدليل على قصره على الجملة الأخيرة قصر عليها، كقوله تعالى: [فأسر بأهلك بقطعٍ من الليل ولا يلتفت منكم أحدٌ إلا امرأتُك] على قراءة الرفع وتكون على هذه القراءة قد خرجت معهم ثم رجعت فهلكت، نقله بعض المصنفين عن المفسرين، وأنكر أبو عبيد الرفع على البدل من أحد لما فيه من إباحة الإلتفات لها وذلك لا يجوز، ولا يصح البدل إلا إذا رفعت «يلتفت» على النفي ولم يقرأ به أحد، وقال المبرد: مجاز هذه القراءة بأن المراد بالنهي المخاطب وإن كان اللفظ لغيره، فالنهي للوط عليه الصلاة والسلام أي: لا تدعهم يلتفتون إلا امرأتك وذلك كقوله: لا يقم أحدٌ إلا زيدٌ، معناه: انههم عن القيام إلا زيدًا، والأجود أن يقال: إن الاستثناء منقطع؛ لأن «لا» معناها النهي لا النفي، واستعمال المنقطع أحسن من التأويل.
وإن لم يدل الدليل على شيء من ذلك جاز رجوعه إلى الجميع عند الشافعية والمالكية، ويختص بالأخيرة عند الحنفية، وفصل بعضهم فقال: إن تنوعت الجملتان بأن تكون إحداهما خبرًا والأخرى أمرًا عاد إلى الأخيرة فقط، وإن لم تتنوع الجملتان في الأخرى فكذلك أيضًا، وإلا عاد إلى الكل، واختاره الإمام فخر الدين وتوقف القاضي أبو بكر في الجميع، وجعل الحكم للدليل، فإن دل على رجوعه إلى الجميع رجع، أو إلى البعض رجع إلى ذلك البعض، وإن لم يدل رجع إلى الأخيرة وتوقف فيما عدا ذلك.
الرابعة: إذا تكررت إلا بعد حرف العطف أو تلاها اسم مساو لما قبلها أو أكثر فهي زائدة للتوكيد، ويعود الاستثناء إلى أصل الكلام، كقولك: له عشرة إلا ثلاثة وإلا اثنين، وقولك: له عشرة إلا ثلاثة وإلا أربعة هذا في الأكثر، والمساوي: له عشرة إلا ثلاثة، وإلا ثلاثة؛ لأن إلا تقتضي الإخراج والعطف يقتضي الضم وهما متناقضان فجعل الحكم بالعطف، وفي غير ذلك لا تكون زائدة كقولك: قام القوم إلا زيدًا إلا عمرًا إلا بكرًا، بل تكون على حكم الاستثناء، ثم ينظر فإن كان الاستثناء لا يمكن استثناء بعضه من بعض كزيد وعمرو وبكر فالثاني تابع للأول، فإن كان المستثنى الأول داخلًا في الحكم فما بعده داخل وذلك إذا استثنى من غير موجب، وإن كان المستثنى الأول خارجًا فما بعده خارج وذلك إذا كان استثناء من موجب.
وإن كان يمكن استثناء بعضه من بعض كقولك: له عندي عشرة إلا اثنين إلا واحدًا، فقال قوم: الحكم كذلك ويكون الجميع مستثنى من أصل العدد فالمقر به ثلاثة، وقال البصريون والكسائي والجمهور: كل من الأعداد مستثنى مما قبله فيكون المقر به سبعة، وصحح هذا المذهب لحمله على الأقرب فإن الحمل على الأقرب متعين عند التردد، وإلا كان فيه ترجيح للبعيد على القريب، ولأن الاستثناء من الإثبات نفي، ومن النفي إثبات، ويدل له قوله تعالى: {إنا أرسلنا إلى قومٍ مجرمين إلا آل لوطٍ إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته}، فلا يجوز أن تكون مستثناة من المجرمين، وقيل: المذهبان محتملان فالمقر به محتمل للثلاثة والسبعة.
واحتج من قال بعوده على أصل الكلام أن أصل الاستثناء أن يكون عائدًا على ما صدر به الكلام فعوده على الاستثناء خلاف الأصل، ولأن أصل الكلام قابل للتنقيح والتخليص البيان فيرد الاستثناء عليه، ,وأما الاستثناء فقد تعين أنه غير مراد لإخراجه مما كان ظاهره الإرادة، فلو استثني منه عاد ناقضًا، وكلما زاد استثناؤه زاد نقضه لكلامه بخلف العود على أصل الكلام ليس فيه إلا نقض واحد فقط.
وذلك في معرفة التحصيل على القول الثاني طريقتان:
احداهما: أن تسقط الأول وتجبر الباقي بالثاني وتسقط الثالث، وعلى هذا كلما كثرت الاستثناءات.
والثانية: أن تحط الآخر مما قبله، ثم باقيه مما قبله وهكذا يعمل إلى الأول.
الوجه الثاني: أن تكون إلا بمنزلة غير في الوصف بالمغايرة وخلاف المماثلة ويتبع ما بعدها ما قبلها في الإعراب كما تجري «غير» إذا أردت بها النعت فتقول: قام القوم إلا زيد، فيرفع ما بعد إلا في الموجب لأنها نعت بمعنى غير، كما تقول: قام القوم غيرُ زيدٍ، فترفع غيرا بعد الموجب إذا أردت بها النعت لا الاستثناء قال عمرو بن معدي كرب:
وكل أخٍ مفارقه أخوه = لعمر أبيك إلا الفرقدان
وقال الآخر:
أنيخت فألقت بلدةً فوق بلدٍ = قليلٌ بها الأصوات إلا بغامها
وقال آخر:
لو كان غيري سُليمى الدهر غيره = وقع الحوادث إلا الصارم الذكر
فقوله: إلا الصارم الذكر صفة لغيري، ومنه قوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا}.
ومن شرطها: أن يوصف بها حيث يصح بها الاستثناء فتقول: عندي درهم إلا دانق، كما تقول: عندي درهم إلا دانقًا، وحيث لا يصح بها الاستثناء ولا يجوز، فلا تقل: عندي درهم إلا جيد، كما لا تقل: عندي درهم إلا جيدًا، هكذا قاله جماعة من النحاة، وشرط ابن الحاجب فيها تعذر الاستثناء وجعل قوله:
وكل أخٍ مفارقه أخوه
من الشذوذ.
الوجه الثالث: أن تكون عاطفة بمنزلة الواو في الجمع والتشريك، ذكره الأخفش والفراء وأبو عبيدة، قال الشاعر:
وارى لها دارًا بأغدرة السيدان = لم يدرس لها رسم
إلا رمادًا هامدًا دفعت = عنه الرياح خوالدٌ سحم
يريد: أرى لها دار ورمادًا، وجعلوا منه قوله تعالى: {لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا}، وقوله تعالى: {لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنًا بعد سوءٍ}، أي: ولا الذين ظلموا، ولا من ظلم وتأوله الجمهور على الاستثناء المنقطع.
الوجه الرابع: أن تكون زائدة، قاله الأصمعي، وابن جني واستدلا بقول ذي الرمة:
حراجيج ما تنفك إلا مناخة = على الخسف أو نرمي بها بلدًا قفرًا
وزيادته غلط من ذي الرمة، وقيل من الرواة، وأن الرواية «آلًا» بالتنوين أي شخصًا، نعم تكون زائدة إذا تكررت وتلاها اسم هو بدل كل من كل، أو جاءت بعد حرف عطف، وقد وقع الأمران في قولهم:
مالك من شيخك إلا عمله = إلا رسيمه وإلا رمله
فالرسيم بدل من العمل وهو ضرب من السير فوق الذميل، والرمل عطف على الرسيم وهو الهرولة.
الوجه الخامس: أن تكون بمعنى إمَّا، كقولك: إمَّا أن تكلمني وإلا فاسكت، تقديره: إمَّا أن تكلمني وإمَّا أن تسكت.
ومن تأمل ما ذكرناه وجد معانيها تؤول إلى ستة:
الإخراج فقط، ويدخل فيه التي بمعنى غير، وإن خالفتها في حكم الإعراب والإخراج مع التحقيق للمنفي في النفي، والاستدراك وهو الاستثناء المنقطع والتبيين، والتأكيد بالزيادة، والشرط.
وأما المركبة: فنحو قول الله تعالى: {إلا تنصروه فقد نصره الله}.
فهي مركبة من إن الشرطية ولا النافية ولهذا ترتب عليها فاء الجزاء). [مصابيح المغاني: 98-122]
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): ( (فصل)
أم بالفتح والتسكين، وأمَا بالفتح والتخفيف، وأمّا بالفتح والتشديد وإمَّا بالكسر والتشديد، وإمَّا لي بالكسر والتشديد والإمالة.
فأما «أمْ» فقال قوم هي حرف عطف، ومعناها: الاستفهام كالألف إلّا أنها لا تكون في أول الكلام لأن فيها معنى العطف.
وقال قوم هي: أو، أبدلت الميم من الواو لتحول إلى معنى زيد إلى معنى أو وهو قولك في الاستفهام: أزيدٌ قام أم عمرو؟ فالسؤال عن أحدهما بعينه، ولو جئت بأو لسألت عن الفعل لا عن أحدهما، وجواب أو: نعم أو لا، فإن أجبت بالتعيين صح؛ لأنه جواب وزيادة، وجواب أم: فلان.
والفرق بين وضعيهما أن أو تعطف بها بعد هل، كقولك: هل زيد في الدار أو عمرو، قال الله تعالى: {هل تحس منهم من أحدٍ أو تسمع لهم ركزا} وقال تعالى: {هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون} وقال زهير:
ألا ليت شعري هل يرى الناس ما أرى = من الأمر أو يبدو لهم ما بدا ليا
وقال آخر:
ألا ليت شعري هل تغيرت الرحا = رحا الحرب أو أمست بفلجٍ كما هيا
وأما «أم» فلا تأتي إلا بعد الهمزة كقول الشاعر:
ما أبالي أنب بالحزن تيسٌ = أم لحاني يظهر غيب لئيم
فإن جاءت بعد هل فهي المنقطعة، وأما همزة التسوية فمختصة بأم ولا يجوز أن تليها أو، فلا تقل: سواء عندي أقام أو قعد، وروي ان محمد بن محيصن قرأ من طريق الزعفراني (أو لم تنذرهم)، قال ابن هشام: وهو من الشذوذ بمكان.
وعندي أنه ليس كما زعم فإن ابن محيصن لا يهمز أنذرتهم، ويكون معنى قراءته الخبر لا الاستفهام والله أعلم.
والفرق بين معنييهما دقيق لطيف ولنبسط في أمثلته قليلًا ليتضح المعنى إن شاء الله فنقول:
إذا سال سائل: أقام زيدٌ أم عمرو، فإنه لا يعلم أقام أحدهما أو لم يقم فاستفهم هل وقع القيام من أحدهما أو لا، فالجواب: نعم أو لا، وإذا كان مكانها أم فقد علم أن أحدهما قام لكنه لم يعلم أيهما هو فاستفهم ليعرف القائم منهما والجواب أن تقول له: زيد أو عمرو، ولا يجوز أن تقول: نعم أو لا، وكذلك إذا قلت: أتقوم أو تقعد؟ فالجواب أن يقول: نعم أو لا، فإن جئت بأم فالجواب أن يقول: اقوم، أو أقعد، فإن قلت: أزيد أفضل أم عمرو؟ لم تعطف إلا بأم؛ لأن المعنى أيهما أفضل، ولو جئت بأو لم يجز لأنه يصير المعنى أأحدهما أفضل، وليس ذلك بكلام، ولكنك لو قلت: أزيدٌ أم عمرو أفضل أم بكر؟ لجاز لأن المعنى: أأحد هذين أفضل أم بكر، وجواب هذا أن تقول: بكر، إن كان هو الأفضل، أو تقول: أحدهما.
ومثله قول صفية بنت عبد المطلب فهو ابنها الزبير لما صارع غيره فصرعه:
كيف رأيت زبرًا
أإقطًا أو تمرا
أم صارمًا هزبرا
وليس منه قول الحارث بن كلدة:
وما أدري أغيرهم تناءٍ = وطول العهد أم مالٌ أصابوا
فعطف طول العهد على تناء بالواو وعطف المال بأم لأنه لم يرد أن يجعل طول العهد عديلًا للتنائي، بل جعلهما بمنزلة شيء واحد وعادل بينه وبين المال، فإن قيل: فقد قال ذو الرمة:
تقول عجوز مدرجي متروحًا = على بابها من عند أهلي وغاديا
أذ وزوجة بالمصر أم ذو خصومة = أراك لها بالبصرة العام ثاويا
فقلت لها: لا إن أهلي جيرةٌ = لأكثبة الدهنا جميعًا وماليا
وما كنت مذ أبصرتني في خصومة = أراجع فيها يا ابنة القوم قاضيا
فأجاب بلا، وأم لا تجاب إلا بالتعيين.
فالجواب: أن لا ليست جوابًا لسؤالها بل ردًا لما توهمته من وقوع أحد الأمرين ولهذا لم يكتف بقوله «لا» إذ كان ردًا لما توهمته لا لما تكلمت به، بل أجاب بالتعيين فقال: إن أهلي جيرة إلى آخر الأبيات.
وهي تأتي على وجهين متصلة ومنقطعة.
فأما المتصلة: فلها معنيان:
أحدهما: التسوية وهي العاطفة بعد همزة التسوية كقول الله سبحانه: {سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم}، وكقول زهير:
وما أدري وسوف إخالُ أدري = أقومٌ آل حصنٍ أم نساء
وهذا النوع لا يستحق جوابًا لأنه خبر لا استفهام.
الثاني: الاستفهام، كأن تقول: أزيدٌ في الدار أم عمرو؟ تريد أيهما وهذا النوع يستحق الجواب؛ لأن الاستفهام طلب.
وإنما سميت في هذين النوعين متصلة لاتصال ما بعدها بما قبلها؛ إذ لا يستغني بأحدهما عن الآخر، وتسمى أيضًا المعادلة: لمعادلتها الهمزة في إفادة التسوية في النوع الأول والاستفهام في النوع الثاني.
الوجه الثاني: أن تكون منقطعة، وسميت منقطعة لانقطاعها مما قبلها وما بعدها من الكلام قائم بنفسه، ولها ثلاثة معان:
أحدها: وهو ملازم لها لا يفارقها الإضراب وحده كبل، قال الفراء:
يقول: هل لك قبلنا حق أم أنت رجل ظالم، يريدون: بل أنت.
ومنه قول الله سبحانه: {قل هل يستوي الأعمى والبصري أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه}، ولا يجوز أن تكون للاستفهام لأن الاستفهام لا يدخل على الاستفهام، ومنه قول الشاعر:
فليت سليمى في المنام ضجيعتي = هنالك أم في جنةٍ أم جهنم
إذ لا معنى للاستفهام هنا، وقول الآخر:
فوالله ما أدري أسلمى تغولت = أم النور أم كل إلى حبيب
أم الثانية منقطعة معناها الإضراب والرجوع عن الأول أي: بل كل إليَّ حبيب
وأما قول الأخطل:
كذبتك عينك أم رأيت بواسطٍ = غلس الظلام من الرباب خيالًا
فيجوز أن تكون منقطعة ويجوز أن تكون متصلة والاستفهام مقدر والتقدير: أكذبت عينك.
الثاني: الإضراب مع الاستفهام الإنكاري كقوله تعالى: {أم له البنات ولكم البنون} تقديره بل أله البنات ولكم البنون، إذ لو قدر الإضراب المحض لزم المحال.
الثالث: الإضراب مع الاستفهام الحقيقي الطلبي كقولهم: إنها لأبل أم شاء، التقدير: بل أهي شاء، وكقول علقمة بن عبدة:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم = أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم
التقدير: بل أحبلها مصروم إذ نأتك ثم أضرب بعد ذلك الإضراب المحض فقال:
أم هل كبير بكى لم يقض عبرته = إثر الأحبة يوم البين مشكوم
ذكر أبو زيد لها وجهًا آخر وهو الزيادة فقال: العرب تزيد أم.
قال الشاعر: وهو ساعدة بن جوية:
يا ليت شعري ولا منجى من الهرم = أم هل على العيش بعد الشيب من ندم
وقال آخر:
يا دهن أم ما كان مشيي رقصا = بل قد تكون مشتي توقصا
وجعل منه أبو زيد قوله تعالى: {أم أنا خيرٌ من هذا الذي هو مهين}، معناه: أنا خيرٌ وأم زائد.
وكان سيبويه يقول في الآية: {أفلا تبصرون} أم تبصرون، وجعلها متصلة وكأنه أقام السبب مقام المسبب لأنهم إذا قالوا: أنت خير، كانوا عنده بصراء.
وأجاز بعضهم حذف معطوف أم دونها كما أجازوا حذفه معها.
قال الشاعر:
دعاني إليها القلب إني لأمره = سميعٌ فما أدري أرشدٌ طلابها
تقديره: أم غي، فقال: {أفلا تبصرون أم} وجعل الوقف هنا وأن التقدير: أم تبصرون، ثم يبتدئ القارئ: {أنا خيرٌ}.
وأبطل هذا القول بأنه لم يسمع حذف معطوف بدون عاطفه، وإنما المعطوف جملة: أنا خير، كما ذكر سيبويه.
وقال بعضهم في الآية: إنها بمعنى بل.
وأما قوله عز وجل: {أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا}، فقيل معناه: أظننت يا محمد هذا عجبا، ومن عجائب ربك ما هو أعجب من قصة أهل الكهف، وقال آخرون: إن أم بمعنى ألف الاستفهام كما تقول: أحسبت وحسبت بمعنى علمت، ويكون الاستفهام في حسبت بمعنى الأمر كما تقول لمن تخاطبه: أعلمت أن زيدًا خرج، أي: أعلم أن زيدًا خرج، قال: فعلى هذا التدريج يكون تأويل الآية: اعلم يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبًا.
ولأم وجه آخر وهو أن تكون أداة للتعريف في لغة اليمن نحو:
«أمن أمبر امصيام في امسفر» ... قال الشاعر:
ذاك خليلي وذو يعاتبني = يرمي ورائي بامسهم وامسلمه.
وأما «أمَا» بالفتح والتخفيف ففيها لغتان: يحذفون الألف، فيقولون أم والله، وفي كلام هجرس بن كليب:
أم وسيفي وزريه، ورمحي ونصليه، وفرسي وأذنيه، لا يدع الرجل قاتل أبيه، وهو ينظر إليه.
وبعضهم يبدل همزتها هاء فيقول: هما والله، وهم والله، وبعضهم يبدلها عينًا فيقول: عما والله، وعم والله، وأما تحذف همزتها كقول الشاعر:
ما ترى الدهر قد أباد معدًا = وأباد السراة من عدنان
وتأتي في لسان العرب على وجهين:
أحدهما: أن تكون حرف استفتاح في أول الكلام بمنزلة ألا وتكسر إن بعدها كما بعد ألا، وتكثر قبل القسم كقول الشاعر:
أما والذي أبكى وأضحك والذي = أمات وأحيا والذي أمره الأمر
الثاني: أن تكون كلمة تحقيق بمعنى حقًا أو أحقًا على خلاف فيه.
قال بعضهم هي بمعنى حقًا تقول: «أما إنه قائم فمعناه حقًا إنه قائم» قاله ابن فارس.
وقال آخرون: هي كلمتان الهمزة للاستفهام وما اسم بمعنى شيء، وذلك الشيء حق فالمعنى أحقًا.
قال ابن هشام: وهذا هو الصواب.
وتفتح إن بعدها.
وزاد بعضهم معنى ثالثًا: وهو أن تكون حرف عرض بمعنى لولا، فتختص بالفعل نحو: أما تقوم أما تقعد.
قال ابن هشام: وقد يدعى في ذلك أن الهمزة هنا للاستفهام التقريري مثلها في: {ألم نشرح لك صدرك} وما نافية.
وأما «أمَّا» المفتوحة المشددة فإنها قد تبدل ميمها ياء استثقالًا للتضعيف كقول عمر بن أبي ربيعة.
رأت رجلًا أيما إذا الشمس عارضت = فيضحى وأما بالعشي فيخصر
وهي على ضربين مفردة ومركبة:
فأما المفردة فإنها كلمة إخبار لابد في جوابها من فاء لما فيها من معنى الجزاء، وترتفع بعدها الجملة على الابتداء والخبر، ولا تدخل الفاء على خبر الابتداء إلا بعد أمَّا أو ما كان فيه معنى الجزاء كقولك: الذي يقوم فله درهم، وقد تحذف الفاء في الضرورة قال الشاعر:
أما القتالُ لا قتال لديكم = ولكن سيرًا في عراض المواكب
وقد تحذف في الندور أيضًا كما ورد: «أما بعد ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله».
وتدل على ثلاثة معان: الشرط، والتفصيل، والتوكيد.
أما الشرط فلملازمة الفاء جوابها.
وأما التفصيل: وهو غالب أحوالها، كقول الله سبحانه: {فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلًا}، وكقوله تعالى: {أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر}، {وأما الغلام}، {وأما الجدار}.
وقد يترك تكرارها استغناء بذكر أحد القسمين عن الآخر، كقوله تعالى: {يا أيها الناس قد جاءكم برهانٌ من ربكم وأنزلنا إليكم نورًا مبينًا فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضلٍ ويهديهم إليه صراطًا مستقيمًا}، وأما الذين كفروا بالله فلهم كذا وكذا.
وأما التوكيد: فقال ابن هشام: «لم أر أحدًا أحكم شرحه غير الزمخشري فإنه قال: «أمَّا» في الكلام تعطيه فضل توكيد، تقول: زيدٌ ذاهب، فإذا قصدت توكيد ذلك وأنه لا محالة ذاهب قلت: أما زيد فذاهب».
وزعم أنه مستخرج من كلام سيبويه ولذلك قال سيبويه في تفسيره: مهما يكن من شيء فزيد ذاهب، وهذا التفسير يدل على فائدتين:
بيان كونه توكيدًا وأنه في معنى الشرط.
وأما المركبة فهي التي في نحو قولك: أمَّا أنت منطلقًا انطلقت معك، فإنها مركبة من حرفين أن وما، أدغمت النون في الميم.
قال سيبويه: تقديره لأن كنت سائرًا سرت معك، فحذفت كان من اللفظ اختصارًا وأضمرت فانفصل الضمير فزيدت ما عوضًا منها وأنشد سيبويه:
أبا خراشة أما أنت ذا نفرٍ = فإن قومي لم تأكلهم الضبع
وهذه المركبة لا تكون بهذا المعنى إلا وهي مفتوحة، والفعل واجب الحذف بعدها في قول سيبويه بخلاف إمَّا المكسورة المركبة فإنه لا بد من ذكر الفعل بعدها لأنها شرطية، ولابد من ذكر الفعل في الجزاء.
والمبرد يُجوز ذكر الفعل فيقول: أما كنت منطلقًا انطلقت، كما كان قبل ما وأما «أمّا» في قوله تعالى: {أماذا كنتم تعملون} فإنها أم المنقطعة أدغمت الميم في مثلها من ما الاستفهامية وليست مما مضى.
وأما «إمَّا» المكسورة المشددة: فإنها تأتي على وجهين: مركبة وغير مركبة.
أما المركبة: فهي أن تكون مركبة من إن التي للجزاء ومن ما، وتليها نون التأكيد كقوله تعالى: {فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم} وقوله تعالى: {وإمَّا تخافن من قومٍ خيانةً فانبذ إليهم على سواء}، وقد يأتي الجزاء بغير نون، قال الأعشى:
إمَّا ترينا حفاةً لا نعال لنا = إنا كذلك ما نحفى وننتعل
وأما التي ليست بمركبة فنحو قولك: جاءني إمَّا زيد وإمَّا عمرو، وهي حرف عطف عند أكثر النحاة أعني الثانية، وأما الأولى فغير عاطفة بالاتفاق، وزعم يونس والفارسي وابن كيسان وابن برهان أنها غير عاطفة كالأولى ووافقهم ابن مالك لملازمتها الواو العاطفة غالبًا.
وفيها لغات: الكسر مع التشديد وهو أشهرها وقد تفتح همزتها، وقد تبدل ميمها الأولى ياء ... قال الأحوص:
يا ليتما أمنا شالت نعامتها = أيما إلى جنةٍ أيما إلى نار
فالبيت شاهد على فتح الهمزة وعلى إبدال الميم ياء وشاهد أيضًا على تجردها من الواو وإن كان الغالب مصاحبتها.
قالوا: وقد تحذف ميمها، قال النمر بن تولب يصف الوعل:
ولو كان من حتفه ناجيًا = لكان هو الصدع الأعصما
سقته الرواعد من صيفٍ = وإن من خريفٍ فلن يعدما
معناه: سقته الرواعد من مطر الصيف الذي هو قليل، وأما في الخريف العام فلن يعدم السقي، وقال الأصمعي: إن هنا بمعنى الجزاء أراد وإن سقته من خريف فلن يعدم الري، واختاره المبرد وقال: لأن إمَّا تكون مكررة وهذه لم تتكرر، وضعف هذا بأنه إنما أراد وصفه بالري على كل حال، ولو كان للجزاء لعدم الري الذي قصده الشاعر.
وجعلها أبو عبيدة زائدة، ويضعفه عندي ما في الفاء من الدلالة على الربط والتعليق وعدم الإلغاء، والذي يظهر لي أنها بمعنى أما المفتوحة المشددة التي لا تكرار فيها، وفيها معنى التأكيد والعموم فيكون المعنى: ومهما يكن من خريف فلن يعدم الري.
وأما إمَّا المكسورة فليس شيء من معانيها يقتضي الجواب بالفاء، هذا ما ظهر لي ولعله مراد سيبويه، ولكن لم ينقله النحاة في الكلام على إمَّا المكسورة المكررة، فلينظر لذلك فليس كتاب سيبويه عندي فإن كان صوابًا فمن الله والحمد لله وإن كان خطأ فمني واستغفر الله الغفور الرحيم.
ولإمَّا المكسورة من المعاني خمسة أقسام:
الأول: الشك، نحو جاءني إمَّا زيد وإمَّا عمرو إذا لم تعلم الجائي منهما.
الثاني: الإبهام كقوله تعالى: {وآخرون مرجون لأمر الله إمَّا يعذبهم وإمَّا يتوب عليهم}.
الثالث: التخيير كقوله تعالى: {إمَّا أن تعذب وإمَّا أن تتخذ فيهم حسنًا}.
الرابع: الإباحة: تعلم إمَّا فقهًا وإمَّا نحوًا، ونازع في هذا المعنى جماعة مع إثباتهموه لأو.
الخامس: التفصيل نحو قول الله سبحانه: {إنا هديناه السبيل إمَّا شاكرًا وإمَّا كفورًا}، وأجاز كون إمَّا هذه هي إن الشرطية وما الزائدة هكذا ذكره ابن هشام عنهم، وكذا ذكر غيره في الآية أن الفراء قال: معناه: إنا هدينا السبيل إن شكر وإن كفر يكون للشرط وما زائدة.
وقال غيره من البصريين أن إمَّا ههنا بمعنى التخيير، أراد: هديناه السبيل وخيرناه.
وقد يجوز أن تأتي بأما غير مكررة إذا كان في الكلام عوض من تكريرها
تقول: إمَّا أن تكلمني بخير وإلا فاسكت، المعنى: إمَّا أن تكلمني وإمَّا أن تسكت، قال المثقب العبدي يخاطب عمرو بن هند الملك:
فإما أن تكون أخي بصدقٍ = فأعرف منك غثي من سميني
وإلا فاطرحني واتخذني = عدوًا أتقيك وتتقيني
قال الفراء: وقد حذفت العرب إمَّا السابقة وهي تعني بها أو، وأنشد:
تُلم بدارٍ قد تقادم عهدها = وإمَّا بأمواتٍ ألم خيالها
أراد: أو بأموات.
والحاصل أنها بمنزلة أو في العمل على خلاف بين النحاة، وبمنزلتها في المعنى اتفاقًا، إلا من وجه فإن إمَّا تبني الكلام من أول الأمر على ما جيء به لأجله من شك وغيره، ولذلك وجب تكرارها، وعدم تكرارها قليل.
واو يفتتح الكلام معها على الجزم ثم يطرأ الشك أو غيره ولهذا لم تتكرر.
وأما قولهم: «إمَّا لي» فهو إن لا وما صلة وجعلت مع ما كلمة واحدة فأميلت ولو انفردت «لا» لم يجز فيها الإمالة.
وهذه الكلمة لا تكون إلا جوابًا لكلام كأن قائلًا قال: لا أفعل هذا فقال الآخر: افعل هذا إمَّا لا، يريد إن لا تفعل هذا فافعل هذا). [مصابيح المغاني: 122-146]