18 Mar 2024
الدرس التاسع: قواعد التفسير
عناصر الدرس:
تمهيد
معنى قواعد التفسير
إطلاقات لفظ القاعدة
مراتب القواعد
حجية القواعد
نشأة العناية بقواعد التفسير
التأليف المعاصر في قواعد التفسير
الخلاصة في قواعد التفسير
إعمال القواعد
تمهيد
علم قواعد التفسير من العلوم المهمة التي يحتاجها طالب العلم كثيراً في دراسته لمسائل التفسير، والعلماء الذين نظروا في أقوال المفسرين ودرسوها، واشتغلوا مدة من أعمارهم في الجمع والترجيح بينها دارت على ألسنتهم وفي كتبهم عبارات كثيرة استندوا إليها في النقد والإعلال والجمع والترجيح، وهذه العبارات جُمل كلية تندرج تحتها فروع كثيرة؛ وغالبها مبني على دليل نصي أو إجماع أو استقراء، وهي التي نسميها قواعد التفسير.
فكان جمع هذه العبارات من كلام المفسرين، ودراستها، والتعريف بأدلتها وأمثلتها وكيف يستفاد منها في نظائر تلك الأمثلة من أعظم ما ينتفع به طالب علم التفسير، ويضبط لد دراسة كثير من مسائل التفسير، ويختصر عليه كثيراً من الوقت والجهد.
معنى قواعد التفسير
القاعدة التفسيرية هي جملة عامّة ذات حكم واحد يندرج تحتها فروع كثيرة.
وهي على صنفين: كلية وأغلبية.
فالكلية هي التي لا يستثنى من فروعها شيء.
والأغلبية هي التي يعرض لبعض فروعها ما تستثنى بسببه.
إطلاقات لفظ القاعدة
ولفظ القاعدة في كلام المفسرين له إطلاقات أشهرها:
الإطلاق الأول: جملة عامة ذات حكم كلي يندرج تحتها فروع كثيرة، وهو الإطلاق المقصود هنا.
والإطلاق الثاني: أصول في أبواب من علوم القرآن أو أساليبه أو موضوعاته لها أمثلة متعددة تعين الدارس على فهم معاني القرآن فيما يتصل بها.
وهذا الإطلاق الثاني بنى عليه الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله أكثر ما ذكر في كتابه "القواعد الحسان في تفسير القرآن"؛ فقد صرّح بأنّ مقصوده بالقواعد الطرق والمسالك التي ترجع إليها كثير من آيات القرآن الكريم.
الإطلاق الثالث: بمعنى أصول التفسير، وهو الإطلاق الذي جرى عليه أكثر من تكلم في قواعد التفسير من المؤلفين المتقدمين، كما في كتاب "التيسير في قواعد التفسير" للكافيجي.
فيطلقون على أصول التفسير اسم قواعد التفسير لأنه يستند عليها في فهم معاني كلام الله عزّ وجلّ.
وبعد تقرر كثير من أبواب أصول التفسير استقر اعتبار قواعد التفسير فرعاً من فروع أصول التفسير.
مراتب القواعد:
مما ينبغي أن يُعلم أنّ القواعد التي يذكرها أهل العلم عموماً ليست على مرتبة واحدة في استمداها ولا في حجيتها؛ بل هي على مراتب:
المرتبة الأولى: قواعد نصية، مستندها النصّ من الكتاب أو السنة، وغالباً ما تكون بلفظ النص، وقد تكون مستخرجة من النص.
فهذه القواعد حجة بالإجماع إذا كان الاستخراج صحيحاً، وحجيتها مستفادة من حجية النص.
والمرتبة الثانية: قواعد مستندها الإجماع اللفظي أو المعنوي، وهي حجة لحجية الإجماع.
والمرتبة الثالثة: قواعد مستندة على حجج عقلية أو لغوية متفق عليها.
وهي حجة بشرط ألا تؤدي إلى مخالفة نصّ أو إجماع.
والمرتبة الرابعة: قواعد اجتهادية مستندها الاستقراء.
والاستقراء منه تامّ، وأغلبي.
فالاستقراء التامّ أقوى من الاستقراء الأغلبي، والحكم المستفاد منهما يصحّ الاستشهاد به واعتباره قرينة من قرائن الترجيح ما لم يكن له علة.
وأقوى هذه القواعد ما تلقته الأمة بالقبول، وكثر الاحتجاج به عند المفسرين.
حجية القواعد
ومما ينبغي التنبّه له أنّ صياغة القواعد على مرتبتين:
المرتبة الأولى: قواعد صيغت بألفاظ النصوص؛ فحجيته مستفادة من حجية نصوص الكتاب والسنة الصحيحة؛ وهذه القواعد يصحّ إجراء ما عرف من دلالات المفهوم والمنطوق وغيرهما ويحتجّ بها كما يحتج بسائر النصوص.
والمرتبة الثانية: قواعد صيغت صياغة اجتهادية، وعبارات العلماء ليست كنصوص الوحي؛ فيستفاد من نصها ومفهومها من غير أن تعامل معاملة النصوص.
نشأة العناية بقواعد التفسير
نشأت العناية بقواعد التفسير مع العناية بالتفسير؛ فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أصولاً تعدّ من قواعد التفسير، وضوابط فهم كلام الله جلّ وعلا والقول في تفسيره:
- فمن ذلك ما رواه الزهري، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوماً يتدارءون في القرآن؛ فقال: « إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا، فلا تكذبوا بعضه ببعض، ما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه ». رواه عبد الرزاق، وأحمد، والبخاري في خلق أفعال العباد.
ثم قال البخاري: «وكلّ من اشتبه عليه شيء فأولى أن يكله إلى عالمه»
فهذا الحديث تضمن قواعد جليلة في علم التفسير:
أحدها: أن كتاب الله تعالى يصدّق بعضه بعضاً، فليس فيه اختلاف ولا تناقض، وهذا أصل في علم المشكل.
والثانية: تحريم دعوى التعارض بين آيات الكتاب، ومحاولة معارضة بعض الآيات ببعض لإثارة الإشكالات.
والثالثة: جواز القول في التفسير إذا كان بعلم.
والرابعة: تحريم القول في القرآن بغير علم، وأن من أشكل عليه شيء فيجب أن يكله إلى عالمه، وألا يتكلف القول فيما لا يعلم.
- ومن ذلك حديث عبد الله بن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)}
قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمّى الله فاحذروهم» متفق عليه.
فهذا الحديث فيه تحريم اتباع المتشابه والإعراض عن المحكم، والتحذير ممن يفعل ذلك، ومنه ومما قبله يستفاد وجوب حمل المتشابه على المحكم.
- ومن ذلك حديث يزيد بن زريع العيشي قال: حدثنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان [النهدي]، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنَّ رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأنزلت عليه: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} قال الرجل: ألي هذه؟
قال: « لمن عمل بها من أمتي ». متفق عليه.
فهذا الحديث أصل في قاعدة: "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب".
ولا ريب أنّ هذه القواعد ونظائرها لها أثر كبير في ضبط دراسة مسائل التفسير وتقويمها.
ثمّ كان الصحابة رضي الله عنهم أعلم الأمّة بمعاني كلام الله جلّ وعلا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رويت عنهم آثار تدلّ على سعة علمهم، وحسن فهمهم، وإدراكهم لمقاصد القرآن، ومنها جُمل تعدّ من قواعد التفسير أو مما يبين منهج التفسير، ويعين على إحسان دراسة مسائله، وجواب ما يعترض الدارس مما يحتاج معه إلى بيان وإرشاد.
- قال الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، قال: جاء إلى عبد الله [بن مسعود] رجلٌ فقال: تركت في المسجد رجلاً يفسر القرآن برأيه يفسر هذه الآية: {يوم تأتي السماء بدخان مبين} قال: يأتي الناس يوم القيامة دخان؛ فيأخذ بأنفاسهم حتى يأخذهم منه كهيئة الزكام، فقال عبد الله: « من علم شيئاً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل الله أعلم، فإنَّ من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم، قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} ». رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
فهذا القول فيه إرشاد لمن بلغه قول يستغربه في التفسير ألا يبادر بإنكاره حتى يعرف حجته أو حجة ردّه، وأنّ من علم شيئاً علماً صحيحاً فلا حرج عليه أن يقول به، ومن لم يعلم فلا يجوز له أن يتكلف القول فيما لا يعلم.
- وقال المنهال بن عمرو الأسدي عن سعيد بن جبير، قال: قال رجل لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي ... فذكر جملة من المسائل فبيّن له ابن عباس جوابها ثم قال له: « فما اختلف عليك من القرآن فهو شِبْهُ ما ذكرتُ لك؛ فإنَّ الله لم يُنزِل شيئاً إلا وقد أصاب به الذي أراد، ولكن الناس لا يعلمون ». رواه البخاري في صحيحه، والطبراني في المعجم الكبير، وابن منده في التوحيد.
وفي رواية: « فلا يختلف عليك القرآن، فإن كلًّا من عند الله ».
- وقال الأعمش عن أبي وائل أنه كان إذا سئل عن شيء من القرآن، قال: « قد أصاب الله ما أراد ». رواه ابن أبي شيبة.
فصارت هذه الكلمة كالمثل السائر يقولها من يُسأل عما يشكل على السائل من معاني القرآن، وهي في حقيقتها قاعدة تفسيرية صحيحة تدفع عن المستشكل توهم التعارض والاختلاف.
- وقال أبو بشر اليشكري، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قول الله تعالى: {أو لا مستم النساء} قال: « اللمس والمسّ والمباشرة إلى الجماع ما هو، ولكن اللَّه يكني ما شاء بما شاء ». رواه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة.
- وقال عاصم بن أبي النجود، عن بكر بن عبد الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: « التغشي والإفضاء والمباشرة والرفث واللماس هو الجماع، غير أنَّ الله حيي كريم يكني بما شاء عما شاء». رواه عبد الرزاق.
وفي آثار السلف من الصحابة والتابعين ووصاياهم ما يمكن أن تستخرج منه قواعد حسنة في التفسير.
ولما كان الأصوب أن يُنطلق في القاعدة التفسيرية من دلالة النصّ، كان من السلف من يلتمس الحجة للآثار من دلالة القرآن، فيجد الأثر الصحيح مندرجاً تحت دلالة آية من آيات القرآن.
بل كان منهم من يتطلب التناسب بين الأحاديث النبوية والآيات القرآنية؛ فيجد السنة مبيّنة للقرآن.
- كما قال أبو معشر المدني: قال محمد بن كعب القرظي: « كنتُ إذا سمعتُ حديثاً عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم التمسته في القرآن ». رواه ابن المبارك في الزهد.
ثم مضى تابعو التابعين على منهج الصحابة والتابعين لهم بإحسان في تعلّم مسائل التفسير وتعليمها، وهذا المنهج قد وصفت بعض معالمه في آثارهم ووجدوا أكثر تلك المعالم مرتسماً في هديهم وسمتهم وطريقتهم في التعليم والإجابة على أسئلة السائلين عن مسائل التفسير، ونظرهم في الأقوال المختلفة في التفسير.
فمن ذلك قول سفيان بن عيينة: « ليس في تفسير القرآن اختلافٌ، إنّما هو كلامٌ جامعٌ يراد به هذا وهذا ». رواه سعيد بن منصور.
وهذه القاعدة مهمة في الجمع بين أقوال المفسرين التي يكون الاختلاف بينها اختلاف تنوع، وهو أكثر الاختلاف في التفسير، وذلك أنّ المفسّر إذا بنى تفسيره على أصل صحيح ودلالة صحيحة كان قوله صواباً، وإذا تعددت الأقوال في المسألة على هذا النحو أمكن الجمع بينها، لأن القول الصحيح لا يعارض قولاً صحيحاً.
ثم لما ظهر الشافعي وتبيّن علمه وفضله وحسن نظره في مسائل العلم؛ بيّن للناس أصولاً وقواعد مهمة في فهم معاني القرآن، وفقه أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كثير المناظرة والتدريس والتصدي لأجوبة المسائل؛ فاجتمع لهم من العلم والنظر وحسن البيان ما عرف أهل العلم له في ذلك فضله وتقدّمه.
- قال جعفر بن أحمد الساماني: سمعت جعفر ابن أخي أبي ثور يقول: سمعت عمي يقول: « كتب عبد الرحمن بن مهدي إلى الشافعي وهو شابّ أن يضع له كتاباً فيه معاني القرآن، ويجمع قبول الأخبار فيه، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة؛ فوضع كتاب الرسالة ».
قال عبد الرحمن بن مهدي: « ما أصلّي صلاة إلا وأنا أدعو للشافعي فيها ». رواه البيهقي في معرفة السنن والآثار والخطيب البغدادي في كتاب "الاحتجاج بالشافعي".
- وقال محمد بن يعقوب بن الفرج: سمعت على بن المديني يقول: قلت لمحمد بن إدريس الشافعي: « أجب عبد الرحمن بن مهدي عن كتابه؛ فقد كتب إليك يسألك، وهو متشوّق إلى جوابك ».
قال: « فأجابه الشافعي وهو كتاب الرسالة التي كتبت عنه بالعراق وإنما هي رسالته إلى عبد الرحمن ابن مهدي ». رواه ابن عبد البر في الانتقاء.
فكان سبب تسمية هذا الكتاب بالرسالة لأنّ الشافعي أرسله إلى عبد الرحمن بن مهدي، وهي الرسالة القديمة، ثم إن الشافعي أعاد كتابتها وهي الرسالة المعروفة المتداولة.
وهذه الرسالة قد أذهلت العلماء لما فيها من حسن بيان ونظر، وقد ذكر فيها جملاً تضيء سبيل العلم للسالكين، ومنها جمل تصلح أن تكون من قواعد التفسير أو يُستخرج منها ما يصلح أن يكون منها، فمن ذلك:
- قوله: (فكل ما أَنزل [الله] في كتابه جل ثناؤه رحمةٌ وحجةٌ، عَلِمه من علمه، وجهله من جهله، لا يعلم من جهله، ولا يجهل من علمه).
- وقوله: (من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصاً واستدلالاً، ووفقه الله للقول والعمل بما علِم منه: فاز بالفضيلة في دينه ودنياه، وانتفت عنه الرِّيَب، ونَوَّرت في قلبه الحكمة، واستوجب في الدين موضع الإمامة).
- وقوله: (ليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليلُ على سبيل الهدى فيها).
- وقوله: (البيان اسم جامع لمعانٍ مجتمعةِ الأصول، متشعبةِ الفروع؛ فأقلُّ ما في تلك المعاني المجتمعة المتشعبة أنها بيانٌ لمن خوطب بها ممن نزل القُرَآن بلسانه، متقاربة الاستواء عنده، وإن كان بعضها أشدَّ تأكيدَ بيانٍ من بعض. ومختلفةٌ عند من يجهل لسان العرب).
- وقوله: (كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه منصوصاً بيناً لم يحلّ الاختلاف فيه لمن علمه).
- وقوله: (القُرَآن يدل على أنْ ليس من كتاب الله شيء إلا بلسان العرب).
ثم قال: (ولعل من قال: إن في القُرَآن غيرَ لسان العرب، وقُبِلَ ذلك منه ذَهَبَ إلى أن من القُرَآن خاصاً يجهل بعضَه بعضُ العرب.
ولسان العرب: أوسع الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظاً، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غيرُ نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها، حتى لا يكون موجوداً فيها من يعرفه.
والعلمُ به عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل الفقه، لا نعلم رجلاً جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيءٌ.
فإذا جُمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن، وإذا فُرّق علم كل واحد منهم ذهب عليه الشيء منها، ثم ما كان ذهب عليه منها موجوداً عند غيره.
وهم في العلم طبقات منهم الجامع لأكثره، وإن ذهب عليه بعضه، ومنهم الجامع لأقلَّ مما جمع غيره).
قال: (وهكذا لسان العرب عند خاصتها وعامتها. لا يذهب منه شيء عليها، ولا يُطلب عند غيرها، ولا يعلمه إلا من قَبِله عنها، ولا يَشرَكها فيه إلا من اتبعها في تعلمه منها، ومن قبله منها فهو من أهل لسانها).
- وقوله: (القرآن عربي، يكون منه ظاهره عاماً، وهو يراد به الخاص).
- وقوله: (كل ما سنَّ رسول الله مع كتاب الله من سنة؛ فهي موافقة كتاب الله في النصّ بمثله، وفي الجملة بالتبيين عن الله، والتبيين يكون أكثر تفسيراً من الجملة، وما سن مما ليس فيه نص كتاب الله فبفرض الله طاعته عامة في أمره تبعناه).
- وقوله: (إذا كان الله فرض على نبيه اتباع ما أنزل إليه، وشهد له بالهدى، وفرض على الناس طاعته، وكان اللسان - كما وصفت قبل هذا - محتملاً للمعاني، وأن يكون كتاب الله ينزل عاماً يراد به الخاص، وخاصاً يراد به العام، وفرضا جملة بيَّنه رسول الله، فقامت السنة مع كتاب الله هذا المقام: لم تكن السنة لتخالف كتاب الله، ولا تكون السنة إلا تبعاً لكتاب الله، بمثل تنزيله، أو مبينة معنى ما أراد الله، فهي بكل حال متبعة كتاب الله).
- وقوله لما سُئل عن حجية قول الصحابي إذا لم يحفظ ما يوافقه ولا ما يخالفه عن غير من الصحابة: (ما وجدنا في هذا كتاباً ولا سنةً ثابتة، ولقد وجدنا أهل العلم يأخذون بقول واحدهم مرة، ويتركونه أخرى، ويتفرقوا في بعض ما أخذوا به منهم).
فقال السائل: (فإلى أي شيء صرتَ من هذا؟)
قال: (إلى اتباع قول واحد، إذا لم أجد كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً ولا شيئاً في معناه ُيحكم له بحكمه، أو وُجد معه قياس، وقلَّ ما يُوجَد من قول الواحد منهم، لا يخالفه غيره من هذا).
إلى غير ذلك من جمل هي من القواعد والأصول الضابطة لدراسة مسائل التفسير، والمعينة على فهم كلام الله عزّ وجلّ.
وكذلك في كثير مما يذكر من الأمثلة ما ينبّه على فهم كلام الله تعالى بما يوافق لسان العرب، ومن ذلك قوله: (ألا ترى أنَّ قوله: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} بمعنى: "ما أحلّ به"، لا أن واحدة من النساء حلال بغير نكاح يصح، ولا أنه يجوز نكاح خامسة على أربع، ولا جمع بين أختين، ولا غير ذلك مما نهى عنه).
يريد أن قوله تعالى: {وأحلّ لكم} ليس تحليلاً مطلقاً، وإنما المراد به تحليل عقد النكاح بشروطه.
ومثل هذا كثير لو تتبعه المتتبع لتبيّن له ما وراءه من العلم والفهم وحسن النظر.
وفي زمانه أبو عبيد القاسم بن سلام كان له من النظر نحو ما للشافعي؛ فكان في كلامه في كتبه جملٌ نافعة.
وتوالى العلماء يكتبون وينبّهون على ما يعين على إحسان دراسة مسائل التفسير عموماً، من جملة عامة، ومن أمثلة لها نظائر؛ فيكون التبيين لتلك المسألة معيناً على فهم نظائرها.
ثم لما صنفت التفاسير الكبيرة كتفسير ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والتفاسير اللغوية كمجاز القرآن لأبي عبيدة، ومعاني القرآن للكسائي، والفراء، والأخفش، والزجاج، والنحاس وغيرهم.
ذكروا في كتبهم جملاً تصلح أن تعدّ من قواعد التفسير، ومنهم من نبّه على بعض ذلك في مقدمة تفسيره.
ثم توسع جماعة من المفسرين بعدهم في مقدمات تفاسيرهم بذكر بعض الأصول والقواعد في التفسير، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية مقدمته النافعة المباركة في أصول التفسير، وفيها تنبيه على بعض قواعد التفسير.
ولم يزل المفسرون يزيد بعضهم على بعض بذكر تلك الجمل العامة التي منهاما يصلح أن يكون من قواعد التفسير، ومنها ما يختلف فيه.
ولم يؤلّف فيما أعلم كتاب جامع محرر في قواعد التفسير حتى القرن الرابع عشر الهجري؛ وإن كان بعض أهل العلم قد كبتوا كتباً سموها "قواعد التفسير" إلا أنهم أرادوا بها ما عرف بأصول التفسير أو بعض علوم القرآن.
وفي القرن الرابع عشر الهجري كتب الشيخ عبد الرحمن السعدي كتابه "القواعد الحسان في تفسير القرآن" استمل على أكثر من سبعين قاعدة، أكثرها في تبيين أساليب القرآن في بعض الموضوعات، وفيه نحو بضع عشرة قاعدة يصحّ أن تدرج في قواعد التفسير.
التأليف المعاصر في قواعد التفسير
وفي القرن الخامس عشر كثر التأليف في قواعد التفسير، واتسعت الاتجاهات فيه جداً بما يصعب ضبطه، ووقع التساهل في استخلاص القواعد، وفي صياغتها، وأكثروا من ذكر القواعد بما عاد على المقصد بنقيضه؛ لأن الغاية من ذكر القواعد ودراستها الإعانة على ضبط مسائل التفسير وتحريرها.
فإذا كثرت القواعد وضعت صياغتها وكثرت استثناءاتها صارت إلى إثارة الإشكالات أقرب منها إلى ضبط مسائل التفسير.
فمنهم من ذكر نحو خمسمائة قاعدة، ومنهم من ذكر نحو مائتي قاعدة، وفي صياغة كثير منها نظر كبير، لأن منها ما بُني على استقراء ناقص وتوافق أمثلة يسيرة على نمط واحد؛ فإذا صيغت قاعدة تجمع تلك الأمثلة أمكن نقضها بأدنى مثال يخرقها.
فما كتب في العقد الثاني من القرن الخامس عشر وما بعده في قواعد التفسير أضعاف ما كتب في قواعد التفسير فيما قبله من قرون الإسلام.
والاستكثار من هذه القواعد ضرره أكبر من نفعه، لما فيها من تشتيت نظر الطالب، وإشغاله بإشكالات علمية تنتج من أخطاء الاستخلاص، وأخطاء الصياغة.
فمن أخطاء الاستخلاص أن يُعمد إلى جملة تشتمل على حكم كلي فتنتزع من سياقها وتُبرز على أنها قاعدة عامة في التفسير من غير فحص صحيح لصلاحية صياغتها لأن تكون قاعدة عامة.
ومن أخطاء الاستخلاص أن يعتمد على التنظير مع غياب النظر في الأصول التي تعارضها صياغة القاعدة.
ومن أخطاء الصياغة ركاكة الأسلوب، والتطويل، وكثرة الاحترازات، والإحالة على عبارة غير محررة.
فإذا استُكثر من القواعد على هذه الشاكلة كان ضررها أكبر من نفعها؛ لأنّ ما تثيره من إشكالات وما تسببه من فهم خاطئ يستدعي من الأجوبة والبيان أضعاف ما كان يرجى لها من النفع.
فمن المعلوم أنّ صياغة القواعد يدخلها القصور والتقصير، ويدخل الخطأ على بعض طلاب العلم في معاملة تلك القواعد معاملة النص في إجراء المفاهيم بدقة؛ فيقع في أخطاء منهجية وتفصيلية، يكون معها بحث المسألة تفصيلاً أسلم له وأنفع من تطلب تلك القواعد واستعمالها.
ولا يصحّ أن يُجعل كلام رجل حجةً في دين الله تعالى وفهم كلامه إلا أن يكون قوله معتمداً على حجة مقبولة؛ فيكون الاعتماد على الحجة المقبولة، ويكون قوله كالقالب الذي يقرّب فهم الحجة وضبط معناها.
ولذلك أرى أن يكون المنهج الصحيح في استخلاص القواعد وجمعها هو الاقتصار على القواعد المستفادة من دلالة النصوص أو من الإجماع أو من الحجج المقبولة أو من استقراءٍ صحيح لمفسّر نجيب أمضى شطراً من عمره في دراسة مسائل التفسير.
وذلك أنّ العالم الفَهِمَ الذي أمضى سنوات طويلة في دراسة مسائل التفسير وتحريرها حريّ أن يفيد طلاب التفسير بجمل فيها خلاصة خبرته ومعرفته تختصر على الدارسين كثيراً من الجهد والوقت، أو تقرّب لهم الوصول إلى التحرير الصائب لمسائل التفسير، ولا ينال ذلك إلا بتوفيق من الله تعالى.
ولا ينبغي مع ذلك أن يستكثر من ذكر القواعد لأنَّ الاقتصار على القواعد المحكمة التي يمكن للطالب أن يدرسها في مدة وجيزة وينتفع بها بقية حياته العلمية أجدى له وأنفع من دراسة طويلة فيها إشكالات كثيرة.
الخلاصة في قواعد التفسير
من أنفع ما يدرسه طالب علم التفسير قواعد يستعين بها على فهم معاني القرآن، ويستعملها في استخراج المعاني والأحكام والجمع والترجيح بين أقوال المفسرين.
وسأذكر جملة من القواعد التي يكثر دورانها في كتب التفسير وعامتها مما تلقته الأمة بالقبول، أو مما تحرر لي من دراسة مسائل التفسير ليجتمع عليها نظر الطالب ويحسن دراستها بأمثلتها وينتفع بها.
ق1: القرآن تبيان لكل شيء
وهذه القاعدة مستمدة من كتاب الله تعالى.
- قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)}
- وقال تعالى: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)}
- قال الشافعي رحمه الله: « ليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليلُ على سبيل الهدى فيها ».
فكل ما يُحتاج فيه إلى الهدى فقد بيّنه الله تعالى في كتابه نصاً أو دلالة.
- وقال الراغب الأصفهاني: (ما من برهان ولا دلالة وتقسيم وتحديد ينبئ عن كليات المعلومات العقلية والسمعية إلا وكتاب الله تعالى قد نطق به، لكن أورده تعالى على عادة العرب، دون دقائق طرق الحكماء والمتكلمين لأمرين:
أحدهما: بسبب ما قاله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} الآية.
والثاني: أن المائل إلى دقيق المحاجة هو العاجز عن إقامة الحجة بالجلي من الكلام.
فإن من استطاع أن يفهم بالأوضح الذي يفهمه الأكثرون لم ينحطّ إلى الأغمض الذي لا يعرفه إلا الأقلون ما لم يكن ملغزاً.
فأخرج تعالى مخاطباته في
محاجة خلقه في أجلّ صورة تشتمل على أدقّ دقيق لتفهم العامة من جليها ما يقنعهم
ويلزمهم الحجة، وتفهم الخواص من أثنائها ما يوفي على ما أدركه فهم الحكماء).
ق2: نزل القرآن بلسان عربي مبين
- قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)}
- وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)}.
- وقال تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)}
- وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا}.
- وروي عن عمر بن الخطاب وابن مسعود من طرق أنهما قالا: « أعربوا القرآن فإنه عربي».
وهذه القاعدة يستفاد منها قواعد من أهمها:
- ألا يفسر القرآن بغير المعروف من دلالات اللسان العربي وقت نزول القرآن.
- وألا تُحمل ألفاظ القرآن على اصطلاحات حادثة.
وهي قاعدة تردّ بها كثير من تفاسير أهل الأهواء، ولا سيما الباطنية.
ق3: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وهذه القاعدة من أشهر قواعد التفسير، ويستدل لها بأدلة منها:
1: حديث يزيد بن زريع العيشي قال: حدثنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان [النهدي]، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنَّ رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فأنزلت عليه: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} قال الرجل: ألي هذه؟
قال: « لمن عمل بها من أمتي ». متفق عليه.
وللحديث روايات وطرق منها ما في السنن الكبرى للنسائي أنّ معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: يا رسول الله! نزلت لهذا خاصة أو للناس عامة؟
قال: «بل لكم عامة».
ومنها ما في حديث أبي اليسر رضي الله عنه عند الترمذي وغيره أنَّ الصحابة قالوا: يا رسول الله! ألهذا خاصة أم للناس عامة؟
قال: « بل للناس عامة ».
2: حديث الزهري عن علي بن حسين عن أبيه، عن جدّه علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة، فقال: « ألا تصلون؟! »
فقلت: « يا رسول الله! إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا »
فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت له ذلك، ثم سمعته وهو مدبر، يضرب فخذه، ويقول: « {وكان الإنسان أكثر شيءٍ جدلًا} ». رواه أحمد والبخاري ومسلم.
وهذا فيه الاستدلال بآيات نزلت في المشركين على أحوال بعض المسلمين، وهو يدلّ دلالة بيّنة على أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
3: حديث ابن أبي مليكة، عن ذكوان مولى عائشة رضي الله عنه أن ابن عباس قال لعائشة لما حضرها الموت يعدّ من مآثرها لتستبشر؛ فكان فيما قال: « فأنزل الله عز وجل: {فتيمموا صعيدا طيبا} الآية، فكان في ذلك رخصة للناس عامة في سببك؛ فوالله إنَّك لمباركة ». رواه أحمد.
4: ومن أدلّة هذه القاعدة تعدّد أسباب النزول للآية الواحدة؛ كما في آية اللعان صحّ في رواية أنها نزلت في عويمر العجلاني حين لاعن امرأته، وفي رواية أخرى أنها نزلت في هلال بن أميّة حين لاعن امرأته.
5: ومن أدلتها قول بعض الصحابة والتابعين في بعض الآيات: هذه الآية نزلت في كذا وكذا لغير سبب النزول.
- وقال أبو معشر المدني عن محمد بن كعب القرظي قال: « إنَّ الأمر ينزل في الرجل، ثم يكون عاماً ». رواه سعيد بن منصور.
وهذه القاعدة صحيحة يحتجّ بها، ويخصص منها أن يكون في لفظ الآية ما يدلّ على الخصوص؛ فتحمل على الخصوص باتفاق العلماء، كما في قول الله تعالى: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين} فقوله: {خالصة لك من دون المؤمنين} دليل على إرادة الخصوص؛ فلا يقال بالعموم في هذه الآية.
واللفظ العام الوارد على سبب له ثلاث مراتب من الدلالات:
المرتبة الأولى: دلالته على الأفراد الذين هم سبب ورود النص؛ فدخولهم في معنى النصّ دخول أوّلي؛ بلا خلاف.
والمرتبة الثانية: دلالته على النوع، وهو من كان على مثل حال من ورد فيه النص؛ فهذا داخل في معنى النص أيضاً.
والمرتبة الثالثة: دلالة اللفظ على عموم معناه فيما جاوز خصوص الأفراد وخصوص النوع، وهذا فيه تفصيل وله أحكام وتتنازعه قواعد أخر:
منها: أنّ الأصل بقاء اللفظ العامّ على عمومه ما لم يرد نصّ يقضي على عمومه بتخصيص أو نسخ.
ومنها: أنَّ العموم إذا خُرّج على سبب قصر عليه.
ق3: إذا صحّت القراءة فهي حجة في التفسير.
فكلّ قراءة يصحّ إسنادها فهي حجة في التفسير وإن لم يُقرأ بها، فالشذوذ عند القراء غير الشذوذ عند المحدثين.
وذلك أنّ الشذوذ عند المحدثين علّة توجب ردّ الحديث والحكم بضعفه.
والشذوذ عند القراء علّة توجب عدم القراءة بالقراءة الشاذة في الصلاة ولا في غيرها، ولا تبطل حجيتها في التفسير والأحكام والعربية إذا كان إسنادها صحيحاً، ولم تكن علة أخرى توجب ردّها.
والقراءات الصحيحة لا تتعارض، فإذا صحّ في الآية قراءتان أو أكثر فلكلّ قراءة معناها وأحكامها ودلالاتها التي يتسع بها معنى الآية.
ومعرفة القراءات أصل في توجيه بعض أقوال السلف؛ لأن منها ما هو مخرج على قراءة غير التي نقرأ بها.
ق4: الاختلاف في عدّ الآي كالاختلاف في القراءات.
وذلك أنّ عدّ الآي متلقى عن أئمة القراء بالأسانيد المشتهرة إلى قرّاء الصحابة رضي الله عنهم كما تلقيت القراءات، والقول فيها موقوف على الرواية والسماع، لا على الرأي والاجتهاد.
ولذلك كان من الخطأ تضعيف القول ببعض العدد وردّه، والواجب قبول ما صحّ من مذاهب العدّ كما تقبل القراءات، ومن اختار قولاً من أقوال أهل العدد فهو كم اختار قراءة من القراءات.
ولما ذكر الحافظ ابن الجزري الخلاف في عدّ البسملة آية من الفاتحة على قولين هما مذهبان في العدد قال: (والذي نعتقده أن كليهما صحيح، وأنَّ كل ذلك حق، فيكون الاختلاف فيهما كاختلاف القراءات) ا. هـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (كان كثير من السلف يقول البسملة آية منها ويقرؤها، وكثير من السلف لا يجعلها منها ويجعل الآية السابعة {أنعمت عليهم} كما دلَّ على ذلك حديث أبي هريرة الصحيح، وكلا القولين حق؛ فهي منها من وجه، وليست منها من وجه، والفاتحة سبع آيات من وجه تكون البسملة منها فتكون آية. ومن وجه لا تكون منها فالآية السابعة {أنعمت عليهم}).
ق5: الإجماع حجة في التفسير.
ومنه إجماع لفظي، وإجماع معنوي وهو أكثر، والإجماع الذي ينضبط هو إجماع السلف الصالح في القرون الفاضلة، فما أجمع الصحابة عليه فهو حجة، وما أجمع عليه التابعون ولم يخالف قولاً معتبراً لأحد الصحابة فهو حجة، وما أجمع عليه أئمة الأمصار من أتباع التابعين ولم يخالف من قبلهم فهو حجة.
وإجماع أهل اللغة حجة في المسائل اللغوية.
لكن مما ينبغي التفطن له التحقق من صحة دعوى الإجماع.
ق6: المتشابه يردّ إلى المحكم
وذلك أنّ نصوص الكتاب والسنة لا تتعارض، ولا تدلّ إلا على الحق؛ فمن عرض له ما يشتبه عليه فيجب أن يردّه إلى ما يوافق دلالة النصوص المحكمة، وكلّ فهم أدّى بالناظر إلى ما يخالف دلالة النصوص المحكمة فهو فهم باطل.
وبذلك يُعرف أنّ من يتبع المتشابه ليستدل به على ما يخالف النصوص المحكمة ففي قلبه زيغ، وهو على طريق ضلالة.
ق7: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته ما لم يقم الدليل على اختصاصه به.
وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم هو إمام هذه الأمة؛ فالخطاب له خطاب لأمته ما لم يقم الدليل على اختصاصه بذلك الخطاب، ومن ذلك قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ}.
فقوله: {فطلقوهن} ولم يقل "فطلقهن" دليل على أنّ الأمة خوطبت بخطاب نبيها صلى الله عليه وسلم.
وإذا اشتمل لفظ الآية على ما يختصّ به النبي صلى الله عليه وما لا يختصّ به جمعنا بين الأمرين، كما في قول الله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ}.
فالوحي خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، والأمر بالتلاوة وإقامة الصلاة عامّ لأمته وإن كان الخطاب موجهاً للنبي صلى الله عليه وسلم.
- وقال فضيل بن مرزوق: حدثني عدي بن ثابت ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أيها الناس! إنَّ الله طيّب لا يقبل إلا طيباً، وإنَّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين؛ فقال: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم}، وقال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} ». رواه أحمد والدارمي ومسلم.
ق8: قول الصحابي في النزول له حكم الرفع.
وذلك أنّ الصحابة شهدوا وقائع التنزيل؛ وجميعهم عدول ثقات؛ فإذا كان قولهم في النزول صريحاً في الرواية وليس اجتهاداً في تنزيل الآية على وقائع الأحوال؛ فخبرهم له حكم الرفع لأنهم حكوا ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو خبر مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم ضمناً، فيحتج به كما يحتج بما يحكون من الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان الصحابي لم يشهد نزول الآية فخبره في النزول له حكم مرسل الصحابي، وهو حجة.
ق9: قول الصحابي فيما لا يقال مثله بالرأي له حكم الرفع ما لم يكن الخبر من الإسرائيليات.
وذلك أنّ الصحابة على قدر كبير من الورع أن يقولوا على الله ما لا يعلمون، وهم عدول ثقات فيما يخبرون به؛ فخبرهم فيما لا مدخل للاجتهاد فيه وليس من أخبار بني إسرائيل محمول على الرفع.
فأما ما كان للاجتهاد فيه مدخل فيجوز فيه الصواب والخطأ كما وقع منهم التصريح بذلك، وله أمثلة.
وكذلك ما يحكونه عمن قرأ كتب أهل الكتاب هو نقل عن بني إسرائيل، وما ينقلونه قد يكون في الصواب والخطأ، وليس الخطأ من نقلهم، وإنما هو ممن نقلوا عنه؛ فلذلك لا يعطى حكم الرفع لأنه ليس من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ق10: السياق محكَّم.
وهذه القاعدة تتضمن قواعد فرعية، وبها يردّ ما لا يحتمله السياق من المعاني اللغوية للمفردات القرآنية، وما لا يتفق مع سياق الآية من الأقوال غير قول النبي صلى الله عليه وسلم فله من الخصوصية توسيع دلالة الآية وتقييدها.
وإذا دلَّ الإجماع على ما يقتضي تقييد السياق ففيه نظران:
أحدهما: وجوب تقييد السياق بما دلّ عليه الإجماع.
والآخر: بقاء مناسبة اللفظ لعموم ما دلّ عليه.
ق11: الأصل عدم النسخ حتى يقوم دليل على ثبوته.
ق12: الأصل بقاء العامّ على عمومه حتى يرد ما يخصصه.
ق13: الأصل بقاء المطلق على إطلاقه حتى يرد ما يقيّده.
ق14: الأصل في الأمر الوجوب حتى يرد ما يصرفه عنه.
ق15: الأصل في النهي التحريم حتى يرد ما يصرفه عنه.
ق16: لا يجوز العدول عن دلالة الظاهر إلا بحجة مقبولة
ودلالة ظاهر الآية عند المفسرين تشمل ما يعرف بدلالة النص ودلالة الظاهر عند الأصوليين.
- قال محمد بن إدريس الشافعي: « ولا يجوز أن يقال بغير ظاهر الآية إلا بخبر لازم ».
- وقال محمد بن الأمين الشنقيطي: (وحكم الظاهر ألا يُعدل عنه إلا بدليل على قصد المحتمل المرجوح، وذلك هو التأويل).
ق17: ذمّ الكفار على عمل دليل على تحريمه وذمّ لمن شابههم فيه من المسلمين.
وذلك أنّ ذمَّ الله تعالى لعمل دليلٌ على بغضه إياه، وإذا ذمّ به الكفار وقد نهينا عن التشبه بهم دلّ ذلك على تحريمه؛ فإذا اقترن به وعيد كان أشدّ تحريماً.
ولذلك قد يستدل بعض السلف بآيات نزلت في الكفار في الاحتجاج على من يشابههم في أعمالهم المذمومة من المسلمين؛ فلا يصحّ الاعتراض عليهم بأنّ تلك الآيات نزلت في الكفار؛ لأن الذمّ وقع على الأعمال التي ذُمّوا بها.
ق18: النفي ينزل منزلته
وذلك أنَّ النفي على مراتب ينبغي التمييز بينها
المرتبة الأولى: نفي الوجود في الحقيقة كما في قول الله تعالى: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله}، وقوله تعالى: {ولم تكن له صاحبة}
فهذا أول المراتب وهو نفي الوجود الحقيقي للمنفي.
المرتبة الثانية: نفي الاعتبار الشرعي، فقد يكون الأمر موجوداً كوناً لكن لا اعتبار له شرعاً، كما في قول الله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)}
فهذه الأشياء كانت موجودة في الجاهلية معروف معناها عند المخاطبين لكن النفي لاعتبارها شرعاً؛ فليست من دين الله في شيء، ولم يجعلها الله في شريعته، وإنما هي من افتراء المشركين.
المرتبة الثالثة: نفي الصحة كما في قول الله تعالى: {أولئك لم يؤمنوا} فهو نفي لصحة إيمانهم.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: (( ارجع فصلّ فإنّك لم تصلّ )).
فإنه لما لم تصحّ صلاته صحّ نفيها مع أنه أدى فيما يراه الناظر صورة أفعال الصلاة.
المرتبة الرابعة: نفي الكمال والأولوية، كما في قول الله تعالى: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياتهم زادتهم إيمانا}
فأسلوب الحصر يتضمن النفي عما سوى المحصور عليهم، والمنفي هنا هو كمال الإيمان، وليس أصل الإيمان.
وهذه المراتب على الترتيب؛ والفرق بين المرتبتين الثانية والثالثة أن النفي في المرتبة الثانية لما ليس له أصل في الشرع، والنفي في المرتبة الثالثة لما له أصل لكن له شروط وأركان من لم يأت بها لم يعدّ قائماً بها.
وقد يحتمل النفي مرتبتين أو أكثر لتعدد الاعتبارات، ومن ذلك قول الله تعالى: {قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا}
فقد اختلف السلف فيه على قولين:
أحدهما: نفي أصل الإيمان وصحته.
والآخر: نفي حقيقة الإيمان وكماله الذي يعدّ به المرء مؤمناً.
والقولان صحيحان باعتبارين مختلفين.
ق19: العطف يقتضي المغايرة
والمغايرة قد تكون مغايرة ذات وهي الأصل، وقد تكون مغايرة صفات مع اتحاد الذات، كما في قول الله تعالى: {تلك آيات الكتاب وقرآن مبين} والكتاب هو القرآن المبين، فالعطف هنا يقتضي التغاير بين الصفات؛ فكونه مكتوباً غير كونه مقروءاً.
ق20: تعدد مرجع الضمير لا يقتضي الإجمال
وذلك أنه يصحّ أن يرجع الضمير الواحد إلى أكثر من مرجع لتعدد الاعتبارات وأوجه المعاني، كما في قول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)}
وقد اختلف فيه المفسرون على قولين:
القول الأول: عائد على الجنّ، والمعنى أنّ الإنس زادوا الجنّ رهقاً أي إثماً وطغياناً، وهو معنى قول قتادة.
والقول الثاني: عائد على الإنس، والمعنى أنّ الجنّ زادوا الإنس رهقاً أي فَرَقاً وخوفاً وذعراً وتضرراً بما أعنتَتْهم به الجنّ، وهو معنى قول الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
والمعنيان صحيحان، ولفظ "الرهق" صالح لهما، لأنه يطلق على حصول الضرر والعنت، وعلى الخوف والذعر، وعلى زيادة الإثم والإسراف في المعاصي.
ق21: الإعراب تبع للمعنى
وكلّ إعراب أدَّى معنى باطلاً فهو خطأ مردود، ولذلك لا يجوز أن يتكلم في إعراب القرآن من لا يحسن معرفة التفسير وأصوله ولو بلغ في علم النحو ما بلغ.
ق22: يصحّ تعدد أوجه الإعراب تبعاً لتعدد أوجه التفسير.
إذا تعددت المعاني الصحيحة وتعددت وجوه الإعراب لأداء تلك المعاني صحّ حمل الآية عليها جميعاً، وهذا كما لو قُرِئت المفردة القرآنية بقراءتين أو أكثر يختلف الإعراب فيها؛ فيجب قبول تلك القراءات وما دلّت عليه من الأوجه الإعرابية، وهذا من دلائل إحكام القرآن وبركة ألفاظه واتسّاع معانيه، والأبواب التي يدخلها الاحتمال الإعرابي كثيرة،
ق23: لا يصحّ التفسير بمجرّد الاحتمال اللغوي.
وذلك أنّ القرآن حمّال ذو وجوه، فالاعتماد على الاحتمال اللغوي المجرد دون مراعاة لأصول التفسير وقواعده، وأقوال السلف في التفسير من أسباب الانحراف والضلالة، ومن هذا الباب ضلّ بعض أهل الأهواء وفتنوا أنفسهم ومن تبعهم ببعض ما خرجوا به من أقوال أعجبتهم لموافقة الاحتمالات التي خرجوا بها لما أشربوا من أهوائهم، فضلّوا وأضلوا.
وردّ بعض الاحتمالات اللغوية مردّه إلى ثلاثة أسباب:
الأول: أن يقوم دليل من القرآن أو السنة أو الإجماع على تخصيص أحد الاحتمالات اللغوية في تفسير الآية؛ فحينئذ لا يجوز تفسير الآية بغيره من الاحتمالات.
والثاني: أن يعارض الاحتمال اللغوي دليلاً صحيحاً من كتاب أو سنّة أو إجماع.
والثالث: ألا يلتئم الاحتمال اللغوي لمعنى اللفظة عند إفرادها مع السياق ولا مناسبة الآية ولا مقصدها.
- قال عُبيدة بن زيد النميري: سمعت الحسن [البصري] يقول: « أهلكتهم العجمة يتأوَّلون القرآن على غير تأويله ». رواه ابن وهب في جامعه وابن جرير الطبري في تفسيره.
- وقال يحيى بن عتيق: قلت للحسن: أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم بها لسانه ويصلح بها منطقه؟
قال: « نعم، فليتعلَّمْها، فإنَّ الرجل يقرأ بالآية فيعيها بوجوهها فيهلك ». رواه ابن وهب.
قوله: (فيعيها بوجوهها) هكذا ضبط اللفظ في الكتاب، ومعناه أن الناظر في معنى الآية قد يرى لها وجوها متعددة من المعاني، وليس له من المعرفة بالعربية ما يصحّ له به تمييز المعنى الصحيح من غيره، فيفهم من الآية غير ما أريد بها فيحمله ذلك على اعتقاد باطل أو عمل سيّء لا يُعذر فيه فيهلك.
وسبب الهلاك هو اتباع المتشابه والإعراض عن المحكم، وهو نوع من الزيغ.
والتفسير اللغوي منه ما هو محلّ إجماع، ومنه ما هو محلّ خلاف واجتهاد، وقد يقع الخطأ والاختلاف في التفسير اللغوي كما هو واقع في غيره من العلوم، لكن لا يُمكن أن يقع تعارض بين قول مجمع عليه عند أهل اللغة وبين قول متفق عليه عند السلف.
ق24: الأدلة الصحيحة لا تتعارض.
وهذا الأصل عمدة بيان المشكل، والجواب على ما يتوهم اختلافه؛ فإنه لا يقع تعارض بين نصين من القرآن، ولا بين نص من القرآن ونصّ من السنة، ولا بين نص من القرآن وإجماع صحيح، ولا بين نصّ من القرآن وحجة لغوية صحيحة، ولا بين نصّ من القرآن ودليل عقلي صحيح.
ق25: يشترط لقبول القول في التفسير صحة الدلالة وصحة المدلول عليه
وهذه قاعدة مهمة في الحكم على الأقوال؛ فإنّه يشترط لقبول القول في التفسير أن يكون معناه صحيحاً، وأن تصحّ دلالة الآية عليه، ومن لوازم كون المعنى صحيحاً ألا يعارض نصاً ولا إجماعاً.
ق26: لا يصار إلى الترجيح إلا إذا تعذر الجمع.
ق27: يشترط لقبول الوجه في التفسير ما يشترط لقبول القول.
وذلك أنّ المفردة القرآنية إذا احتملت وجهين صحيحين أو أكثر فيصحّ حمل الآية عليها جميعاً بشرط عدم مخالفة السياق، وأن لا يخالف الوجه المستخرج دليلاً صحيحاً.
ق28: لا يلزم من فساد دليل فساد المدلول عليه
فقد يستدلّ لقول من الأقوال في التفسير بأدلة يكون منها أدلة صحيحة، وأدلة غير صحيحة؛ فتطّرح الأدلة غير الصحيحة، وتبقى الأدلة الصحيحة يحتجّ بها على صحة القول، ولا يصحّ أن يطعن في أصل القول للطعن في بعض أدلته ما بقي له حجة صحيحة مقبولة.
ق29: فساد اللازم يدلّ على فساد الملزوم
وهذه القاعدة يُحتاج إليها كثيراً في التفسير، وذلك أنّ عامة الأقوال الضعيفة والواهية في التفسير تلزم منها لوازم باطلة تدلّ على بطلان تلك الأقوال؛ فيكون الإعلال بفساد اللازم من أقرب الحجج للدلالة على فساد تلك الأقوال وبطلانها.
ق30: القول الضعيف لا يعتمد في التفسير.
وهذه القاعدة يردّ بها على كثير ممن يعتمد الأقوال الضعيفة في تفسيره، ويحمل عليها كلام الله تعالى.
والقول الضعيف في التفسير على مرتبتين:
المرتبة الأولى: القول الذي يتبيّن خطؤه وتظهر علّته، فهذا يجب ردّه، ولا يصحّ أن يُجمع بينه وبين الأقوال الصحيحة في التفسير، وذلك أن قد يقع في كلام بعض المفسرين محاولة للجمع بين الأقوال الضعيفة والأقوال الصحيحة فينتج من ذلك خطأ في مؤدى الجمع.
والمرتبة الثانية: القول الذي ليس فيه نكارة توجب ردّه، ودلالة لفظ الآية عليه يدخلها الاحتمال، لكن ليس له حجة يُطمأنّ لها، فهذا القول لا يعتمد في التفسير ولا يردّ، بل يتوقف فيه حتى يتبيّن صوابه أو خطؤه.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (والعلم إما نقل مصدَّق عن معصوم، وإما قول عليه دليل معلوم، وما سوى هذا؛ فإما مزيف مردود، وإما موقوف لا يُعلم أنه بهرج ولا منقود) ا. هـ.
فهذه ثلاثون قاعدة من أحسن دراستها وتعرف أمثلتها وأعملها في دراسته لمسائل التفسير انتفع بها كثيراً بإذن الله تعالى.
إعمال القواعد
ينبغي أن يدرك الدارس مراتب القواعد، وما ينازعها، وأن يكون إعماله إياها بفقه ودراية؛ فلا يعمل القاعدة في غير موضعها، ولا يتجاوز بها دلالتها، ولا يقدّمها على ما هو أولى منها عند التنازع.
فإنّ من أسباب الخطأ في التفسير الخطأ في إعمال القواعد في مسائل التفسير، وتحميل بعض القواعد ما لا تحتمل، والغفلة عما يعرض لبعض القواعد مما يقيد إطلاقها أو يجعل غيرها أولى بالإعمال منها في بعض المسائل.