الدرس الرابع
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): (باب الباء وما أوله الباء
أما الباء فتأتي على ثمانية عشر وجهًا.
الأول: الإلصاق، قيل: وهو معنى لا يفارقها ولهذا اقتصر عليه سيبويه، وذلك مثل قولك: مسحت يدي بالأرض، وأمسكت بيد زيد، وهذا إلصاق حقيقي، وأكثر أهل العلم يقولون في: مررت بزيد إنها للإلصاق كأنه التصق المرور بمكان يقرب من زيد، وهذا إلصاق مجازي.
وعن الأخفش أن المعنى مررت على زيد، واستدل بقوله تعالى: {وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل}
قال ابن هشام: والمختار أن مجاز الإلصاق ومجاز الاستعلاء مستعملان فحيث تعين أحدهما حمل عليه، وإذا استوى التقديران فالأكثر استعمالًا أولى بالتخريج عليه، ومررت عليه وإن كان قد جاء في {لتمرون عليهم} وفي {يمرون عليها} وفي قول الشاعر:
ولقد أمر على اللئيم يسبني
إلا أن مررت به أكثر استعمالًا، فكان تقدير الجماعة أولى.
الثاني: الاستعانة وبعضهم يسميه الاعتمال وهي الداخلة على آلة الفعل نحو: كتبت بالقلم وضربت بالسيف وبفلان أصبت الغرض – قيل: ومنه باء التسمية لأن الفعل لا يتأتى على الوجه الأكمل إلا بها وذكر ناس أن هذه والتي قبلها سواء.
الثالث: التعدية للفعل وتسمى باء النقل أيضًا، وهي المعاقبة للهمزة في تصيير الفاعل مفعولًا، وأكثر ما تعدى الفعل القاصر تقول: في ذهب زيد ذهبت بزيد، وأذهبته، ومنه {ذهب الله بنورهم} وقرئ: (أذهب الله نورهم).
قال ابن هشام: وقول المبرد والسهيلي أن بين التعديتين فرقًا وأنك إذا قلت: ذهبت بزيد كنت مصاحبًا له في الذهاب مردود بالآية.
وأما ورودها مع المتعدي فلقول الله تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض} والأصل دفع بعض الناس بعضًا.
الرابع: التسبيب والتعليل، كقوله تعالى: {إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل} وقوله تعالى: {فكلًّا أخذنا بذنبه} قال لبيد:
غلب تشذر بالذحول
وأما قوله تعالى: {وكانوا بشركائهم كافرين} فإنه يحتمل أن يكون المعاني كفروا بها وتبرأوا منها، ويحتمل أن تكون باء السبب كأنه قال وكانوا من أجل شركائهم.
وغاير ابن مالك بين العلية والسببية والفرق بينهما أن العلة موجبة لمعلولها والسببية أمارة على مسببها غير موجبة له، وهذا كقول المعتزلة:
الأعمال علة الجزاء ثوابًا وعقابًا ولا يتخلف الجزاء عن علته.
وأهل السنة يقولون: هي أسباب لمسبباتها فيجوز أن تتخلف، لكنه جعل السببية والاستعانة بمعنى واحد فقال بعد تمثيله بقوله: كتبت بالقلم.
والنحويون يعبرون عن هذه الباء بالاستعانة وآثرت على ذلك التعبير بالسببية من أجل الأفعال المنسوبة إلى الله فإن استعمال السببية فيها يجوز واستعمال الاستعانة فيها لا يجوز.
الخامس: المصاحبة كمع قال المثقب العبدي يصف فرسًا:
داويته بالمحض حتى شتا = يجتذب الآري بالمرود
أي مع المرود، والمرود الوتد، ومنه قول الله جل جلاله: {اهبط بسلامٍ منا} أي: مع سلام، وقوله تعالى: {وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به}.
وقد اختلف أهل العلم في الباء من قوله تعالى: {فسبح بحمد ربك}، فقيل: للمصاحبة والحمد مضاف إلى المفعول أي سبحه حامدًا له، وقيل: للاستعانة والحمد مضاف إلى الفاعل أي سبحه بما حمد به نفسه؛ إذ ليس كل تنزيه بمحمود كتسبيح المعتزلة الذي اقتضى تعطيل كثير من الصفات.
واختلف أيضًا في: سبحانك اللهم وبحمدك، فقيل: إنها جملة واحدة والواو زائدة، وقيل جملتان والواو عاطفة ومتعلق الباء محذوف تقديره: وبحمدك سبحتك.
وقال الخطابي: المعنى وبمعونتك التي هي نعمة توجب على حمدك سبحتك لا بحولي وقوتي فتكون سببية على هذا القول وأقيم المسبب مقام السبب.
السادس: الظرفية كـ «في» قال الشاعر:
إن الرزية لا رزية مثلها = أخواي إذ قتلا بيومٍ واحد
وقول الآخر:
ما بُكاء الكبير بالأطلال
ومنه قوله تعالى: {ولقد نصركم الله ببدرٍ}، وقوله تعالى: {نجيناهم بسحرٍ}، وقوله تعالى: {السماء منفطرٌ به}، أي: فيه.
السابع: المقابلة وهي الداخلة على الأثمان والأعواض، كاشتريته بألف، وكافأت احسانه بضعف.
وقولهم:
هذا بذاك ولا عتب على الزمن
ومنه قوله تعالى: {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} وإنما لم يقدروها بالعلية حذرًا من مقالة المعتزلة: إن الطاعات توجب دخول الجنة فإن المعلل لا يتخلف عن علته بخلاف المعوض فإنه قد يتخلف عن سببه.
واستشكل الفارسي دخول الباء على الآيات في قوله تعالى: {ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلًا}، لأن الباء دخلت على الثمن دون الثمن فلابد من أن تضمر ذا ثمن حتى لا يكون الثمن هو المشتري، قال بعضهم: وعلى رأي الفراء لا يحتاج إلى إضمار؛ لأنه قال: إذا كان المتقابلان في العقود نقدين جاز دخول الباء على كل واحدٍ منهما، وكذلك إذا كانا معنيين نحو: {اشتروا الضلالة بالهدى}.
الثامن: البدل، كقول الشاعر:
فليت لي بهم قومًا إذ ركبوا = شنوا الإغارة فرسانًا وركبانًا.
هكذا ذكره ابن هشام وغيره، ولم يظهر لي فرق بين المقابلة والمبادلة.
التاسع: المجاوزة كـ «عن» فقيل تختص بالسؤال كقوله تعالى: {فاسأل به خبيرًا}، وقوله تعالى: {سأل سائلٌ بعذابٍ واقعٍ} بدليل قوله تعالى: {يسألون عن أنبائكم}، وكقول الشاعر وهو علقمة بن عبدة:
فإن تسألوني بالنساء فإنني = بصيرٌ بأدواء النساء طبيب
وكقول عنترة:
هلا سألت الخيل يا ابنة مالك = إن كنت جاهلةً بما لم تعلمي
أراد: عما لا تعلمين، وكقول الجعدي:
سألتني بأناسٍ هلكوا = شرب الدهر عليهم وأكل
وقال الكوفيون: لا تختص بالسؤال؛ بدليل قوله تعالى: {نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم}، وقوله تعالى: {يوم تشقق السماء بالغمام}.
وكقول النابغة:
كأن رحلي وقد زال النهار بنا = بذي الجليل على مستأنس وحد
أي: وقد زال النهار عنا، يعني: غابت الشمس.
العاشر: الاستعلاء كـ «على» كقوله تعالى: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطارٍ يؤده إليك} الآية؛ بدليل قوله تعالى: {هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل} قال الشاعر:
أرب يبول الثعلبان برأسه = لقد ذل من بالت عليه الثعالب
الحادي عشر: التبعيض كـ «من» أثبت ذلك الأصمعي والفارسي، وابن فارس وابن مالك، قيل: والكوفيون، وجعلوا منه قوله تعالى: {عينًا يشرب بها عباد الله} قال عنترة:
شربت بماء الدحرضين فأصبحت = زوراء تنفر عن حياض الديلم
وقال آخر:
شربن بماء البحر ثم ترفعت = متى لجج خُضرٍ لهن نئيج
وقال عمر بن أبي ربيعة:
فلثمت فاها آخذًا بقرونها = شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
قيل: ومنه قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم}، قال ابن هشام: والظاهر أن الباء للإلصاق، وقيل: هي في آية الوضوء للاستعانة، وإن في الكلام حذفا وقلبا فإن «مسح» يتعدى إلى المزال عنه بنفسه أو إلى المزيل بالباء فالأصل: امسحوا رؤوسكم بالماء، ونظيره قول الشاعر:
كنواح ريش حمامةٍ نجدية = ومسحت باللثتين عصف الإثمد
يقول: إن لثاتك تضرب إلى السمرة فكأنك مسحتها بمسحوق الأثمد فقلب معمولي مسح، وقيل في «شربن» إنه ضمن معنى روين.
وقال الزمخشري: في {يشرب بها} المعنى يشرب بها الخمر كما تقول: شربت الماء بالعسل.
الثاني عشر: القسم وهي أصل حروفه ولذلك خصت بدخولها على المضمر نحو: بك لأفعلن، واستعمالها في القسم الاستعطافي نحو: بالله هل قام زيد، أي: أسألك بالله مستحلفًا.
الثالث عشر: الغاية، كقول الله سبحانه: {وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن}، أي: أحسن إلي، وقيل: إنه ضمن معنى لطف.
الرابع عشر: التوكيد بزيادتها، كقول الله سبحانه: {قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدًا}، وقوله تعالى: {وهزي إليك بجذع النخلة}، وقوله تعالى: {وما الله بغافلٍ عما تعملون}، وقوله تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلمٍ}، وقول الشاعر:
سود المحاجر لا يقرأن بالسور
وقول الشنفري:
وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن = بأعجلهم إذا أجشع القوم أعجلُ
وقول الآخر:
ولكن أجرًا لو فعلت بهين = وهل ينكر المعروف في الناس والأجرُ
وقول امرئ القيس:
فإن تنأ عنها حقبةً لا تلاقها = فإنك مما أحدثت بالمجرب
الخامس عشر: التشبيه كالكاف، قال امرؤ القيس:
فإن تنأ عنها حقبةً لا تلاقها = فإنك مما أحدثت بالمجرب
بكسر الراء كالمجرب، وقال آخر:
إنني والله فاقبل حلفي = بأبيل كلما صلى وصام
معناه: كأبيل وهو الراهب وبمنزلته في الدين والتقوى.
السادس عشر: تكون بمعنى حيث، كقوله تعالى: {فلا تحسبنهم بمفازةٍ من العذاب}، أي: بحيث يفوزون، وكقول امرئ القيس:
فإنك مما أحدثت بالمجرب
على الرواية بفتح الراء والمعنى بموضع التجريب.
(فصل)
بعد: تأتي على وجهين:
أحدهما: التعقيب.
الثاني: تأتي للمعية فتكون بمعنى مع يقال: هو كريم، وهو بعد هذا فقيه، أي: مع هذا، ويتأولون على ذلك قول الله تعالى: {والأرض بعد ذلك دحاها} أي: مع ذلك دحاها، وقوله تعالى: {بعد ذلك زنيم}، وأما قولهم: رأيته بعيدات بين، أي: بعيد فراق، وذلك إذا كان الرجل يمسك عن إتيان صاحبه الزمان ثم يأتيه ثم يمسك عنه نحو ذلك ثم يأتيه قال: لقيته بعيدات بين، وأما قولهم: أما بعد، فهو فصل الخطاب وهو مركب من أمَّا الشرطية التفصيلية المؤكدة وبعد الظرفية، ومعناه والله أعلم: مهما يذكر من شيء بعد كذا وكذا فإن الأمر كذا وكذا.
(فصل)
بيد: ويقال فيها ميد، وروي: «أنا أفصح العرب ميد أني من قريش ونشأت في بني سعد بن بكر» وهو اسم ملازم للإضافة إلى أن وصلتها ولها ثلاثة معان:
أحدها: تكون بمعنى غير الاستثنائية لكنها لا يستثنى بها إلا بعد الانقطاع خاصة، وفي الصحاح للجوهري: بيد بمعنى غير، يقال: إنه كثير المال بيد أنه بخيل، وفي المحكم إن هذا المثال حكاه ابن السكيت، وأن بعضهم فسرها بمعنى على وأن تفسيرها بغير أعلى، وهذا هو المعنى الثاني، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلها وأوتيناه من بعدهم».
الثالث: تكون بمعنى من أجل وأنشد أبو عبيد:
عمدًا فعلت ذاك بيد أني = أخاف إن هلكت لم ترني
وأنشده ابن فارس على حد المعنى الأول، ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أني من قريش واسترضعت في بني سعد بن بكر».
وقال ابن مالك: إنها هنا بمعنى غير، على حد قول الشاعر:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم = بهن فلول من قراع الكتائب). [مصابيح المغاني: 194-209]
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): (
(فصل) بل، ولا بل، وبلى، وبله
أمَّا بل فتستعمل على وجهين:
أحدهما: تكون حرف عطف، ومعناها الإضراب عن الأول، وهو جائز بعد النفي وشبهه وفاقًا، وفي جوازه بعد الإثبات خلاف بين النحويين، فجوزه البصريون ومنعه الكوفيون، قال هشام: محال، ضربت إيَّاك بل أخاك لأن الأول قد ثبت له الضرب، نعم يجوز عند الغلط ويكون استدراكًا لا إضرابًا.
إذا تقرر هذا فإن كان الإضراب بعد النفي والنهي فمعناها: تأكيد إثبات الحكم لما قبلها ونفيه عما بعدها كقولك: ما قام زيد بل عمرو، ولا يقم زيد بل عمرو.
وإن كان بعد الإثبات فمعناه عند من جوزه سلب الحكم عما قبلها وإثباته لما بعدها كقولك: اضرب زيدًا بل عمرًا، وقام زيد بل عمرو.
وسوى المبرد وعبد الوارث بين الإثبات والنفي فزعما أنه يجوز في النفي أن تكون سالبة للحكم عن ما قبلها مثبتة له لما بعدها كالإثبات فيصح عندهما في: ما زيد قائمًا بل قاعد، أن يكون المعنى: بل ولا قاعد، وضعف بما قاله أبو علي الفارسي في مسألة: ما زيد خارجًا بل ذاهب، لا يجوز إلا الرفع؛ لأن الخبر موجب، وما الحجازية لا تعمل في الخبر إلا منفيًا، فلو كانت لنقل حكم الأول لجاز النصب والإجماع منعقد على منعه.
الاستعمال الثاني: تكون حرف ابتداء ولها معان:
أحدها: الإضراب فقط كقولك: ما زيد بقائم بل ذاهب، أي: بل هو ذاهب.
الثاني: الإضراب مع الإبطال كقول الله جل جلاله: {وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا سبحانه بل عبادٌ مكرمون}.
وكقوله تعالى: {أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق}، وكقوله تعالى: {أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون}.
الثالث: الانتقال من غرض إلى غرض فيقطع الكلام الأول ويأخذ في كلام آخر وفيها معنى الإضراب، كقول الله تعالى: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم}، وهذا النوع في القرآن كثير حتى توهم بعضهم أنه لم يأت في القرآن إلا بهذا المعنى وكذلك في الشعر كثير أيضًا.
فمنه قوله تعالى: {قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا} وقوله تعالى: {كتابٌ ينطق بالحق وهم لا يظلمون بل قلوبهم في غمرة من هذا} ومنه قول أبي ذؤيب:
بل هل أريك حمول الحي غادية = كالنخل زينها ينع وإفضاح
وقال آخر:
بل ما عزاؤك من شمس متوجة = يكاد يهلك من تبدو له فرقا
وقال آخر:
بل ما هاج أحزانًا وشجوًا قد شجا
وقال آخر:
بل وليدة ما الأنس من آهالها
فإذا قال الشاعر بل: لم يرد أن ما تكلم به قبل باطل وإنما يريد أنه قد تم وأخذ في غيره، وكلمة «بل» ليست من البيت ولا تعد في وزنه ولكنه جعلت علامة لانقطاع ما قبلها.
وذكر بعضهم لها معنيين:
أحدهما: تكون بمعنى إن، ذكره الأخفش عن بعضهم في قول الله سبحانه: {والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق} معناه إن الذين كفروا، قال: وذلك أن القسم لا بد له من جواب.
الثاني: تكون بمعنى رب مجازًا كما يوضع الحرف موضع غيره اتساعًا.
قال الشاعر:
بل مهمة قطعت بعد مهمه
يعني رب مهمه وقال أبو النجم:
بل منهلٍ ناءٍ عن الغياض
وأما لا بل: فإنها بل زيدت قبلها لا إمَّا لتوكيد الإضراب بعد الإيجاب.
كقول الشاعر:
وجهك البدر لا بل الشمس لو لم = يُقض للشمس كسفةٌ أو أفولُ
وإمَّا لتوكيد تقرير ما قبلها بعد النفي، ومنع ابن درستويه زيادتها بعد النفي.
قال ابن هشام: وليس بشيء، وأنشد:
وما هجرتك لا بل زادني شغفًا = هجرٌ وبعدٌ تراخى لا إلى أجل
وأما بلى فإن أصلها بل وصلت بها ألف لتكون دليلًا على كلام محذوف هذا قول جماعة وقال بعضهم: هي ألف التأنيث بدليل إمالتها، وقال الباقون هي حرف أصلي، ومعناها الجواب بإثبات نفي قد تقدم قبلها فهي مخصصة بجواب النفي لأنها نقيضة لا، نحو قول القائل: ما خرج زيد فتقول: بلى، كأنك قلت: بل خرج زيد، وكذلك إذا دخل الاستفهام على النفي فإنه جار مجرى النفي كقوله تعالى: {ألست بربكم قالوا بلى}، عن ابن عباس وغيره رضي الله عنهم أنهم لو قالوا: نعم كفروا.
ووجه: أن نعم تصديق للمخبر سواء أخبر بنفي أم إيجاب، ونازع جماعة في المحكي عن ابن عباس قالوا: الاستفهام التقريري خبر موجب ونعم بعد الإيجاب تصديق له، وحينئذٍ لا يكون الجواب بها كفرا وسيأتي الكلام على هذا عند الكلام على نعم.
قال ابن هشام: ويشكل عليهم حيث قالوا: إن بلى لا يجاب بها الإيجاب ما وقع في كتب الحديث ففي صحيح البخاري في كتاب الإيمان أنه عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه: «أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة قالوا: بلى»، وفي صحيح مسلم: «أيسرك أن يكونوا في البر سواء، قال: بلى، قال: فلا إذًا»، وفيه أيضًا أنه قال: «أنت الذي لقيتني بمكة، فقال له المجيب بلى».
قلت: ولا إشكال في ذلك جميعه، فإنهم إنما أجابوا النبي صلى الله عليه وسلم بالإضراب، لكونه نزلهم منزلة النافي فوبخهم منبهًا ومذكرًا لهم وتقدير الكلام: أما ترضون أما يسرك، أما أنت الذي لقيتني، وإنما حذف حرف النفي اختصارًا.
ويظهر لي تقرير ما حكي عن ابن عباس وأن الآية معناها الاستفهام التوبيخي لا التقريري لما علمه سبحانه من إعراضهم في الدنيا عن توحيده فكأنه وبخهم بما يؤول إليه أمرهم في الدنيا ويدل على هذا ما أشار إليه سبحانه من ذكر العلة في الآية بقوله تعالى: {أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين}.
فحينئذٍ لو قالوا: نعم كفروا لاستمرارهم على الإعراض والجحود والله أعلم.
وأما بله فتأتي على ثلاثة أوجه:
أحدها: اسم فعل كـ «دع».
وثانيها: اسم مرادف لكيف.
وفتحتها على هذين فتحة بناء.
وثالثها: مصدر بمعنى الترك، وفتحتها على هذا فتحة إعراب.
فيكون ما بعدها منصوبًا على الأول، مرفوعًا على الثاني، مخفوضًا على الثالث.
وقد روي بالأوجه الثلاثة قول كعب بن مالك يصف السيوف:
تذر الجماجم ضاحيًا هاماتها = بله الأكف كأنها لم تُخلق
والأخفش يذهب إلى أنها في البيت بمنزلة المصدر، وقال الشاعر:
تمشي القطوف إذا غنى الحداة لها = مشي النجيبة بله الجلة النجبا
أي: دع الجلة النجبا فإن مشيتها أسرع.
قيل: وتأتي بمعنى غير وسوى ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذخرًا به ما اطلعتهم عليه»، وفي لفظ آخر: «ذخرًا من بله» بزيادة من.
وروى أبو زيد فيها القلب إذا كان مصدرًا وهو قولهم: بهل زيدٍ.
(فصل)
بينا بينما اسمان لزمان غير محدود واشتقاقهما من قولنا: بيني وبينه قيدٌ كذا وكذا فإذا قلنا: بينا نحن عند زيد أتى فلان، فالمعنى: بين أن حصلنا عند زيد وبين زمان آخر أتانا فلان.
قال الشاعر:
فبينا نحن نرقبه أتانا = معلق شكوةٍ وزناد راع
أي: أتانا بين أوقات رقبتنا إياه.
والاسم الواقع بعدهما مرفوع، وقد يجر، وباللغتين ينشد قول أبي ذؤيب:
بينا تعنقه الكماة وروغه = يومًا أتيح له جرئ سلفع.
باب التاء وما أوله التاء
أما التاء فإنها تأتي للقسم مع التعجب وقد يخلو من التعجب وهي حرف جر وتختص باسم الله تعالى، وقد تدخل على رب والرحمن كقولهم: تربي، وترب الكعبة، وتالرحمن.
قال الزمخشري في قول الله تعالى: {وتالله لأكيدن أصنامكم} فيها زيادة معنى التعجب كأنه تعجب من تسهيل الكيد على يده وتأتيه مع عتو نمروذ وقهره.
وتأتي زائدة في حين في قول أبي عبيد وفي الآن كقولهم: اذهب بها تالآن معك، قال أبو وجزة السعدي:
العاطفون تحين ما من عاطفٍ = والمطعمون زمان ما من مطعم
وقال الله تعالى: {ولات حين مناص} زعم أبو عبيدة أنها زائدة كذلك في خط المصحف وسيأتي الكلام عليها في باب اللام إن شاء الله تعالى، وأما ما أوله التاء فمنه: «تعال» وهو أمر، أي: تفاعل من تعالى يتعالى، فإذا أمرت قلت: تعال يا رجل، بفتح اللام، كما تقول: تقاض، وللمرأة تعالي وللمرأتين تعاليا، وللنسوة تعالين، قالوا: وكثرت في الكلام حتى صارت بمنزلة هلم حتى يقال لمن هو في علو: تعال وأنت تريد: اهبط، ولا ينهى بها، ولا يقال منه تعاليت، وقال بعضهم: قد تصرف فيقال: تعاليت إلى شيء أتعالى، وفي ياء المخاطبة في قولك: تعالي، رد على من زعم أنها اسم فعل.
ومنه «تاء» وهو اسم يشار به إلى المؤنث مثل «ذا» للمذكر، وته مثل «ذه».
وفيها لغات: ذي بكسر الذال وإبدال الذال تاء فيقال: تي، وبإبدال الياء هاء فقال: «ته» مع الإشباع والاختلاس.
وتدخل عليها هاء التنبيه فيقال: هاتا، وهاته، وتلحقها كاف الخطاب فيقال: تلك، وتاك، وتيك). [مصابيح المغاني: 209-221]
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): (باب ما أوله الثاء
فمن ذلك: ثم، ويقال فيها: فم، وقد تزاد فيها التاء قال الشاعر:
ولقد أمر على اللئيم يسبني = فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
وقال الأعشى:
ثمت لا تجزونني عند ذاكم = ولكن سيجزيني الإله فيعقبا
وهي حرف نسق تأتي لمعان خمسة:
أحدها: التشريك في الحكم مع الترتيب والمهلة نحو: جاء زيد ثم عمرو، وهي موضوعة لهذه الثلاثة المعاني وفي كل منها خلاف سيأتي ذكره.
الثاني: التشريك والترتيب مع تخلف المهلة فتكون كالفاء الناسقة، ذكره الفراء قال الشاعر:
كهز الرديني تحت العجاج = جرى في الأنابيب ثم اضطرب
لأن الهز متى جرى في الأنابيب يعقبه الاضطراب ولم يتراخ عنه.
الثالث: التشريك مع تخلف الترتيب الذي هو أصل وضعها فيكون معناها كمعنى الواو، زعمه قوم كالفراء والأخفش، واحتجوا بقول الله سبحانه: {خلقكم من نفسٍ واحدةٍ ثم جعل منها زوجها}، وقوله تعالى: {وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه}، وقوله تعالى: {ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ثم آتينا موسى الكتاب تمامًا على الذي أحسن}، وقوله تعالى: {فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد}، وقوله تعالى: {ثم إن علينا بيانه}، وقوله تعالى: {خلقكم من طين ثم قضى أجلًا}، وقال الشاعر:
سألت ربيعة: من خيرها = أيا ثم أما؟ فقالت: لمه
ولا حجة لهم في ذلك فعنه جوابات لأهل العلم يطول ذكرها ولنذكر منها جوابًا واحدًا يعم الآيات والأبيات وذلك: أن ثم هنا لترتيب الأخبار لا لترتيب الحكم، والمعنى: أخبركم أني خلقتكم من نفسٍ واحدة، ثم أخبركم أني جعلت منها زوجها، وأخبركم أني خلقت الإنسان من طين ثم أخبركم أني جعلت نسله من سلالة من ماء مهين، وأخبركم أني خلقته من طين ثم أخبركم أني قضيت الأجل، كما تقول: كلمتك اليوم ثم كلمتك أمس، في هذا الأمر ووافقوا على القول باقتضائها الترتيب في الأسماء المفردة وفي الأفعال وفي ذلك دليل على وضعيتها للترتيب كما قاله الجمهور.
الرابع: تكون زائدة فيتخلف التشريك قاله الأخفش والكوفيون وحملوا عليه قوله تعالى: {حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا}.
وقول زهير:
أراني إذا أصبحت أصبحتُ ذا هوى = فثم إذا أمسيت أمسيت عاديا
وخالفهم الباقون وأجابوا عن الآية بأن ذلك على تقدير الجواب، وعن البيت بزيادة الفاء.
الخامس: تكون بمعنى التعجب فتتخلف عن التشريك أيضًا، ذكره بعضهم كقوله تعالى: {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} وبقوله تعالى: {ثم يطمع أن أزيد كلا}.
ومنه ثم بفتح الثاء اسم بمعنى هناك يشار به إلى المكان البعيد كقوله تعالى: {وأزلفنا ثم الآخرين}.
باب ما أوله الجيم
فمنه جرم وهو فعل بمعنى كسب، فإذا وصلت به لا كقولهم: لا جرم، وكقول الله سبحانه وتعالى: {وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم}.
قال الفراء: هي كلمة كانت في الأصل بمنزلة لابد، ولا محالة، فجرت على ذلك وكثرت حتى تحولت إلى معنى القسم وصارت بمعنى حقًا، فلذلك يجاب عنها باللام كما يجاب عن القسم، ألا تراهم يقولون: لا جرم لآتينك.
قال: وليس قول من قال: جرمت بمعنى حققت بشيء وإنما لبس عليهم الشاعر بقوله:
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة = جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
فرفعوا فزارة كأنه قال: حق لها الغضب وإنما هي منصوبة أي: جرمتهم الطعنة أن يغضبوا.
قال أبو عبيدة: أحقت عليهم الغضب، أي: أحقت الطعنة فزارة أن يغضبوا.
وقال البصريون: جرم بمعنى وجب وحق ولا رد لشيء سبق، فعلى قولهم يكون الوقف على «لا» ثم يبتدئ القارئ بـ «جرم» في قوله تعالى: {وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا} فإنهم قدروها ردًا لما ظنوا أنه ينفعهم ثم يبتدئ «جرم» بمعنى وجب وحق.
ومذهب الكوفيين: أنه لا يوقف على «لا» وأنا لا تفصل من «جرم» ووافقهم أبو حاتم وقال: لا جرم حرف واحد لا يوقف على «لا» دون «جرم».
وقال المفسرون: لا جرم كلمة وعيد.
ومنه جير: ويستعمل في القسم نيابة عن المقسم به، وهو بالكسر على أصل التقاء الساكنين كأمس، وبالفتح للتخفيف كأين وكيف.
فقيل: هو اسم بمعنى حقًا، فيكون مصدرًا وأنشد قول الشاعر:
وقلن على الفردوس أول مشربٍ = أجل جير إن كانت أبيحت دعاثره
وقيل: هو حرف بمعنى نعم، قال ابن هشام: ولو كانت اسمًا لأعربت ودخلت عليها «أل» لم تؤكد «أجل» في قوله:
أجل جير إن كانت ...
ولو كانت اسمًا ما قوبل بها «لا» في قوله:
إذًا تقول لا ابنة العجير = تصدق لا إذا تقول جير
ومنه جلل: وهي كلمة ترد على أربعة أوجه:
الأول: تكون بمعنى نعم، حكاه الزجاج في كتاب الشجرة.
الثاني: تكون اسمًا بمعنى عظيم، قال وعلة بن الجرمي:
قومي هم قتلوا أميم أخي = فإذا رميت يصيبني سهمي
ولئن عفوت لأعفون جللًا = ولئن سطوت لأوهنن عظمي
الثالث: تكون اسمًا بمعنى يسير وهين، وهو من الأضداد، قال امرؤ القيس لما قتل أبوه:
ألا كل شيء سواه جلل
الرابع: تكون للتعليل كقولك: فعلت ذاك من جللك، أي: من أجلك، قال جميل:
رسم دارٍ وقفت في طلله = كدتُ أقضي الحياة من جلله
فقيل: أراد من أجله، وقيل: أراد من عظمته في عيني). [مصابيح المغاني: 222-231]
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): (باب ما أوله الحاء
فصل: حتى لها ثمان معان وثلاثة استعمالات، أما المعاني: فتكون للغاية وهو الأغلب عليها، وتكون للتعليل، وتكون للاستثناء وهو أقلها، وقل من ذكره، وأما الاستعمالات:
فالأول منها: أن تكون حرف جر بمنزلة إلى، وهذه تدخل على الأسماء فتختص بمعنى الغاية كإلى، إلا أن ما بعدها يدخل فيما قبلها على الأصح بخلاف إلى، ومن شرطها:
أن يكون المجرور آخر جزء من الشيء أو ما يلاقي آخر جزء من ذلك، كقولك: أكلت السمكة حتى رأسها، ونمت البارحة حتى الصباح، ولا تقول: حتى نصفها أو ثلثها كما تقول: إلى نصفها أو ثلثها، وأما قول الشاعر:
عينت ليلة فما زلت حتى = نصفها راجيًا فعدت يؤوسا
فليس محل الاشتراط إذ لم يقل: فما زلت في تلك الليلة حتى نصفها وإن كان المعنى على هذا لكنه لم يصرح به.
وتدخل على الأفعال المستقبلة فتنصبها بإضمار «أن» نحو: سرت حتى أدخل المدينة، ويكون الفعل وأن في تأويل المصدر مخفوض بحتى.
وإذا دخلت على الأفعال المستقبلة جاءت للثلاثة المعاني.
فالغاية كقول الله سبحانه وتعالى: {لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى}.
والتعليل كقوله تعالى: {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا} أو قوله تعالى: {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا}.
وقوله سبحانه: {فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} يحتمل الغاية والتعليل.
والاستثناء كقول الشاعر:
ليس العطاء من الفضول سماحة = حتى تجود وما لديك قليل
وكقول الآخر:
والله لا يذهب شيخي باطلًا = حتى أبير مالكًا وكاهلًا
لأن ما بعدها ليس غاية لما قبلها ولا مسببًا عنه، وجعل بعضهم من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه» إذ زمن الميلاد لا يتطاول فتكون حتى فيه للغاية ولا كونه يولد على الفطرة علة لليهودية والنصرانية فتكون للتعليل.
قال ابن هشام: ولك أن تخرجه على أن فيه حذفًا، أي: يولد على الفطرة ويستمر على ذلك حتى يكون.
الاستعمال الثاني: أن تكون حرف ابتداء، أي: يبتدأ بعدها ومعناها على هذا الاستعمال الغاية، فتدخل على الجملة الاسمية كقول الفرزدق:
فيا عجبًا حتى كليب تسبني = كأن أباها نهشلٌ أو مجاشع
وقول جرير:
فما زالت القتلى تمج دماءها = بدجلة حتى ماء دجلة أُشكلُ
وتدخل على الفعلية إذا كان فعلها ماضيًا أو بتأويل الماضي نحو قوله تعالى: {حتى عفوا}، وقوله تعالى: {حتى يقولُ الرسول} على قراءة الرفع ونحو قول الشاعر:
سريت بهم حتى تكل مطيهم = وحتى الجياد ما يقدن بأرسان
على رواية من رفع «تكل» وتكون قد دخلت في البيت على الجملتين.
ومعناها في هذا الاستعمال: الحال الواقع بالنظر إلى وقت الغاية، ومعناها على الاستعمال الأول: الغاية بالنظر إلى الزمن الماضي الممتد إلى وقت الغاية، ولا تخلوا من هذا المعنى أصلًا، ولهذا وجب نصب الفعل المستقبل بها حيث تخلص للاستقبال كقوله تعالى: {لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى}، ووجب رفعه حيث تخلص للحال كقوله: سرت حتى أدخل المدينة إذا قلت ذلك في حال الدخول، وجاز الوجهان فيما احتمل الحال والاستقبال كقوله تعالى: {حتى يقول الرسولُ} فمن نظر إلى الحال رفع ومن نظر إلى الماضي الممتد إلى وقت الغاية، نصب.
الاستعمال الثالث: وهو قليل أن تكون عاطفة، إمَّا كالواو أو كالفاء نحو: قدم الجيش حتى الأتباع، ومعناها في هذا الاستعمال الغاية أيضًا، ومن شرطها أن يكون الثاني من الأول إمَّا بعضًا من جمع نحو: قدم الحجاج حتى المشاة، أو جزءً من كل ، نحو: أكلت السمكة حتى رأسها، أو كجزء من كل نحو: أعجبتني الجارية حتى حديثها.
وإذا كان الثاني غير الأول امتنع العطف، فلا يجوز: كلمت العرب حتى العجم؛ لأن حتى إنما دخلت لما تتناهي إليه الأشياء من أعلاها أو أسفلها مما يكون منتهي في الغاية، فإذا قلت: ضربت القوم، جاز أن يتوهم السامع أن زيدًا لم يدخل في الضرب، إمَّا لأنه أعلاهم أو لأنه أدونهم.
ومعيارها «إلا» فحيث يصح دخول «إلا» يصح العطف بها، وحيث يمتنع دخول «إلا» يمتنع العطف بها، فكما لا يجوز: كلمت أخاك إلا أباك، لا يجوز: ضربت أخاك حتى أباك.
وأجاز الفراء: إنه ليقاتل الرجالة حتى الفرسان، وإن كلبي ليصيد الأرانب حتى الظباء، خفضًا ونصبًا، قال: لأن الظباء وإن كانت مخالفة للأرانب فإنها من الصيد وهي أرفع منها.
وقال البصريون: هذا خطأ وفيه بطلان الباب.
ويقرب قول الفراء قول الشاعر:
ألقى الصحيفة كي يخفف رحله = والزاد حتى نعله ألقاها
فجاز العطف هنا، وإن كان النعل غير الصحيفة والزاد، لكن قوله: ألقى الصحيفة والزاد في معنى: ألقى ما يثقله والنعل يثقله، فجاز عطفها، وهذا مذهب البصريين.
وأما الكوفيون فلا يجعلون «حتى» حرف عطف، وإنما يرفعون ما بعدها وينصبونه ويجرونه بإضمار عامل ويجعلون «حتى» ابتدائية.
فصل حاشا
كلمة معناها التنزيه، قال الشاعر:
حاشا أبي ثوبان إن به = ضنا عن الملحاة والشتم
واشتقاقها من الحشا وهو الناحية، قال الشاعر:
بأي حشًا أمسى الخليط المباين
تقول: خرجوا حاشا زيدًا، أي: اجعله في ناحية من لم يخرج ولا تجعله فيمن خرج، ومن ذلك قولهم: لا أحاشي بك أحدًا، أي: لا أجعله وإياك في حشا واحد، أي: في ناحية واحدة.
وتستعمل على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون فعلًا متعديًا متصرفًا، تقول: حاشيته بمعنى استثنيته، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «أسامة أحب إلي ما حاشا فاطمة».
قال ابن هشام: وما نافية والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم لم يستثن فاطمة، وتوهم ابن مالك أنها ما المصدرية وحاشا الاستثنائية، فاستدل به على أنه قد يقال: قام القوم ما حاشا زيدًا قال: ويرده أن في معجم الطبراني: ما حاشا فاطمة ولا غيرها، انتهى.
قلت: ويشهد لقول ابن هشام قول سيبويه في استدلاله على حرفية «حاشا» الاستثنائية لو كانت فعلًا لجاز أن تكون صلة لـ «ما» كما يجوز ذلك في «خلا» فلما امتنع أن يقال: جاءني القوم ما حاشا زيدًا، دل على أنها ليست بفعل ويشهد له أيضًا قول الشاعر:
رأيت الناس ما حاشا قريشًا = وإنا نحن أفضلهم فعالا
ولو كانت «ما» في البيت مصدرية لم يكن له التفضيل على قريش والمراد خلافه، ودليل تصرف هذا الفعل قول النابغة:
ولا أرى فاعلًا في الناس يشبهه = ولا أحاشي من الأقوام من أحد
وتوهم المبرد أن هذا مضارع «حاشا» التي يستثنى بها، وإنما تلك حرف أو فعل جامد لتضمنه معنى الحرف.
ثانيها: أن تكون حرف استثناء، فذهب سيبويه وأكثر البصريين إلى أنها حرف دائمًا بمنزلة «إلا» لكنها تجر المستثنى، وذهب الجرمي والمازني والمبرد، والزجاجي، والأخفش، وأبو زيد، والفراء، وأبو عمرو إلى أنها تستعمل كثيرًا حرفًا فتخفض بها، وقليلًا فعلًا متعديًا جامدًا لتضمنه معنى «إلا» فتنصب بها، واحتجوا بأنه سمع: اللهم اغفر لي ولمن يسمع حاشا الشيطان وأبا الأصبغ، ويقول الشاعر:
حاشا أبا ثوبان إن به = ضنا عن الملحاة والشتم
ويروى أيضًا: حاشا أبي.
واحتج المبرد أيضًا ببيت النابغة المتقدم، وقد تقدم توهيمه، واستدلوا أيضًا بأنها يدخلها الحذف كقولهم: حاش لزيد، والحذف إنما يقع في الأسماء والأفعال دون الحروف، وبأنه يقال: حاشا لزيد، وحرف الجر لا يدخل على حرف الجر.
ثالثها: أن تكون اسمًا مرادفًا للتنزيه، فيقال: حاشا لله، كما يقال تنزيهًا لله، بدليل قراءة بعضهم: (حاشًا لله) بالتنوين، وقراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (حاش الله)، كمعاذ الله، وليسا جارا ومجرورًا خلافًا لتوهم ابن عطية ذلك لتنوينها في قراءة بعضهم كما مر ولدخولها على اللام في قراءة السبعة، والجار لا يدخل على الجار، وإنما ترك التنوين في قراءتهم، لبناء «حاشا» لشبهها بحاشا الحرفية، وزعم المبرد وابن جني والكوفيون أن هذه فعل أيضًا.
(فصل)
حيث: ظرف مكان مبهم مثل «أين» في الإبهام والمعنى؟ قال الله تعالى: {ولا يفلح الساحر حيث أتى}، وفي حرف ابن مسعود رضي الله تعالى عنه (أين أتى) والعرب تقول: جئت من أين لا تعلم، أي: من حيث لا تعلم.
وقال الأخفش: قد ترد للزمان.
وإذا اتصلت بها «ما الكافة» ضمنت معنى الشرط وجزمت الفعلين، قال الشاعر:
حيثما تستقم يقدر لك الله = نجاحًا في سالف الأزمان
قال ابن هشام: وفي هذا البيت دليل على مجيئها للزمان.
وهي في استعمالها ملازمة للإضافة إلى الجمل، وملازمتها للفعلية أكثر، وندرت إضافتها إلى المفرد كقول الشاعر:
ببيض المواضي حيث لي العمائم
والكسائي يقيسه.
وفيها لغات:
حيث بالياء وهو الأفصح، وحوث بالواو وهي لغة طيء.
ومن العرب من يبنيها على الضم تشبيهًا بالغايات من حيث ملازمتها للإضافة ومنهم من يبنيها على الفتح مثل: كيف استثقالًا للضم مع الياء وحكى الكسائي عن العرب: حيث بالكسر، ومن العرب من يعربها وقراءة من قرأ: {من حيث لا يعلمون} بكسر الثاء تحتمل لغة البناء وتحتمل الإعراب.
باب ما أوله الخاء
ومنه «خلا» و«ما خلا»
أما «خلا» فمعناها الاستثناء، تقول: قام القوم خلا زيد، وأصلهما من قولنا: خلا البيت، وخلا الإناء إذا لم يكن فيه شيء، كذلك إذا قلنا: خرج الناس خلا زيد، فإنما نريد أنه خلا من الخروج أو خلا الخروج منه، ومنه قول العرب: افعل ذاك وخلا ذم، يريدون: عداك الذم وخلوت من الذم.
وتستعمل على وجهين:
أحدهما: تكون حرف استثناء جارًا للمستثنى فهي عند بعض النحويين حرف جر بمنزلة «حاشا» وعند بعضهم مصدر مضاف.
الثاني: تكون فعلًا متعديًا ناصبًا للمستثنى فتقول: قام القوم خلا زيدًا، فتضمر فيها الفاعل كأنك قلت: خلا من جاءني من زيد.
وأما «ما خلا» كقول الشاع:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
فلا يجوز فيه إلا النصب؛ لأن خلا لا تكون بعد «ما» إلا صلة لها، وهي معها مصدرية، والتقدير: كل شيء خلو الله باطل، أي: خلوه من الله باطل، فدخولها يعين «خلا» للفعلية.
وزعم الربعي والكسائي والفارسي، وابن جني أنه قد يجوز الجر على تقدير «ما» زائدة، ورد قولهم بأن «ما» لا تزاد قبل الجار والمجرور بل بعده، كقوله تعالى: {عما قليلٍ}، {فبما رحمةٍ}، وإن قالوا بالسماع فهو من الشذوذ بحيث لا يقاس عليه). [مصابيح المغاني: 232-246]