الدروس
course cover
الدرس العاشر: مهارات التفسير
18 Mar 2024
18 Mar 2024

215

0

1

course cover
معالم التفسير

القسم الثاني

الدرس العاشر: مهارات التفسير
18 Mar 2024
18 Mar 2024

18 Mar 2024

215

0

1


0

0

0

0

1

الدرس العاشر: مهارات التفسير 

 

عناصر الدرس: 

- تمهيد 

- التعريف بالمهارات الأساسية في التفسير 

- التعريف بالمهارات المتقدمة في التفسير 

 

تمهيد 

من أهمّ ما يحتاجه طالب علم التفسير بعد أنّ يحصّل جملة من المعارف الأساسية في التفسير أن يتعرّف المهارات التي تعينه على فهم القرآن وإحسان دراسة مسائل التفسير، وأن يتمرن عليها بإشراف عالم أو طالب علم متمكن حتى يتقنها ويمهر في استعمالها 

فيدرك بعد ذلك طريقة أهل التفسير في دراسة مسائله، ويستخرج بهذه الأدوات العلمية علماً غزيراً مباركاً لا يُدرك بالتلقين ولو كثر. 

 

    ولا ينبغي لطالب العلم أن يكون تعلّمه للتفسير قاصراً على القراءة العابرة، أو النظر الكليل المتعجل، الذي يكون مراد صاحبه غالباً بلوغ آخر التفسير، ولو أنّه رجع إلى نفسه بعدد من الأسئلة لوجدها بعيدة عن ضبط مسائل التفسير الذي قرأه. 

وسبب ذلك الغفلة عن جملة من المهارات التي لو أتقنها واعتاد إعمالها لحصّل علماً غزيراً، وفهم تلك التفاسير فهماً حسناً.  

وقد تأمّلت المهارات التي يحتاجها طالب علم التفسير ليتقن دراسة مسائله فوجدتها على صنفين 

الصنف الأول: المهارات الأساسية، وهي المهارات التي تؤسس للطالب طريقة دراسة مسائل التفسير بدءاً من استخلاص المسائل حتى الصياغة النهائية لها 

والصنف الثاني: المهارات المتقدمة، وهي المهارات التي يحتاجها طالب التحقيق والتحرير في دراسة مسائل التفسير دراسة وافية مؤصلة، ولا يتأتى له إتقان هذه المهارات حتى يتقن المهارات الأساسية، والمعارف الأساسية في التفسير، وحظاً وافراً من البناء العلمي في التفسير وعلوم القرآن 

وعامة هذه المهارات مستفادة من سبر وتحليل طريقة حذاق المفسرين في دراستهم لمسائل التفسير في تفاسيرهم الكبيرة وفي رسائلهم المفردة في التفسير، ومن تأمّل سيرهم وطرائقهم في تعلم التفسير ورعايته وتعليمه، ووصاياهم في ذلك، ومما استفدته من كلام متفرّق كثير لأهل العلم في أصول دراسة المسائل العلمية 

ومما خبرته من دراسة كثير من مسائل التفسير والموازنة بين أقوال كثيرة للمفسّرين في مسائل متنوّعة في التفسير وعلوم القرآن الكريم؛ فوجدت لدى بعضهم براعة وتمهّراً في بعض أوجه دراسة التفسير، ولدى بعضهم براعة وتمهّراً في أوجه أخرى، فحاولت رصد جوانب الإحسان والتمهّر لديهم، وسبرَ مراحل دراسة المسألة التفسيرية، وضمَّ أوجه الإجادة والإحسان بعضها إلى بعض، وتصنيفها إلى أنواع، والتمثيل لكلّ نوع بأمثلة. 

 

   وأرجو أن طالب العلم النجيب إذا قرّبت له هذه المهارات، وأعين على دراستها والتمرن عليها بأمثلتها وتطبيقاتها أن يختصر ذلك عليه كثيراً من الوقت والجهد، وأن يفتح له في علم التفسير 

 

  وتحصيل المهارات العلمية إنما يكون بالصبر على التكرار المتقن لأداء الأمثلة والتطبيقات حتى ترتاض النفس لطريقة أدائها على اختلاف أنواعها وعللها، وتصبح تلك المهارة كالصفة الملازمة للنفس لا تتكلفها، فحينئذ يكون اكتساب المهارة اكتساباً صحيحاً مثمراً. 

 

   والتمهّر في العلم من إتقان العمل الذي يحبه الله كما في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه ». رواه أبو يعلى والطبراني في الكبير والأوسط والبيهقي في شعب الإيمان، من طريق مصعب بن ثابت الزبيري عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، ومصعب ضعيف الحديث، لكن صححه الألباني لشواهده 

 

    ومقصود هذا الدرس هو التعريف الموجز بهذه المهارات لأنها من معالم علم التفسير، وقد أفردت كلا من المهارات الأساسية والمهارات المتقدمة بالتأليف، وذكرت من الأمثلة والتطبيقات ما أرجو أنه يكفي طالب عالم لينطلق في هذا العلم انطلاقاً حسناً.  

عبد العزيز بن داخل المطيري

#2

17 Oct 2024

التعريف بالمهارات الأساسية في التفسير 

المهارة الأولى: استخلاص مسائل التفسير من تفسير واحد. 

وهي أصل مهارات التفسير؛ فمن أتقنها سهل عليه ما بعدها، فكم من قارئ للتفاسير تفوته كثير من المسائل لا يتفطّن لها. 

وطالب العلم ينبغي أن يكون ذا قلب عقول ولسان سؤول؛ وأسماء المسائل هي أبواب العلم ومن أغفل العناية بها كان كمن أضلّ الأبواب فلم يعرفها. 

والمسائل العلمية منها مسائل ظاهرة بيّنة، ومنها مسائل خفية تدرج في أثناء الكلام فلا يتفطّن لها إلا الطالب اللبيب. 

فإذا عني طالب العلم بأسماء المسائل وقيّدها وضبطها سهل عليه تحقيق معيار مهم من معايير قياس جودة التحصيل العلمي وهو معيار الشمول؛ فتكون معرفته بالكتاب الذي يقرأه معرفة شاملة. 

وكان ذلك مرقاة له لأن يدرك التناسب بين المسائل، وتنظيم دراسته لتلك المسائل، التمييز بين المسائل المتصلة بتفسير الآية وعلومها والمسائل الاستطرادية؛ فيستفيد بعد استخلاص أسماء المسائل تصوراً أولياً مهماً لمسائل الآية. 

 

 ومداومة الطالب على هذه الطريقة في دراسة التفسير تنمّي لديه ملكة التيقظ لمسائل التفسير، وإدراك المنصوص عليه منها وما يستخرج بالاستنباط، وتعرّف الطالب بتفاضل المفسرين في ذكر المسائل والإبانة عنها. 

 

المهارة الثانية: استخلاص مسائل التفسير من تفاسير متعددة. 

إذا أتقن الطالب استخلاص مسائل التفسير من تفسير واحد ينبغي له أن يتمرن على استخلاص التفسير من تفاسير متعددة؛ فيستخلص مسائل كلّ تفسير على حدة في تفسير الآية التي يدرسها، ثم يجمع أسماء المسائل في قائمة واحدة، ويصنّفها ويرتّبها ترتيباً موضوعياً متسلسلاً.  

فيستفيد بذلك الوقوف على تفاضل المفسّرين في استيفاء المسائل المتعلقة بالآية، ويتبيّن أنَّ استخلاص المسائل من تفسير متعددة أدعى للشمول والتكامل، ويدرك تنوّع أساليب المفسّرين في عرض المسائل والعبارة عنها والإشارة إليها، واختلافهم في ترتيب المسائل. 

وهذه الأعمال الذهنية تنمّي ملَكتي الموازنة والتقويم وهما من أهمّ الملكات التي يحتاجها طالب العلم.  

ولذلك يحتاج طالب العلم إلى التمرّن على أمثلة كثيرة بإشراف علمي في أوّل الأمر حتى يصل إلى مرحلة الإتقان بإذن الله تعالى.  

 

المهارة الثالثة: تصنيف المسائل وترتيبها 

والمسألة اسم لما يصحّ أن يُسأل عنه، وقد تكون المسألة منصوصاً عليها في كلام المفسرين، وقد يستخرجها الطالب من الآيات القرآنية أو من كلام المفسرين. 

المسائل المتعلّقة بالآية في كتب التفسير على أصناف: 

الصنف الأول: مسائل علوم السورة، وعلوم الآية. 

- فأما المسائل التي تتعلق بعلوم السورة فهي سبب نزولها، وتاريخ نزولها، ومقصد السورة، وفضلها، ونحو ذلك من المسائل التي غالباً ما تذكر في أوّل السورة، وقد تذكر في بعض آياتها إذا كان لها تعلّق ظاهر بهذه المسائل. 

- وأما المسائل التي تتعلق بعلوم الآية نفسها فهي مقصد الآية، وقراءاتها، ووقوفها، وفواصلها، وسبب نزولها إن كان لها سبب نزول خاص، وفضل الآية، ومناسبتها لما قبلها، وناسخها ومنسوخها، وأحكامها، وغير ذلك من علوم القرآن المتصلة بالآية. 

الصنف الثاني: المسائل التفسيرية 

وهي على أنواع: 

- فمنها المسائل التي تستخرج بالدلالات اللغوية، كبيان معاني الحروف والمفردات، والتراكيب اللغوية. 

- ومنها: المسائل المأثورة بطريق النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أو السلف الصالح، مما لا تكفي فيه الدلالة اللغوية المجردة، وإنما العمدة فيها على النقل. 

ومثال ذلك: تعيين المراد ببعض المفردات والتراكيب والأساليب إذا كانت تحتمل في اللغة معاني متعددة وورد النص أو الأثر على تعيين المراد بها. 

وكثير من المفردات تتعلق بها مسألتان: بيان المعنى اللغوي للمفردة، وبيان المراد بها في الآية. 

مثال ذلك: "النبأ" في قوله تعالى: {عمّ يتساءلون . عن النبأ العظيم} تتعلق به مسألتان: 

الأولى: معنى "النبأ" لغة: وهو الخبر الذي له شأن. 

والثانية: المراد بهذا النبأ؛ وقد اختُلف فيه على أقوال: فقيل هو القرآن، وقيل: هو البعث، وقيل: هو بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته. 

- ومنها: المسائل التي تستخرج بالدلالات الأصولية، كدلالات المنطوق والمفهوم، والنصّ والظاهر، والمجمل والمبيّن، والمطلق والمقيّد، والعام والخاص، والمحكم والمتشابه. 

- ومنها: المسائل التي تستخرج بالدلالات البيانية، وهي التي يُعنى بها في التفسير البياني كدلالات الإعراب، والصيغة الصرفية للمفردة، واشتقاقها، والدلالات البيانية لتراكيب الجمل، والإضافة، والحذف والذكر، والتقديم والتأخير، والتعريف والتنكير، والفصل والوصل، والاختصاص والحصر، والحمل على اللفظ والحمل على المعنى، والالتفات، والدلالات البيانية لأساليب الاستفهام والشرط والجزاء وجواب الطلب، والاستثناء والتعجب والتوكيد، والقسَم، والأمر والنهي، وغيرها. 

ومن المسائل مسائل لها تعلّق بأكثر من نوع؛ فقد تدرك معرفتها بنوع واحد من الأنواع السابقة أو نوعين أو ثلاثة. 

وهذه الأنواع من المهمّ التمييز بينها، ومعرفة مصادر بحث كل نوع منها. 

 

الصنف الثالث: المسائل الاستطرادية 

وهي المسائل التي لا تتصل اتصالاً مباشراً ببيان معنى الآية؛ ولا يترتب على عدم ذكرها إخلال بتفسير الآية، وإن كانت معرفتها مهمّة للمفسّر لكنّها قدر زائد على حدّ التفسير، وذلك مثل بعض مسائل الإعراب والصرف والاشتقاق  

وبعض المسائل البلاغية التي هي من صنعة أهل تلك العلوم ولا يتوقف عليها معنى الآية كاختلافهم في إعراب قوله تعالى: {إن هذان لساحران}. 

وكذلك الاسترسال بذكر مسائل الأحكام الفقهية التي لا تدخل في منطوق الآية ولا مفهومها، وبعض أحداث السيرة، والإسرائيليات، وغيرها. 

 

ترتيب المسائل 

وبعد حصر أسماء المسائل نرتبها ترتيباً موضوعياً؛ فنقدّم المسائل المتعلقة بعلوم السورة، ثم علوم الآية، ثم المسائل التفسيرية، ونرتبها على الترتيب السابق عند التمايز، وإذا كانت المسألة مشتركة بين نوعين أو أكثر فالأفضل جعلها مع النوع المتقدم ثم الإشارة إليها لاحقاً، ويسوغ تأخيرها إلى الموضع الذي يكون فيها مزيد بحث وتحرير. 

وكذلك يسوغ تقديم مسألة على غيرها في الترتيب إذا كان فهم تلك المسألة ينبني عليه فهم مسألة أو أكثر بعدها. 

ثم نجعل المسائل الاستطرادية في خاتمة المسائل. 

وإذا كانت الآية تشتمل على جُمل متعددة فالأفضل ترتيب المسائل التفسيرية لكل جملة على ما تقدّم ذكره. 

 

فالمهارات الثلاث الأولى كلها متعلقة بأسماء المسائل قبل الشروع في بحثها وتحريرها، وأسس التحرير العلمي للمسائل العلمية أربعة:  

الأساس الأول: جمع أقوال العلماء في المسألة وتصنيفها 

والأساس الثاني: التحقق من صحة نسبة الأقوال في المسألة، ومعرفة الصيغة المناسبة لحكاية النسبة في كلّ قول إلى من نسبت إليهم. 

والأساس الثالث: تعرّف حجة كلّ قول. 

والأساس الرابع: النقد والجمع والترجيح 

وهذه الأسس تتعلق بها مهارات سنذكرها على ترتيب مراحل التحرير.  

 

المهارة الرابعة: جمع أقوال المفسرين في المسائل المستخلصة 

وهو الأساس الذي تبنى عليه سائر أعمال ومهارات التحرير العلمي؛ وأوصي طالب العلم أن يقتصر في أوّل الأمر على تفاسير معيّنة من التفاسير التي تعتني بنقل أقوال السلف في التفسير، لأن المقصود هو تحصيل المهارات التي يستعين بها على دراسة مسائل التفسير، ثم في مرحلة المتقدمين يتقصى ما يستطيع من أقوال المفسرين من مصادرها.  

وينبغي أن يعلم أن بعض الأقوال ينصّ عليها المفسّرون، وبعضها تُستخرج بالنظر والتأمل. 

ثمّ يصنّف الأقوال التي يستخلصها إلى أحد ثلاثة أصناف: متفقة، أو متقاربة، أو مختلفة. 

وإذا كانت مختلفة فينظر عدد الأقوال فيها، ونوع الخلاف؛ هل هو خلاف تنوّع أو خلاف تضادّ. 

فخلاف التنوّع: هو ما يمكن الجمع فيه بين الأقوال من غير تعارض. 

وخلاف التضاد: هو ما لا يمكن الجمع فيه بين الأقوال؛ لأنّ القول بأحدها يقتضي ردّ غيره من الأقوال. 

 

   وإذا حصل لدى الطالب لبس أو إشكال في التصنيف فينبغي أن يسأل معلّمه حتى يرشده ويستفيد من جوابه في نظائر تلك المسألة.  

 

   وقد تشترك الأقوال في قدر من المعنى ثم يقع الخلاف فيما بعد ذلك؛ فمن حصافة الدارس أن ينبّه على القدر الذي اتفقوا عليه، ثم يفصل الخلاف فيما اختلفوا فيه.  

 

  وترتيب الأقوال في كل مسألة ينبغي أن تكون له مناسبة؛ فإما أن يرتبها على التسلسل التاريخي إن تيسرت له معرفته، أو يرتبها على الأقرب فالأقرب إلى الصحة، أو إذا كانت الأقوال صحيحة ومن الأقوال قول يجمع ما قيل في تلك المسألة من الأقوال فالأحسن تأخير هذا القول الجامع. 

 

المهارة الخامسة: تعرّف مراتب المصادر في التفسير 

من المهارات الأساسية لمن يريد دراسة مسألة من مسائل التفسير وعلوم القرآن أن يعرف مراتب المصادر في التفسير، وأن يحسن عزو كلّ قول إلى قائله. 

فالمصادر في التفسير على ثلاث مراتب: 

المرتبة الأولى: المصادر الأصلية ، وهي التي تذكر الأقوال بالإسناد من المؤلّف إلى من ينتهي إليه الإسناد، مثل ما يروي عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر وغيرهم في تفاسيرهم الأقوال عن الصحابة والتابعين وتابعيهم بأسانيدهم. 

 

المرتبة الثانية: المصادر البديلة، وهي التي تنقل عن مصادر أصلية مفقودة مثل تفسير وكيع بن الجراح، وتفسير سفيان بن عيينة، وما فقد من تفاسير ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وعبد بن حميد، وابن مردويه، وغيرها. 

وهذه التفاسير ينقل منها جماعة من العلماء الذين اطلعوا عليها؛ فمنهم من يذكر الأقوال منها بالأسانيد، ومنهم من ينقل الأقوال مجردة من الأسانيد. 

المرتبة الثالثة: المصادر الناقلة، وهي التي تنقل عن مصادر أصلية موجودة إما بذكر الإسناد وإما بحذفه. 

وليعلم أن تصنيف المصادر إلى هذه الأصناف إنما هو باعتبار ما ينقل منها؛ ولذلك قد يكون المصدر نفسه بديلاً في مسألة، وناقلاً في مسألة أخرى.  

 

المهارة السادسة: تعرّف طرق نسبة الأقوال إلى المفسّرين 

وقد تقدّم أنّ الأساس الثاني من أسس التحرير العلمي هو التحقق من صحة نسبة الأقوال في المسألة. 

والتحقق من صحة النسبة على مرتبتين: 

المرتبة الأولى: أن يُسند كلّ قولٍ إلى قائله على ما ذكر في المصادر التي يبحث فيها، ويجعل عهدة ذلك على أصحاب تلك الكتب، وهو الحدّ الأدنى في نسبة الأقوال. 

المرتبة الثانية: أن يتحقق من وجود الرواية عن المفسّر في مصدر أصيل أو بديل عند عدم وجود المصدر الأصيل، ثم يتحقق من صحة الإسناد إليه، وسلامته من علل النقل القادحة، وهي مرتبة التحقيق 

وطالب التحقيق ينبغي ألا يكتفي بالمصادر الناقلة؛ لأنّ النقل فيها قد يكون بالمعنى، وقد يكون فيه تصحيف، وقد يكون القول مستخرجاً غير منصوص عليه، وقد تكون له علّة خفية، وكلّ ذلك قد يكون له أثر على دراسة المسألة. 

والذي يُطلب به الطالب لإتقان المهارات الأساسية هو ما تتطلبه المرتبة الأولى، وأما المرتبة الثانية فيتمرن عليها في المهارات المتقدمة.  

 

والأقوال التي تُنسب إلى المفسرين وغيرهم في كتب التفسير على خمسة أصناف: 

الصنف الأول: قول لا أصل له، أي لا يوجد في المصادر الأصلية ولا البديلة ما يدلّ على نسبة هذا القول لمن نُسب إليه، لا بإسناد صحيح، ولا ضعيف، وإن كان قد يوجد لها ذكر في بعض الكتب، لكن عند البحث والتقصي لا نجد لهذه النسبة أصلاً. 

وحكم هذا الصنف هو ردّ النسبة، ولا يصحّ أن تحكى إلا على سبيل البيان؛ كأن يقال: يُنسب إلى فلان، ولا أصل له. 

الصنف الثاني: قول له أصل في المصادر الأصلية أو البديلة، لكن إسناده ضعيف لا يصحّ؛ والحكاية الصحيحة لهذه النسبة على مرتبتين: 

الأولى: أن ينقل الإسناد الضعيف من مخرجه؛ مع التنبيه على ضعفه. 

والثانية: أن يقول: روي عن فلان – بصيغة التمريض - ولا يصحّ عنه. 

الصنف الثالث: قول له أصل في المصادر الأصلية أو البديلة، لكن مع تغيير في المتن، قد يحيل المعنى وقد لا يحيله؛ أو يحصل في حكاية المتن لبس وانتقال، أو استخراج غير جليّ. 

فإذا كان النقل يحيل المعنى ويغيره فلا يصحّ أن ينسب القول إليه إلا مع التبيين للنص الصحيح. 

وإذا كان النقل لا يحيل المعنى ؛ فالأحسن أن يُنبّه إلى النص الصحيح أو يُقال: رواه فلان عنه بمعناه. 

الصنف الرابع: قول له أصل في المصادر الأصلية أو البديلة، لكنه يُروى بإسناد مختلف فيه؛ يصححه بعض أهل العلم، ويضعّفه بعضهم. 

فالأحسن في مثل هذه الحال أن يشار إلى الخلاف ولا بأس أن يقال: رواه فلان عنه؛ لأنه لا يُشترط في ذكر الرواية الحكم بالصحة. 

ومن أهل العلم من يتجوّز فيه فيعتمده في النسبة، ويقول: هذا قول فلان. 

الصنف الخامس: قول له أصل في المصادر الأصلية أو البديلة، ويروى بإسناد صحيح؛ فهذا يقال فيه: هذا قول فلان. 

ويقال: رواه فلان عن فلان، وإن زاد بإسناد صحيح فحسن. 

لكن الحكم على الأسانيد ينبغي أن يعتمد فيه الطالب في أول الأمر على أحكام العلماء المتقدمين حتى يتأهل لدراسة أسانيد التفسير والحكم عليها.  

 

المهارة السابعة: تعرّف حجج الأقوال في التفسير 

وهي من أخصّ المهارات التي تعين الطالب على إحسان فهم مسائل التفسير، وتبني الملكة التفسيرية. 

وتعرّف الحجج أصل مهمّ في توجيه أقوال المفسرين، والتفطّن لعلل الأقوال، وسبل كشفها، ومآخذ ردّها. 

 وعلم التفسير من أوسع العلوم، ومسائله كثيرة جداً لا تحصر ولا تُستقصى، ولذلك يعمد أكثر المفسّرين إلى الاختصار والاقتصار على ما يتحقق به التنبيه على المراد، لتعسّر شرح الحجة لكلّ قول في كلّ مسألة، وذلك مجزئ في أكثر المسائل التي لا يكون فيها خلاف أو تكون أقوال المفسرين فيها متقاربة أو الاختلاف فيها اختلاف تنوّع. 

وأما في مسائل الخلاف القوي والمتوسّط فلا يمكن للدارس أن يحرر المسألة تحريراً حسناً إلا بتفهّم حجج الأقوال، ومعرفة توجيهها. 

وكم من قول تبادر إلى الذهن بُعْدُه وله وجهٌ صحيح، وحجة مقبولة. 

وكم من مسألة اختُلف فيها على أقوال يُظنّ أنّها متضادّة متنافرة فلما عُرف توجيهها تبيّنت صحتها، وأمكن الجمع بينها. 

وتعرّف الحجج وقبول ما صحّ منها هو الفرقان بين المقلّد والمتّبع لأنّ المقلد يقلّد شيخه أو مفسراً من المفسرين دون معرفة حجة قوله. 

والمتّبع هو الذي يتعرّف حجة القول، ويتبيّن صحّته ويتّبع إمامه عليه على بصيرة ومعرفة. 

فالاتباع الصحيح محمود، والتقليد مع القدرة على الاجتهاد مذموم، وتقليد المخطئ على خطئه بعد تبيّنه لا يجوز. 

وطالب العلم لا يمكنه الانتقال من التقليد إلى الاجتهاد فجأة، وإنما يحتاج في ذلك إلى دراسة وتمرّن وتدريب كثير أصله قائم على تعرّف الحجج ونقدها. 

 

وحجج الأقوال في التفسير على مرتبتين: 

المرتبة الأولى: حجج منصوص عليها، وهي الحجج التي يذكرها المفسر في تفسيره، فمنها ما يكون ذكرها جلياً، ومنها ما يُشير إليه اختصاراً. 

والمرتبة الثانية: حجج مستخرجة، وهي التي لا ينصّ عليها المفسّر، لكن تُستخرج له بأدوات علمية معروفة لدى أهل العلم، وهي على أنواع، وكلّ نوع له أمثلة كثيرة.  

والذي يُطالب به الطالب في المهارات الأساسية هو التمرن على استخلاص الحجج المنصوص عليها؛ لأن إتقان هذه المهارة أصل مهمّ لبناء المهارات المتقدمة في توجيه أقوال المفسرين عليها، ومن لم يحسن استخلاص الحجج المنصوص عليها كان استخراج ما لم يذكر أشقّ عليه وأصعب. 

 

المهارة الثامنة: تحرير الأقوال المتفقة والمتقاربة في التفسير. 

إذا استخلص الدارسُ الأقوالَ في المسألة فينبغي أن يصنّفها إلى أحد ثلاثة أصناف: 

الصنف الأول: أقوال متفقة 

وهي الأقوال التي تتوارد على معنى واحد، وإن اختلفت الألفاظ، فالاتفاق في الأقوال على مرتبتين:  

المرتبة الأولى: أقوال متفقة لفظاً ومعنىً، ومن أمثلتها اتفاق أقوال المفسرين على أنّ الحِجْرَ في قوله تعالى: {هل في ذلك قسم لذي حجر} هو العقل. 

والمرتبة الثانية: أقوال مختلفة لفظاً متّفقة معنى، وهو أكثر ما يكون في الأقوال المتفقة.  

والصنف الثاني: أقوال متقاربة 

وهي الأقوال التي تدلّ على معانٍ متقاربة، مثل تفسير الفاقرة في قوله تعالى: {تظنّ أن يُفعل بها فاقرة} بالداهية والشرّ والهلاك؛ فهي معانٍ متقاربة. 

وتفسير الجوب في قوله تعالى: {وثمود الذين جابوا الصخر بالواد} بالنحت والخرق والقطع والنقب، وهي ألفاظ متقاربة المعنى، وبينها فروق بيانية دقيقة لكنّها تجتمع على الدلالة على أصل المعنى وهو إحداث تجويفات في الصخور تمكّنهم من اتخاذها مساكن. 

  الصنف الثالث: أقوال مختلفة 

وهي الأقوال التي تدلّ على معانٍ مختلفة، والاختلاف في التفسير على مرتبتين: 

المرتبة الأولى: اختلاف التنوّع 

والمرتبة الثانية: اختلاف التضادّ 

 

المهارة التاسعة: تحرير الأقوال المختلفة في التفسير 

وهي من أهمّ المهارات الأساسية في التفسير، ولإتقان هذه المهارة يحتاج طالب العلم أن يعرف أصول دراسة الأقوال المختلفة في التفسير، والموقف الصحيح منها، وذلك يتبيّن بأربعة أصول: 

الأصل الأول: معرفة شروط قبول القول في التفسير 

ولقبول القول في التفسير ثلاثة شروط: 

الشرط الأول: أن يكون معنى القول صحيحاً غير منكر. 

والشرط الثاني: صحة دلالة الآية عليه بوجه من وجوه الاستدلال. 

والشرط الثالث: ألا يخالف نصاً محكماً ولا إجماعاً. 

فإذا استوفى أي قول من أقوال المفسرين هذه الشروط فهو قول مقبول، وإذا تخلّف أحد هذه الشروط فهو قول مردود. 

والقول بتحقق هذه الشروط مما يدخله الاجتهاد، ويختلف فيه النظر، ويقع فيه التفاضل بين الأقوال؛ فقد يكون تحققها ظاهراً بيّنا في بعض المسائل، وقد يخفى في مسائل أخر، وقد يقع التنازع في صحة المعنى المدلول عليه، أو في صحة الدلالة، أو في دعوى المخالفة لنص أو إجماع.  

 

الأصل الثاني: التفريق بين الأقوال المعتبرة في التفسير والأقوال غير المعتبرة. 

فالأقوال المعتبرة هي التي لها حظّ من النظر، وإن كانت مرجوحة أو ضعيفة ضعفاً يسيراً؛ لأن لقائلها أصلاً معتبراً يعتمد عليه، ودلالة محتملة. 

والأقوال غير المعتبرة هي الأقوال التي ليس لها حظّ من النظر، وهي التي يتبيّن خطأ أصحابها؛ إما باستدلال غير صحيح، أو توصّل إلى معنى منكر، أو معارضة القول لنصّ صحيح محكم أو إجماع. 

قال أبو الحسن ابن الحصار رحمه الله: 

فليس كلُّ خلافٍ جاء معتبراً  ... إلا خلافٌ له حظٌّ من النَّظَرِ 

 

ومن الأقوال غير المعتبرة في التفسير: 

1: الأقوال التي لا تجري على منهج أهل العلم والإيمان في الاستدلال والنظر والاجتهاد، وذلك مثل كثير من تفاسير أهل الأهواء، ولا سيما الباطنية منهم. 

2: الأقوال التي تخالف مدلول اللسان العربي.  

3: الأقوال التي تُبنى على اجتهاد مصادم لدلالة نصّ صحيح محكم أو إجماع صحيح. 

4: الأقوال المنكرة التي لا تبنى على أصل معتبر من أصول التفسير. 

5: الأقوال التي تُبنى على استدلال متوّهم يتبيّن خطؤه. 

فهذه الأصناف مما تعرف به الأقوال غير المعتبرة في التفسير.  

ومعنى اعتبار الأقوال أن يُنظر فيها؛ فإن كان لها وجه صحيح في الاستدلال قُبلت، وإن تبيّن فيها خطأ رُدَّت، وإن لم تُعرف صحتها ولم يتبيّن خطؤها فيتوقّف فيها وتجعل عهدتُها على قائلها. 

 

الأصل الثالث: التفريق بين اختلاف التنوّع واختلاف التضادّ. 

الأقوال المختلفة في التفسير هي التي تدلّ على معانٍ مختلفة، والاختلاف في التفسير على مرتبتين: 

المرتبة الأولى: اختلاف التنوّع، وهو الاختلاف الذي يمكن فيه الجمع بين الأقوال، والأقوال في هذه المرتبة على أنواع: 

فمنها: ما يكون بعض الأقوال فيها من باب التفسير بالمثال. 

ومنها: ما يكون التفسير فيه من باب التنبيه على أولى المعاني أو على معنى قد يُغفل عنه وهو داخل في معنى الآية. 

ومنها: ما يكون التفسير فيه بلازم المعنى. 

فهذه الأنواع يمكن الجمع بينها من غير تعارض، ومن أمثلتها اختلاف المفسرين في معنى "المثابة" في قول الله تعالى: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً} 

- فقال ابن عباس ومجاهد والحسن: مثابةً، أي: مرجعاً يثوبون إليه أي: يرجعون. 

وحجة هذا القول أنّ المثابة مأخوذة من الثَّوب، وهو الرجوع، يقال: ثاب إلى المكان إذا رجع إليه، وثاب إلى رُشده إذا رجع إلى ما هو أصلح لشأنه، ومنه سميت الثيب ثيباً لمعاودتها الزواج، والثواب لأنه يعود لصاحبه. 

والمثاب هو المرجع،  ودخول التاء للمبالغة أو لتأنيث المصدر، أو لتأنيث البقعة مثل مقبرة.  

- وقال عكرمة وقتادة وعطاء الخراساني: مثابة أي: مجمعاً يجتمع فيه الناس. 

وحجة هذا القول أنّ المثابة في اللغة تطلق على المكان الذي يُجتمع فيه، ومنه يقال: ثُبة للجماعة كما قال الله تعالى: {فانفروا ثبات أو انفروا جميعا}، والثُّبَات: الجماعات المتفرقة. 

ومنه سمي الثوب ثوباً لأنه يشتمل على صاحبه، والتثويب بالصلاة الدعوة لاجتماع الناس إليها. 

- وقيل: مثابةً أي: محلاً لكثرة الثواب؛ وهذا القول ذكره ابن عطية احتمالاً. 

وحجة هذا القول أنّه لكثرة ما يثابُ فيه الناس على الأعمال الصالحة من الطواف والسعي والذكر والتلاوة والتوبة والإنابة وغيرها من الأعمال الصالحة كان "مثابة" للناس. 

والاختلاف في هذه المسألة اختلاف تنوّع؛ لأن هذه المعاني كلّها صحيحة قد استوفت شروط قبول القول في التفسير، ويصحّ الجمع بينها من غير تعارض. 

ومن ذلك أيضاً اختلافهم في معنى "ضيزى" في قوله تعالى: {تلك إذاً قسمة ضيزى} 

فذكر ابن عطية عن السلف في معنى ضيزى أربعة أقوال: عوجاء، وجائرة، ومنقوصة، ومخالفة للحق. 

وهي أقوال صحيحة من جهة اللغة، وكلمة "ضيزى" تجمع هذه المعاني كلّها من غير تعارض. 

 

والمرتبة الثانية: اختلاف التضادّ، وهو الاختلاف الذي لا يمكن فيه الجمع بين الأقوال؛ لأن القول بأحدها ينفي القول بما يضادّه. 

ومن أمثلته اختلاف المفسرين في المراد بالعود في قول الله تعالى: { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا} على أربعة أقوال:  

القول الأول: يعودون لقول كلمة الظهار مرة أخرى، وهذا قول بكير ابن الأشجّ ذكره ابن عبد البرّ عنه كما في تفسير ابن كثير، وقول الفراء، وداوود الظاهري وفرقة من أهل الكلام، واختيار ابن حزم الظاهري، ذكر ذلك عنهم ابن كثير في تفسيره. 

القول الثاني: يعودون لإمساك الزوجة بعد الظهار، وهو قول الشافعي. 

القول الثالث: أن يعود للظهار بعد تحريمه؛ وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه والليث بن سعد. 

القول الرابع: أن يعود لجماع امرأته التي ظاهر منها أو يعزم على ذلك، وهذا قول أحمد بن حنبل. 

 وهذه الأقوال لا يمكن الجمع بينها؛ فالاختلاف فيها اختلاف تضاد؛ فينظر في حجج الأقوال، فيستبعد ما ليس له حجة صحيحة، وما بقي فينظر فيه، ويرجّح بين الأقوال فيه، والأقوال الصحيحة لا تتعارض؛ فإذا تبقّت أقوال صحيحة فالجمع بينها ممكن، ومتى تعذّر الجمع علمنا أنّ في بعض تلك الأقوال ما هو غير صحيح إما جميع القول وإما بعضه. 

فأما القول الأول فهو باطل كما ذكر ابن كثير؛ لأنّ مقتضاه أن الظهار الأول لا يُؤاخذ به وإنما يؤاخذُ المظاهرُ عند المعاودة، وهذا معنى باطل. 

وأما القول الثاني فيردّه أنّ المظاهر أبيح له ما دون المماسّة، والإمساك داخل فيما أبيح له حتى يكفّر عن مظاهرته أو يفارق امرأته. 

وأما القول الثالث فيقتضي أنّ كفارة الظهار واجبة بكلّ حال سواء أراد مفارقة امرأته أو أراد العود لها، وهذا مخالف لظاهر الآية. 

فيتبقّى القول الرابع، وهو أنّ الكفارة تجب في حالين: 

الأولى: أن يجامع امرأته وهذا فيه نصّ الحديث المستدلّ به، وإجماع أهل العلم على أنّ من جامع امرأته بعد الظهار فعليه الكفارة، وهو آثم لجماعه امرأته قبل أداء الكفارة لقول الله تعالى: {من قبل أن يتماسّا} 

الثانية: أن يعزم على الجماع أو استبقاء الحياة الزوجية من غير تحريم زوجته عليه؛ وهو الأقرب لدلالة ظاهر الآية {من قبل أن يتماسّا}. 

 

ومن المسائل مسائل لا يتبيّن تحريرها إلا بمعرفة أصلها ونشأتها وأسباب اختلاف العلماء فيها، ومن ذلك اختلافهم في المراد بالقروء في قول الله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهنّ ثلاثة قروء} مع اتفاقهم على أنّ القرء يطلق في اللغة على الحيض وعلى الطهر على قولين:  

القول الأول: القروء الحِيَض، والمطلّق أحقّ بردّ مطلَّقته ما لم تتطهّر من الحيضة الثالثة، وهذا قول عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأبيّ بن كعب، وأبي موسى الأشعري، وغيرهم. 

وهو قول مجاهد، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، والسدي، والربيع بن أنس البكري. 

وهو مذهب أبي حنيفة، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وإسحاق بن راهويه، وأحمد. 

والقول الثاني: القروء الأطهار، فإذا دخلت المطلّقة في الحيضة الثالثة لم يملك مطلّقها أن يرجعها، وهذا قول عائشة، وزيد بن ثابت، ورواية عن ابن عمر. 

وهو قول سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله ، وسليمان بن يسار، وابن شهاب الزهري، وغيرهم. 

وهو مذهب مالك بن أنس، والشافعي. 

وعن الإمام أحمد رواية بأن القرء هو الطهر، لكن لا تنقضي عدّتها إلا بالاغتسال من الحيضة الثالثة. 

وهذا الاختلاف اختلاف تضادّ لأنّه لا يمكن الجمع بين القولين؛ لأنها نزلت في حال لم يكن فيه للطلاق عِدّة ولا عَدد، فكان من شاء أن يطلّق طلّق بلا عدد، وراجع متى شاء بلا عِدّة. 

ولم يكن قد نزل تحريم طلاق الحائضِ، ولا اشتراط أن يكون طلاق غير الحامل ومَن لا تحيض في طهر لم يجامعها فيه زوجها، فكانت دلالة هذه الآية ظاهرة في أنّ من طلّق امرأته وهي طاهرٌ فعدّتها ثلاث حِيَض، ومن طلّقها وهي حائضٌ فعدّتها ثلاثة أطهار. 

ثمّ نزل بعد ذلك تشريع بقية أحكام الطلاق؛ ونزلت سورة الطلاق وفيها قول الله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلّقتم النساء فطلّقوهنّ لعدّتهنّ وأحصوا العدّة}. 

فلما حرّم طلاق الحائض؛ بقي المعنى المحكم الذي لم يُنسخ هو أن تطلق المرأة في طهرٍ لم يجامعها زوجها فيه؛ فتعتدّ بثلاث حيض، كما دلّ عليه البيان النبوي بقول النبي صلى الله عليه وسلم: « فتلك العدة التي أمر الله أن تطلّق لها النساء ». 

ولو كان طلاق الحائض جائزاً لكانت العدة ثلاثة أطهار تامة. 

ولذلك كان من أقوى الحجج لأصحاب القول الأول أنّ المطلقة تعتد بثلاث حيض تامات، وهي ثلاثة قروء. 

وعلى القول الثاني تكون عدّة المرأة طهرين وبعض الثالث وهذا أقلّ من العدّة المأمور بها وهو ثلاثة قروء، ومفهوم العدد من أقوى المفاهيم؛ فلا يجزئ ما كان أقلّ منه.   

وقول ثلاثة من الخلفاء الراشدين بالقول الأول من غير معارض أقوى منه يصيّره سنّة واجبة الاتباع لقول النبي صلى الله عليه وسلم: « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ». رواه أحمد، والدارمي، وأبو داود من حديث خالد بن معدان، عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، وله طرق أخر. 

وقول جماعة منهم بأنّ الأمد إلى أن تغتسل المرأة من الحيضة الثالثة قدر زائد على ما يدلّ عليه منطوق الآية، والظاهر أنهم ما قالوه وتوافقوا عليه وقضوا به إلا لأصل علموه من السنة يدلّ عليه. 

 

ومما ينبغي أن يُعلم أنّ تصنيف الاختلاف إلى اختلاف تنوّع وتضادّ مما يدخله الاجتهاد؛ فقد يظنّ بعض الدارسين وجود تضادّ بين بعض الأقوال، ويجتهد بعضهم فيجد الجمعَ بينها ممكناً، وقد يكون الاختلاف على قولين أو أكثر؛ فيكون في كلّ قول بعض الصواب؛ فلا تردّ الأقوال كلها، ولا يرجّح قول منها على الأقوال الأخرى بإطلاق. 

 

الأصل الرابع: التفريق بين الأقوال في التفسير وأوجه التفسير. 

وهذا أصل مهمّ لأن الاختلاف الذي يرجّح فيه بين الأقوال إنما هو في حال تواردها على وجه واحدٍ من أوجه التفسير، وإذا كانت الأقوال المذكورة على أوجه متعددة صحيحة؛ فإنا نجمع بينها ولا نرجّح، وسيأتي لذلك مزيد بيان إن شاء الله.   

 

فهذه الأصول الأربعة تعين على تحقيق قدر مهمّ من التحرير لمسائل التفسير يمكن لطالب العلم أن يتمرّن عليه حتى يتقنه.  

وإذا أحسن الطالب تصنيف الأقوال أعانه ذلك على إحسان التحرير العلمي، ولذلك ينبغي أن يتنبّه الطالب إلى أنّه قد يقع اختلافٌ في مسألة واحدة على أقوال متعددة؛ فيكون منها أقوال متفقة، وأقوال متقاربة، وأقوال مختلفة اختلاف تنوّع، وأقوال مختلفة اختلاف تضاد، وأقوال غير معتبرة؛ فيضع كلّ قول في تصنيفه الصحيح.  

 

المهارة العاشرة: تمييز أوجه التفسير. 

مما تقرّر أن القرآن حمّالٌ ذو وجوه، وأنّ معانيه كثيرة مباركة لا يُحاط بها، بل لا تبلغ التفاسير التي ألفها العلماء مجتمعة أن تحيط بمعاني القرآن، ومما يبيّن ذلك أنّ طالب العلم قد يستخلص المسائلَ في تفسير آيةٍ من تفاسير كثيرة ثم يقف على رسالة مفردة لأحد العلماء في تفسير تلك الآية فيجده قد ذكر فيها مسائل كثيرة لم يذكرها أولئك المفسرون. 

وهذا راجع إلى أسباب من أهمّها سعة المعرفة بأوجه التفسير، والتمكن من أدوات الاستنباط واستخراج المعاني والأحكام والفوائد واللطائف، والذي يعتاد القراءة في الرسائل التفسيرية تتبيّن هذه الحقيقة تبيّنا لا لبس فيه. 

فإذا عرفتَ ذلك فإنّ أقوال المفسرين في كلّ مسألة من مسائل التفسير قد تكون على وجهٍ واحد، وقد تكون على أوجه متعددة من معاني القرآن؛ فإذا كان الخلاف متوارداً على وجهٍ واحدٍ فتصنّف الأقوال المختلفة فيه على ما تقدّم بيانه من اختلاف التنوع واختلاف التضادّ. 

وإذا كان للآية أكثر من وجه صحيح في المعنى؛ فلا ينبغي أن نعارض بين الأوجه الصحيحة وننصب الخلاف بينها، بل نجمع بينها لصحة حمل الآية على أوجه متعددة بشرط صحّتها.  

ويشترط لصحة الأوجه التفسيرية ما يشترط لصحة القول في التفسير:  

الشرط الأول: أن يكون المعنى المستخرج بذلك الوجه صحيحاً.  

والشرط الثاني: صحة الاستدلال على ذلك المعنى بوجه من وجوه الاستدلال الصحيح.  

والشرط الثالث: ألا يخالف نصاً محكماً ولا إجماعاً. 

والاختلاف في أوجه التفسير الصحيحة كالاختلاف في القراءات الصحيحة؛ يُجمع بينها ولا يعارض بعضها ببعض؛ فإذا وجدنا - على سبيل المثال - في مسألةٍ ما خمسة أقوال للمفسرين، وكان ثلاثة منها على وجه، واثنين منها على وجه آخر؛ فإننا نحرر القول في كلّ وجهٍ على حدة، وما تحرر وصحّ من الوجهين فإنا نجمع بينهما، ولا نعارض أحدهما بالآخر.  

لكن مما ينبغي أن يتفطّن له أنّ استخراج الأوجه التفسيرية مما يدخله الاجتهاد؛ فقد يصيب المجتهد فيه، وقد يخطئ، وإذا جرى بين المفسرين خلاف في وجه من الوجوه فإنّ ذلك لا يقتضي بطلان الأوجه الأخر متى كان لصحّتها حجّة مقبولة.  

 

والاختلاف في أوجه التفسير على أصناف: 

الصنف الأول: ما يكون سببه اختلاف القراءات 

وقد نجد أقوالاً للمفسرين مختلفة لاختلاف القراءات؛ فيفسّر كلّ مفسّر غالباً على القراءة التي يقرأ بها، وإذا صحّ في الآية أكثر من قراءة؛ فلا يعدّ تفسير كلّ قراءة على معناها خلافاً. 

كاختلافهم في معنى {يصدون} في قول الله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصدُّونَ (57) } 

- فقال ابن عباس ومجاهد « يضجّون ». رواه ابن جرير عنهما بأسانيد عدة. 

- وقال قتادة: « يجزعون ويضجّون ». رواه ابن جرير. 

- وقال يحيى بن وثاب: « يعرضون ».  رواه سفيان الثوري. 

فقول ابن عباس ومجاهد وقول قتادة على قراءة {يصِدون} بكسر الصاد، وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وحمزة، من الضجيج يقال: صدَّ يصِدّ صدّاً، وقريب منه التصدية، وهي من صدّى يُصَدِّي تصدية، إذا صفّق بيديه، وهما قولان متقاربان؛ وقول قتادة يجزعون هو كالتبيين لنوع الضجيج؛ فهم يضجّون جزعاً واعتراضاً على النبي صلى الله عليه وسلم.  

وقول يحيى بن وثاب على قراءة [ يَصُدّون ] بضمّ الصاد، وهي قراءة نافع وابن عامر والكسائي، من الصدود وهو الإعراض، يقال: صدّ يصُدّ صدّاً وصدوداً.  

فلا يعارض بين قول يحيى بن وثاب وقول ابن عباس ومجاهد، ولا يُطلب الترجيح بينهما، بل يجمع بينهما لأنهما على وجهين صحيحين نزلت بهما الآية.  

 

والصنف الثاني: ما يكون سببه اختلاف الوقف والابتداء 

وذلك أنّ الوقوف قد يتغيّر بها المعنى؛ وقد يصحّ في الآية أكثر من وقف؛ فيكون لها أوجه في المعاني، وكلّ وجه صحيح في الوقف فتفسيره لا يُعارَض به ما تحصّل من المعاني بوقف صحيح آخر. 

كما في قول الله تعالى: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)} ؛ فمن وقف على {عليكم} ثمّ ابتدأ {اليوم يغفر الله لكم .. } كان المعنى خبرٌ من يوسف عليه السلام - وهو نبيّ يوحى إليه - بمغفرة الله تعالى لهم في ذلك اليوم، ومن وقف على {اليوم} كان الابتداء بما بعدها دعاءً من يوسف عليه السلام لإخوته. 

 

والصنف الثالث: ما يكون سببه تعدد معاني الحروف 

ومن أشهر أمثلته تعدد معاني الباء في البسملة {بسم الله الرحمن الرحيم}  

- قال الفراء وابن قتيبة وثعلب وأبو منصور الأزهري وغيرهم: الباء للابتداء.  

- وقال أبو حيان الأندلسي: الباء للاستعانة. 

- وقال ابن عاشور: الباء للمصاحبة والملابسة. 

- وقيل: الباء للتبرك، وهذا القول مستخرج من قول بعض السلف في سبب كتابة البسملة في المصاحف، وأنها كتبت للتبرّك، وهذا المعنى ذكره جماعة من المفسرين. 

فهذه الأوجه لمعنى الباء كلها صحيحة؛ قد استوفت شروط القبول، ولا تعارض بينها، ومن دلائل ذلك أن القارئ قد يستحضرها جميعاً من غير تعارض.  

 

والصنف الرابع: ما يكون سببه تعدد أوجه الإعراب 

فإذا كان للمفردة أو الجملة وجهان صحيحان في الإعراب أو أكثر؛ فيجمع بين المعاني المتحصّلة من تلك الوجوه الإعرابية بشروطها، ولا يرجح بينها. 

ومن أمثلة ذلك اختلاف المفسرين في {خلاف} في قول الله تعالى: {فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله} 

- فقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: « {خلاف رسول الله} أي بعده، قال الحارث بن خالد:  عقب الربيع خلافهم فكأنما... بسط الشواطب بينهن حصيرا ». 

- وقال أبو جعفر النحاس: « الخلاف المخالفة، والمعنى من أجل مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقول: جئتك ابتغاء العلم ». 

فهذا القولان وإن دلا على معنيين مختلفين فكلّ معنى مخرّج على وجه صحيح من الإعراب؛  

الوجه الأول: ظرف مكان بمعنى بعد، قعدوا خلافه أي: بعده، وتخلّفوا عن الغزو معه، وعلى هذا الوجه قول أبي عبيدة معمر بن المثنى. 

والوجه الثاني: مفعول لأجله؛ أي: قعدوا عن الغزو خلافاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعصياناً لأمره، ومشاقّةً له، وعلى هذا الوجه قول أبي جعفر النحاس، وما اختاره ابن جرير الطبري. 

والوجهان صحيحان لأنّ أولئك المنافقين تخلّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقعدوا خلفَه مخالفة له، ومفردة {خلاف} تصلح للمعنيين بهذين الوجهين من الإعراب.  

وقد قرئ في غير العشر [ خَلْف ] بفتح الخاء وسكون اللام، وقرئ [ خُلْفَ ] بضم الخاء وسكون اللام؛ فقراءة [خَلْف] بمعنى بعد على الوجه الأول، وقراءة [خُلْف] بمعنى مخالفة على الوجه الثاني، وقراءة {خلاف} جامعة للمعنيين، وصالحة للوجهين من الإعراب.  

 

والصنف الخامس: ما يكون سببه الاشتراك في الصيغة الصرفية 

فإذا كان اختلاف المفسرين على أقوال يُحمل كل قول منها على وجه من أوجه الاشتراك الصرفي للمفردة فإننا نقبل المعاني المتحصلة من الأوجه الصرفية الصحيحة في الجملة إذا كانت تؤدّي معنى صحيحاً لا يعارض نصاً ولا إجماعاً؛ ونجمع بين تلك الأوجه الصحيحة ولا نرد شيئاً منها 

ومن أمثلة ذلك اختلافهم في معنى حفيظ في قول الله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) } على قولين:  

القول الأوّل: لا يتغيّر ولا يتبدل، ولا يدرس ولا يبلى، ذكره ابن جرير وغيره. 

والقول الثاني: مكتوب فيه كلّ ما ذكر الله من أمر الخلق وما تنقص الأرض منهم كتابة مضبوطة ضبطًاً محكماً، ذكره ابن كثير وغيره. 

والقولان صحيحان يُجمع بينهما، لأنّ كل قول قائم على وجه صحيح من وجهي تصريف هذه المفردة {حفيظ}.  

الوجه الأول: حفيظ بمعنى محفوظ، ولذلك لا يتغيّر ولا يتبدّل.  

والوجه الثاني: حفيظ بمعنى حافظ، أي: ضابط لكل ما أودع فيه. 

 

 ومن أمثلة ذلك أيضاً معنى {إناه} في قول الله تعالى: {غير ناظرين إناه}، وفيه قولان:  

أحدهما: نضجه، وهو قول مجاهد فيما رواه ابن جرير عنه قال: « متحيّنين نضجه ». 

والآخر: وقتَه، وهو قول قتادة فيما رواه عبد الرزاق عنه، قال: « غير متحيّنين طعاماً ». أي: وقت طعام. 

ولكل قول من هذين القولين وجه صحيح في التصريف، وذلك أنَّ كلمة {إناه} أصلها "إنى" بالقصر مضافة إلى ضمير الهاء، وهذا التركيب يحتمل معنيين، قال مجاهد بأحدهما، وقال قتادة بالمعنى الآخر، وكلاهما تشمله دلالة الآية. 

فالمعنى الأول: الإدراك وبلوغ الغاية، وهو في الطعام بمعنى النضج، يقال: أنى الطعام يأني أنيا إذا نضج. 

والمعنى الثاني: الوقت والحين، فالإنَى واحد الآناء، يقال: آناء الليل وآناء النهار، على الجمع، والمفرد "إِنَى" بالقصر، مثل "إلى" واحد الآلاء. 

فيكون معنى غير ناظرين إناه: أي غير متحيّنين وقته. 

واختيار "الإنى" على "الأوان" في الآية أبلغ؛ لأنه التعبير بالأوان يقصر المعنى على الوقت والحين، و"الإنى" يشمل المعنيين: النضج والوقت. 

قال أبو زكريا الفراء في كتاب المقصور: (الإِنَى على وجهين: الإِنَى الواحد من آناء الليل والساعات، وبلوغ الشيء إلى منتهاه). 

وقوله تعالى: {غير ناظرين} يشمل معنيين يجمعهما هذا اللفظ جمعاً بديعاً.  

الأوّل: غير منتظرين ومتحيّنين.  

والآخر: غير متطلّعين ومتشوّفين. 

 

والصنف السادس: ما يكون سببه الاشتراك في الأساليب 

فإذا صحّ في الجملة أسلوبان واستوفيا شروط القبول جمعنا بينهما، لصحة حمل الآية عليهما، وإذا ورد قولان للمفسرين ووجدنا كلّ قول على أسلوب صحيح فإننا لا نعد الاختلاف في ذلك اختلاف تضادّ، بل هو اختلاف تنوع. 

ومن ذلك اختلافهم في معنى قول الله تعالى: {فما أصبرهم على النار}  

فالآثار المروية عن السلف في تفسير هذه الآية ترجع إلى قولين:  

القول الأول: الأسلوب أسلوب استفهام؛ أي: ما الذي حملهم على أن يصبروا على عذاب النار؟ وهو قول مجاهد في رواية عنه، والسدي، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.  

وفائدة هذا الاستفهام تقريع الكفار وقت الخطاب عن العمل بالأعمال الموجبة لدخول النار، وإثارة أذهانهم للتفكر في الأسباب التي توجب دخول النار.  

والقول الثاني: الأسلوب أسلوب تعجّب، أي: ما أجرأهم على ارتكاب الذنوب العظيمة التي عوقبوا بسببها بعذاب النار.  

 

ومن ذلك أيضاً اختلافهم في تفسير قول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)} على قولين:  

القول الأول: الأسلوب في الآية أسلوب شرط جيء به لتوكيد النفي وذلك بتعليق الجزاء بشرط معدوم، وهو ما يُحمل عليه قول السدي ومجاهد ثم اختلفوا في تحرير معنى جواب الشرط:  

- فالمعنى على قول السدي: قل يا محمّد لهؤلاء المشركين إن كان للرحمن ولدٌ – كما تزعمون أيّها الكاذبون – فأنا أوَّل مَن ينبغي أن يعبده، ولا ينبغي لكم العلم بذلك قبل رُسُلِ الله فإنَّه لا سبيل لكم إلى معرفة ذلك إلا عن طريق الرسل. 

- وعلى قول مجاهد يكون تقريب المعنى: إن كنتم تزعمون أن للرحمن ولد فأنا بريء منكم ومما تزعمون من الاعتقاد الفاسد، مشتغل بإمامة العابدين الموحدين لله تعالى ممن يطيعني ويتّبعني على ما أمرني الله به. 

والوجهان صحيحان يحتملها تركيب الآية. 

والقول الثاني: الأسلوب أسلوب النفي، و"إنْ" في هذا الموضع نافية، ثم اختلفوا في جواب النفي على قولين:  

أحدهما: ما كان للرحمن ولد قطّ، و{أوّل العابدين} أوّل المؤمنين الموحّدين الشاهدين لله تعالى بالوحدانية، وأنه لا شريك له، ولا ولد، فجملة: {فأنا أوّل العابدين} جملة مترتّبة على جملة النفي قائمة مقام الدليل على النفي، وتفسير العابدين في هذا الموضع بالشاهدين لملاحظة قصد الاستشهاد، وكلّ موحد شاهد لله بالوحدانية، وهذا تقرير القول المروي عن ابن عباس.  

والقول الثاني: "إن" نافية، و {أوّل العابدين} أوّل الآنفين المنكرين لأنْ يكون لله ولد، وذلك أنّ العابِد مشترك لفظي يطلق على فاعل العبادة، وعلى الآنِف المنكِر، وذكر الخليل بن أحمد أنه قد قُرئ: [ فأنا أوّل العَبِدين ] ، وهذا القول اختاره أبو عبيدة معمر بن المثنى، وأبو علي الفارسي، وذكره الكسائي، والبخاري، وغيرهما. 

 

لكن مما أشكل على بعض علماء اللغة معنى "الفاء" على هذا القول واختلفت أقوالهم في توجيهها، والراجح أنّها ليست متعلقة بجواب النفي، وإنما متعلقة بجواب الأمر في {قل} فيكون مرجع الضمير في {أنا} إلى الله جلَّ وعلا، أي أنَّ الله هو أوّل الآنفين المنكرين نسبة الولد إليه تعالى الله عمّا يقولون. 

ولا ريب أنه لا يتقدّم اللهَ أحدٌ في إنكار هذه الدعوى الباطلة؛ فيكون المعنى: قل لهم يا محمد: ما كان للرحمن ولد، فأنا أوّل المنكرين الآنفين، ثم الملائكة بعدُ منكرون، والأنبياء والصالحون، حتى السموات والأرض والجبال كما قال الله تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً . لقد جئتم شيئاً إدا . تكاد السموات يتفطّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدا . أن دعوا للرحمن ولداً}. 

وذِكْرُ تقدّم الله عزّ وجلّ وتصديق من يشاء من خلقه وشهادتهم على ما شهد الله به واتباعهم ما أحبَّ الله قد تكرر في القرآن، ومنه قول الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ}. 

وقوله تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167)}. 

والمقصود أنّ هذه الأقوال مبنية على أوجه صحيحة تتسع لها دلالة الآية، ويمكن الجمع بينها من غير تعارض. 

 

والصنف السابع: ما يكون سببه الاشتراك في الدلالة الوضعية.  

والاشتراك اللفظي في الدلالة الوضعية كثير في مفردات القرآن، والقاعدة فيه أننا نأخذ من تلك المعاني ما يناسب السياق، وتتوافر فيه شروط قبول الوجه التفسيري.  

ومن أمثلة ذلك: معنى العصر في قول الله تعالى: {والعصر} 

- فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس فِي قولِهِ تعالى: {وَالْعَصْرِ} قالَ: « العصرُ: ساعةٌ من ساعاتِ النهارِ ». رواه ابن جرير. 

وبنحوه قال قتادة والحسن البصري. 

- وقال زيد بن أسلم والفراء: العصر: الدهر. 

ولكل قول وجه في التفسير ومناسبة في المعنى؛ فالعصر مشترك لفظي يطلق على الدهر، وعلى الساعة المعروفة من ساعات النهار بعد الزوال بوقت، وفيها وقت صلاة العصر.  

ومن أمثلة ذلك أيضاً معنى البلاء في قول الله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)} 

- قال مجاهد والسدي: « نعمةٌ من ربّكم عظيمةٌ ». رواه ابن جرير عنهما. 

- وقال مكي بن أبي طالب: « {بَلاءٌ}: نقمة » 

- وقال ابن عطية: « {بلاءٌ} معناه امتحان واختبار ». 

- وقال البخاري في صحيحه: « {بلاء من ربكم}: ما ابتليتم به من شدة». 

وهذه الأقوال كلها صحيحة؛ لأن لفظ البلاء مشترك يحتمل ثلاثة معانٍ: الاختبار والفتنة، والنعمة والمنّة التي تستوجب الشكر، والعذاب والشدة.  

فإذا كان مرجع اسم الإشارة {ذلكم} إلى المصدر المستفاد من فعل {نجيناكم} فهو بلاء نعمة ومنّة.  

وإذا كان مرجعه إلى {يسومونكم} فهو بلاء شدّة وعذاب.  

وإذا كان مرجعه إلى مجموع ما ذكر في أوّل الآية فهو بلاء فتنة واختبار.  

تعدد أنواع الأوجه في المسألة الواحدة 

ومما ينبغي التنبّه له أنّ بعض المسائل قد تجتمع فيها نوعان أو أكثر من الأنواع المتقدّم ذكرها، ولذلك فإنّ الباحث الذي يريد تحرير التفسير في تلك المسائل ينبغي له أن ينظر فيما تحتمله من تلك الوجوه؛ فينظر في قراءات الآية ونزولها ووقوفها ومقاصدها ومعاني مفرداتها وأساليبها وحروفها، وما تحتمله من أوجه الإعراب، والصيغ الصرفية حتى يتّسع نظره في دراسة المسألة ويكون أقرب إلى التحقيق فيها. 

ومن أمثلة ما اجتمعت فيه أوجه متعددة تفسير قول الله تعالى: {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19)} 

هذه الآية بديعة عجيبة، وهي من دلائل إحكام القرآن، وحسن بيانه، وبركة ألفاظه ومعانيه 

{لا يصدعون} قُرئت على أحرف تحتمل معاني متعددة، ولذلك اختلف المفسرون فيها على أقوال:  

القول الأول: {لا يُصَدَّعون}: أي لا يصيبهم الصداع بسببها، وهو قول سعيد بن جبير، والضحاك، وقتادة، و"عن" هنا تفيد السببية. 

القول الثاني: {لا يُصَدَّعون} من التصديع، وهو التفريق، أي لا يُفرّقون عنها كما يُفرَّق أهل الخمر في الدنيا، وعن هنا تفيد المجاوزة.  

القول الثالث: المعنى: لا يتفرّقون عنها، وهذا القول موافق لقراءة مروية عن مجاهد: [لا يَصَّدعون] بفتح الياء، وأصلها يتصدّعون أي يتفرقون؛ فلا يتفرقون عنها من شدة لذتها ومن تآلفهم عليها، ووفرتها. 

القول الرابع: لا يُفرِّقون غيرَهم عنها، وهو معنى موافق لقراءة من قرأ [لا يُصَدِّعون عنها] بضم الياء وكسر الدال مشددة؛ فهم من كَرَمهم ووفرتها لا يُفرّقون غيرهم عنها، ولا يشحّون بها كما يشح أهل الخمر في الدنيا بخمورهم. 

وقوله تعالى: {ولا يُنزفون} قرئ بفتح الزاي وكسرها، وفيها قولان: 

القول الأول: لا يُنزَفون، أي لا تذهب عقولهم وتُنزف من الخمر، وهو قول سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، وقتادة. 

والقول الثاني: لا يُنزِفون، أي لا ينفد شرابهم ولا يفنى عن كثرة الشرب فهم في أمان من سُكرها وفنائها كما قال الله تعالى: {لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون}. وقد قرئ بالقراءتين في هذا الموضع أيضاً، وفيهما المعنيان المذكوران. 

فمن نظر في هذه المعاني وتنوعها واتّساقها علم أنه لا يقوم مقام حرف "عن" حرف آخر من الحروف تتّسع دلالته لهذه المعاني كلها، وتبيّن تصديق القرآن بعضه لبعض، وتوافق القراءات، وتنوّع معاني الحروف بتعدّد ما تحتمله المفردات من المعاني. 

 

المهارة الحادية عشرة: الصياغة العلمية لمسائل التفسير وعلوم القرآن. 

وهي من المهارات الحسن التي ينبغي لطالب العلم التمرّن عليها حتى يتقنها؛ فلها أثر كبير على طالب العلم في مسيرته العلمية، ومن رُزق ملكة حسنة في الصياغة تمكّن من الإبانة عما يريد، وإفهام ما يقصد، وكان لكتابته أثر عليه وعلى من يقرأ له. 

وكم من إنسان حصّل علماً كثيراً لم يحسن الإبانة عنه فضاع علمه ولم ينقل عنه. 

 ومن أراد أن تكون صياغته صياغة علمية حسنة فعليه أن يعتاد القراءة للمحققين من أهل العلم ممن عرفوا بالتحقيق في العلم والفصاحة وحسن البيان، وأن يقرأها قراءة ينطق بها لسانُه، وتسمعها أذنه حتى يألفها ويحسن محاكاتها. 

وللصياغة العلمية الصحيحة والحسنة أمور تعرف بها، ومنها: 

الأمر الأول: سلامة النصّ من الأخطاء العلمية القادحة، ومن ذلك:  

1: الخطأ في نقل قول أو اختصاره أو حكايته، والخطأ في نسبة الأقوال، وفي استخلاص المسائل والعبارة عنها، وفي تصنيف الأقوال؛ كأن يجمع قولين متباينين في قول واحد، أو يفرّق بين قولين متماثلين، وفي الاحتجاج للأقوال. 

2: الكلام المرسل الذي لا يقوم على حجّة صحيحة، وليس له وجه استدلال صحيح، وأقبحه أن يعبّر بقولٍ يُفهم منه نقل الإجماع في مسألة لم يطلع على الأقوال فيها ولم يدرسها، أو نسبة قول إلى جمهور العلماء أو بعضهم قبل التحقق والتثبت. 

3: الطعن في أقوال السلف وأئمة المفسرين وعلماء اللغة دون بيان وجه الطعن وأثره. 

 

الأمر الثاني: سلامة النص من الأخطاء الإملائية 

الأمر الثالث: سلامة النصّ من السقط ومن الأخطاء الكتابية 

الأمر الرابع: سلامة النص من الأخطاء الأسلوبية وركاكة العبارات. 

فيجتنب التكرار والحشو، والتعقيد اللفظي والمعنوي. 

ومما يعين على اجتناب كثير من الأخطاء قراءة كتب منتقاة في التصحيح اللغوي؛ فقد عُني أصحابها بالتنبيه على ما يشيع من الأخطاء في هذا الباب. 

الأمر الخامس: تحلية النصّ بعلامات الترقيم 

فهي مفيدة جداً في تبيين مفاصل الجُمل، ومعينة على إحسان القراءة، والانطلاق فيها، وفهم المقصود، وإغفالها قد يوقع في إشكالات وتصحيف وتحريف يعود على المعنى بالتشويش والأغلاط.  

الأمر السادس: استعمال لغة أهل العلم في العبارة عن المسائل العلمية، ومحاكاة أساليبهم. 

ولا يليق بطالب العلم أن يبتذل الكلام العلمي فيكتب المسائل العلمية بأسلوب عامي مبتذل أو صحفي ممجوج ينحرف بالذائقة العلمية، وأقبح منه أن يخلط الكلام العربي بالأعجمي من غير حاجة مقتضية.  

الأمر السابع: عرض النص على من يحسن تقويمه 

وهذا أمر مهمّ للكاتب ولا سيما في المراحل الأولى وفي المسائل المشكلة؛ فيعرض ما يكتب على عالمٍ يحسن الكتابة أو طالب علم متمكن في ذلك يقوّم ويرشده إلى تصحيح ما أخطأ فيه، وتحسين ما يمكن تحسينه. 

وكم من خطأ في عبارة ما يتكرر في كتابات الكاتب حتى يوفّق لمن ينبّهه على خطئه. 

فهذه أمور من أخذ بها أرجو أن تتحسّن صياغته العلمية كثيراً حتى تكون الكتابة الفصيحة الحسنة سهلة ميسورة عليه لا يتكلّفها، ولا يطيق الخروج عنها.  

 

المهارة الثانية عشرة: تنسيق التلخيص وإحسان إخراجه. 

وهي من المهارات الحسنة التي تفيد طالب العلم فوائد مهمة إحسان عرض ما يكتب من الملخّصات والأصول العلمية. 

فالنصّ المنسّق يعين القارئ على مواصلة القراءة والاسترسال فيها، وعلى التنبّه للمواضع المهمة من الكتابة، وعلى حسن الفهم وسرعة المراجعة، بخلاف النص الذي يخلو من ذلك فهو يجهد الذهن، ويُسئِمُ القارئ، وتفوت به بعض المسائل والفوائد المهمة. 

 

تنسيق الكتابة وإحسان عرضها قضية ذوقية تختلف فيها الاجتهادات، لكن أوصى طالب العلم بأن يُراعي توحيد منهج التنسيق، ووضوح النص، وتنظيم فقراته، والتناسب في الألوان وأحجام الخطوط، وملائمة النص لنظر العين. 

فإذا حقّق الطالب هذه الأمور كانت كتابته حسنة العرض، وإن اختلفت الأذواق والاجتهادات فيما وراء ذلك. 

لكن مما ينبغي التنبيه عليه ترك المغالاة في ذلك؛ وأن يكتفي بما له فائدة ظاهرة، حتى لا تشغله الأمور الشكلية عن لبّ التحصيل العلمي. 

 

المهارة الثالثة عشرة: تلخيص دروس التفسير 

بمراعاة ما تقدّم من المهارات بدءاً من استخلاص المسائل حتى إحسان عرض المادة العلمية.  

وأوصي طالب العلم أن يختار ثلاثة تفاسير إلى خمسة مما يوافق تأهيله العلمي وأوجه عنايته ويجتهد في تلخيص مسائل التفسير منها بتطبيق ما تقدم من المهارات حتى يتقنها، ويستفيد بالمداومة عليها تحصيل أصل ملخّص في التفسير في بعض أجزاء القرآن. 

ثم يمكنه بعد دراسة المهارات المتقدمة أن يوسع مصادر تلخيصه وأصوله في التفسير؛ فيضيف إليها تفاسير غيرها يختارها بما يوافق عنايته العلمية حتى يتمّ دراسة تفسير أجزاء القرآن الكريم دراسة علمية حسنة بإذن الله تعالى. 

والتلخيص الجيد يعرف باجتماع خمسة أمور:  

1: حسن استخلاص المسائل. 

2: حسن الترتيب. 

3: التحرير العلمي. 

4: حسن الصياغة. 

5: حسن العرض. 

فمن كان محسناً في هذه الأمور في تلخيصه؛ فتلخيصه حسن، ومن أخلّ بشيء منها نقص من حسن تلخيصه بقدر إخلاله. 

وقد ذكرت في دروس المهارات الأساسية في التفسير مثالاً يتّضح به المراد بالتلخيص الجيّد، وأتبعته باقتراح خطوات تعين الطالب على سرعة إنجاز التلخيص. 

عبد العزيز بن داخل المطيري

#3

17 Oct 2024

التعريف بالمهارات المتقدمة في التفسير 

إذا أتقن طالب علم التفسير المهارات الأساسية في التفسير، وحصّل المعارف الأساسية في التفسير وعلوم القرآن؛ فينبغي له أن يجتهد للتأهل لدراسة المهارات المتقدمة في التفسير، وذلك بأن يحسن التأسيس في علوم العقيدة والحديث وأصول الفقه وعلوم اللغة العربية؛ فإنه لا يمكنه أن ينطلق في المهارات المتقدمة في التفسير على ضعف في التأسيس في علوم الشريعة واللغة العربية.  

وإحراز التأسيس في هذه العلوم يكفي فيه دراسة مختصرات شاملة دراسة حسنة بإشراف علمي، وإتقان للمهارات الأساسية في تلك العلوم، وبينها وبين المهارات الأساسية في التفسير اشتراك في قدرٍ كبير.  

وغرضنا في هذا الدرس هو التعريف بالمهارات المتقدمة ليكون طالب العلم على معرفة بمعالم العلم الذي يدرسه.  

وبعض هذه المهارات مشتركة بين المهارات الأساسية والمهارات المتقدمة لكن يدرسها الطالب المبتدئ في المهارات الأساسية بالقدر الذي يناسب تحصيله العلمي، ثم يدرسها في المهارات المتقدمة بالتوسع الذي يتحقق به تحرير المسائل العلمية وتحقيق القول فيها.  

 

المهارة الأولى: استخلاص مسائل التفسير من كلام المفسرين 

والمسائلَ هي لَبنات العلوم، فكل علم من العلوم له أقسامه وأبوابه ولكل باب مسائله التي هي عماده؛ فمن أحسن معرفة المسائل وترتيبها وبناءها على أصولها حَسُن بنيانه العلمي وتمّ له، ومن أضاع بعضها كان كمن أضاع بعض لبنات بنيانه، فيكون في تحصيله العلمي من الخلل والنقص بقدر ما فرّط فيه من المسائل المهمّة.  

فضبط المسائل يعين الطالب على تنظيم دراسته، ويكسبه التصور الأوّلي الشامل لمسائل الدرس الذي يدرسه.  

ولذلك أوصي الطالب قبل القراءة المفصّلة لكلام المفسر أن ينظر إليه نظراً سريعاً يرصد به أسماء المسائل رصداً كتابياً أو ذهنياً، ثمّ ينظر هل ينتج له من مجموع هذه المسائل ما يفي بتفسير الآية؟ 

ثم يعود إلى كلام المفسّر في كلّ مسألة فيقرأه قراءة فاحصة يركّز فيها على تلك المسألة، والرصد الكتابي أفضل وأثبت وأحسن عائدة من الرصد الذهني.  

وهذه المهارة من أحسن العلاج لضعف التركيز وتشتت الذهن وشروده عند القراءة؛ فإذا أحسن استخلاص المسائل وترتيبها اختصر كثيراً من الجهد والوقت، واستفاد فائدة عظيمة وهي أن يكون إقبال ذهنه على المسائل المهمّة في أوّل دراسته لتفسير الآية وفي وقت نشاط ذهنه، فيكون ذلك أدعى لحسن الفهم وجودة التحصيل العلمي. 

والمسائل التي يذكرها المفسرون في تفاسيرهم على درجات:  

1: فمنها مسائل نصية ينصون على أسمائها أو يبرزونها بسؤال أو جملة موضّحة.  

2: ومنها مسائل خفيّة تُستخرج بالنظر والتأمّل، وإيراد الأسئلة على كلام المفسّر، وإعمالِ طردِ القضيّة وعكسها، والتفكّر في اللوازم والآثار، وغير ذلك من الأدوات التي تُستنبط بها بعض المعاني والمسائل. 

3: ومنها مسائل لا تتبيّن له إلا بالموازنة بين عِدَّةٍ من التفاسير؛ فربّما قرأ الطالب تفسيراً وظنّ أنه استخرج جميع مسائله ثم يقرأ تفسيراً آخر فتظهر له مسألة لم يكن قد وجدها قبلُ في التفسير الأول، فإذا عاد إليه بنظر فاحص ربما وجد لتلك المسألة ذكراً على سبيل الإشارة أو التنبيه الخفي أو عرف من لازم كلام المفسّر ما يتبيّن به قوله في تلك المسألة.  

  

المهارة الثانية: استخلاص المسائل التفسيرية من الآيات القرآنية  

وهي من المهارات المهمّة التي تفتح لطالب العلم أبواباً عظيمة النفع في فهم القرآن، وإدراك معاني كلام المفسّرين، وطرقهم في استخراج المسائل والبيان عنها. 

وإذا بلغ الطالب مرتبة يتمكن بها من استخراجٍ شِبْه وافٍ لمسائل الآيات التي يفسّرها قبل أن يطّلع على كلام المفسّرين فيها فقد أوتي ملكَة عظيمة النفع في دراسة مسائل التفسير.  

وبلوغ هذه المرتبة يتطلّب تمريناً وتدرّجاً وطول نفس حتى يتهيأ للطالب اكتساب هذه المهارة والبراعة فيها، ثمّ إذا حذقها احتاج إلى المحافظة عليها وتنميتها بالمداومة على استعمالها في دراسة مسائل التفسير.  

وأصل هذه المهارة مَلَكة ذهنيّة تقود صاحبها إلى إدراك دلائل المسائل العلمية وطرق استخراجها، وتُبَصّره بأنواعها ومراتبها، ثمّ ينمّيها بالتدريب، ويهذّبها إشرافُ المعلّم وتوجيهُه، ولا يزال الطالب يزداد بها علماً وفهماً حتى تتقوّى ملكتُه وتنضج معرفتُه إلى أن يبلغ بعون الله تعالى وتوفيقه مرتبةَ الرسوخ في هذا العلم.  

 

والتحصيل العلمي قائم على استخلاص المسائل وعقل أجوبتها؛ فمن جمع قلباً يعي مسائل العلم ويعقلها، ولساناً سؤولاً فإنّه يحصّل علماً غزيراً مباركاً بإذن الله تعالى، وبيان ذلك من وجهين:  

الوجه الأول: أن اللسان السؤول هو الذي يكون صاحبه كثير السؤال، لأنّ هذه الصيغة تفيد المبالغة، لكنّها كثرة على فقه وتفهّم؛ فهي مداومة على الأسئلة الحسنة وعلى ضبط جواباتها بالعقل والفهم والتقييد، ويدخل في ذلك سؤال نفسه وسؤال غيره.  

والوجه الثاني: أنّ من يعقل أنواع المسائل ويحسن ترتيبها وتصنيفها ومعرفة أوجه التناسب بينها، تتوسّع مداركه، وتنمو قوّته الذهنية بسبب كثرة تمرّنه على استثارة المسائل، وتيقّظه لما يستجدّ له من أنواع المسائل. 

ولا ينبغي لطالب العلم أن يستكثر ما يمضيه من الوقت في إتقان المهارات؛ فإنه لو أحسن الطالب دراسة مسألتين في اليوم؛ فإنّه لا تمضي عليه ثلاث سنوات حتى يتقن أكثر من ألفي مسألة!! 

وبعض العلوم يكفي لضبطها أقلّ من ألف مسألة.  

وهذا في المسائل المنصوصة التي درسها نصّاً؛ وقد يتضاعف العدد أضعافاً إذا ألحق بهذه المسائل أشباهها ونظائرها، ولوازمها وآثارها.  

 

واستخراج المسائل من الآيات القرآنية يعين الطالب على حسن تدبّر القرآن، واستخراج علومه وفهم معانيه، وقد صحّ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (من أراد العلم فليثوّر القرآن فإنّ فيه علم الأوّلين والآخرين). رواه البيهقي في شعب الإيمان والطبراني في المعجم الكبير.  

قال ابن الأثير: (أي لينقّر عنه ويفكّر في معانيه وتفسيره وقراءته). 

ويفيده أيضاً في تكميل النقص الذي يلحظه في المسائل التي يتناولها بعض المفسرين عند تفسير الآية اختصاراً؛ فيكتسب علماً يضيفه إلى ما استخلصه من كلام المفسّرين في الآية؛ فيكتمل له بنيان تفسير الآية اكتمالاً حسناً بإذن الله تعالى.  

 

  وللمفسّرين أدوات علمية يستعملونها لاستخراج المسائل التفسيرية على تفاوت بينهم في استعمالها، وقد ذكرت أكثرها في كتاب "أصول تدبر القرآن"، وهي على أنواع:  

فمنها: ما يُعرف بدراسة أصول التفسير وعلوم القرآن . 

ومنها: ما يُعرف بدراسة أصول الفقه. 

ومنها: ما يُعرف بدراسة علم البلاغة. 

ومنها: ما يعرف بدراسة النحو والصرف ومعاني الحروف والاشتقاق.  

ومنها: ما يُدرك بحسن النظر والتأمّل والاستنتاج وإعمال القواعد العقلية التي تُدرك بها المعاني.  

المهارة الثالثة: تصنيف المسائل وتعيين مراجع البحث 

مما ينبغي أن يُعلم أنّ كثيراً من مسائل التفسير لها تعلّق بعلوم أخر من علوم القرآن أو علوم الحديث أو الاعتقاد أو السيرة النبوية أو العلوم اللغوية من الغريب والإعراب والصرف والاشتقاق والبلاغة ومعاني الحروف وغيرها.  

وبعض المسائل لها تعلّقٌ ما ببعض علوم القرآن كعلم القراءات وعلم نزول القرآن والوقف والابتداء وعدّ الآي ورسم المصاحف والمبهمات، وغيرها.  

وقد ذكرت في كتاب "المهارات المتقدمة في التفسير" المراجع المهمة لعشرة أصناف من أصناف المسائل التفسيرية، وبعض تلك الأصناف تشتمل على بضعة عشر نوعاً.  

وتحصيل طالب العلم لهذه المراجع وكثرة الاستفادة منها تكسبه معرفة حسن بمراجع البحث؛ فيستزيد منها بحسب حاجته.  

 

وإحسانُ الباحثِ تصنيفَ المسألة ومعرفتُه بتعلقّها بتلك العلوم يعينه على تعيين المراجع الأصلية لبحث تلك المسألة، ويُظهر له تفاوت التفاسير في أوجه العناية بمسائل التفسير. 

والمداومة على تصنيف المسائل العلمية تنمّي القدرة الذهنية لدى طالب العلم، وتُوسّع مداركه، وتبصّره بالمراجع الأصلية لبحث كل نوع من أنواع تلك المسائل حتى يكتسب الخبرة الحسنة بمراجع البحث.  

وهذه الملكة من أهمّ الملكات العلمية لدى الباحثين وطلاب العلم، ومن أسباب تحصيل سعة الاطلاع، وتجويد البحث، واختصار كثير من الجهد والوقت.  

وكم من باحث أجهد نفسه في البحث واعترضته صعوبات كبيرة بسبب جهله ببعض المراجع المهمّة مع تيسّرها لكنّه لما قَصَر نفسه على بعض التفاسير المشتهرة، ولم يتفطّن لتعلّق المسألة التي يبحثها بعلوم أخرى، ولم يكلّف نفسه التعرّف على مصادر تلك العلوم، ولم يتعلّم البحث فيها فاته علم كثير.  

 

ومن الأمثلة على تصنيف المسائل: 

1. المراد بشرح الصدر في قول الله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} ؛ هذه المسألة لها تعلّق بكتب التفسير، ولا سيّما أقوال السلف في هذه المسألة، ولها تعلّق بكتب السيرة، وما روي من حوادث شرح صدر النبي صلى الله عليه وسلم.  

2. المراد بالكرسي في قول الله تعالى: {وسع كرسيّه السموات والأرض} ؛ هذه المسألة لها تعلّق بكتب التفسير، ولها تعلّق بكتب الاعتقاد.  

3. المراد ببلوغ الكتاب أجله في قول الله تعالى: {ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله} ؛ هذه المسألة لها تعلّق بكتب التفسير، وكتب الفقه.  

4. الوقف على قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلّ من عند ربّنا} ؛ هذه المسألة لها تعلّق بكتب التفسير، وكتب الوقف والابتداء.  

5. أمد منع إتيان الحائض في قوله تعالى: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} ؛ هذه المسألة لها تعلّق بكتب التفسير وكتب الفقه وكتب توجيه القراءات لأجل القراءتين الواردتين فيها {حتى يَطْهُرْن} و [حتى يَطَّهَّرْن].  

6. معنى الاستفهام في قول الله تعالى: {عمّ يتساءلون} ، هذه المسألة لها تعلّق بكتب التفسير، وكتب أسباب النزول، وكتب البلاغة.  

7. معنى الأمر في قول الله تعالى: {اعملوا ما شئتم}؛ هذه المسألة لها تعلّق بالتفسير وبأصول الفقه وبالبلاغة. 

8. معنى "ضيزى" في قول الله تعالى: {تلك إذا قسمة ضيزى}؛ هذه المسألة لها تعلق بكتب التفسير، ومعاجم اللغة. 

 

تعيين مراجع بحث المسألة: 

وإذا عرف الباحث نوع المسألة وتعلّقها بالعلوم الأخرى؛ فينبغي عليه أن يعرف المراجع المهمّة لبحث تلك المسألة من كتب التفسير ومن كتب تلك العلوم، وهذه المرحلة من أهمّ مراحل البحث العلمي في مسائل التفسير، ومَن أحسن اختيار مراجع المسألة؛ فقد أسّس بحثه على أساس متين، وسهل عليه أمر تحرير المسألة. 

 

مراتب التعرف على مراجع بحث المسائل التفسيرية 

الوصول إلى مراجع بحث المسألة التفسيرية له مراتب، تسهّل على الباحث التعرّف عليها وإن كان في أوّل بحثه قد لا يحضر ذهنَه شيء من مراجع بحث تلك المسألة، لكنّه إذا عرف مراتب المراجع سهل عليه الوصول إلى كثير منها بإذن الله.  

المرتبة الأولى: التفاسير التي يعتني أصحابها ببحث ذلك النوع من المسائل.  

المرتبة الثانية: كتب العلوم التي لها صلة بالمسألة التفسيرية 

مثل كتب الاعتقاد عند بحث مسألة عقدية في تفسير آية من الآيات، ومثل كتب الصرف عند بحث مسألة صرفية متعلقة بمفردة قرآنية، وهكذا في كلّ نوع.  

وهذه الكتب قد يكون فيها تفصيل حسن لتلك المسألة قد لا يجده المفسّر في كتب التفسير. 

المرتبة الثالثة: المؤلفات المفردة في تلك المسألة 

فبعض المسائل لشهرتها أو أهميّتها أو كثرة الخلاف فيها يفردها بعض العلماء بالتأليف. 

المرتبة الرابعة: كتب العلماء المحققين  

وهي من أهمّ المراجع في جميع المسائل، ذلك أنّ أهل التحقيق من العلماء الذين لهم نظر عال في تمييز الأدلة والأقوال ونقدها، ومعرفة واسعة بالإجماع والخلاف وأصول المذاهب، واقتدار على الجمع والترجيح، كلامهم في أيّ مسألة من المسائل لا يكاد يخلو من فائدة، ولو أن ينقل الباحث اختيارهم أو ردّهم لبعض الأقوال فهو نقل معتبر لأجل علوّ مكانهم في العلم ، وما عرف عنهم أنهم لا يختارون قولاً ولا يردون قولاً إلا لسبب موجب غالباً.  

ولا يصل الباحث إلى مرحلة استظهار ما في كتب المحققين إلا بعد مدّة طويلة من الزمن، لكن إلْفُ كتبهم واعتياد البحث فيها والنهل منها يصيب به الطالب علماً غزيراً مباركاً.  

المرتبة الخامسة: المراجع التي يشير إليها العلماء في كتبهم 

فقد يقف الباحث على كلام لمفسّر فيه إشارة إلى كتابٍ تناول فيه عالم من العلماء تلك المسألة بالتفصيل؛ فيحرص على الاطلاع عليه إن أمكنه، والوقوف على نصّ كلامه، ثم قد يجد في ذلك الكتاب من التفصيل والدلالة على كتب أخرى ما يثري بحثه ويمدّه بنقول مهمّة تعينه على حسن تحرير المسألة.  

 

المرتبة السادسة: مراجع نظائر المسائل وأشباهها 

قد يجتهد الباحث في بحث مسألة ثمّ لا يظفر بنقول كافية فيها؛ فحينئذ ينبغي له أن ينظر في نظائر تلك المسألة، فكثير من العلماء إذا بحثوا مسألة لم يعيدوا البحث في نظائرها، لما فيه من التكرار الممل، والتطويل من غير طائل.  

وتمكن المفسّر من معرفة نظائر المسائل مما يسهّل له الرجوع إلى مصادر كثيرة متنوّعة لبحثها.  

 

المرتبة السابعة: سؤال أهل العلم والخبرة 

إذا بذل الباحث وسعه في محاولة جمع كلام العلماء عن المسألة التي يريد بحثها ثمّ لم يظفر بنقول كافية؛ فيبقى عليه أن يسأل أهل العلم والخبرة بمراجع بحثها ثمّ يستفيد من جوابهم في التعرّف على طرق معرفتهم لتلك المصادر وكيف خفيت عليه، ثم يحاول أن يستفيد من جوابهم في تعيين مراجع المسائل التي يبحثها لاحقاً.  

 

المهارة الرابعة: استكشاف منشأ المسألة 

وهذه المهارة تعين الباحث كثيراً على إحسان فهم المسألة، وتعرّفه بمراجع بحثها، واستخلاص الأقوال فيها، ومعرفة طرق تناول المفسّرين لها. 

وهذه المهارة من الأسباب المعينة على استكشاف علل الأقوال في التفسير، والتعرّف على منشأ الخطأ في بعضها، وكيف تدرّج وقوع بعض الأخطاء، وأسباب شهرة بعض الأقوال الخاطئة في التفسير. 

وكل مسألة لها أصول تُستخرج منها، كجذور النبات، وعروق الأشجار، ومنابع الماء، والباحث المدقق هو الذي يتمكّن من معرفة نشأة تلك المسألة واشتراك بحثها في عدد من العلوم، ومراجعها الأصلية. 

والسبيل إلى إتقان هذه المهارة وتحصيلِ الخبرة بمراجع المسائل التفسيرية إنما يكون بكثرة التمرّن على بحث مسائل التفسير بحثاً لا يقتصر فيه على الاطلاع المنحصر في تفاسير معدودة، بل يعرف أن لكل نوع من أنواع المسائل مراجعَه الخاصّة.  

وبهذه المداومة المتقنة يكتسب الباحث مَلَكة استكشاف منشأ المسائل التفسيرية ومراجع بحثها؛ حتى يصل إلى مرحلة يعرف بها كثيراً من المراجع معرفة ذهنية بمجرّد ذكر المسألة له، وهذه المعرفة الذهنية تدلّه بإذن الله تعالى على مظانّ بحث هذه المسألة، وسرعة الوصول إلى المعلومة التي يبحث عنها بطرق متعددة. 

  

المهارة الخامسة: جمع كلام أهل العلم وترتيبه 

بعد معرفة الباحث نوعَ المسألة وتعلّقَها بالعلوم الأخرى، ومعرفته مصادر بحث هذه المسألة ووقوفه عليها تأتي مرحلة جمع النقول وترتيبها، وهذه المرحلة هي بمثابة إعداد العدّة لدراسة المسألة؛ لأنّها تتضمّن جمع ما يتعلق بهذه المسألة بالاعتماد على المراجع المهمّة.  

و"النقول" جمع "نقل"، ونقصد به ما يذكره المؤلف في المسألة؛ سواء من قوله أو من مما رواه أو نقله عن غيره. 

فهي في نظر الناظر للبحث تُسمَّى نقلاً، لأنّ الباحثَ نقلها عن غيره.  

ويفضّل عند السعة أن يدوّن الباحث تلك النقول بنصّها في مسوَّدة البحث، وأن يرتّبها على التسلسل التاريخي باعتبار المؤلفين.  

وترتيب النقول على التسلسل التاريخي مهم جداً للباحث؛ لأنّه يعرّفه بنشأة القول في المسألة وأوّلِ ذِكْرٍ لها في الكتب، ثم كيف تناقلها العلماء وتداولوا بحثها، ويعينه على اكتشاف علل كثير من الأقوال الخاطئة في التفسير.  

وإذا وجد الباحث في كلام بعض أهل العلم إشارة إلى كتابٍ أو قولٍ لعالم له كتاب مطبوع أو له أصحابٌ ورواة ينقلون علمه فينبغي له أن يبحث عن قوله بنصّه، ويضيفه إلى النقول التي جمعها.  

والمسائل تختلف من حيث وفرة النقول وندرتها؛ فالمسائل المشتهرة قد يتمكن الباحث من جمع نقول كثيرة فيها، وأمّا المسائل الخفية والنادرة أو التي طرأت بسبب إشكال فغالباً ما يجد الباحث صعوبة في جمع النقول المتعلّقة بها، وربما يجدها في غير مظانّها.  

وإذا جمع الباحث ما يستطيع من النقول ثمّ رأى أن النقول لم تكتمل لديه، وأنه ينقصه الوقوف على أقوال معينة لم يجدها بعد اجتهاده؛ فينبغي له أن يستعين بسؤال أهل العلم والباحثين المتقدّمين ليوقفوه عليها أو يدلوه على مظانها، وليستفِدْ من طرقهم في التوصّل إليها.  

وإذا اجتمع للباحث ما يكفي من النقول لدراسة المسألة أمكنه الانتقال إلى المرحلة التالية والشروع في الدراسة، وإذا لم تكتمل لديه النقول في المسألة بعد اجتهاده وكان مضطراً للشروع في البحث والدراسة فليعلم أنّ لهذا النقص أثره في دراسته؛ فليدع في بحثه فرصة لزيادة التوثق.  

وكان من توفيق الله تعالى لنا أن جمعنا أقوال السلف وأقوال علماء اللغة في التفسير وصنفناها على الآيات ورتبناها على التسلسل التاريخي، وهذا العمل يكفي الباحث عناء الجمع لكثير من النقول التي يحتاج إليها في دراسة المسألة، ويبقى عليه أن يتمم النقل فيما يتعلق بنوع مسألته.  

 

ومهارة جمع كلام أهل العلم تتضمن ثلاث مهارات فرعية:  

المهارة الأولى: جمع أحاديث وآثار التفسير، وقد ذكرت في كتاب "المهارات المتقدمة في التفسير" مراتب تلك المراجع، وأصنافها، وأهم الكتب في كلّ صنف.  

والمهارة الثانية: جمع أقوال علماء اللغة، وقد ذكرت أصناف المراجع فيه أيضاً.  

والمهارة الثالثة: معرفة مجموعات التفاسير، فكل مجموعة من التفاسير تتقارب في أوجه عنايتها يجد الباحث أن الآخر منها يستمد ممن سبقه.  

فالكتب التي تعنى بأقوال السلف في التفسير مجموعة، والكتب التي تعنى بمعاني القرآن وإعرابه مجموعة، والكتب التي تُعنى بالتفسير البياني مجموعة، والكتب التي تُعنى بالأحكام الفقهية مجموعة، وهكذا.  

ومن الكتب الكبار من يستمد من أكثر من كتاب في تلك المجموعات.  

 

المهارة السادسة: استخلاص الأقوال في التفسير وتصنيفها 

إذا جمع الباحث النقول المتعلّقة بمسألته التي يريد دراستها أمكنه البدء باستخلاص الأقوال التي قيلت في المسألة منها، وهذا الاستخلاص قد يكون مستفاداً من نصّ أقوال العلماء وترجيحاتهم، وتقديمهم بعض الأقوال على بعض، وإما أن يكون مستفاداً من فهم لوازم أقوالهم وفحواها، وسنأتي لمزيد بيان لهذا الأمر المهمّ بأمثلته إن شاء الله تعالى.  

واستخلاص الأقوال في هذه المرحلة هو استخلاص مبدئي؛ يراد منه استيعاب ما قيل في المسألة ولو كان بين تلك الأقوال توافق أو تقارب، ولذلك قد يجمع الباحث في المسألة الواحدة عشرة أقوالٍ أو أكثر، وهي في حقيقتها ترجع إلى قولين أو ثلاثة أو أربعة.  

وهذا الاستخلاص المبدئي محلّه مسوَّدة البحث، لأنه سيُتبع بمراحل مهمّة قبل البدء بتحرير المسألة.  

 

المهارة السابعة: تخريج أقوال المفسرين 

وهي مهارة مهمة جداً، قد يغفل عنها بعض الباحثين، وإغفالها من أسباب ضعف بعض البحوث التفسيرية، وكثرة الخطأ فيها.  

وسبب العناية بهذه المرحلة أنّ كثيراً من الباحثين يكون رجوعهم في مسائل التفسير إلى تفاسير غير مسندة كتفسير الماوردي وابن عطية وابن الجوزي والقرطبي وابن كثير وغيرها من التفاسير التي تنقل أقوال المفسّرين من السلف من غير إسناد. 

وهذه التفاسير على أهميتها وجلالة قدر أصحابها وعلوّ مكانتهم في هذا العلم إلا أنّ الاكتفاء بعزو أقوال السلف إليها لا يصحّ من حيث صنعة البحث العلمي إلا أن يذكروا قولاً من مصدر مفقود لا يمكن الوصول إليه إلا من طريقهم؛ فتكون تفاسيرهم مصادر بديلة.  

والمراد بتخريج أقوال المفسّرين هو الرجوع إلى مصادرها الأصلية أو البديلة عند فقدان المصادر الأصلية. 

وتمرّن الطالب على تخريج أقوال السلف في التفسير ينمّي معرفته بمصادر الأقوال ومظانّ ذكرها، وطرق الإسناد إليهم.  

وهذا الأمر قد يبدو للباحث صعباً عسير المنال في أوّل الأمر، لكنّ حرص الباحث على الإتقان ومداومته البحث من أسباب نضج معرفته بمصادر الأقوال ومظانّ نشأة المسائل، فتتحسّن معرفته وتتوسّع مداركه، وتصبح لديه ملكة يتمكن بها من سرعة الوصول إلى مصادر الأقوال، ومعرفة أوّل نشأتها.  

 

المهارة الثامنة: التحقق من صحة نسبة الأقوال 

بعد أن يجتهد الباحث في حصر الأقوال التي قيلت في المسألة التي يبحثها يبقى عليه أن يتحقق من صحّة نسبة تلك الأقوال إلى من نُسبت إليه.  

والتحقق من صحة نسبة الأقوال منه ما هو متيسّر لكثير من الباحثين بشيء من التدرّب والتمرّن، وله طرق وأدوات علمية يسهل تعلّمها، ولا يحسن الجهل بها.  

ومنه ما يتطلّب بصيرة بأسانيد التفسير وأقوال المفسّرين ومآخذها وعللها، ومعرفة حسنة بمناهجهم ومصادرهم، وهذه مرتبة لا يدركها الباحث إلا بكثرة البحث والدراسة لمسائل التفسير مع اليقظة والملكة العلمية الحسنة في الكشف عن علل التفسير.  

 وهي مرتبة شريفة في هذا العلم يتمكّن بها الباحث من التمييز بين ما يصحّ من الأقوال وما لا يصحّ، فلا يغترّ بكثرة من تُنسب إليهم أقوال لا تصحّ عنهم في التفسير. 

وكثير ممن يقرأ في التفاسير وهو لا يُحسن التمييز بين ما يصحّ وما لا يصحّ من الأقوال يحصل له من الخلط والخطأ ما يشوّش عليه معرفة التفسير الصحيح للآية.  

 

المهارة التاسعة: توجيه أقوال المفسّرين 

بعد جمع الباحث للأقوال واجتهاده في استيعابها وحصرها وتحققه من صحة النسبة بما أمكنه، ينتقل إلى مرحلة مهمّة وهي توجيه أقوال المفسّرين، وتعرّف حججها وأدلتها ومآخذها، والأسباب التي حملتهم على تلك الأقوال، والتخريج اللغوي لما يشكل من تلك الأقوال.  

فتوجيه قول المفسّر هو بيان وجه الحجة فيه باستعمال الأدوات العلمية التي تُظهر ترتّب ذلك القول على الأصل الذي بُني عليه.  

وتوجيه الأقوال منه ما هو يقيني يظهر وجه الحجة فيه جلياً، ومنه ما هو ظنّي، وقد يقع من بعض المتكلمين في توجيه أقوال المفسّرين تكلّف وخطأ.  

وتوجيه القول لا يقتضي صحّته وإنما هو بيان لوجه حجة قائله، ثم قد يكون احتجاجه صحيحاً، وقد يدخله الخطأ والضعف، وقد يعارضه ما هو أرجح منه وأولى.  

وقد يكون لبعض الأقوال أوجه متعددة؛ وهذا أقوى في الاستدلال، وأظهر لحجة قائله. 

 

وهذه المهارة من المهارات التي يظهر فيها تفاضل المفسّرين في علم التفسير؛ فحذّاق المفسّرين يظهر من دراستهم لمسائل التفسير براعة في هذه المهارة؛ حتى إنّ المطّلع على بعض الأقوال قد يستغربها أوّل الأمر، ويظنّ بُعْدَها عن الصواب وأوجه الاستدلال الصحيحة، لكنّه ما إن يطالع توجيه بعض أولئك الحذّاق من المفسّرين حتى تتبيّن له وجاهة تلك الأقوال، ويعرف مأخذها، وأسباب قوّتها.  

 

وممن برع في توجيه أقوال المفسّرين: شيخ المفسّرين أبو جعفر ابن جرير الطبري، وابن عطية، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيّم، وابن كثير، وابن حجر، وابن عاشور، والشنقيطي.  

وهذه المرحلة تتطلّب من الباحث النظر في الأقوال بتيقّظ ورويّة، وتأمّل لطرق حذّاق المفسّرين في دراسة أقوال المفسّرين وتوجيهها.  

 

المهارة العاشرة: تحرير مسائل التفسير 

بعد جمع الباحث للأقوال في المسألة واستيعابها، وتمييز ما تصح نسبته مما لا تصح، ومعرفة توجيهها، وأدلّتها، يأتي الباحث إلى مرحلة تحرير المسألة ، وهي أهمّ مراحل البحث، وما سبق كله إنما هو إعداد لهذه المرحلة. 

وإحسان الباحث أداء المراحل السابقة مما يسهّل عليه أداء هذه المرحلة.  

وتحرير مسائل التفسير له طرق وخطوات تفصيلية وأدوات علمية إذا أحسن استعمالها طالب العلم تيسّر له بإذن الله تعالى تحرير كثير من المسائل التفسيرية. 

 

المهارة الحادية عشرة: إحسان الأسلوب 

بعد أداء المراحل السابقة يصل الباحث إلى تصوّر نهائي للمسألة التي يبحثها ومعرفة بالقول الذي ترجّح له، لكن يبقى عليه أمر مهمّ، وهو صياغة تلك المسألة بأسلوب حسن على ما يقتضيه المقام ونوع المخاطبين.  

وقد أفردت كتاباً في "أساليب التفسير" وذكرت أنواعها وأمثلتها وتطبيقاتها؛ وكلّ أسلوب له ما يناسبه من لغة الخطاب والصياغة العلمية؛ فينبغي أن يتعرفها طالب العلم، وأن يأخذ بما يحسن منها، وما يفتح له فيه؛ فإن إحسان الأسلوب مطلب مهمّ، فكم من عارفٍ بمسألة أخفق في تعليمها أو انصرف الناس عنه لضعف أسلوبه.  

ولا يكاد يخلو طالب علم من قدرة على إتقان أسلوب من أساليب التفسير، فالأسلوب الذي يفتح لطالب العلم فيه ينبغي له أن يلزمه ويجتهد في الإفادة به.  

ومن طلاب العلم من يُفتح له في أسلوبين أو أكثر، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.  

 

وينبغي أن تكون الصياغة الختامية للبحث صياغة سليمة رصينة، تؤدّي المعنى بوضوح وسلاسة، من غير لحن ولا حشو ولا تعقيد، وأن يجتنب الاختصار المخلّ، والتطويل المملّ.  

 

المهارة الثانية عشرة: إحسان العرض 

فينبغي للباحث أن يحسن عرض بحثه شكلاً ومضموناً. 

أما من حيث الشكل فكما تقدّم في المهارات الأساسية.  

وأما من حيث المضمون فأن يحسن المدخل للبحث بما يوضح أهميته وفائدته، ويحسن الحديث عن المسائل التي حررها بما يستوفي به أركان البحث وأصوله، ويتحقق فيه من التزامه بقواعد الاستدلال، وانضباط منهجه العلمي، ثم يحسن ختام بحثه بما يفيد القارئ.  

 

المهارة الثالثة عشرة: نقد التفاسير وإعلالها 

وهي من أخصّ المهارات، ومن أجادها والتزم الأدب الحسن والإنصاف في النقد فهو مفسّر ناقد. ولا ينبغي أن يتكلّم فيه إلا من أتقن المهارات المتقدمة، وكان له نظر حسن فيها؛ فإنه يتمكن بها بإذن الله تعالى من نقد التفاسير وإدراك عللها.  

ولأهمية هذه المهارة أفردتها بكتابين:  

أحدهما: نقد التفاسير، وفيه بيان أصول النقد العلمي للتفاسير، وبعض مهاراته وأمثلته وتطبيقاته.  

والآخر: علل التفسير، وفيه بيان طرق إعلال الأقوال في التفسير.  

يسّر الله إتمامهما.