الدرس الخامس
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): (باب ما أوله الذال المعجمة
ومنه «ذو» و«ذا» و«ذات» و«ذه» و«ذيت».
فأما «ذو» فإنه يأتي على وجهين:
أحدهما: يكون بمعنى صاحب، ولا يكون إلا مضافًا، فإن وصفت به نكرة أضفته إلى نكرة، وإن وصفت به معرفة أضفت إلى ما فيه الألف واللام، كقوله تعالى: {ذو العرش المجيد}، ولا يجوز أن تضيفه إلى مضمر ولا إلى علم وما أشبهه، وهو يؤنث ويثنى ويجمع، فتقول: مررت برجلٍ ذي مال، وبامرأة ذات مال، وبرجلين ذوي مال، بفتح الواو، قال الله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدلٍ منكم}، وتقول: مررت برجالٍ ذوي مال، بالكسر.
الثاني: يكون بمعنى الذي في لغة طيء، ومن حقها أن توصف بها المعارف فتقول: أنا ذو عرفت، وذو سمعت .... قال الشاعر:
فإن بيت تميمٍ ذو سمعت به = فيه تنمت وأرست عزها مضر
ثم منهم من يجعل «ذو» للمذكر والمؤنث والمثنى والمجموع على كل حال في الرفع والنصب والجر كـ «من» و«ما» فيقول: هذه هند ذو سمعت بها ورأيت هندًا ذو سمعت بها، ومررت بهندٍ ذو سمعت بها، ورأيت أخوك ذو سمعت بهما، ورأيت القوم ذو سمعت بهم، قال الشاعر:
فإن الماء ماء أبي وجدي = وبئري ذو حفرت وذو طويت
وقال آخر:
ذاك خليلي وذو يعاتبني = يرمي ورائي بامسهم وامسمله
يريد: الذي يعاتبني، والواو زائدة.
ومنهم من يقول: «ذات» للمؤنث وتثنى وتجمع فيقال: ذوا، وذوو، وذوات، قال الفراء: أنشدني بعضهم:
جمعتها من أينقٍ موارق = ذوات ينهضن بغير سائق
وقال الفراء: سمعت بعضهم يقول: بالفضل ذو فضلكم الله به وبالكرامة ذات أكرمكم الله به، يريد بها، فلما أسقط الألف جعل الفتحة التي كانت فيه الهاء عوضًا منها.
وأما «ذا» فتستعمل على خمسة أوجه:
أحدها: اسم يشار به إلى الخاص وتلحقه كاف الخطاب، فيقال: «ذا» وتزاد فيه اللام فيقال: «ذلك» وفرق بينهما في المعنى فقيل: «ذا» للقريب و«ذاك» للمتوسط، و«ذلك» للبعيد.
وتدخل عليها هاء التنبيه فيقال: هذا، وهذاك.
ثانيها: يكون بمعنى صاحب إذا كان منصوبًا، كقولك: رأيت ذا مال.
ثالثها: يكون بمعنى الذي وذلك إذا كان بعد «ما» و«من».
كقول السائل: ماذا رأيت؟ فتقول: متاع حسن.
قال لبيد:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول = أنحب فيقضى أم ضلالٌ وباطلُ
وجوز الكوفيون كونها بمعنى الذي مع التجرد من مصاحبة «ما» و «من» احتجوا بقول الشاعر:
عدس ما لعباد عليك إمارةٌ = أمنت وهذا تحملين طليق
رابعها: تكون مركبة مع «ما» بمنزلة اسم واحد، كقول الشاعر:
يا خزر تغلب ماذا بال نسوتكم
وكقولهم: ماذا رأيت؟ فتقول: خيرًا، كأنه قال: ما رأيت؟، ولو كان «ذا» هنا بمنزلة الذي لكان الجواب: خيرٌ بالرفع، وقد قرئ قوله تعالى: {يسألونك ماذا ينفقون قل العفو} بالرفع والنصب، فمن رفع جعلها بمعنى الذي، ومن نصب جعلها مركبة مع «ما» الاستفهامية، وسيأتي ذكر هذا وغيره عند الكلام على «ماذا» في باب الميم إن شاء الله تعالى.
وكذلك إذا جاءت بعد «من» فإن رفعت الكلام بعدها فهي بمعنى الذي وكان معناها الإنكار، كقولك: من ذا خيرٌ منك. ومنه قوله تعالى: {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه}، وإن نصبت الكلام بعدها كانت بمعنى الإشارة، كقولك: من ذا خيرًا منك، ولا تكون زائدة بحال، بخلافها إذا وقعت بعد «ما».
خامسها: تكون زائدة بعد «ما» الاستفهامية، كقولك: ماذا صنعت؟ أي: ما صنعت؟ ذكره جماعة منهم ابن مالك ونسب القول به إلى الكوفيين وخلافه إلى البصريين.
وأما «ذات» فتكون في المؤنث بمعنى صاحبة، وتكون بمعنى التي كقولهم وبالكرامة ذات أكرمكم به، وتكون كناية عن ساعة من يوم وليلة أو غير ذلك كقولك: ذات غداة، وذات عشية، قال الشاعر:
لما رأت أرقي وطول تقلبي = ذات العشاء وليلي الموصولا
وذلك مسموع في أوقات مخصوصة ولم يقولوا ذات شهر.
وتكون كناية عن الحال، كقول الشاعر:
وأهل خباءٍ صالحٍ ذات بينهم = قد احتربوا في عاجل أنا أجله
ومن هذا قول الله سبحانه وتعالى: {وأصلحوا ذات بينكم}، أي: الحال بينكم، وتكون للبنية، تقول: هو في ذاته صالح، أي: في بنيته وخلقته.
وتكون للنية والإرادة، كقوله عز وجل: {عليمٌ بذات الصدور}، أراد: السرائر.
وأما «ذه» فإنه اسم يشار به إلى الأنثى الحاضرة وفيه لغات:
ذي، بالياء وتبدل منها ألفًا مع الإشباع والاختلاس.
وتدخل عليها هاء التنبيه فتقول: هذي وهذه، وتلحقها كاف الخطاب إلا «ذي» فلا تقول «ذيك».
وأما «ذيت» فقال أبو عبيدة: تقول: كان من الأمر ذيت وذيت، معناه: كيت وكيت، ولا تستعملان إلا مكررتين ومعناهما الكناية عن الحديث والخبر كما كني بفلان عن الأعلام، وبهن عن الأجناس، وهما مخففتان من «كيه وذيه» وكثير من العرب يستعملونها على الأصل، قد جاء فيهما الفتح والكسر والضم.
باب ما أوله الراء
ومنه «رُب» وهي حرف جر عند البصريين، وقال الكوفيون بإسميتها، واحتجوا بأنه أخبر عنها في قول الشاعر:
إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن = عارًا عليك ورب قتلٍ عارُ
قالوا: ولا حجة فيه بل «عار» خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو.
وفيها لغات: ضم الراء وفتح الباء مع التشديد وهو الأصل، ومع التخفيف، وقد قرئ بذلك في قوله تعالى: {ربما يود الذين كفروا}.
وقال الشاعر:
أزهير إن يشب القذال فإنه = رب هيضلٍ لجبٍ لففت بهيضل
وتزاد فيها التاء كما زيدت في ثم، وأنشد أبو زيد:
ما وي بل ربتما غارةٍ = شعواء كاللذعة بالميسم
وأنشد أيضًا:
يا صاحبا رُبت إنسان حسن = يسأل عنك اليوم أو يسأل عن
والذي اختاره محققو المتأخرين أن معناها التكثير غالبًا، وترد للتقليل قليلًا.
وذهب الأكثرون إلى دعوى التقليل دائمًا، وذهب جماعة إلى التكثير دائمًا، فمن التكثير قول الشاعر:
رب ركبٍ قد أناخوا حولنا = يشربون الخمر بالماء الزلال
وقول الراجز:
ربما أوفيت في علمٍ = ترفعن ثوبي شمالات
وقول الآخر: فيا رب يومٍ قد لهوت وليلةٍ = بآنسة كأنها خط تمثال
ومنه قوله تعالى: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين}، وقوله صلى الله عليه وسلم: «رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة».
ومن التقليل قول أبي طالب في النبي صلى الله عليه وسلم:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه = ثمالُ اليتامى عصمةٌ للأرامل
أي: رب أبيض، وقول الشاعر في آدم وعيسى والقمر:
ألا رُب مولودٍ وليس له أب = وذي ولد لم يلده أبوان
وذي شامةٍ غراء في حر وجهه = ويكمل في ست معا وثمان
ولها أحكام:
أحدها: يكون لها صدر الكلام والاستفهام فتقول: رب رجلٍ جاءني ولا تقل جاءني رب رجل.
ثانيها: دخولها على الاسم دون الفعل ويجب كونه نكرة فتقول: رب رجلٍ، إلا أن تدخل عليها «ما» فيجوز ذلك فتقول: ربما قام زيد، وربما زيد لقيته.
قال الشاعر:
ربما أوفيت في علمٍ = ترفعن ثوبي شمالات
وقال أبو دؤاد الإيادي:
ربما الجامل المؤبل فيهم = وعناجيج بينهن المهار
وأما دخولها على الضمير في قولك: ربها رجلًا قد لقيت، فإنه كناية عن مجهول يفسره ما بعده، وينتصب على التمييز فأشبه النكرات.
ولأجل هذا وحده البصريون في التثنية والجمع فتقول: ربه رجلين قد رأيتهما وربه رجالًا قد رأيتهم، وربه نساء قد رأيتهن، وحكى الكوفيون: التثنية والجمع والتأنيث فقالوا: ربهما وربهم، وربهن.
فمن وحَّد قال: إنه كناية عن مجهول يعتمد فيه على التفسير فيغني عن تثنيته وجمعه.
ثالثها: يجب :كون النكرة موصوفة، فلا تقل رب رجل، وتسكت حتى تقول: رب رجلٍ صالح، أو رب رجلٍ عندك، وأما قول الشاعر:
إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن عارً عليك ورب قتل عارٌ
فإنما أراد: هو عارف، حذف المبتدأ، كذا قدرة البصريون.
رابعها: أنها تأتي للمضي وللحال دون الاستقبال، سواء دخلت عليها «ما» الكافة أو تجردت عنها تقول: رب رجل قام، ويقوم، ولا تقل: رب رجل سيقوم، ورجح ابن هشام دخولها على المستقبل واحتج بقول الشاعر:
فإن أهلك فرب فتى سيبكي = على مهذب رخص البنان
وبقوله: يا رب قائلةٍ غدا = يا لهف أم معاويه
وبقوله تعالى: {ربما يود الذين كفروا}.
ولا حجة له في ذلك، أما البيتان فإنهما فيهما ليست داخلة للاستقبال وإنما معناه: رب رجل موصوف بأنه سيبكي، ورب امرأة موصوفة بالقول غدا، كما تقول: رجل مسيء اليوم ومحسن غدا، أي: يوصف بهذا، هكذا أوله بعضم.
وأما الآية فعنها جوابات:
أحدها: ولم يذكر ابن هشام غيره أن الفعل مؤول بالماضي كقوله تعالى: {ونفخ في الصور}، قال ابن هشام. «وفي هذا تكلف لاقتضائه أن الفعل المستقبل عبر به عن ماض متجوز عن المستقبل».
ومقتضى كلامه أن قوله «يود» عبر به عن ماض هو «ود» وأن «ود» عبر به عن «يود» فكأن المعنى: إن الكفار لم يودوا ولكنهم سيودون.
ثانيها: أنها دخلت على المستقبل في كلام الله سبحانه لصدق الوعد، فكأنه قد كان؛ لأن القرآن نزل وعده ووعيده وسائر ما فيه حقًا لا كذب فيه فجرى الكلام فيما لم يكن كمجراه في الكائن، ألا ترى قوله عز وجل: {ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت}، {ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم}، {ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم}، أنه لم يكن، وجاء في اللفظ كأنه كان لصدقه في المعنى وهو كائن لا محالة.
وهذا أبين من الأول وإن كان المأخذ واحدًا.
ثالثها: قال الرماني: إنما جاز لأن المستقبل معلوم عند الله تعالى كالماضي، وذلك لأن التكثير والتقليل إنما يكونان فيما عرف حده والمستقبل معلوم الحد عند الله سبحانه وعند المخلوقين مجهول، فجاز في كلامه سبحانه ولم يجز في كلامهم). [مصابيح المغاني: 247-262]
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): (باب السين وما أوله السين
أما السين فحرف يختص بالمضارع ويخلصه للاستقبال، ولها ثلاثة معان:
أحدها: التنفيس في الزمن المستقبل.
الثاني: زعمه الزمخشري وهو أنها إذا دخلت على فعل محبوب أو مكروه أفادت أنه واقع لا محالة، وقد أومأ إلى هذا في سورة البقرة فقال في قوله تعالى: {فسيكفيكهم الله} معنى السين أن ذلك كائن لا محالة وإن تأخر إلى حين، وصرح به أيضًا في سورة براءة فقال في قوله تعالى: {أولئك سيرحمهم الله}، السين مفيدة وجود الرحمة لا محالة.
قال ابن هشام: ووجهه أنها تفيد الوعد والوعيد بحصول الفعل فدخولها عليه مقتض لتوكيده وتثبيت معناه.
وعندي أنه إنما أخذ لها هذا المعنى من نظيرها وهي «لن» فكما أنها تفيد عنده تأبيد النفي أو تأكيده على اختلاف عنه فكذلك السين تفيد الوقوع لا محالة عنده، والدليل على أنها نظيرها ويقتضيها قول الخليل: أن سيفعل جواب: لن يفعل، كما أن «لتفعلن» جواب لا تفعل، لما في «لا تفعل» من اقتضاء القسم.
الثالث: زعمه بعضهم أنها قد تأتي للاستمرار لا للاستقبال، ذكره في قوله تعالى: {ستجدون آخرين} الآية، واستدل عليه بقوله تعالى: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم}، مدعيًا أن ذلك إنما نزل بعد قولهم: {ما ولاهم}، قال: فجاءت السين إعلامًا بالاستمرار لا بالاستقبال، انتهى، قال ابن هشام: وهذا الذي قاله لا يعرفه النحويون وما استند إليه من أنها نزلت بعد قولهم غير موافق عليه.
قال الزمخشري: فإن قلت: أي فائدة في الإخبار بقولهم قبل وقوعه؟ قلت: فائدته أن المفاجأة للمكروه أشد، والعلم به قبل وقوعه أبعد عن الاضطرار إذا وقع، ا.هـ.
قال ابن هشام: ولو سلم فالاستمرار إنما استفيد من المضارع كما تقول: فلان يقري الضيف، ويصنع الجميل، تريد أن ذلك دأبه، والسين مفيدة للاستقبال؛ إذ الاستمرار إنما يكون في المستقبل.
فصل سوف
قال سيبويه: سوف كلمة تنفيس فيما لم يكن بعد ومدتها أوسع من السين عند البصريين، ويقال فيها «سف» بحذف الوسط، و«سو» بحذف الأخير، و«سي» بحذفه وقلب الوسط مبالغة في التخفيف حكاها صاحب المحكم.
وتنفرد عن السين بدخول اللام عليها نحو: {ولسوف يعطيك ربك فترضى}، وبأنها قد تفصل بالفعل الملغى كقول الشاعر:
وما أدري وسوف إخالُ أدري = أقومٌ آلُ حصنٍ أم نساءُ.
فصل سواء
لها ستة معان:
الأول: يكون بمعنى العدل والاستواء، قال الله تعالى: {فانبذ إليهم على سواء}، ويوصف به المكان وغيره فإن وصف به المكان ففيه ثلاث لغات أفصحها القصر مع الكسر، كقوله تعالى: {مكانًا سوى}.
وثانيها: القصر مع الضم، وقد قرئ بهاتين.
وثالثها: المد مع الفتح.
وإن وصف بها غير المكان ففيه اللغة الأخيرة وهي الفتح مع المد، كقولك: مررت برجلٍ سواءٍ والعدم، وكقوله تعالى: {فانبذ إليهم على سواء}.
الثاني: يكون بمعنى الوسط فتمد مع الفتح، قال الله عز وجل: {في سواء الجحيم}، وذكر الجوهري فيه لغة القصر مع الكسر، قال موسى بن جابر:
وجدنا أبانا كان حل ببلدةٍ = سوًى بين قيسٍ قيس عيلان والفزر
أي وسطًا بين الفريقين، ولا أدري هل يجوز فيه اللغة الثالثة أو لا؟
الثالث: تكون بمعنى التمام فتمد مع الفتح كقولك: هذا درهم سواء، أي: تام، ذكره ابن هشام، ولعل قولهم لليلة: ثلاث عشرة: ليلة السواء من هذا المعنى.
الرابع: تكون بمعنى القصد، ذكره الجوهري، قال الشاعر:
ولا أصرفن سوى حذيفة مدحتي = لفتى العشي وفارس الأجراف
وضبطه ابن هشام بالقصر مع الكسر، قال: «وهو أغرب معانيها».
الخامس: تكون بمعنى غير، قال الأعشى:
وما عدلت عن أهلها لسوائكا
وتقع صفة واستثناء كما تقع غير، وفيها أربع لغات: الضم مع القصر، والفتح مع المد، والكسر مع القصر، حكاه الجوهري عن الأخفش، وزاد ابن هشام الكسر مع المد.
السادس: سوى: بالضم مع القصر اسم ماء لكلب، قال الراجز:
فوز من قراقرٍ إلى سوى.
فصل سيما
أصله «سي» اتصلت به «ما» والسي: المثل وهو بمنزلته وزنًا ومعنى، وما بعده يجوز فيه الجر والرفع والنصب، وقد روي بالثلاثة الأوجه، قول امرئ القيس:
ألا رب يومٍ صالحٍ لك منهم = ولا سيما يوم بدارة جلجل
فالجر على الإضافة و«ما» زائدة بينهما، كقوله تعالى: {أيما الأجلين قضيت} وهو أرجحها، والنصب على التمييز و«ما» كافة عن الإضافة، والرفع على إضمار المبتدأ و«ما» إمَّا موصولة وهو ضعيف لحذف العائد المرفوع مع عدم طول الفصل، وإمَّا نكرة موصوفة بالجملة تقديره: ولا مثل شيء هو يوم، وهو أجود من الأول.
وتشديد الباء من «سيما» ودخول «لا» عليها ودخول الواو على «لا» واجب.
قال ابن فارس: سمعت أبا الحسن المعروف بابن التركية يقول: سمعت ثعلبًا يقول: من قاله بغير اللفظ الذي قاله امرؤ القيس فقد أخطأ.
وذكر الأخفش أنه قد تخفف «الياء» وقد تحذف «الواو» قال الشاعر:
فـ بالعقود وبالأيمان لا سيما = عقد وفاء به من أعظم القرب
وتثنيته سيان، فيستغنى عن الإضافة كما استغنى عنها في قوله:
والشر بالشر عند الله مثلان
ويستغنى بتثنيته عن تثنية سواء فلم يثنون إلا شذوذًا كقول الشاعر:
فيا رب إن لم تقسم الحب بيننا = سواءين فاجعلني على حبها جلدًا.
باب ما أوله الشين
ومنه «شتان» وهو اسم خبر وأصله: من التشتت وهو التفريق والتباعد، يقال: شتان ما هما، أي: بعد ما بينهما، ويقال: هو الأفصح، وينشدون قول الأعشى:
شتان ما يومي على كورها = ويوم حيان أخي جابر
وقال آخر:
شتان هذا والعناق والنوم = والمشرب البارد في ظل الدوم
وربما قالوا: شتان ما بينهما وليس بفصيح، قال الأصمعي: ولا يقال: شتان ما بينهما، قال: وقول الشاعر:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى = يزيد سليم والأغر ابن حاتم
ليس بحجة، إنما هو مولد، والحجة قول الأعشى، قال الزمخشري: ولم يستبعده بعض العلماء عن القياس). [مصابيح المغاني: 263-272]
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): (باب ما أوله العين
فصل: عن
تستعمل على ثلاثة أوجه:
أحدها: تكون اسمًا بمعنى جانب:
وهو إمَّا أن تدخل عليها من وهو كثير، قال الشاعر:
فقلت للركب لما أن علا بهم = من عن يمين الحبيا نظرة قبل
وقال قطري بن الفجاءة:
فلقد أراني للرماح دريئة = من عن يميني مرةً وأمامي
و«من» الداخلة على «عن» زائدة عند ابن مالك ولابتداء الغاية عند غيره، قالوا: فإذا قيل: قعدت عن يمينه، فالمعنى: في جانب يمينه، فذلك محتمل للملاصقة ولخلافها، فإن جئت بـ «من» تعين كون القعود ملاصقًا لأول الناحية.
وإمَّا أن تدخل عليها «على» وهو نادر.
قالوا: والمحفوظ منه بيت واحد، وهو قوله:
على عن يميني مرت الطير سُنحًا
الوجه الثاني: تستعمل حرفًا مصدريًا في لغة بني تميم فيقول في نحو: أعجبني أن تفعل: عن تفعل، قال ذو الرمة:
أعن ترسمت من خرقاء منزلةً = ماءُ الصبابة من عينيك مسجوم
وكذا يفعلون في أن المشددة فيقولون: أشهد عن محمدًا رسول الله، ويسمى ذلك عنعنة تميم.
الوجه الثالث: تكون حرفًا جارًا وهي تدل على الانحطاط والنزول، تقول: نزلت عن الجبل وعن ظهر الدابة، وأخذت العلم عن زيد؛ لأن المأخوذ منه أعلى رتبة من الآخذ.
وتنقسم معانيها إلى أحد عشر معنى:
أحدها: المجاوزة ولم يذكر البصريون سواء نحو: سافرت عن البلد ورغبت عن كذا.
الثاني: الاستعلاء كقوله تعالى: {فإنما يبخل عن نفسه} ونحو قول ذي الأصبع العدواني:
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسبٍ = عني ولا أنت دياني فتخزوني
ومن المعروف أن يقال: أفضل عليه بمال، ومنه قوله تعالى: {إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي}، أي: قدمته عليه، وحكى الرماني عن أبي عبيدة أن «أحببت» من: أحب البعير إحبابًا، إذا برك فلم يثر، فعن متعلقة باعتبار معناه: أي: إني تثبطت عن ذكر ربي، فعلى هذا فـ «حب الخير» مفعوله لأجله.
الثالث: التعليل، نحو قوله تعالى: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه}، وقوله تعالى: {وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك}، ومنه عندي قول امرئ القيس:
وتضحي فتيت المسك فوق فراشها = نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
أي: لم تشد وسطها بمنطقة للخدمة، لكرمها على أهلها.
الرابع: تكون بمعنى «بعد» لأنها تقاربها في المعنى، كقوله تعالى: {عما قليلٍ ليصبحن نادمين}، وقوله تعالى: {يحرفون الكلم عن مواضعه}، بدليل قوله تعالى: {من بعد مواضعه}، في موضع آخر، وكقوله تعالى: {لتركبن طبقًا عن طبقٍ}، أي حالة بعد حالة، وكقول الحارث بن عباد:
قربًا مربط النعامة مني = لقحت حرب وائلٍ عن حيال
أي: بعد حيال، وقول العجاج:
ومنهلٍ وردته عن منهل
وقيل: ومنه قول امرئ القيس:
.... لم تنتطق عن تفضل
قيل: ومنه قوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره}
الخامس: البدل، كقوله تعالى: {واتقوا يومًا لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئًا}، وفي الحديث: «صومي عن أمك».
السادس: مرادفة «في» الظرفية كقول الشاعر:
وآس سراة الحي حيث لقيتهم = ولا تك عن حمل الرباعة وانيا
قيل: بدليل قوله تعالى: {ولا تنيا في ذكري}، قال ابن هشام: والظاهر أن معنى: ونى عن ذكري، جاوزه ولم يدخله، وونى فيه، دخل فيه وفتر.
السابع: مرادفة «من» كقوله تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده} وقوله تعالى: {أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا}، بدليل قوله تعالى: {فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر}، وقوله تعالى: {ربنا تقبل منا}.
الثامن: مرادفة الباء، كقوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى}، قال ابن هشام: والظاهر أنها على حقيقتها وأن المعنى: وما يصدر قوله عن الهوى.
التاسع: الاستعانة، قاله ابن مالك وغيره ومثله بـ: رميت عن القوس؛ لأنهم يقولون أيضًا: رميت بالقوس، حكاها الفراء، قال امرؤ القيس:
تصد وتبدي عن أسيلٍ
أي بأسيل، وفيه رد على الحريري في إنكاره أن يقال ذلك إلا إذا كانت القوس هي المرمية، وحكي أيضًا: رميت على القوس.
العاشر: تكون زائدة للتعويض عن «عن» أخرى محذوفة كقول الشاعر:
أتجزع نفسٌ أن أتاها حمامها = فهلا التي عن بين جنبيك تدفع
قال ابن جني: أراد فهلا تدفع عن التي بين جنبيك، فحذفت من أول الموصول وزيدت بعده.
الحادي عشر: تكون زائدة، كقول الله سبحانه: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} في قول أبي عبيد، ومنع سيبويه زيادتها فقال: تقول: نبئت عن زيد ونبئت زيدًا، فليست ها هنا بمنزلة الباء في: {كفى بالله} لأن عن وعلى، لا يفعل بهما ذلك ولا من في الواجب، فمعنى كلامه أنهما لا يزادان البتة.
فصل: على
قال المبرد: هي لفظة مشتركة بين الاسم والفعل والحرف، فتكون اسمًا بمعنى فوق، وذلك إذا دخلت عليها من قال الشاعر:
غدت من عليه بعدما تم ظمؤها = تصل وعن قيضٍ ببيداء مجهل
وقال آخر:
غدت من عليه تنفض الطل بعدما = رأت حاجب الشمس استوى فترفعا
وتكون فعلًا، تقول: علا زيدًا سواد، قال طرفة:
وتساقى القوم كأسًا مرة = وعلا الخيل دماءٌ كالشق
ويروى: وعلى الخيل، بالجر على الحرفية.
وللحرفية تسعة معان:
الأول: الاستعلاء، فقد يكون حسيًا كقوله تعالى: {وعليها وعلى الفلك تحملون}، وقد يكون مجازيًا كقوله تعالى: {أو أجد على النار هدًى}، وكقول الشاعر:
وبات على النار الندى والمحلق
أي: بالقرب منها، وقد يكون معنويًا كقوله تعالى: {ولهم علي ذنبٌ}، وقوله تعالى: {فضلنا بعضهم على بعض}، وقول القائل: أنا على الحج وأنا على ما عهدتني، هذا ترتيب ابن هشام.
ويظهر لي أن الاستعلاء بـ «على» ينقسم إلى حسي وإلى معنوي كما ذكر وأن قوله تعالى: {أو أجد على النار هدى}، معناه عند النار وتكون معانيها عشرة والله تعالى أعلم.
الثاني: المجاوزة كـ «عن» قال الشاعر:
أرمي عليها وهي فرعُ أجمع
وقال القحيف العقيلي:
إذا رضيت على بنو قشيرٍ = لعمر الله أعجبني رضاها
أي: عني، ويحتمل أن رضي ضمن معنى عطف، وقال الكسائي: حمل على نقيضه وهو سخط، وقال آخر:
في ليلة لا نرى بها أحدًا = يحكي علينا إلا كواكبها
أي: عنا، وقيل: ضمن يحكي معنى ينم.
الثالث: المصاحبة كـ «مع» كقول الله سبحانه: {وآتى المال على حبه}، وقوله تعالى: {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم}.
الرابع: التعليل كـ «اللام» كقوله تعالى: {ولتكبروا الله على ما هداكم}، أي: لهدايته إياكم، قال الشاعر:
علام تقول الرمح يثقل عاتقي = إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت
الخامس: الظرفية كـ «في» قال الله تعالى: {ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها}، وقال تعالى: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان}.
قال الأعشى:
وصل على حين العشيات والضحى = ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
ومنه قولهم: كان كذا على عهد كذا، أي: في عهده.
السادس: تكون بمعنى «من» كقوله تعالى: {إذا اكتالوا على الناس يستوفون}، قال الهذلي يصف كتيبة:
متى ما تنكروها تعرفوها = على أقطارها علق نفيث
السابع: مرادفه الباء كقوله تعالى: {حقيق على أن لا أقول}، وقد قرأه أُبَيُّ بالباء، وقالوا: اركب على اسم الله، أي : باسم الله، قال امرؤ القيس:
بأي علاقتنا ترغبون = عن دم عمروٍ على مرثد
أراد: ترغبون عن دم عمرو بدم مرثد وليس بدونه، وقال أبو ذؤيب:
وكأنهن ربابةٌ وكأنه = يسرٌ يفيض على القداح ويصدع
أراد: يفيض بالقداح: أي يضرب بها والربابة: رقعة تجمع فيها قداح إلا أنه أراد في البيت القداح نفسها؛ لأنه يصف أتنًا وحمارًا، فشبه الأتن بالقداح، وشبه الحمار باليسر، وهو صاحب الميسر، وقوله: ويصدع، أي: يفرق.
الثامن: تكون زائدة للتعويض، كقول الشاعر:
إن الكريم وأبيك يعتمل = إن لم يجد يومًا على من يتكل
أي: من يتكل عليه، فحذف عليه، وزاد على قبل الموصول تعويضًا، قاله ابن جني.
التاسع: تكون للاستدراك والإضراب، كقولك: فلان لا يدخل الجنة لسوء صنيعه على أنه لا ييأس من رحمة الله، قال الشاعر:
فوالله لا أنسى قتيلًا رزئته = بجانب قوسي ما بقيت على الأرض
على أنه تعفو الكلوم وإنما = نوكل بالأدنى وإن جل ما يمضي
وقال آخر:
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا = على أن قرب الدار خير من البعد
ثم قال:
علي أن قرب الدار ليس بنافع = إذا كان من تهواه ليس بذي ود
أبطل بـ «على» الأولى عموم قوله: فلم يشف ما بنا، فقال: بلى إن فيه شفاء ما، ثم أبطل بالثانية قوله:
على أن قرب الدار خيرٌ من البعد.
فصل: عند
اسم لمكان حضور الشيء ودنوه، فالحضور إمَّا حسي كقوله تعالى: {فلما رآه مستقرًا عنده}، وإمَّا معنوي؛ لقوله تعالى: {قال الذي عنده علم من الكتاب}، والدنو كقوله تعالى: {عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى}.
وفيه ثلاث لغات:
كسر العين وفتحها، وضمها، والكسر أكثر وهي تكون للمكان والزمان، تقول: جئتك عند الليل عند الحائط، ولا تقع مجرورة إلا بمن، وقول العامة: ذهبت إلى عنده لحن). [مصابيح المغاني: 273-288]
قال ابن نور الدين محمد بن علي الموزعي (ت: 825هـ): (فصل: عَوْضُ
يستعمل في القسم، وهو ظرف لاستغراق المستقبل من الزمان، كما أن «قط» لاستغراق الماضي من الزمان.
ومعناه: الأبد، تقول: عوض لا أفارقك، كما تقول: لا أفارقك أبدًا، وسمي الزمان عوضًا لأنه كلما مضى منه جزء عوضه جزء آخر، وقيل: لأن الدهر في زعمهم يسلب ويعوض.
وهو معرف إن أضيف، كقولهم: لا أفعله عوض العائضين، مبني إن لم يضف وبناؤه إمَّا على الضم كقبلُ، أو على الكسر كأمسِ، أو على الفتح كأينَ، واختلف في قول الأعشى يمدح رجلًا:
رضيعي لبان ثدي أم تحالفا = بأسحم داجٍ عوضُ لا نتفرق
فقيل: ظرف لنتفرق، وقال ابن الكلبي: هو اسم صنم كان لبكر بن وائل؛ بدليل قوله:
حلفت بمائرات حول عوضٍ = وأنصابٍ تركن لدى السعير
والسعير: اسم صنم كان لعنزة، قال ابن هشام: ولو كان كما زعم لم يتجه بناؤه في البيت.
(فصل)
فيه: «عل، علَّ»، بتخفيف اللام وتشديدها.
أما المخففة فإنها اسم بمعنى فوق، وتأتي على وجهين:
أحدهما: تكون نكرة، تقع على كل علو فيكون معربًا، قال امرؤ القيس:
كجلمود صخر حطه السيل من عَلِ
أراد التشبيه بأي علو كان.
الثاني: تكون معرفة تقع على علو مخصص فيكون مبنيًا على الضم تشبيهًا بالغايات، قال الشاعر يصف فرسًا:
أقب من تحت عريض من عل
والتزموا في استعماله أمرين:
أحدهما: كونه مجرورًا بـ «من» كما في الشواهد.
والثاني: تجرده عن الإضافة فلا يقال: أخذته من عل السطح، كما يقال من علوه، قال ابن هشام: وقد وهم في هذا جماعة منهم الجوهري وابن مالك، ولا حجة لهم في قول الشاعر:
يا رُب يومٍ لي لا أظلله = أرمض من تحت وأضحى من عَلُهْ
فإن الهاء للسكت لا للإضافة، فلو كان مضافًا لما بني مع الإضافة.
وأما «علَّ» بالتشديد فهي كلمة توقع وطمع في المحبوب، وإشفاق من المكروه كعسى، وهي أصل «لعل» عند من زعم زيادة اللام، قال الشاعر:
لا تهين الفقير عَلَّك أن = تركع يومًا والدهر قد رفعه
وقال آخر:
يقول رجالٌ عَلَّ مجنون عامر = يروم سلوًا قلت أنى لماما
وهما مبنيان على الفتح وبمنزلة أنَّ في العمل، وعقيل تجيز جر اسمها فتقول: لعل زيدٍ قائم، وعلَّ زيدٍ قائم، سمعه أبو زيد، وتجيز أيضًا كسر لامها على أصل التقاء الساكنين، ولهما معان أخر غير التوقع يأتي ذكرها في باب اللام إن شاء الله تعالى.
(فصل)
عسى: كلمة معناها القرب والدنو، وتأتي على وجهين:
أحدهما: تكون فعلًا جامدًا ولك في استعمالها مذهبان:
أحدهما: أن تكون بمنزلة قارب فيكون لها مرفوع ومنصوب فتعمل عمل كان، فترفع الاسم وتنصب الخبر، إلا أنه يجب كون الخبر «أن مع الفعل» متأولًا بالمصدر، كقوله تعالى: {عسى ربكم أن يرحمكم}، ويندر مجيئه مفردًا، كقولهم: «عسى الغوير أبؤسًا».
ثانيهما: أن تكون بمنزلة قرب، فلا يكون لها إلا مرفوع ويجب كونه أن مع الفعل في تأويل المصدر، كقوله تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم}.
الثاني: تكون حرفًا كـ «لعل» فتنصب الاسم وترفع الخبر وهو لغة قليلة.
قال الشاعر:
فقلتُ عساها نارُ كأسٍ وعلَّها = تشكي فآتي نحوها فأعودها
وقال آخر:
ولي نفسٌ تنازعني إذا ما = أقول لها لعلي أو عساني
وقال آخر:
يا أبتا علَّك أو عسان = ترى لنا من أمرنا فكاكن
وهذا التفصيل مذهب سيبويه والسيرافي، وقال الجمهور بفعليتها مطلقًا، وقال ابن السراج: وتغلب حرفيتها مطلقًا.
وهي تدل في معناها على الترجي في المحبوب والإشفاق من المكروه، وقد اجتمعا في قوله تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شرٌ لكم}، وعسى من الله واجبة الوقوع في القرآن إلا قوله تعالى: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجًا خيرًا منكن}.
وقال أبو عبيدة: عسى من الله سبحانه إيجاب، فجاءت على إحدى لغتي العرب لأن عسى رجاء ويقين، وأنشد لابن مقبل:
ظني بهم كعسى وهم بتنوفةٍ = يتنازعون جوائز الأمثال
أي: ظني بهم يقين.
وفي عسى خلاف في لغاتها، قال الفارسي: يجوز كسر السين فيها مطلقًا سواء جردت أو أسندت إلى الضمير، وقال أبو عبيدة: لا يجوز كسره بحال، والصحيح الذي عليه الجمهور جواز الكسر بشرط إسنادها إلى التاء أو النون، أو «نا» والفتح أفصح وقد قرئ بهما قوله تعالى: {فهل عسيتم إن توليتهم أن تفسدوا في الأرض}، قرأ نافع بالكسر وغيره بالفتح.
(فصل)
عدا: كلمة استثناء مثل خلا في الحكم المعنى فتأتي على وجهين:
أحدهما: تكون حرف استثناء جارًا للمستثنى قال الشاعر:
أبحنا حيهم أسرًا وقتلًا = عدا الشمطاء والطفل الصغير
وهو قليل ولم يحفظه سيبويه ولا المبرد.
ثانيهما: تكون فعلًا جامدًا ناصبًا للمستثنى، وتدخل عليها ما المصدرية فيتعين النصب لتعين الفعلية كـ «خلا» إذا دخلت عليها «ما» قال الشاعر:
تمل الندامى ما عداني فإنني = بكل الذي يهوى نديمي مولع
ولهذا دخلت نون الوقاية.
باب ما أوله الغين
ومنه «غير»: ومعناها الوصف بالمغايرة وخلاف المماثلة، كقولك: مررت برجلٍ غير زيد، ولا تستعمل إلا ملازمة للإضافة، وقول العامة: لا غير، لحن نعم قد تقطع عن الكلام بعد ليس عند فهم المعنى كقولك: قبضت من الدراهم عشرة ليس غير، وتستعمل على ستة أوجه:
الأول: تكون استثناء وتقوم مقامها إلا، تقول: قام القوم غير زيد كما تقول: قام القوم إلا زيدًا، وما قام غير زيد، كما تقول: ما قام إلا زيد، وإعرابها كإعراب الاسم الذي بعد إلا قال الفراء: وبعض بني أسد وقضاعة ينصبون غيرًا إذا كانت في معنى إلا، تم به الكلام قبلها أو لم يتم، يقولون: ما جاءني إلى غيرك، وما جاء أحد غيرك.
الثاني: تكون صفة للنكرة أو ما قرب من النكرة، وهو الأصل، وأما الاستثناء فعارض نحو قوله تعالى: {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم}.
الثالث: تكون بمعنى «لا» وتنصبها على الحال ومعناها الصفة أيضًا تقول: فعلت ذاك غير خائف منك، أي: لا خائفًا منك، ومنه قوله تعالى: {فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ}، كأنه قال تعالى: فمن اضطر جائعًا لا باغيًا، وكقوله تعالى: {غير ناظرين إنه}، وقوله تعالى: {غير محلي الصيد وأنتم حرم}.
الرابع: تكون نافية كـ «ليس» كقوله: أنت غير ضاربٍ زيدًا، تقديره: أنت لست ضاربًا زيدًا، قال لبيد:
وإذا جوزيت قرضًا فاجزه = إنما يجزي الفتى غير الجمل
يريد: ليس الجمل؛ لأن الجمل لا يجوز أن يكون صفة للفتى؛ لأنه نقيضه، فلا تقل: عندي درهم غيرُ دانق على الصفة وترفع غير، ويجوز على الاستثناء وتنصب غير، لإمكان استثناء الدانق من الدرهم، والجملُ لا يكون استثناؤه من الفتى ويدل عليه ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم لزيد الخيل حين وفد عليه: «ما وصف لي أحد من الجاهلية فرأيته في الإسلام إلا رأيته دون الصفة ليسك»، يريد: غيرك.
الخامس: تكون لمجرد المخالفة كقولك: الصالح غير الفاسد، والجواد غير البخيل، والفرق بين هذه وبين التي للصفة أن التي للصفة تكون مضافة إلى غير النقيض لا إلى النقيض، فيجوز: له عندي درهمٌ غير جيد، بالرفع على الصفة، ولا يجوز: له عندي درهم غير دانق، بالرفع على الصفة؛ لأن الدانق نقيض الدرهم، ويجوز نصب «غير» على الاستثناء لإمكان استثناء الدانق من الدرهم، وإنما إضافتها في الفتحة إلى: {المغضوب عليهم} فإنه ليس بضد لموصوفها الذي هو اسم جنس قريب من النكرة وهو: الذين، لكنها وقعت صفة بعد صفة نقيضة لمضافها، وذلك لا يمنع الصفة بها.
السادس: تكون بمعنى لكن، قال النابغة الذبياني:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم = بهن فلولٌ من قراع الكتائب
معناه: لكن سيوفهم، وقال النابغة الجعدي:
فتى كملت أعراقه غير أنه = جوادٌ فلا يبقى من المال باقيا
وقال الفرزدق:
وما سجنوني غير أني ابن غالبٍ = وأني من الأثرين غير الزعانف). [مصابيح المغاني: 288-302]