الدرس الثالث
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): ( (فصل: أو)
أو حرف عطف، وقد مضى جملة من الكلام عليها في باب «أم» وتأتي على وجهين: مفردة ومركبة.
فأما المفردة فهي موضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء ولها ثلاثة عشر معنى:
الأول: الشك نحو قول الله عز وجل: {قالوا لبثنا يومًا أو بعض يوم}.
الثاني: الإبهام، كقوله عز وجل: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلالٍ مبين}.
الشاهد في «أو» الأولى وكقول الشاعر:
نحن أو أنتم الألى ألفوا = الحق فبعدًا للمبطلين وسحقًا
هكذا صوره ابن هشام وغيره، وفيه عندي نظر، فإن الإبهام اسم لما أبهمته على المخاطب من فهم المراد، كقولك: جاءني زيد أو عمرو، وقد علمت الجائي منهما وإنما أبهمت عليه لغرض من الأغراض، ولهذا قال أبو العباس القرافي «تجوز قراءته بالباء الموحدة وبالباء المثناة لأن المقصود الغرضي منه التلبيس على السامع» وأما الآية فالمخاطب فيها المشركون، وقد فهموا أن مراد الله سبحانه أنا على الهدى وأنهم في ضلالٍ مبين، ولو كان على الإبهام لكان مستمسكًا لهم وحجة علينا وذلك باطل، وكذا البيت معناه كمعنى الآية، فلو قيل: إن معناها الترجيح كان حسنًا، ولو مثلوا للإبهام بقوله تعالى: {إلى مائة ألفٍ أو يزيدون} لكان متجهًا والله أعلم.
الثالث: التخيير وهي الواقعة بعد الطلب وقبل ما يمتنع فيه الجمع نحو: تزوج هندًا أو أختها، ونحو قول الله تعالى: {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبةٍ}، واجتماع هذه الخصال في الكفارة في حال كونها كفارة ممتنع لم يقل به أحد من أهل العلم.
الرابع: الإباحة: وهي الواقعة بعد الطلب وقبل ما يجوز فيه الجمع نحو: تعلم الفقه أو النحو، وجالس العلماء أو الزهاد، وأما قول الله عز وجل: {ولا تطع منهم آثمًا أو كفورًا}، فإنها واقعة بعد طلب، وقد قال فيها قوم هذا يعارض ويقابل بضده فيتبين المعنى ويصح المراد، وذلك إذا قيل: أطع زيدًا أو عمرًا فإنما يريد: أطع واحدًا منهما، فإذا أطاع أحدهما أو أطاعهما فقد أطاع واحدًا منهما وامتثل الأمر، وكذلك إذا نهيناه وقلنا: لا تطع زيدًا أو عمرًا فقد قلنا: لا تطع واحدًا منهما. فأيهما فعل فقد أطاع واحدًا منهما وخالف النهي، ولا سبيل له إلى امتثال النهي إلا بترك طاعتهما جميعًا حتى لا يطيع واحدًا منهما، فهي في النهي حظر للجميع كما أن الإباحة إطلاق للجميع.
وتلخيصه: أنها تدخل للنهي عما كان مباحًا، وقال بعضهم: إن «أو» في الآية لبيان النوع أي: لا تطع هذا النوع، وقال بعضهم: هي بمعنى الواو، وقال بعضهم: بمعنى «ولا» وسيأتي ذكر هذه الوجوه إن شاء الله تعالى.
الخامس: الجمع المطلق كالواو، قاله الكوفيون والأخفش والجرمي واحتجوا بجملة من الأبيات، قال الشاعر:
وقد زعمت ليلى بأني فاجرٌ = لنفسي تقاها أو عليها فجورها
وقال آخر:
وكان سيان الا يسرحوا نعمًا = أو يسرحوه بها واغبرت السوح
يعني الجدب، وقال النابغة:
قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا = إلى حمامتنا أو نصفه فقد
ويقويه أنه يروى «ونصفه فقد».
وقال جرير:
أثعلبة الفوارس أو رياحا = عدلت بهم طهية والخشابا
أي: أعدلت هذين بهذين وهما قبيلتان، وقال متمم بن نويرة:
فلو أن البكاء يرد شيئًا = بكيت على بجير أو عفاق
على المرئين إذ هلكا جميعًا = لشانهما بشجو واشتياق
وقال ابن أحمر:
ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالثٍ = إلى ذاكما ما غيبتني غيابيا
يريد: البثا شهرين ونصف الثالث؛ لأن لبث الثالث لا يكون إلا بعد شهرين.
السادس: الإضراب كبل، فعن سيبويه أجازته بشرطين:
أحدهما: تقدم نفي أو نهي، والثاني: إعادة العامل، نحو:
ما قام زيد أو ما قام عمرو، ولا يقم زيد أو لا يقم عمرو، نقله عنه ابن عصفور.
وقال الكوفيون وأبو علي وأبو الفتوح وابن برهان تأتي مطلقًا واحتجوا بقول جرير:
ماذا ترى في عيال قد برمت بهم = لم أحص عدتهم إلا بعداد
كانوا ثمانين أو زادوا ثمانيةً = لولا رجاؤك قد قتلت أولادي
ويقول الآخر:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى = وصورتها أو أنت في العين أملح
واختلف في قوله تعالى: {وأرسلناه إلى مائة ألفٍ أو يزيدون} فكان الفراء يقول: بل يزيدون، فقال بعض البصريين منكرًا لهذا لو وقعت أو في هذا الموضع موقع بل لجاز أن تقع في غير هذا الموضع وكنا نقول: ضربت زيدًا أو عمرًا على غير الشك لكن بمعنى بل، وهذا غير جائز.
وقالوا أيضًا: بل تأتي للإضراب بعد غلط أو نسيان وهذا منتف عن الله سبحانه فإن أتى بعد كلام قد سبق من غير القائل فالخطأ إنما لحق كلام الأول نحو قوله عز وجل: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا}، فهم أخطأوا في هذا وكفروا به فقال جل وعز: {بل عبادٌ مكرمون} ولأجل هذا زعم قوم أن قول تعالى: {أو يزيدون} على هذا.
قال ابن فارس: وقول الفراء قد تقدمه فيه ناس، وقول من قال «بل» لا يكون إلا إضرابًا بعد غلط أو نسيان، خطأ لأن العرب تنشد:
بل ما هاج أحزانًا وشجوًا قد شجا
وهذا ليس من المعنيين في شيء.
وقال بعض الكوفيين في الآية: أو بمعنى الواو وأنشد:
ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالثٍ
وللبصريين فيها أقوال أخر، قيل: للإبهام، وقيل: للتخيير، أي: إذا رآهم الرائي تخير بين أن يقول هم مئة ألف أو يقول هم أكثر، ونقل عن سيبويه، قال ابن هشام: وفي ثبوته عنه نظر فإنه لا يصح التخيير بين شيئين الواقع أحدهما، وقيل: هي للشك مصروفًا إلى الرائي ذكره ابن جني، وقال قوم: هي بمعنى الإباحة كأنه قال: إذا قال قائل: هم مائة ألف، فقد صدق، وإذا قال غيره: بل يزيدون على مائة ألف فقد صدق، نقله ابن فارس.
وهذه الأقوال غير القول أنها بمعنى الواو مقولة في قوله تعالى: {وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب}.
وفي قوله تعالى: {فهي كالحجارة أو أشد قسوة}، وترد هذه بمعنى التفصيل فقد قال قوم: المعنى «بعضها كالحجارة وبعضها أشد قسوة» وهذا هو المعنى السابع: أعني: التفصيل، وبعضهم يسميه التقسيم، وبعضهم يسميه التبعيض، ومنه قول الله تعالى: {وقالوا كونوا هودًا أو نصارى تهتدوا}، و{قالوا ساحرٌ أو مجنون}، أي: وقال بعضهم وهم اليهود: كونوا هودًا، وقال بعضهم وهم النصارى: كونوا نصارى، ولا يجوز أن يراد بهذا التخيير؛ لأن جملتهم لا يخيرون بين اليهود والنصرانية.
الثامن: ذكره بعض أهل العلم وسماه بيان النوع وهو قريب مما قبله أو هو التقسيم، كقول الله تعالى: {وما كان لبشرٍ أن يكلمه الله إلا وحيًا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولًا}، ومنه في قول بعضهم: {ولا تطع منهم آثمًا أو كفورًا}.
التاسع: ذكره جماعة منهم ابن مالك وهو أن تكون بمعنى «ولا» كقول الشاعر ابن الرعلاء الغساني:
ما وجد ثكلي كما وجدت ولا = وجد عجول أضلها ربع
أو وجد شيخ أضل ناقته = يوم توافى الحجيج فاندفعوا
ومنه قوله تعالى: {ولا تطع منهم آثمًا أو كفورًا} في قول بعضهم.
العاشر: تكون بمعنى إلا في الاستثناء وهذه ينتصب المضارع بعدها بإضمار أن كقولهم: لأقتلنه أو يسلم والمعنى إلا أن يسلم قال الشاعر زياد الأعجم:
وكنت إذا غمزت قناة قومٍ = كسرت كعوبها أو تستقيما
وقال امرؤ القيس:
فقلت له لا تبك عينك إنما = نحاول ملكًا أو نموت فنعذار
ومنه قوله تعالى: {لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا}.
الحادي عشر: تكون بمعنى الغاية كإلى وحتى، وهذه كالتي قبلها في انتصاب المضارع بعدها بأن مضمرة نحو: لألزمنك أو تقضيني حقي.
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى = فما انقادت الآمال إلا لصابر
وقال امرؤ القيس:
فقلت له لا تبك عينك إنما = نحاول ملكًا أو نموت فنعذرا
الثاني عشر: التقريب، نحو: ما أدري أسلم أو ودع، قاله الحريري وغيره.
الثالث عشر: الشرط نحو: لأضربنه عاش أو مات أي إن عاش بعد الضرب وإن مات.
قال ابن هشام: والتحقيق أن أو موضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء، وهو الذي يقوله المتقدمون، وقد تخرج إلى معنى بل وإلى معنى الواو، وأما بقية المعاني فمستفادة من غيرها ثم قال:
ومن العجب أنهم ذكروا من معاني صيغة الأمر: التخيير والإباحة ومثلوه بنحو: خذ من مالي درهمًا أو دينارًا، وجالس الحسن أو ابن سيرين، ثم ذكروا أن أو تفيدهما ومثلوه بالمثالين المذكورين، ومن البين الفساد هذا المعنى الثاني عشر أن أو فيه إنما هي للشك على زعمهم، وإنما استفيد التقريب من إثبات اشتباه السلام بالتوديع، إذ حصول ذلك مع تباعد ما بين الوقتين ممتنع أو مستبعد.
قلت: والعجب من تعجبه فإن الحروف جاءت لمعان في غيرها لا في نفسها ولكل شيء منها معان مخصوصة موضوعة لها، ولا شك أن معاني الحروف والأفعال تستفاد من مقاصد الكلام، وموارد الخطاب، وتركيب الألفاظ فإذا رأينا العرب قد استعملوا ذلك في معنى لم توضع له في بعض التراكيب، علمنا أن اللغة قد وردت باستعمال ذلك وأنه جائز في لسان العرب، وأنهم قد تجوزوا به عن موضوعه.
والدليل على ما قلته صنيعهم الذي تعجب منه، فتارة جعلوا معنى التخيير والإباحة في صيغة الفعل لأجل أو، وتارة جعلوا أو بمعنى التخيير والإباحة لأجل موارد الخطاب ومقاصد الكلام.
وكذلك فعلوا في الهمزة فقالوا: تأتي للاستفهام وللتسوية، ولما تكلموا على أم المعادلة نسبوا تلك الإفادة إليها وغير ذلك من تركيبات اللغة. ونكتة الأمر أن هذه الحروف منها ما هو مختص بمعنى واحد وضع له، ومنها ما هو مشترك بين معنيين وثلاثة وأكثر، فتستعمل في ذلك على سبيل الحقيقة وقد تستعمل في غير المعنى الموضوع له تجوزًا، كما استعملوا ثم موضع الواو وبالعكس، لكن لا يجوز أن تستعمل في ذلك المجاز إلا بدليل من اللسان أن العرب قد استعملوه في ذلك المجاز، ولا يجوز أن تستعمل فيه إذا لم تستعمله العرب لأن العاني غير متناهية.
ثم تُعرف الحقيقة في ذلك من المجاز بكثرة الاستعمال، وقد استقرأ الأئمة المتقدمون رضي الله تعالى عنهم ذلك من استعمال العرب، فوجدوهم وضعوا لبعض الحروف معنى أو معاني واستعملوا لسانهم في ذلك كثيرًا وقد يجدون استعمالًا كثيرًا فينتهض عند بعضهم أن يكون وضعًا حقيقيًا ولا ينتهض عند بعضهم إلى رتبة الحقيقة وإنما يكون مجازًا كما قالوا في الواو: هل تقتضي الترتيب أو لا؟
وقد يجدون استعمالًا كثيرًا في بعض المعاني فمنهم من يذهب إلى تأويله ورجوعه إلى معناه الأصلي الحقيقي، ومنهم من يجعله معنى آخر فيكون الحرف مشتركًا كما فعلوا في أو التي بمعنى الواو، وإن الخفيفة المكسورة، وأن بمعنى إذ وغير ذلك.
وقد يكون الاستعمال قليلًا في ذلك المعنى فيكون مجازًا عند بعضهم، وبعضهم يتأوله على معناه الأصلي، ولا يجوز استعماله في ذلك المعنى لا حقيقة ولا مجازًا كما فعلوا في: إن بمعنى نعم، ولو كان هذا المختصر يحتمل أكثر من هذا لمثلت شيئًا كثيرًا من صنيعهم في معاني الحروف ومعاني الأفعال وغيرها وفي هذا كفاية إن شاء الله.
وقول ابن هشام: والتحقيق أن أو موضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء وهو الذي يقوله المتقدمون، وقد تخرج إلى معنى بل وإلى معنى الواو، وأما بقية المعاني فمستفادة من غيرها، في غاية التحقيق فليته اقتصر عليه ولم يعقبه بشيء.
وأما المركبة: فهي الواو الناسقة المركبة مع همزة الاستفهام، كقوله تعالى: {أئنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون} وقوله تعالى: {أو أمن أهل القرى} فإنهم لم يقصدوا باستفهامهم الإنكاري أحد الشيئين وإنما قصدوا إنكار الجميع فلما استفهموا أولًا نسقوا بالواو وقدموا عليها الهمزة لاستحقاقها التصدر في الكلام والله أعلم). [مصابيح المغاني: 146-159]
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): ( (فصل)
إنّ وأنّ المشددتين المكسورة والمفتوحة وإنْ وأنْ المخففتين المكسورة والمفتوحة.
فأما إنّ فإنها حرف، تنصب الاسم وترفع الخبر، وقد تنصبهما جميعًا في لغة قال الشاعر:
إذا اسود جنح الليل فلتأت ولتكن = خطاك خفافًا إن حُراسنا أسدا
وفي الحديث: «إن قعر جهنم سبعين خريفًا».
ومنهم من حمله على حذف الخبر أي تلقاهم أسدا، وحمل القعر على المصدر، الذي هو الفعل لا على الظرف، ونصب سبعين على أنه خبر كان المحذوفة تقديره: إن بلوغ قعر جنهم يكون في سبعين عامًا.
وقد يرتفع بعدها المبتدأ فيكون اسمها ضمير شأن محذوفًا ... كقول الشاعر:
إن من يدخل الكنيسة يومًا = يلق فيها جاذرًا وظباء
ولا يجوز أن تكون من اسمها لأن، فمن شرط والشرط له صدر الكلام فلا يعمل فيه ما قبله.
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «إن من أشد النا عذابًا يوم القيامة المصورون».
والأصل: إنه من يدخل الكنيسة، إنه من أشد الناس عذابًا أي الشأن.
وتميم وقيس تبدل همزة المفتوحة عينًا وتقول: أشهد عن محمدًا رسول الله.
قال ذو الرمة:
أعن ترسمت من خرقاء منزلةً = ماءُ الصبابة من عينيك مسجوم
يجعل مكان الهمزة عينًا، وتسمى عنعنة تميم.
هذا حكمها.
وأما معناها: فهو التوكيد والتحقيق حتى قال أبو زكريا الفراء: إنها مقدرة جوابًا لقسم متروك استغني بها عنه: والتقدير: والله إن زيدًا عالم، وكذلك المفتوحة للتوكيد أيضًا.
وقد تأتي المكسورة للجواب بمعنى نعم، وأنكره أبو عبيد، واحتج المثبتون بقول ابن الزبير رضي الله عنهما لمن قال له: لعن الله ناقة حملتني إليك: إن وراكبها، أي: نعم ولعن راكبها.
وبقول ابن قيس الرقيات:
بكرت علي عواذلي = يلحينني وألومهنه
ويقلن شيبٌ قد علا = ك وقد كبرت فقلت إنه
وتأوله أبو عبيد على معنى الاختصار: أ إنه قد كان كما تقلن.
وقال: وهذا اختصار من كلام العرب يكتفى منه بالضمير؛ لأنه قد علم معناه.
وأما المثبتون فيقلون الهاء هاء السكوت لا هاء الضمير، ويرد قولهم: إنه لا تثبت القواعد الكلية مع قيام الاحتمال، وهذا أصل فاعتمد عليه في جميع ما يرد عليك.
نعم يشهد لهم قول الشاعر:
قالوا أخفت فقلت إن وخيفتي = ما إن تزال منوطةً برجائي
وقول الآخر:
قالوا: غدرت فقلت إن، وربما = نال العلى وشفى الغليل الغادر
وخرج المبرد على هذا المعنى قوله تعالى: {إن هذان لساحران}.
ورد بأن هذه لغة شاذة عند من أثبتها فلا يخرج عليها القرآن العزيز وإنما يخرج على الوجه القوي القريب دون الضعيف البعيد، وهذا أيضًا أصل نفيس فاعتمد عليه أيضًا فيما يرد عليك فللمعربين أقوال كثيرة على خلاف الصواب.
وقد ترد المفتوحة بمعنى لعل، نحو قوله تعالى: {وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون} المعنى: لعلها إذا جاءت؛ بدليل قراءة أُبي رضي الله تعالى عنه، وحكى الخليل: ائت السوق أنك تشتري لنا شيئًا، لعلك، وقال عدي بن زيد:
أعاذلُ ما يدريك أن منيتي = إلى ساعةٍ في اليوم أو في ضحى الغد
وتزاد عليها «ما» فتفيد المكسورة: الحصر والتعيين عند الجمهور من الأصوليين وغيرهم خلافًا للآمدي وأبي حيان، قال: ويذكر لذلك وجه لطيف بسند إلى علي بن عيسى الربعي وهو: أنه لما كانت كلمة إن لتأكيد المسند للمسند إليه ثم اتصلت بها ما المؤكدة لا النافية كما يظنه من لا وقوف له على علم النحو ناسب أن تضمن معنى الحصر لأنه ليس إلا تأكيدًا على تأكيد، فإن قولك لمن يردد المجيء الواقع بين زيد وعمرو، جاء زيد لا عمرو، يفيد إثباته لزيد في الابتداء صريحًا وفي الآخر ضمنًا، وسيأتي الكلام على ذلك أيضًا في باب «ما»، قال أبو زكريا الفراء وابن فارس: ولا تكون ابتداءً وإنما تكون ردًا لقول متقدم كقول الله تعالى: {إنما الله إله واحد}، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الولاء لمن أعتق».
وكذا المفتوحة تفيد الحصر عند الزمخشري لكونها فرع المكسورة، ونسبه أبو حيان إلى الشذوذ، قال ابن هشام: وهو محجوج بقوله تعالى: {قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحدٌ} فإنما الأولى قصرت الوحي على الإلهية لأجل الرد عليهم، فقصرت الصفة على الموصوف، وإنما الثانية حصرت الإله في الوحدانية، فقصرت الموصوف على الصفة.
قال عبد الوهاب السبكي: ولأبي حيان أن يقول: المعنى على قول الزمخشري جميع ما يوحى إلى أن إلهكم ليس إلا واحد، فيلزمه أن إلهنا واحد وقادر وحي وسميع وبصير إلى غير ذلك من الصفات التي نثبتها، فيلزم من يدعي الحصر عدم إيحاء غير الوحدانية وهذا باطل لأنه يوحى إليه أمورًا أخر.
قال: ولعل الزمخشري إنما ادعي لعدم مبالاته بهذا الإلزام فإنه معتزلي لا يثبت الصفات. انتهى.
قلت: ولا يخفى ما في هذا البحث من التكلف والتعسف فإنه وإن أوحى إليه أنه قادر، حي، سميع، بصير، فذلك لكه من الوحدانية، والذي أراه أن الكلام إنما سيق لمجرد الرد عليهم في دعوتهم التشريك فالحصر معنى ألزم والله أعلم.
وأما إنْ المكسورة الخفيفة فهي على وجهين:
أحدهما: المخففة من الثقيلة: ومعناها التوكيد كالثقيلة وتستعمل على وجهين:
تستعمل عاملة على معنى التثقيل كقولك إن زيدًا قائمٌ، قال الشاعر:
كليب إن الناس الذين عهدتهم = بجمهور حزوى فالرياض لدى النخل
روي بنصب الناس.
وقرأ بعضهم: {وإن كلًا لما ليوفينهم ربك أعمالهم}، وهذا الوجه قليل.
وتستعمل مهملة ويلزم خبرها اللام ولا يجوز خلوها منها لئلا تلتبس بالنافية، فإنك إن قلت: إن زيدٌ قائمٌ وأنت تريد الإيجاب توهم السامع أنك تريد: ما زيدٌ قائمٌ فتأتي باللام للفرق، قال النابغة:
وإن مالك للمرتجى إن تقعقعت = رحى الحرب أو دارت علي خطوب
وقال آخر:
إن القوم والحي الذي أنا منهم = لأهل مقامات وشاء وجامل
وقال آخر:
شلت يمينك إن قتلت لمسلمًا = حلت عليك عقوبة المتعمد
وقد ورد في كتاب الله جل جلاله كثير ، كقوله تعالى: {وإن كنت لمن الساخرين}، {وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين}، {وإن نظنك لمن الكاذبين}، {إن كدت لتردين}، {وإن كادوا ليفتنونك} إلا أن يدل الكلام على الإثبات فيجوز حذف اللام كقول الشاعر:
أنا ابن أباة الضيم من آل مالكٍ = وإن مالكٌ كانت كمرام المعادن
أراد مدح قومه، وبتقديرها نافية يمتنع المدح.
وهذه اللام لام التوكيد عند سيبويه وسائر البصريين، وأهل الكوفة يبدلون الخفيفة من الثقيلة عملًا ومعنى ويقدرونها حيث جاءت نافية ويقدرون اللام بمعنى إلا والتقدير: وما كنت إلا من الساخرين.
وزعم قوم منهم أبو علي الفارسي أنها ليست لام التوكيد كما قال سيبويه، ولا بمعنى إلا كما قال الكوفيون، وإنما هي لام جيء بها للفرق بين الإثبات والنفي.
وأما قطرب فإنه يجعل إن في جميع ما تقدم بمعنى قد ويقول: التقدير: قد كنت لمن الساخرين، وقد وجدنا أكثرهم لفاسقين، وسيأتي ذكر مذهبه إن شاء الله.
الوجه الثاني: الخفيفة وترد على ستة أوجه:
أحدهما: الشرطية كقوله تعالى: {إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} وتختص بالمستقبل في المعنى، وكذا غيرها من أدوات الشرط، فإن وقع فعل ماض كان مؤولًا بالمستقبل كقول الله سبحانه حكاية عن عيسى عليه الصلاة والسلام: {إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي}، قال ابن السراج: معناه: إن ثبت في المستقبل أني قلته في الماضي، فالشرط ثبوته في المستقبل، ومن شرطها أنها لا تعلق إلا بشيء مشكوك فيه كقولك: إن أتاك زيد فأكرمه وأما بالمعلوم فلا يجوز تعليقها به فلا تقول: إن طلعت الشمس فأتني، وهذا لا يمنع استعمالها في كتاب الله فإن القرآن عربي فكل ما يجوز أن تنطق به العرب يجوز في كتاب الله تعالى، وكل ما لا يجوز لو نطقت به العرب فلا يجوز في كتاب الله تعالى، وخصوص الربوبية لا يدخل تحت اللغات.
الثاني: النافية كقوله تعالى: {إن الكافرون إلا في غرورٍ}، وتستعمل على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تدخل إلا في الخبر نحو: إن زيد إلا قائم، وإن قام إلا زيد، قال الله تعالى: {إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم}، وقال تعالى: {إن هو إلا نذيرٌ مبين}، {إن كانت إلا صيحة واحدةً}، وذلك كثير في الكتاب العزيز.
والوجه الثاني: أن تدخل لما بتشديد الميم في الخبر موضوع إلا، وتكون مثلها في المعنى كقولك: إن زيدًا لما قائم، قال الله تعالى: {إن كل نفسٍ لما عليها حافظ}، {وإن كلٌ لما جميع لدينا محضرون}، {وإن كل ذلك لما متاعُ الحياة الدنيا}، وقد قرئت هذه الآيات بتشديد لما وتخفيفها فمن شدد فعلى الوجه الذي ذكرت، ومن خفف فأما من جعل إن مخفف من الثقيلة وما زائدة، وإمَّا من جعلها نافية واللام بمعنى إلا، كما قدمناه عن أهل الكوفة.
(مسألة نحوية)
إذا ولي إن النافية جملة اسمية مجردة من الاستثناء لم تعمل عند سيبويه والفراء عمل «ما» النافية؛ لأنه حرف نفي دخل على مبتدأ وخبر، أو خبر فلا تغيره كما لا تغيره ألف الاستفهام، وكان القياس في «ما» المشبه بها ألا تعمل شيئًا كما هو لغة بني تميم، لكن لم أعملها بعض العرب وجب اتباعهم فيما سمع منهم في «ما» ولا يقاس عليها لأن القياس يمنعه.
وذهب الكسائي والمبرد إلى جوازه لوجود معنى النفي ولهم قول الشاعر:
إن هو مستوليًا على أحدٍ = إلا على حزبه الملاعين
وما سمع من أهل العامية: إن أحدٌ خيرًا من أحد إلا بالعافية ومنه قراءة ابن جبير: {إن الذين تدعون من دون الله عبادًا أمثالكم}.
الثالث: أن تستعمل بدون ذلك كقوله عز وجل: {قل إن أدري أقريب ما توعدون}، وقوله تعالى: {إن عندكم من سلطان بهذا}، وقوله تعالى: {ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه} أي: في الذي ما مكناكم فيه، وقد تكون في جواب القسم، تقول: والله إن فعلت أي: ما فعلت.
الثالث: تكون زائدة للتوكيد كقول الشاعر:
فما إن طبنا جبنٌ ولكن = منايانا ودولةُ آخرينا
أي: فما عادتنا، وقال النابغة:
ما إن أتيت بشيءٍ أنت تكرهه = إذن فلا رفعت سوطي إلى يدي
وقال امرؤ القيس:
حلفتُ لها بالله حلفةَ فاجر = لناموا فما إن من حديث ولا صال
الرابع: تكون بمعنى قد ذكره قطرب نحو قول الله سبحانه: {إن كنا عن عبادتكم لغافلين}، وكقوله تعالى: {فذكر إن نفعت الذكرى} وأشباهه كما تقدم حكاية ذلك عنه.
الخامس: زعمه الكوفيون أنها تكون للتعليل بمعنى إذ كقوله تعالى: {وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} بمعنى إذ؛ لأنه جل وعز لم يخبرهم بعلوهم إلا بعد ما كانوا مؤمنين، وقوله عليه الصلاة والسلام: «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» ونحو ذلك مما يكون الفعل فيه متحقق الوقوع وأجاب البصريون بأن ذلك شرط جيء به للتهييج كما تقول لابنك: إن كنت ابني فلا تفعل.
السادس: تكون بمعنى إمَّا المكسورة قال النمر بن تولب:
فلو كان من حتفه ناجيًا = لكان هو الصدع الأعصما
سقته الرواعد من صيف = وإن من خريفٍ فلن يعدما
هكذا ذكروه وقد تقدم في فصل إمَّا ما فيه من الاختلاف والإشكال وبقي عندي معنى سابع فهمته من كلامهم ولم أجد أحدًا ذكره على ما ذكرته وهو أن يكون معناها التفصيل كقول دريد بن الصمة:
لقد كذبتك عينك فاكذبنها = فإن جزعًا وإن إجمالُ صبر
أي: إمَّا كان جزعًا وإمَّا كان إجمال صبر.
ولا يجوز أن تكون للشرط فإنها لو كانت للجزاء لاحتاجت إلى الجواب، ولا يجوز أن يكون ما قبلها جوابًا لها، لأن الفاء إذا دخلت على الجزاء تعين أن يكون جوابًا متأخرًا عنها، وقال ناس: هو على الجزاء ولكنه محذوف كأنه قال: إن كان جزعًا شقيت به وإن كان إجمال صبر سعدت به.
وأما المفتوحة فتستعمل على وجهين: اسم، وحرف.
والاسم أيضًا على ضربين:
أحدهما: ضمير المتكلم في قول بعضهم: أن فعلت، بسكون النون والأكثرون يبنونها على الفتح للفرق بينها وبين الحرف الناصب ويثبتون ألفًا في حال الوقف لبيان الحركة، فإن وصلت الكلام سقطت الألف إلا في لغة رديئة كما قال:
أنا سيف العشيرة فاعرفوني = حميدًا قد تذريت السناما
الثاني: ضمير المخاطب في قولك: أنت وأنت وأنتما، وأنتم وأنتن، على قول الجمهور أن الضمير هو الاسم والتاء حرف خطاب.
وأما الحرف فتستعمل أيضًا على وجهين:
أحدهما: المخففة من الثقيلة وهي حرف مصدري ومعناها التوكيد، وتستعمل على وجهين:
أحدهما: أن تنصب بها الاسم على نية تثقيلها كقولك: علمت أن زيدًا قائمٌ
وهذا منعه الكوفيون، وعليهم قول الشاعر:
فلو أنك في يوم الرخاء سألتني = فراقك لم أبخل وأنت صديق
وقال كعب بن زهير:
لقد علم الضيف والمرملون = إذا اغبر أفقٌ وهبت شمالا
بأنك ربيع وغيث مريع = وقدمًا تكون هناك الثمالا
لكنه قليل حتى قيل: إنه مختص بالضرورة والأجود هو الاستعمال الثاني.
الثاني: أن ترفع ما بعدها على الخبر وتضمر اسمها فيها وهذا وفاق كقوله تعالى: {علم أن سيكون منكم مرضى} قال الأعشى:
في فتيةٍ كسيوف الهند قد علموا = أن هالك كل من يحفى وينتعل
الثاني: الخفيفة وترد على سبعة أوجه:
أحدها: أن تكون ناصبة للفعل مؤولة بالمصدر كقوله تعالى: {وأن تصوموا خيرٌ لكم}، وذلك إذا تقدمها فعل يطلب الاستقبال كقولك: أريد أن تقوم وأما إذا تقدمها ما يدل على إثبات الحال والحقيقة ارتفع الفعل بعدها وكانت مخففة من الثقيلة كقولك: علمت أن يقوم، وتيقنت أن لا يقوم فإن وقع قبلها الظن وشبه جاز الرفع والنصب لاحتماله الأمرين واستعماله فيهما وقد يرتفع الفعل بعدها كقول الشاعر:
أن تقرآن على أسماء ويحكما = مني السلام وأن لا تشعرا أحدا
وعليه قراءة ابن محيصن (لمن أراد أن تتم الرضاعة) قال البصريون إنها أن الناصبة للفعل أهملت حملًا على أختها ما المصدرية وهذه معناها الخبر.
الثاني: تكون بمعنى أي المفسرة كقوله تعالى: {وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا}، وقوله تعالى: {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم}، وقوله تعالى: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي}، ولا تأتي إلا بعد كلام تام لأنها تفسير، ونقل عن الكوفيين إنكار أن المفسرة.
الثالث: أن تكون زائدة للتوكيد كقوله تعالى: {ولما أن جاءت رسلنا لوطًا سيء بهم}، وكقول الخنساء:
ولما أن رأيت الخيل قبلًا = تباري بالخدود شبا العوالي
وقول الآخر:
كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم
على رواية الخفض.
الرابع: تكون شرطية، ذكره ابن هشام عن الكوفيين ورجحه بأمور:
أحدها: توارد المفتوحة، والمكسورة على المحل الواحد والأصل التوافق وقرئ بالوجهين في قوله تعالى: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى}، وقوله تعالى: {ولا يجرمنكم شنئان قومٍ أن صدوكم عن المسجد الحرام} وقوله تعالى: {أنضرب عنكم الذكر صفحًا أن كنتم قومًا مسرفين}.
ثانيها: مجيء الفاء بعدها كثيرًا كقول الشاعر:
أبا خراشة أما أنت ذا نفر = فإن قومي لم تأكلهم الضبع
ثالثها: عطفها على إن المكسورة كقول الشاعر:
إمَّا أقمت وإمَّا أنت مرتحلًا = فالله يكلأ ما تأتي وما تذر
الرواية بكسر الأولى وفتح الثانية فلو كانت مصدرية لزم عطف المفرد على الجملة.
الخامس: النفي كأن المكسورة ونسبه بعضهم إلى أبي القاسم الزجاجي في قوله تعالى: {أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم} وقال بعضهم: معناه: لا تؤمنوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم، وقوله: {قل إن الهدى هدى الله} اعتراض بين الفعل والمفعول.
السادس: تأتي بمعنى إذ كما تقدم في المكسورة أيضًا، قاله بعضهم، كقوله تعالى: {بل عجبوا أن جاءهم منذرٌ منهم} وقوله تعالى: {يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم}، وقوله تعالى: {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك}، وقوله تعالى: {إنا نطمع أن يغفر لنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين}، وغير ذلك من الآيات.
ومنه قول الشاعر:
سألتاني الطلاق أن رأتاني = قل مالي قد جئتماني بنكر
وأما قول الفرزدق:
أتغضب أن أذنا قتيبة حزتا = جهارًا ولم تغضب لقتل ابن حازم
فيروى بكسر الهمزة وتكون بمعنى إذ على قول الكوفيين، ويحمله البصريون على معنى التبيين أي أتغضب أن تبين في المستقبل أن أذني قتيبة حزتا فيما مضى، كما قال الآخر:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمةٌ
أو على إقامة السبب مقام المسبب والأصل: أتغضب أن افتخر مفتخر بسبب حزه أذني قتيبة، إذ الحز سبب للافتخار الذي هو سبب الغضب.
وقال الخليل والمبرد: الصواب فتح الهمزة أي؛ لأن أذنا، قال ابن هشام: والصواب أنها في ذلك كله مصدرية وقبلها لام العلة مقدرة.
قلت: وكأنه اعتقد أنهم يخالفون في هذا المعنى، وليس كذلك فإن قولهم: تكون بمعنى إذ، المراد به التي للتعليل وقد صرح بذلك من نقل مقالتهم وهو أبو الحسن الهروي فقال: أن تكون بمعنى إذ وإن شئت بمعنى لأن، وإن شئت بمعنى من أجل، وذكر من الآيات جملًا متعددة، والمعنى متفق بلا خلف، فلينتبه لهذا فإنه حسن جيد وهو يغني عن المعنى السابع الذي يلي هذا، والله أعلم.
السابع: أن تكون بمعنى لئلا، كقوله تعالى: {يبين الله لكم أن تضلوا}، أي: لئلا تضلوا، وقوله تعالى: {يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا}، وقوله تعالى: {ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا}، وقوله تعالى: {وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم}، ونحو ذلك من الآيات، ومنه قول عمرو بن كلثوم:
نزلتم منزل الأضياف منا = فعجلنا القرى أن تشتمونا
وقول الآخر:
أزمان قومي والجماعة كالذي = لزم الرحالة أن تميل مميلا
قال ابن هشام: والصواب أنها مصدرية، والأصل كراهة كذا ومخافة كذا وهو قول البصريين). [مصابيح المغاني: 159-184]
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): ( (فصل)
أنى وأين وأينما وأيان
أما أنَّى فإنها تأتي بمعنى كيف، تقول: أنَّى يفتح الحصن، أي: كيف يفتح الحصن، وقد تشرب معنى الاستبعاد بحسب اقتضاء المقام ذلك، كقوله تعالى: {أنَّى لهم الذكرة وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون}، وتكون بمعنى من أين، قال الله تعالى: {يا مريم أنَّى لك هذا} أي: من أين لك هذا، وقوله تعالى: {فأتوا حرثكم أنَّى شئتم}.
صالح للمعنيين، وقد قيل بهما في الآية، وقد جمعهما الكميت في قوله:
أنى ومن أين آبك الطربُ = من حيث لا صبوةٌ ولا ريبُ
وقد يجازون بأنَّى، قال لبيد:
فأصبحت أنى تأتها تشتجر بها
وأما أين وأينما فقد تكون استفهامًا عن مكان مبهم كقولك: أين زيد، وقد تكون شرطًا كقولك: أين لقيت زيدًا فكلمه، وإذا اتصلت بها ما المزيدة زادتها إبهامًا وخصصتها بالشرط دون الاستفهام، وقد تأتي أين بمعنى حيث، تقول العرب: جئت من أين لا تعلم، وفي حرف عبد الله بن مسعود: (ولا يفلح الساحر أين أتى).
وأما أيَّان فإنها بفتح الهمزة وسليم تكسرها، وبها قرأ السلمي {أيان يبعثون}، قال بعض أهل العلم: نرى أن أصلها: أي أوان، فحذفت الهمزة وجعلت الكلمتان كلمة واحدة، وهي في المعنى كمتى وأين حين، قال الله تعالى: {أيان يبعثون} أي: متى يبعثون، وقال تعالى: {أيان يوم الدين}، وعن علي بن عيسى الربعي أن أيان تستعمل في مواضع التفخيم، كقوله تعالى: {يسألُ أيان يوم القيامة} ). [مصابيح المغاني: 184-186]
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): ( (فصل)
إيْ، وأيْ بالكسر والفتح والسكون فيهما، وأيّ بالفتح والتشديد.
أما إيْ المكسورة فإنها حرف جواب بمعنى نعم، فتقع بعد الخبر تصديقًا له نحو: قام زيد، فتقول: إي وربي، وتقع بعد الاستخبار إعلامًا للمستخبر نحو: هل قام يزد؟ فتقول: إي وربي، وتقع بعد الطلب تحقيقًا للمطلوب فيقول اضرب زيدًا فتقول: إي وربي، وزعم ابن الحاجب أنها تقع بعد الاستفهام كقوله تعالى: {ويستنبئونك أحقٌ هو قل إي وربي}، ولا تقع عند الجميع إلا قبل القسم.
وأما أي المفتوحة المخففة فإنها على وجهين:
أحدهما: تكون حرفًا ينادي بها البعيد أو القريب أو المتوسط على خلاف في ذلك، قال الشاعر:
ألم تسمعي أي عبد في رونق الضحى = بكاء حماماتٍ لهن هدير
وفي الحديث «أيْ رب»، وقد تمد ألفها.
وأصحها الأول، نقله ابن مالك عن سيبويه ثم الثاني واختاره المبرد والزمخشري.
الثاني: تكون حرفًا تتقدم التفسير كما تتقدم المكسورة القسم.
قال عمرو بن أبي عمرو: سألت أبي عن قولهم أي فقال: كلمة للعرب تشير بها إلى المعنى، وإذا وقعت بعد تقول وقبل فعل مفسر به ضممت التاء تقول: استكمته الحديث أي سألته كتمانه بضم التاء، ولو جئت بإذا مكانها فتحت فقلت: إذا سألته بفتح التاء لأن إذا ظرف لتقول وقد نظم ذلك بعضهم فقال:
إذا كنيت بأي فعلًا تفسره = فضم تاءك فيه ضم معترف
وإن تكن بإذا يومًا تفسره = ففتحة التاء أمرُ غيرُ مختلف
وأما أي بفتح الهمزة وتشديد الياء وقد تخفف كقول الشاعر:
تنظرت نصرًا والسماكين أيهما = علي من الغيث استهلت مواطره
فإنها اسم يأتي على ثمانية أوجه:
الأول: الجزاء كقوله تعالى: {أيما الرجلين قضيت فلا عدوان علي}، وقوله تعالى: {أيًا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} وهي معربة على هذا الوجه.
والوجه الثاني: الاستفهام الحقيقي عن تميز أحد الأمرين المتشاركين وتكون ملازمة للإضافة كقوله تعالى: {أيكم زادته هذه إيمانًا}، وهي في هذا الوجه لا يعمل فيها إلا ما بعدها لأن لها صدر الكلام كقوله تعالى: {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} ونصبها بينقلبون لا بالفعل المتقدم.
قال الله تعالى: {لنعلم أي الحزبين أحصى} فرفع ولا يقع قبلها في هذا الوجه من الأفعال إلا أفعال الشك واليقين نحو: علمت وظننت مما يجوز الغاؤه.
وهي معربة أيضًا فإن استفهمت بها عن نكرة أعربتها بإعراب الاسم الذي هو استثبات عنه وتحكي كلامه في الرفع والنصب والجر والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث، كما تقول في من، فإذا قيل لك: مربي رجل قلت: أي: يا فتى، في الوصل وتشير إلى الإعراب في الوقف وكذلك تفعل في الجر، فإن قال: رأيت رجلًا قلت: أيًّا يا فتى تعرب وتنون إذا وصت، وتقف على الألف فتقول:
أيًّا، وإذا قال: جاءني رجال ورأيت رجالًا ومررت بالرجال، أيون، وأيين في النصب والجر.
وكذلك تفعل في المثنى والمؤنث فإذا قال: جاءني رجلان، ورأيت رجلين وامرأة قلت: أيان، وأيين في النصب والجر، وأية يا هذا.
ويجوز لك إفراده على كل حال وأن تقول: أيَّا لمن قال رأيت رجلين أو امرأتين أو رجالًا ونساء.
وإن استفهمت بها عن معرفة رفعت أيّا لا غير على كل حال.
وإذا أضيفت إلى المعرفة فإنها سؤال عن الاسم وكانت بعض المعرفة، فلا تضاف إلا إلى معرفة تتبعض ويكون جوابها بالتعيين كقولك: أي الرجلين أخوك وأي الرجال قام، فالجواب أن تقول: زيد أو عمرو، ولا يجوز أن تقول: أي زيد قام، لأن زيدًا لا يتبعض.
وأما قولهم: أي وأيُّك كان شرًا فأخزاه الله فكقولك: أخزى الله الكاذب مني ومنك والمعنى: أيُّنا.
وإذا أضيفت إلى النكرة فإن أيَّا سؤال عن الصفة وتلك الصفة تأتي على عدد النكرة كلها فالجواب على عدد النكرة كلها لا على التعيين كقولك: أيُّ رجل أخوك فالجواب: قصير أو طويل، وتقول: أيُّ رجلين أخواك وأيُّ رجلين قاما؟ فالجواب أن تقولُ: طويلان أو قصيران.
الثالث: الاستفهام التوبيخي: ولم أر أحدًا ذكره لكنه ظاهر كقوله تعالى: {فبأي حديثٍ بعده يؤمنون}، وإن سُمي هذا المعنى بالاستبعاد كان حسنًا.
الرابع: الاستفهام الإنكاري: ولم أر أحدًا ذكره أيضًا كقول الشاعر:
فاذهب فأيُّ فتى في الناس أحرزه = من حتفه ظلم ذي غيٍّ ولا جبلُ
الخامس: تكون موصولة بمعنى الذي ومعناها الخبر وأنكر هذا ثعلب ويرده قول الشاعر:
إذا ما لقيت بني مالك = فسلم على أيهم أفضل
وهي معربة عند أكثر النحاة وخالفهم سيبويه وقال: هي مبنية على الضم إذا أضيفت وحذف صدر الصلة كما في البيت وهو مروي بالضم، وكقوله تعالى: {ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا} على قراءة الرفع، وأما إذا لم تضف أو لم يحذف صدر صلتها فوافق الأكثرين في إعرابها.
وقال الكوفيون وغيره من البصريين هي في الآية استفهامية لا موصولة لأن الموصولة لا تكون عندهم إلا معربة، والبيت مروي عندهم بالخفض أيضًا.
وحكى بعض النحويين المتأخرين لغة ثالثة وهي البناء على الضم في حال الرفع والنصب دون حال الخفض.
فالحاصل فيها إذا أضيفت ولم يكن بعدها كلمة هو ثلاث لغات:
البناء مطلقًا، وهو مذهب سيبويه، والإعراب بالحركات مطلقًا وهو مذهب غيره، والبناء في حال الرفع والنصب فقط.
السادس: تكون صفة دالة على معنى الكمال فتقع صفة للنكرة نحو: زيد رجل أي رجل، وأيما رجل، وما زائدة أي كامل في صفات الرجال.
فإذا وقعت صفة فإن أضيفت إلى مشتق كانت للمدح بالمشتق منه خاصة، كقولك: مررت بعالم أيّ عالم، فالثناء عليه بالمدح خاصة، وإن أضيفت إلى غير المشتق كانت للمدح بكل صفة يمكن أن يثنى بها كقولك: مررت برجلٍ أيّ رجل، فالثناء عليه بكل ما مدح به الرجال.
السابع: التعجب، كقولك: أيّ رجل زيد، قال جميل بثينة:
بثين الزمي لا إن لا إن لزمته = على كثرة الواشين أي معون
الثامن: أن تكون وصلة إلى نداء ما فيه أل نحو: يا أيها الرجل.
فأي اسم مبهم مفرد مبني على الضم وها حرف تنبيه وهي عوض مما كانت أي تضاف إليه، وترفع الرجل لأنه صفة أي.
وزعم الأخفش أن هذه أيضًا موصولة حذف صدر صلتها، والمعنى: يا من هو الرجل، وأنكر كونها وصلة.
ورد قوله بأنه لا يعرف عائد يجب حذفه.
التاسع: ذكره الأخفش كونها نكرة موصوفة نحو: مررت بأيَّ معجب لك، كما تقول بما معجب لك.
قال ابن هشام: وهذا غير مسموع). [مصابيح المغاني: 187-193]