18 Mar 2024
الدرس الثامن: التفسير اللغوي
عناصر الدرس:
تمهيد
نشأة العناية بعلوم العربية
أنواع العناية اللغوية بالألفاظ القرآنية
- النوع الأول: بيان معاني المفردات والأساليب القرآنية
- النوع الثاني: معاني الحروف
- النوع الثالث: إعراب القرآن
- النوع الرابع: توجيه القراءات
- النوع الخامس: التفسير البياني
- النوع السادس: الوقف والابتداء
- النوع السابع: التصريف
- النوع الثامن: الاشتقاق
- النوع التاسع: البديع
- النوع العاشر: تناسب الألفاظ والمعاني
خاتمة الحديث عن أنواع العناية اللغوية بالألفاظ القرآنية
تمهيد
نزل القرآن بلسان عربيّ مبين أدهش العرب بحسن بيانه، وحلاوة لفظه، وإعجاز نظمه؛ فلم يقدر على الإتيان بمثل سورة منه أحد من العرب على كثرة بلغائهم وفصحائهم، وصريح عداوة المشركين لدعوة الإسلام، وحرصهم على ردّها وإبطالها.
ولسان العرب يمتاز على غيره من الألسن بكثرة ألفاظه وسعة معانيه، وتنوّع دلالات المفردات وتراكيب الجمل والأساليب تنوّعاً بديعاً واسعاً.
- قال محمد بن إدريس الشافعي: (لسان العرب: أوسع الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظاً، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غيرُ نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامّتها، حتى لا يكون موجوداً فيها من يعرفه)ا.هـ.
ولذلك تفاضل الصحابة والتابعون في معرفتهم بلسان العرب، وبعربية القرآن.
- قال عاصم بن أبي النجود: « كان زرّ بن حبيش أعرب الناس، وكان عبد الله [بن مسعود] يسأله عن العربية ». رواه ابن سعد.
وكان ابن عباس يحفظ أشعار العرب فيستعين بها على معرفة العربية وتفسير القرآن.
- قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: « شهدتُ ابن عباس، وهو يُسأل عن عربية القرآن، فينشد الشعر ». رواه الإمام أحمد في فضائل الصحابة.
- وقال مسمع بن مالك: سمعت عكرمة قال: « كان إذا سئل ابن عباس عن شيء من القرآن أنشد شعراً من أشعارهم ». رواه ابن أبي شيبة.
ومثال ذلك: ما رواه منصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قول الله تعالى: {إلا اللمم} قال: « الذي يلم بالذنب ثم يدعه، ألم تسمع قول الشاعر:
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما ». أخرجه الحاكم في مستدركه.
نشأة العناية بعلوم العربية
نشأت العناية بعلوم العربية في زمن الصحابة رضي الله عنهم
- فكان من الصحابة من يفسّر الغريب ويبيّن معاني الأساليب بما يعرفون من لغة العرب، ولهم فضل علم ومعرفة بلسان العرب، ومنهم: عليّ بن أبي طالب، وعائشة، وأبيّ بن كعب، وابن عباس رضي الله عنهم.
- ثم من التابعين جماعة عُرفوا بتقدّمهم في العربية وإمامتهم فيها، ومنهم:
1: أبو الأسود الدؤلي(ت:69هـ)، وكان قاضي البصرة في خلافة عليّ بن أبي طالب، وكان ابن عباس يستخلفه على إمارتها إذا خرج منها، وهو أوّل من أسس للتأليف في علوم العربية، وكان ذلك بأمر من عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه لما خشي على العرب من العجمة وفشوّ اللحن.
- قال سعيد بن سَلْم بن قتيبة بن مسلم الباهلي، عن أبيه، عن جدّه، عن أبي الأسود، قال: دخلتُ على عليّ فرأيته مطرقاً، فقلت: فيم تتفكر يا أمير المؤمنين؟
قال: « سمعت ببلدكم لحناً، فأردت أن أضع كتاباً في أصول العربية ».
فقلت: إن فعلت هذا أحييتنا، فأتيته بعد أيام؛ فألقى إليَّ صحيفة فيها: « الكلام كلُّه: اسم، وفعل، وحرف؛ فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل ».
ثم قال: « تَتَبَّعْهُ وزِدْ فيه ما وقع لك، فجمعتُ أشياء، ثم عرضتها عليه ». رواه أبو القاسم الزجاجي في أماليه.
2: زر بن حبيش الأسدي(ت:82هـ)، وكان قارئاً مفسراً من أصحاب أبيّ بن كعب وابن مسعود، وكان من أعلم التابعين بالعربية.
3: نصر بن عاصم الليثي(ت:89هـ)، وهو من تلاميذ أبي الأسود الدؤلي، ومن كبار قراء البصرة وعلمائهم، تولى القضاء فيها مراراً، وكان ممن يعرض المصاحف زمن الحجاج ويقوّمها.
- قال مالك بن دينار: « كنا نعرض المصاحف أنا والحسن وأبو العالية الرياحي ونصر بن عاصم الليثي وعاصم الجحدري ». رواه عبد الرزاق.
- قال سفيان بن عيينة: حدثنا عمرو بن دينار قال: كنا في حلقة معنا نصر بن عاصم فسمع الزهريُّ كلامَه فقال: « إنَّ هذا ليفلّق العربيةَ تفليقاً ». رواه الإمام أحمد في العلل ويعقوب بن سفيان في المعرفة، وأبو زرعة الدمشقي في تاريخ دمشق.
4: يحيى بن يعمر العدواني(ت: نحو 90هـ)، وكان من قراء البصرة ونحاتهم، قرأ على أبي الأسود الدؤلي، وأخذ عنه النحو، وهو أول من نقط المصاحف.
نفاه الحجاج إلى خراسان، فاستقبله قتيبة بن مسلم وولاه قضاء مرو.
- قال ابن سعد: « كان من أهل البصرة، وكان نحوياً صاحب علم بالعربية والقرآن، ثم أتى خراسان، فنزل مرو وولي القضاء بها ».
5: عنبسة بن معدان المهري بالمعروف بعنبسة الفيل، وهو من كبار تلاميذ أبي الأسود الدؤلي.
- قال أبو العباس محمد بن يزيد: قال أبو عبيدة معمر بن المثنّى: « اختلف الناس إلى أبي الأسود يتعلمون منه العربية؛ فكان أبرع أصحابه عنبسة بن معدان المهري ». ذكره أبو سعيد السيرافي في أخبار النحويين.
6: الحسن بن أبي الحسن البصري(ت:110هـ)، وكان رأساً في التفسير والفصاحة والبلاغة، ينطق بالحكمة، ولا يلحن.
- قال أبو موسى البصري: قال رجل للحسن: يا أبا سعيد ما أراك تلحن!! فقال: « يا بن أخي إني سبقت اللحن ». رواه ابن أبي شيبة في مصنفه.
- وقال أبو زيد الأنصاري عن أبي عمرو بن العلاء قال: « ما رأيت أحداً أفصح من الحسن ومن الحجاج ».
فقلت: فأيهما كان أفصح؟ قال: « الحسن ». رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق.
- وقال ابن أبي عمر: حدثنا سفيان عن أيوب قال: « ما سمع كلامَ الحسن أحدٌ إلا ثقل عليه كلام الرجال بعده ». رواه يعقوب بن سفيان في المعرفة.
7: عبد الرحمن بن هرمز الأعرج(ت:117هـ)، وكان من كبار القراء والمحدثين بالمدينة، قرأ على أبي هريرة، وحفظ عنه حديثاً كثيراً، وكان عالماً بالعربية.
- قال يحيى بن أبي بكير: حدثنا عبد الله بن لهيعة، عن أبي النضر قال: « كان عبد الرحمن بن هرمز من أوّل من وضع العربية، وكان من أعلم الناس بالنحو، وأنساب قريش ». رواه أبو بكر الزبيدي في طبقات النحويين.
8: عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي (ت:129هـ)، وهو أوّل من بعج النحو، ومدّ القياس وشرح العلل، وناظر في مسائل النحو والعربية، وقد ذُكر أنّ له كتاباً في الهمز، فإن صحّ فهو أوّل من ألّف فيه.
- قال محمد بن سلام الجمحي: سمعت رجلاً يسأل يونس عن ابن أبي إسحاق وعلمه، قال: « هو والنحو سواء ». أي هو الغاية
وهو جدّ يعقوب الحضرمي عاشر القراء العشرة.
- ثم من تابعي التابعين جماعة كثيرة من تلاميذ من تقدم من التابعين اجتهدوا في العربية وفنونها، وتنوّعت أوجه عناياتهم بها، وصنفوا في علومها، وجمعوا أشعار العرب ودوّنوها ورووها، وشرحوا كثيراً منها، ودرسوا إعراب القرآن ومعانيه.
ومن أشهر هؤلاء: عيسى بن عمر الثقفي(ت:149هـ)، وأبو عمرو بن العلاء المازني(ت:154هـ)، وحماد بن سلمة البصري (ت: 167هـ) والمفضَّل بن محمَّد الضَّبِّي (ت:168هـ)، والخليل بن أحمد الفراهيدي (ت:170هـ)، وهارون بن موسى الأعور (ت:170 هـ)، والأخفش الأكبر عبد الحميد بن عبد المجيد (ت: 177هـ )، وسيبويه عمرو بن عثمان بن قنبر(ت: 180 هـ)، ويونس بن حبيب الضبي (ت:183 هـ)، وأضرابهم، ولبعض هؤلاء كتب في علوم العربية.
- ثمّ ظهر في آخر زمان تابعي التابعين وبعدهم التأليف في معاني القرآن وإعرابه، وممن ألّف في ذلك: علي بن حمزة الكسائي (ت:189 هـ)، ويحيى بن سلام البصري(ت:200هـ)، ويحيى بن زياد الفرَّاء (ت:207 هـ)، وأبو عبيدة معمر بن المثني (ت:209 هـ)، ومحمد بن المستنير البصري المعروف بقطرب (ت: بعد 211 هـ)، وسعيد بن مسعدة المعروف بالأخفش الأوسط (ت: 215 هـ)، وأبو عبيد القاسم بن سلام الهروي (ت:224 هـ)، وأبو إسحاق الزجاج(ت:311هـ)، وأبو جعفر النحاس(ت:338هـ)، وغيرهم.
ثم كثرت الكتب في معاني القرآن وما يتصل بالتفسير اللغوي وتنوعت.
أنواع العناية اللغوية بالألفاظ القرآنية
تنوّعت عناية علماء اللغة بعربية القرآن وما يتصل بالتفسير اللغوي؛ فأثمر هذا التنوع علوماً قامت على أصولها، وازدانت بأبوابها وفصولها، واجتهد العلماء في تحرير مسائلها، ودراسة أمثلتها، حتى ألّف في كلّ علم منها كتب كثيرة.
والعناية اللغوية بالألفاظ القرآنية على نحو عشرة أنواع:
النوع الأول: بيان معاني المفردات والأساليب القرآنية
والمفردات القرآنية كثيراً ما تحتمل وجوهاً من المعاني في لسان العرب، فيؤخذ بما يحتمله السياق منها، ثمّ يكون النظر فيها على مراتب:
المرتبة الأولى: النظر في دلالة النص أو الإجماع على اختيار بعض تلك المعاني؛ فما دلّ عليه النصّ أو الإجماع وجب المصير إليه وطرح كلّ ما خالفه.
المرتبة الثانية: النظر في الأقوال المأثورة عن الصحابة والتابعين فيؤخذ ما قالوا به منها، وينظر في أقوالهم حسب قواعد الجمع والترجيح.
والمرتبة الثالثة: النظر في أقوال المفسّرين من علماء اللغة فما قالوا به مما لا يعارض المرتبتين الأولى والثانية فمقبول إلا أن تكون له علّة لغوية.
والمرتبة الرابعة: النظر في دلالة المناسبة، وهي أن يكون أحد المعاني أنسب لمقصد الآية من المعاني الأخر.
المرتبة الخامسة: النظر في توارد المعاني، وهي أن يحتمل التركيب معاني متعددة لأحوال متغايرة؛ فيؤخذ بالمعنى الأول للحالة الأولى وبالمعنى الثاني للحالة الثانية وهكذا.
وأما الأساليب فمعرفة معانيها ومقاصدها له أثر بالغ في التفسير، وإن لم يكن في الجملة لفظ يستدعي التفتيش عن معناه في كتب اللغة، فمعرفة معنى الأسلوب قدر زائد على معرفة معاني الألفاظ المفردة، ولا يستقيم فهم معنى الآية إلا بمعرفة معنى الأسلوب؛ فإذا تبيّن معنى الأسلوب تبيّن معنى الآية للمتأمّل، ولذلك أمثلة كثيرة:
منها: قوله تعالى: {فما أصبرهم على النار} فُسّر بالتعجب وفسّر بالاستفهام، وللسلف واللغويين قولان مشهوران في هذه الآية عمادهما على تحرير معنى الأسلوب.
ومنها: قوله تعالى: {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أوّل العابدين} فسّر هذا الأسلوب بالنفي وفسّر بالشرط، وللمفسّرين كلام طويل في هذه الآية عماده على تفسير هذا الأسلوب، وقد أفردت رسالة في تفسيرها.
ومما ينبغي أن يُتنبّه له أن المفسّر قد يصيب في معرفة الأسلوب ثمّ يقع الخطأ في تقرير المعنى على ذلك الأسلوب.
ويجب على من يفسّر القرآن بلغة العرب أن يراعي أصولَ التفسير ومراتب الاستدلال وقواعد الترجيح، ولا يحلّ له أن يفسّر القرآن بمجرّد الاحتمال اللغوي من غير مراعاة ما تقدّم؛ فإنه من أسباب الانحراف في التفسير، وقد اغترّ به بعض أهل الأهواء، وفُتنوا ببعض ما خرجوا به من أقوال لمّا رأوا القرآن حمّالاً ذا وجوه، وأعجبتهم أقوالهم، وما أشربوا من أهوائهم، فضلّوا وأضلوا.
وقد أكثر العلماء من التصنيف في هذا النوع لجلالة قدره وعظم نفعه، بل عامّة كتب غريب القرآن من هذا النوع، وكثير من كتب معاني القرآن تعرض له، ويُعْنَى به كثير من المفسّرين في تفاسيرهم، وإن اختلفت مراتب عنايتهم به.
وممن صنّف في غريب القرآن: عبد الله بن يحيى اليزيدي، وابن قتيبة، وابن عزيز السجستاني، وأبو عمر الزاهد غلام ثعلب، وأبو عبيد الهروي، ومكي بن أبي طالب القيسي، والراغب الأصفهاني، وابن الجوزي، وابن المنيّر، وأبو حيّان الأندلسي، وغيرهم كثير.
النوع الثاني: بيان معاني الحروف
علم معاني الحروف من العلوم اللغوية المهمّة للمفسّر، وهو مفيد في حلّ كثير من الإشكالات، واستخراج الأوجه التفسيرية، ومعرفة أوجه الجمع والتفريق بين كثير من أقوال المفسرين.
وقد يجتمع في الحرف الواحد معاني متعددة كما في معنى الباء في البسملة، فقد فسّرت بالابتداء، والتبرك، والاستعانة، والمصاحبة، وكلها صحيحة لا تعارض بينها.
ومعنى "ما" في قوله تعالى: {إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء} فسّرت بالموصولية، وبالنافية، وبالاستفهامية استفهاماً إنكارياً.
وليس كلّ ما يُحكى من الأقوال في معاني الحروف يكون صحيحاً بل بعضه خطأ مردود لعلة لغوية في المعنى الوضعي، أو لعدم احتمال السياق له، أو لمعارضته دليلاً صحيحاً أو حجة لغوية أعلى رتبة.
وقد حكي في معنى "الباء" في قول الله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} بضعة عشر قولاً، بعضها صحيح مقبول، وبعضها فيه نظر، وبعضها ضعيف مردود.
والمؤلفات في معاني الحروف على أنواع:
- فمنها كتب الوجوه والنظائر، وقد ألّف فيها مقاتل بن سليمان، وهارون بن موسى النحوي، ويحيى بن سلام له فيها كتاب التصاريف، وإسماعيل الحيري، وأبو عبد الله الدامغاني، وأبو الفرج ابن الجوزي، وابن العماد المصري.
- ومنها ما أدرج في معاجم اللغة؛ فكثير من المعاجم اشتملت على بيان معاني الحروف، ومنها: العين المنسوب للخليل بن أحمد وأصل الكتاب له ثمّ أتمّه تلميذه الليث بن المظفر، وجمهرة اللغة لابن دريد، وتهذيب اللغة لأبي منصور الأزهري، والمحيط في اللغة للصاحب ابن عباد، وتاج اللغة وصحاح العربية لأبي نصر الجوهري، ومجمل اللغة ومقاييس اللغة كلاهما لابن فارس الرازي، والمخصص والمحكم كلاهما لابن سيده الأندلسي، ولسان العرب لابن منظور، والقاموس المحيط للفيروزآبادي، وتاج العروس لأبي الفيض مرتضى الزبيدي.
- ومنها كتب مفردة في معاني الحروف، وممن أفردها بالتأليف: أبو حاتم السجستاني، وابن شقير البغدادي، وأبو القاسم الزجاجي، وأبو الحسين الرمّاني، وأبو الحسن الهروي، وأبو جعفر المالقي، وأبو إسحاق الصفاقسي، وابن هشام الأنصاري، وجمال الدين الموزعي، وبَحْرَق، والبيتوشي، وأحمد بن فارس الشدياق.
- ومنها كتب مفردة في معاني بعض الحروف، ككتاب الهمز لأبي زيد الأنصاري، وكتاب الألفات لابن الأنباري، واللامات لأبي القاسم الزجاجي.
ومن أجمع الكتب في هذا الباب معجم معاني الحروف في القرآن الكريم للأستاذ محمد عبد الخالق عضيمة.
النوع الثالث: إعراب القرآن
وهو من العلوم المهمة التي يُعنى بها نحاة المفسّرين لأسباب من أجلّها الكشف عن المعاني، وتخريج أقوال المفسرين، وترجيح بعض الأقوال وأوجه المعاني على بعض، وكشف بعض علل الأقوال في التفسير.
ومسائل إعراب القرآن على صنفين:
الصنف الأول: مسائل للاختلاف فيها أثر على المعنى، ومن أمثلتها:
1: إعراب "نافلة" في قوله تعالى: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة}
- فمن أعربها نائب مفعول مطلق؛ ذهب إلى أنّ المراد بالنافلة الهبة.
- ومن أعربها حالاً من يعقوب ذهب إلى أنّ المراد بالنافلة الزيادة، أي وهبنا له إسحاق، وزدناه يعقوب زيادة.
2: إعراب "مَن" في قوله تعالى: {ألا يعلم مَن خلق}
- فمن قال هي فاعل، فالمعنى عنده: ألا يعلم الخالقُ، والمفعول محذوف تقديره: خلقَه.
- ومن قال هي مفعول به ذهب إلى أنّ الفاعل ضمير مستتر يعود على الله عزّ وجل، والمعنى: ألا يعلم اللهُ الذين خلقهم.
والمفردات والجمل القرآنية قد تقبل تعدد الإعراب ولذلك أمثلة كثيرة في القرآن، ويُجمع بينها كما يُجمع بين أوجه التفسير الصحيحة.
الصنف الثاني: مسائل لا أثر لها على المعنى، وإنما يختلف فيها النحاة لاختلافهم في أصول النحو، وتخريج ما أشكل من الإعراب، ومن ذلك اختلافهم في إعراب قول الله تعالى: {إن هذان لساحران} على قراءة تشديد النون في "إنّ".
وقد ظهرت العناية بإعراب القرآن مبكراً في أواخر زمان التابعين؛ وأوائل زمان تابعي التابعين؛ فكان منهم نحاة تنقل أقوالهم في إعراب القرآن، وعامة الكتب المؤلفة في معاني القرآن تُعنى بإعرابه.
وأفرد بعض العلماء كتباً في عراب القرآن ومنهم: أبو جعفر النحاس، وأبو الحسن الحوفي، ومكي بن أبي طالب، وأبو البقاء العكبري، وغيرهم.
ولجماعة من المفسرين عناية بالإعراب وأثره على تقرير المعنى، ومنهم: ابن جرير الطبري، وأبو الحسن الواحدي، وأبو حيان الأندلسي، والسمين الحلبي، والطاهر ابن عاشور، ومحمد الأمين الشنقيطي.
وأُلّف في هذا العصر موسوعات علمية في إعراب القرآن منها:
- الجدول في إعراب القرآن للأستاذ محمود الصافي(ت:1376هـ) وقد توفي بعد ساعة واحدة من دفع الكتاب للمطبعة.
- وإعراب القرآن وبيانه للأستاذ محيي الدين درويش(ت:1402هـ)
- والمعجم النحوي لألفاظ القرآن الكريم للأستاذ محمد عبد الخالق عضيمة(ت:1404هـ)
النوع الرابع: توجيه القراءات
وهو علم شريف عُني به جماعة من المفسرين والقراء واللغويين، وأفرده بالتأليف جماعة منهم: أبو منصور الأزهري، وابن خالويه، وأبو علي الفارسي، وابن جنّي، وابن زنجلة، ومكي بن أبي طالب، وابن أبي مريم الفسوي، وغيرهم.
واختلاف القراءات على نوعين:
أحدهما: ما ليس له أثر على المعنى، وهذا النوع يعنى به القرّاء لضبط القراءات، ويعنى ببعضه النحويون والصرفيون لاتّصاله بمسائل النحو والصرف، ومن أمثلته قول ابن خالويه: (قوله تعالى: {الصِّراطَ} تقرأ بالصاد والسّين وإشمام الزّاي:
- فالحجة لمن قرأ بالسّين: أنه جاء به على أصل الكلمة.
- والحجة لمن قرأ بالصّاد: أنه أبدلها من السّين لتؤاخي السّين في الهمس والصّفير، وتؤاخي الطاء في الإطباق؛ لأن السين مهموسة والطاء مجهورة.
- والحجة لمن أشمّ الزّاي: أنها تؤاخي السّين في الصفير، وتؤاخي الطّاء في الجهر)ا.هـ.
والآخر: ما له أثر على المعنى وهو الجانب الذي يُعنى به المفسّرون، وله أمثلة كثيرة مبثوثة في كتب التفسير واللغة وكتب توجيه القراءات.
- قال أبي منصور الأزهري في كتابه "معاني القراءات وعللها": (وقوله جلَّ وعزَّ: {حَتَّى يَطْهُرْنَ ... (222)}.
قرأ عاصم وحمزة والكسائي: (حَتَّى يَطَّهَّرْنَ) بتشديد الطاء والهاء.
وقرأ الباقون: (حَتَّى يَطْهُرْنَ) مخففا.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ {حَتَّى يَطَّهَّرْنَ} والأصل: يَتَطهَّرنَ والتطهرُ يكون بالماء، فأُدْغِمَت التاء في الطاء فشددت.
وَمَنْ قَرَأَ {حَتَّى يَطْهُرْنَ} فالمعنى: يَطهُرنَ مِن دَم المحِيض إذا انقَطع الدم، وجائزٌ أن يكون {يَطهُرن} الطهر التام بالماء بعد انقِطاع الدم)ا.هـ.
والعلم بتوجيه القراءات يُعتمد فيه على جملة من العلوم اللغوية، ويعين المفسّر على الكشف عن الأوجه التفسيرية، وتعرّف بعض أسباب اختلاف أقوال المفسّرين، وتوجيه بعضها، ومعرفة بعض دقائق الفروق بين القراءات.
وكلام العلماء في توجيه القراءات منه ما تكون الحجّة فيه بيّنة ظاهرة، ومنه ما هو اجتهاد قد يصيب فيه المجتهد، وقد يُخطئ، وقد يصيب بعض المعنى.
النوع الخامس: التفسير البياني
التفسير البياني هو التفسير الذي يُعنى فيه بالكشف عن حسن بيان القرآن، ولطائف عباراته، وحِكَم اختيار بعض الألفاظ على بعض، ودواعي الذكر والحذف، ولطائف التشبيه والتمثيل، والتقديم والتأخير، والإظهار والإضمار، والتعريف والتنكير، والفصل والوصل، واللف والنشر، وتنوّع معاني الأمر والنهي، والحصر والقصر، والتوكيد والاستفهام إلى غير ذلك من أبواب البيان الكثيرة.
وكلام العلماء في هذا النوع كثير مستفيض، وقد أُفردتْ فيه كتب ورسائل تفسيرية وعُني جماعة من المفسّرين بذكر ما يحضرهم من ذلك إلا أنّ الإحاطة بهذا النوع غير ممكنة، لأنّ منه أبواباً يتفاضل العلماء في إدراكها، والتفطّن لها لدقّة مأخذها؛ فإذا أُثير السؤال عنها تبيّن للعلماء عند التأمّل ما يقفون به على بعض بدائع القرآن.
وقد قال ابن عطية رحمه الله في مقدّمة تفسيره: (كتاب الله لو نُزِعَت منه لفظة، ثم أُديرَ لسانُ العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد)ا.هـ.
والكشف عن ذلك وبيانه على التفصيل في عامة مفردات القرآن وأساليبه مما لا يتأتّى لأحد أن يحيط به، لكن الحديث عن أمثلة منه كثير مستفيض في كلام المفسرين.
وممن عُني بالتفسير البياني من المفسرين: الزمخشريّ، والرازي، وأبو السعود، والآلوسي، وابن عاشور، غير أنه ينبغي أن يُحذر من بعض ما يُذكر في التفسير البياني مما يخالف صحيح الاعتقاد، كتأويل بعض الصفات، والأمور الغيبية، وما يكون لدى بعضهم من تكلّف وتمحّل في بعض المواضع.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيّم كلامٌ حسنٌ كثيرٌ في هذا النوع متفرّق في كتبهم.
ولشرف الدين الطيبي حاشية نفيسة على الكشاف للزمخشري عني فيها بالتفسير البياني.
ولجلال الدين السيوطي كتاب في التفسير البياني سماه "قطف الأزهار في كشف الأسرار" بلغ فيه إلى سورة التوبة ولم يتمّه.
ولبعض العلماء مؤلفات يُنتفع بها كثيراً في مسائل التفسير البياني، ومنهم: ابنُ قتيبة، وابن المنادَى، والخطيب الإسكافي، وعبد القاهر الجرجاني، وابن أبي الإصبع المصري، ومحمد بن أبي بكر الرازي، وابن الزبير الغرناطي، وابن تيمية، وابن جماعة، وابن ريان، وزكريا الأنصاري، وغيرهم.
فلهؤلاء كتب في متشابه القرآن، ومشكل القرآن، وبديع القرآن، وكثيراً ما يعرضون في كتبهم لمثل هذا النوع من التفسير اللغوي.
والتفسير البياني له صلة بالكشف عن المعاني المرادة، ورفع الإشكال، ويستفاد منه الجمع والترجيح بين الأقوال التفسيرية، واختيار بعضها على بعض، وله صلة وثيقة بعلم مقاصد القرآن.
غير أنَّ كلام العلماء في هذا الباب منه ما هو ظاهر الدلالة بيّن الحجّة، ومنه ما يدقّ مأخذه ويلطف منزعه، ومنه ما هو محلّ نظر وتأمل لا يُجزم بثبوته ولا نفيه، ومنه ما هو خطأ بيّن لمخالفته لنصّ أو إجماع أو قيامه على خطأ ظاهر.
وللعلماء المتقدّمين كلام مقتضب يندرج في هذا النوع، ثم توسّع العلماء فيه بعد تأسيس علم البلاغة والبيان، وإفراد التصنيف فيه، وتدريس أبوابه وقواعده وأمثلته، واشتهار مصطلحاته.
ويجب الاحتراز مما يتكلّم به أهل البدع في تقرير بدعهم بسلوك مسلك التفسير البياني ولذلك أمثلة في الكشاف للزمخشري وغيره.
ومما ينبغي أن يحترز منه أيضاً الجزم بما لا دليل عليه سوى الذوق والتأمّل؛ فكثيراً ما يغيب عن بعض المتأملين معارضة بعض الأوجه التي استخرجوها لنصّ صحيح أو إجماع، وكل تفسير عارض نَصّاً أو إجماعاً فهو تفسير باطل.
ومسائل التفسير البياني ترجع إلى خمسة أصول:
الأصل الأول: مقدّمات التفسير البياني، من نشأته، وتدرّج التأليف فيه، وأشهر العلماء المعتنين به، وإجمال مناهجهم، وضوابط ومحاذير البحث في مسائل التفسير البياني، وما إلى ذلك.
والأصل الثاني: دلالات المفردات القرآنية، وذلك أنّ كلّ مفردة في القرآن لها أنواع من الدلالات؛ فتدلّ بوضعها اللغوي، وبصيغتها الصرفية، واشتقاقها إن كانت مشتقة، وإعرابها إن كانت معربة.
والأصل الثالث: دلالات تراكيب الجمل، فمن المعلوم أنّ كلّ جملة متركبة من مفردات؛ ولهذه التراكيب أنواع وتفصيلات تقتضي أنواعاً من الدلالات البيانية.
والأصل الرابع: دلالات الأساليب البيانية، ومن ذلك: أسلوب الاستفهام، وأسلوب الشرط، وأسلوب الأمر، وأسلوب النهي، وأسلوب التوكيد، وأسلوب الاستثناء، وأسلوب التعجب، وأسلوب الحصر، وغيرها.
والأصل الخامس: مسالك التفريق البياني، وفيه تبحث أنواع الفروق بين المفردات، والأساليب، وطرق العلماء في استخراج تلك الفروق.
وقد كتبت في شرح هذه الأصول كتاب "أصول التفسير البياني" نفع الله به.
النوع السادس: الوقف والابتداء
ويسمّى علم الوقوف، وعلم التمام، والقطع والائتناف، والمقاطع والمبادي.
ولهذا العلم صلة وثيقة بالتفسير لتعلّقه ببيان المعنى؛ حتى كان يوصف من يُتقنه بأنّه يفسّر القرآن بتلاوته، وقد روى الليث بن سعد عن عبد الله ابن أبي مُليكَة عَن يعلى بن مملك أنه قال: (سألتُ أمَّ سلمة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل وقراءته قالت: « ما لكم ولصلاته ولقراءته؟ قد كان يصلي قدر ما ينام، وينام قدر ما يصلي ».
وإذا هي تَنْعَتُ قراءته، فإذا قراءة مفسّرة حرفاً حرفاً). أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن وأحمد والترمذي والنسائي.
وكان للقرّاء اللغويين عناية بالغة بعلم الوقف والابتداء؛ يتعلّمونه مع القراءة، ويعرفون أحكامه وأحواله وعلله وأسبابه.
- قال ابن مجاهد فيما ذكره عنه أبو جعفر النحاس: (لا يقوم بالتمام في الوقف إلا نحوي عالم بالقراءات عالم بالتفسير والقصص وتخليص بعضها من بعض، عالم باللغة التي نزل بها القرآن)ا.هـ.
وذلك لاستلزامه المعرفة بمعاني الأساليب، وأوجه التفسير والإعراب، والمقطوع والموصول، ومواضع الوقف والسكت، مع المعرفة الحسنة بأوجه القراءات ورسم المصاحف.
- وقال علم الدين السخاوي رحمه الله: (ففي معرفة الوقف والابتداء الذي دوَّنه العلماء تبيينُ معاني القرآن العظيم، وتعريفُ مقاصده، وإظهارُ فوائدِه، وبه يتهيَّأ الغوصُ على دُرره وفرائده)ا.هـ.
والجهل بالوقوف الممنوعة قد يوقع القارئ في إيهام معنى لا يصحّ، كالوقف على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ...}.
ولذلك حذر العلماء من الوقف القبيح وبيّنوا أنه لا يوقف عليه إلا لضرورة انقطاع النفس أو التعليم ثم يبتدئ بما قبله.
ونظير الوقف القبيح الابتداء القبيح، وهو الذي يوهم معنى فاسداً كما لو ابتدأ من قوله تعالى: {وأنتم سكارى...} ، وكما لو قرأ قارئ قول الله تعالى: {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ..} فوقف على {الرسول} وابتدأ بما بعده؛ فإنّه يوهم بقراءته غير المعنى المراد.
وكذلك الوصل القبيح، وهو الذي يوهم معنى غير مراد كما لو وصل قارئ قول الله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} وقوله تعالى: {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)}. والصواب أن يقف على {عنهم} ويقف على {قولهم}.
قال ابن الأنباري رحمه الله: (اعلم أنه لا يتم الوقف على المضاف دون ما أُضيف إليه، ولا على المنعوت دون النعت، ولا على الرافع دون المرفوع، ولا على المرفوع دون الرافع، ولا على الناصب دون المنصوب ولا على المنصوب دون الناصب، ولا على المؤكد دون التوكيد...) إلى آخر ما قال، وهو فصل طويل في كليّات الوقف والابتداء، وقواعده العامة.
وكثير من مسائل الوقف والوصل والابتداء متّفق عليها عند العلماء، ومنها مسائل يختلفون فيها لاختلافهم في فهم المعنى، واختلاف ترجيحاتهم بين أوجه التفسير، فإنّ تعلّق علم الوقف والابتداء بالتفسير تعلّق ظاهر، وكلام العلماء فيه إنما هو بحسب ما بلغهم من العلم بالقراءة والتفسير وما أدّاه اجتهادهم فيه.
ومن الأمثلة على ذلك الوقف في قوله تعالى: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)} فمن وقف على {اليوم} كان الابتداء بما بعدها دعاء من يوسف عليه السلام لإخوته.
ومن وقف على {عليكم اليوم} ثمّ ابتدأ {اليوم يغفر الله لكم..} كان المعنى خبرٌ من يوسف عليه السلام – وهو نبيّ يوحى إليه – بمغفرة الله تعالى لهم في ذلك اليوم.
وللعلماء مناهج في تقسيم الوقوف، وتعداد مراتبه، وقد اختلف اجتهادهم في تسمية تلك المراتب، وتفصيل حدودها اختلافاً كثيراً، فخرجوا بتقسيمات متقاربة في أصول أحكامها؛ ومختلفة في بعض تفصيلها.
- قال ابن الجزري: (أكثر ما ذكر الناس في أقسامه غير منضبط ولا منحصر، وأقرب ما قلته في ضبطه أن الوقف ينقسم إلى اختياري واضطراري....)
ثم ذكر أقسام الاختياري وهي: التام، والكافي، والحسن، وبيّن حدودها.
ثم قال: (وإن لم يتم الكلام كان الوقف عليه اضطرارياً وهو المصطلح عليه بالقبيح، لا يجوز تعمّد الوقف عليه إلا لضرورة من انقطاع نفس ونحوه لعدم الفائدة أو لفساد المعنى)ا.هـ.
وقد ألّف في الوقف والابتداء جماعة من العلماء منهم: ابن سعدان الضرير، وابن الأنباري، وأبو جعفر النحاس، وأبو عمرو الداني، وابن الطحان، وابن طيفور السجاوندي، وأبو العلاء الهمذاني، وعلَم الدين السخاوي، وغيرهم.
النوع السابع: التصريف
علم الصرف يكشف للمفسّر كثيراً من المعاني والأوجه التفسيرية، ويعرّفه عللَ بعض الأقوال الخاطئة في التفسير، ويعينه على معرفة التخريج اللغوي لكثير من أقوال السلف في التفسير.
وهو علم يتعلّق ببنية الكلمة، وتمييز حروفها الأصلية، وما يلحقها من زيادة وإعلال، وقلب وإبدال، وحذفٍ وتغيير بالحركات والحروف لإفادة معانٍ تتعلّق بأصل الكلمة وتختلف باختلاف صيغتها.
ولضبط التغييرات الصرفية على المفردات ابتكر الصرفيون: الميزان الصرفي، والقياس اللغوي.
- فأمّا الميزان الصرفي فهو تمثيل الكلمات بحروف "الفاء والعين واللام" (فعل)؛ فتقول في "ضَرَبَ يَضْرِبُ": ميزانها الصرفي: "فَعَلَ يَفْعِلُ"، وتقول في "رَجُل ورِجَال": "فَعُل وفِعَال".
وهذا الميزان يميزون به الحروف الأصلية من المزيدة، ويعرفون به ما يلحق الكلمة من تغيير في بنيتها.
- وأمّا القياس اللغوي فيراد به إجراء ما لم يُعْرف بالسماع مجرى ما عُرف به في نظائره واطّردت به قواعد التصريف.
وأبواب علم الصرف لا تخرج عن تصريف الأسماء وتصريف الأفعال.
- ويشترك القسمان في أبواب كثيرة؛ كالأبنية، وأحرف الزيادة، والقلب والإبدال، والإلحاق والإعلال، والحذف والنقل، والهمز والتخفيف، والإمالة والإدغام، وعوارض الوقف والابتداء، والتقاء الساكنين، وغير ذلك.
- وينفرد تصريف الأفعال بأبواب منها: أبنية الأفعال وأنواعها باعتبار الصحة والإعلال، وباعتبار الدلالة على الزمن، وباعتبار التجريد والزيادة، والإسناد، والتوكيد، ومعاني صيغ الأفعال وما يتركّب منها.
- وينفرد تصريف الأسماء بأبواب منها: معاني أبنية الأسماء، والمقصور والممدود، والتذكير والتأنيث، والتثنية والجمع، والتصغير والتكبير، والتقليل والتكثير، والنسب، والتعريب، والمصادر، والمشتقات وهي: اسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة باسم الفاعل، واسم التفضيل، واسم الزمان، والمكان، واسم الآلة، وغير ذلك.
وفي كتب الصرف اختلاف كثير في ترتيب أبوابه وعرض مسائله، والمقصود هنا التعريف بأهمّ أبواب هذا العلم.
وقد كانت عناية العلماء بعلم الصرف مصاحبة لعنايتهم بعلم النحو؛ إذ كان اللحن يقع فيهما، والقياس جارٍ عليهما، ولذلك كانت عامّة كتب النحو حافلة بأبواب من علم الصرف.
وقد ألّف في الصرف جماعة من العلماء منهم: سيبويه في كتابه "الكتاب" فقد ضمّنه أبواباً كثيرة في علم الصرف، ويحيى بن زياد الفراء، ويعقوب بن إسحاق ابنُ السِّكِّيتِ، وأبو عثمان بكر بن محمد المازني، ومحمّد بن يزيدَ المبرّد، وأبو العباس أحمد بن يحيى الشيباني المعروف بثعلب، وأبو بكر السراج، وأبو علي الفارسي، وأبو الفتح عثمان بن جني الموصلي ، وعبد القاهر الجرجاني، وأبو البركات ابن الأنباري، وعثمان بن عمرو ابن الحاجب، وعز الدين الزنجاني، وابن عصفور الإشبيلي، وابن مالك الأندلسي، وغيرهم كثير.
ومن المفسّرين الذين لهم عناية ظاهرة بالتصريف في تفاسيرهم: ابن عطية الأندلسي، وأبو حيان الأندلسي، وأبو السعود، ومحمد الطاهر ابن عاشور، ومحمد الأمين الشنقيطي، ومحمد الأمين الهرري.
وفي هذا العصر ألّفت كتب مختصة بتصريف مفردات القرآن منها:
- المعجم الصرفي لألفاظ القرآن الكريم، للدكتور محمد عبد الخالق عضيمة.
- والبيان والتعريف بما في القرآن من أحكام التصريف، للدكتور: محمد بن سيدي بن الحبيب الشنقيطي.
- والصرف التعليمي والتطبيق في القرآن الكريم للدكتور: محمود سليمان ياقوت.
- ومعجم الأوزان الصرفية لكلمات القرآن الكريم، للدكتور: حمدي بدر الدين إبراهيم.
ومسائل الصرف منها مسائل بيّنة يتّفق عليها الصرفيون، ومنها مسائل يختلفون فيها؛ كسائر العلوم التي يقع في مسائلها اتفاق واختلاف، لكن ما اتفقوا عليه يعدّ حجة لغوية مقبولة.
ومن فوائد علم الصرف التفطن لعلل بعض الأقوال الخاطئة في التفسير، ومثال ذلك قول ابن عطية الأندلسي(ت:546هـ) في تفسير قول الله تعالى: {من حمأ مسنون} قال: (قال مَعْمَر: هو المنتن، وهو من أسن الماء إذا تغير).
ثمّ تعقّبه بقوله: (والتصريف يردّ هذا القول).
يريد أنّه لا يقال في اسم المفعول من "أسن": "مسنون"؛ لأنَّ "أسن" فعل ثلاثي لازم؛ فلا يصاغ منه اسم مفعول، وإذا عدَّيته بالهمزة فاسم المفعول منه: "مُؤسَن".
ومن فوائد علم التصريف أنه يُعرف به تخريج بعض أقوال السلف في التفسير، ومن أمثلة ذلك: أقوال السلف في تفسير قول الله تعالى: {وحشرنا عليهم كلّ شيء قُبُلا}
فروي عنهم في معنى {قبلا} ثلاثة أقوال:
القول الأول: {قُبُلا} أي : معاينة، وهذا القول رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس من طريق معاوية بن صالح عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس.
والقول الثاني: {قبلا} أي: أفواجاً، رواه ابن جرير عن مجاهد.
والقول الثالث: {قُبلا} أي: كفلاء، وهذا القول اختاره الفراء.
فهذه ثلاثة أقوال في هذه المسألة:
- فأمّا القول الأول فتخريجه أنّ القُبُل بمعنى المقابِل؛ والمقابل معاين لمن قابله، كما تقول: لقيتُه قُبُلاً: أي: مواجهة، ومنه قوله تعالى: {قُدّ من قُبُل}، وقوله تعالى: {أو يأتيهم العذاب قُبُلا}.
ويرجّح هذا المعنى قراءة من قرأ: {وحشرنا عليهم كلّ شيء قِبَلا}.
- وأما القول الثاني فتخريجه أنَّ {قبلا} جمع قبيل، كرغيف ورُغُف، والقبيل: الجماعة الكثيرة من صنف واحد، أي: حشروا عليهم أفواجاً، كل فوج قبيل.
قال ابن كثير: (أي: تُعرَض عليهم كلّ أمّةٍ بعد أمة فتخبرهم بصدق الرسل فيما جاؤوهم به {ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء اللّه}).
- وأما القول الثالث فتخريجه أنَّ {قبلا} جمع قبيل بمعنى كفيل، ومنه قوله تعالى: {أو يأتي بالله والملائكة قبيلا} أي: كفلاء وضمناء.
والتحقيق أنّ هذه المعاني كلّها صحيحة، ودلالة الآية تسعها كلها.
النوع الثامن: الاشتقاق
الاشتقاق هو انتزاع لفظة من لفظة أخرى تشاركها في أصل المعنى والحروف الأصلية؛ وتخالفها باختلاف الصيغة، وهو من دلائل اتّساع كلام العرب، وكثرة تصاريف ألفاظه.
وعلم الاشتقاق من العلوم المهمّة للمفسّر، إذ يَعرف به الأصولَ التي ترجع إليها كثير من المفردات العربية، فيتبيّنُ أصلَ معناها، ويدرك التناسب في المعنى بين الكلمات التي ترجع إلى أصل واحد.
والاشتقاق له أصل في النصوص، وقد استدلّ له بعض العلماء بما في مسند الإمام أحمد وغيره من حديث عبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « قال الله عز وجل أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي فمن يصلها أصله ومن يقطعها أقطعه ».
ومما روي من شعر حسان بن ثابت رضي الله عنه قوله في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
وضمَّ الإلهُ اسمَ النبيّ إلى اسمه ... إذا قال في الخمسِ المؤذنُ أشهدُ
وشـــــقَّ له من اسمـــــــه ليجلــــــــــــــــَّه ... فـذو العرش محمـــــود وهـــذا محمد
وقد نُقل عن العرب من الأخبار والأشعار ما يدلّ على عنايتهم بالاشتقاق، وإدراكهم لتصرّف كثير من كلماتهم من أصول تُشتقّ منها، ومن ذلك أسماؤهم وأسماء بلدانهم ومنازلهم ووقائعهم؛ إذ يجد الناظر فيها أنّها مشتقّة من أصول لها معانٍ معروفة في لسانهم.
وقد ذهب جمهور أهل اللغة إلى أنّ أكثر كلام العرب مشتقّ.
واشتقاق الكلام بعضه من بعض قد يكون ظاهراً غير مُشْكِل، كاشتقاق اسم "محمّد" من الحمد، واشتقاق "الحُسام" من الحَسْم، وهو من أسماء السيف.
- وقد يكون الاشتقاق خفيا لغرابة اللفظ فيحتاج الناظرُ إلى تفسيره ليعرف اشتقاقه، كما قال الأصمعي في كتابه "اشتقاق الأسماء" : ("دُجَانة": اشتقّ من الدَّجن، والدَّجْن ظلمة الغيم وإلباسُه)ا.هـ.
- وقد يكون الاشتقاق لمناسبة لطيفة لا يدركها كثير من الناظرين؛ كما اشتقّ "أمس" من المساء، و"غد" من الغُدوة؛ باعتبار أقرب الأوقات إلى يومك الحاضر.
- وقد يقع الخلاف في أصل اشتقاق الكلمة وتتجاذبها أصول متشابهة في أوجه من المعاني؛ فيجتهد العلماء في الاختيار منها والترجيح بينها، كما اختلفوا في اشتقاق لفظ "القرآن" على أقوال: فقيل: من القراءة، وقيل: من القَرْء بمعنى الجمع، وقيل: من القَرْءِ بمعنى الإبانة والإظهار.
وذهب الشافعي وجماعة من العلماء إلى أنّ "القران" جامد غير مشتق، وكان الشافعي ينطق اسم القرآن بغير همز "القُرَان" وهي قراءة ابن كثير المكّي.
ومن الكلمات المستعملة في لسان العرب ما ليس بمشتقّ، كالحروف، والأسماء الأعجمية، وبعض أسماء الذوات والمعاني التي لم يؤخذ معناها من غيرها؛ كالحجر والشجر والصبر والرضا.
وقد عني أصحاب المعاجم اللغوية بالاشتقاق، بل منهم من بنى معجمه على الاشتقاق كما فعل ابن فارس في معجمه "مقاييس اللغة"؛ فكان يعتمد فيه على إرجاع الكلمات التي يفسّرها إلى أصول جامعة تشترك في معنى كليّ يجتهد في استخراجه.
ولبعض العلماء الذين ليست لهم معاجم لغوية عناية بالاشتقاق في بعض كتبهم، ومنهم: أبو علي الفارسي، وأبو الفتح ابن جني، وابن تيمية، وابن القيم.
وألّف في علم الاشتقاق جماعة من العلماء منهم: المفضل الضبي، وقطرب، والأخفش الأوسط، والأصمعي، وأبو نصر الباهلي، وابن قطن المهري، وابن قتيبة، وابن طيفور، والمبرّد، وأبو إسحاق الزجاج، وابن السرّاج، وابن دريد، وابن درستويه، وأبو جعفر النحاس، وابن خالويه، وأبو الحسن الرمّاني، وأبو القاسم الزجاجي، وأبو عبيد البكري، وحجة الأفاضل الخوارزمي، وأسامة بن منقذ، وغيرهم.
ومن المتأخرين: الشوكاني، وصديق حسن خان، وعبد القادر المغربي، وعبد الله أمين.
وفي هذا العصر ظهرت بوادر التأليف المفرد في اشتقاق المفردات القرآنية؛ فكتب الأستاذ الجليل محمد حسن حسن جبل (ت:1436هـ) كتابه الكبير "المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم" وقد بنى كتابه هذا على فكرتَي "المعنى المحوري" و"الفصل المعجمي"، وقد شرح المراد بهما في مقدّمة كتابه هذا.
فائدة علم الاشتقاق للمفسّر:
الاشتقاق مما تدرك به معاني المفردات، ويعرف به أصلها وأوجه تصريفها، وقد استعمله الصحابة والتابعون لهم بإحسان، ومن بعدهم من مفسّري السلف وأئمة الدين.
« ».
- قال مجاهد بن جبر: كان ابن عباس لا يدري ما {فاطر السموات} حتى جاءه أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: يا أبا عباس بئري أنا فطرتها، فقال: « خذها يا مجاهد {فاطر السموات} ». رواه الدولابي في الكنى واللفظ له، ورواه ابن جرير والبيهقي.
أنواع مسائل الاشتقاق
ومسائل الاشتقاق التي يذكرها المفسّرون في تفاسيرهم على نوعين:
النوع الأول: ما لا أثر له على المعنى، وهذا يكون في كثير من الألفاظ التي تنوسي اشتقاقها وصارت أشبه بالأعلام المرتجلة؛ ومن أمثلة هذا النوع: الخلاف في اشتقاق لفظ "المدينة"؛ فقد اختلف فيه هل هو مشتق من "مدن" بالمكان أي: أقام، أو من "دان"؟
وقد تنوسي هذا الاشتقاق، وصار لفظ "المدينة" اسم جنس للبلد المأهول بالبناء والساكنين، ولذلك قال أبو منصور الأزهري: ("مدن" فعلٌ مُمَات).
والنوع الآخر: ما له أثر على المعنى، ويفيد في بيان معنى اللفظ، وترجيح بعض الأقوال على بعض؛ أو الجمع بينها؛ فهذا مما ينبغي للمفسّر أن يعتني به ويضبط مسائله.
ومن أمثلته: اختلاف المفسرين في معنى "المسحّرين" في قول الله تعالى: {قالوا إنما أنت من المسحّرين}
- فقال مجاهد: من المسحورين.
- وقال قتادة: من الساحرين.
والقولان يجمعهما اشتقاق المسحّرين من السِّحر؛ فقول مجاهد توجيهُه أنّ المسحَّر هو المسحور مرة بعد مرة، كما قيل في المغلَّب هو الذي يُغلب مرة بعد مرة؛ فلا يُغالب إلا غُلب، قال عمرو بن كلثوم:
فإنْ نَغلب فغلابون قدما … وإنْ نُغلب فغير مُغَلَّبينا
وأما قول قتادة فله توجيهان:
أحدهما: أنّ المُسحَّر هو الذي عُلّم السِّحْرَ حتى صار ساحراً؛ فهو وإن كان اسم مفعول إلا أنّه يؤول إلى معنى اسم الفاعل كما في "مُسلَّم" يؤول معناه إلى "سالم" و"مخلَّد" يؤول معناه إلى "خالد".
والآخر: أن المسحَّر هو المتَّهم بالسحر؛ كالمكَّذب المتَّهم بالكذب، و"المبّخَّل" الموصوف بالبخل.
وفي تفسير الآية أقوال أخر يجمعها اشتقاق "المسحرين" من السَّحْرِ بمعنى الصرف، فالمسحَّر هو المصروف عن شأنه وما ينفعه، ومنه قوله تعالى: {فأنّى تُسحرون} أي "تُصرفون" في قول جمهور المفسّرين، وقد فصّلت القول فيها في كتاب "طرق التفسير".
أقسام الاشتقاق:
والاشتقاق على أقسام:
القسم الأول: الاشتقاق الصغير، ويسميه بعضهم "الأصغر"، وهو النوع المعروف عند العلماء المتقدّمين، وهو ما تقدّم ذكره؛ كاشتقاق "المسحَّر" من السَّحْر" واشتقاق "مرداس" من الردس، وهكذا، ويلحظ فيها الاتفاق في ترتيب حروف الأصل مع اختلاف الصيغتين.
والقسم الثاني: الاشتقاق الكبير، وهو أن يكون بين الجذرين تناسب في المعنى مع اختلاف ترتيب الحروف، كما في "فسر" و"سفر"، و"فقر" و"قفر"
وهذا النوع سماه ابن جني وبعض أهل العلم "الاشتقاق الأكبر"، واستقرّت تسميته فيما بعد بالكبير، وسمّاه شيخ الإسلام ابن تيمية "الاشتقاق الأوسط" وعرَّفه بقوله: (وهو: اتفاق اللفظين في الحروف لا في ترتيبها).
- قال شيخنا ابن عثيمين: (و{الفقراء} جمع فقير؛ و "الفقير" هو المعدم؛ لأن أصل هذه الكلمة مأخوذة من "الفقر"، الموافق لـ"القفر" في الاشتقاق الأكبر الذي يتماثل فيه الحروف دون الترتيب؛ و"القفر" الأرض الخالية، كما قال الشاعر:
وقبرُ حربٍ بمكانٍ قفر ... وليس قربَ قبرِ حرب قبر
فـالفقير معناه الخالي ذات اليد)ا.هـ.
ومنه التناسب بين: الحَبْرِ والبَحْر، والرَّهَب والهَرَب، الصِّدْق والقَصْد، وغيرها.
والقسم الثالث: الاشتقاق الأكبر، ويسميه بعضهم الكُبَّار" وهو اتفاق الجذور في ترتيب أكثر الحروف واختلافها في حرف منها، وله أنواع عدة.
والقسم الرابع: الاشتقاق الكُبّار، وهو اشتقاق لفظة من لفظتين أو أكثر اختصاراً، وهو ما يعرف بالنحت، كاشتقاق البسملة من قول "بسم الله"، والحوقلة من "لا حول ولا قوة إلا بالله".
والخلاصة أنّ علم الاشتقاق من العلوم المهمة للمفسّر، وأنّ التمكن منه يفتح للمفسّر أبواباً من استخراج المعاني، والتخريج اللغوي لأقوال المفسرين، والجمع والترجيح، والنقد والإعلال.
النوع التاسع: البديع
علم البديع من علوم العربية التي عني بها جماعة من المفسّرين واللغويين، وهو علم لطيف يعرّف صاحبه بمحاسن الألفاظ ولطائف المعاني، وحسن دلالة تلك الألفاظ على المعاني، ويكشف للمفسّر عن معانٍ بديعة لطيفة قد لا يتفطّن لها كثير من الناس، وهو من العلوم التي يستعان بها على استخراج الأوجه التفسيرية؛ لكثرة أدواته العلمية وتنوّعها.
وكلام العلماء في البديع يقع على معنيين:
المعنى الأول: التعبير المبتكر الذي لم يُسبق إليه المتكلّم، أو الذي تقدّم فيه المتكلم على من سبقه؛ ففاقهم حسناً وسبكاً، ببراعته في انتزاع المعنى وعبارته عنه عبارة حسنة تقع موقعها في نفوس السامعين.
وقد عقد ابن عاشور فصلاً في مقدّمة تفسيره في "مبتكرات القرآن" نبَّه فيه على أصولها وبعض أنواعها.
والمعنى الثاني: ما يسمّيه المتأخرون من علماء البلاغة "المحسنات المعنوية واللفظية"، وفيهما أنواع كثيرة لا تحصر.
وكلام العلماء في بديع القرآن له أصول وأمثلة مأثورة عن السلف، لكن لم ينشأ التأليف المفرد في بديع القرآن إلا في القرون المتأخرة.
وأمّا أصل العناية به فكان قديماً من وقت تنزّل الوحي وحلاوة ألفاظ القرآن وبديع دلالتها على المعاني تأخذ بالألباب، وتبهر الفصحاء، ولها سلطان عجيب على من له ذوق في البيان وحظّ من الفصاحة والمعرفة بلسان العرب.
- وقد قال فيه عتبة بن ربيعة: (إنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة). وقد فسّرت الطلاوة بالحسن والبهجة والوضاءة.
وذكر جماعة من العلماء أنّ أعرابياً سمع رجلاً يقرأ: {فلمّا استيأسوا منه خلصوا نجيّا} فأقسم أنّه لا يقوله بشر.
- قال أبو هلال العسكري: (وقوله تعالى: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} تحيّر في فصاحته جميع البلغاء، ولا يجوز أن يوجد مثله في كلام البشر).
عناية المفسّرين ببديع القرآن
ولجماعة من المفسّرين عناية بذكر بعض الأمثلة على بديع القرآن في مقدّمات تفاسيرهم، وفي بعض الآيات التي يشتهر خبرُ بديعها، ولبعض مَن كتب في إعجاز القرآن ومتشابهه وبلاغته عناية بذكر أمثلة من بديع القرآن، كما في إعجاز القرآن للخطابي والرمّاني، والإيجاز والإعجاز لأبي منصور الثعالبي، ودلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني، وغيرها.
وأوّل من علمتُه عُني بتتبّع أنواع البديع في القرآن ابنُ أبي الإصبع المصري(ت:654هـ)، وألّف في ذلك كتابه المعروف "بديع القرآن"، وهو كتاب اختصّ به ما في القرآن من أمثلة البديع التي وقف عليها أو استخرجها، وجعله تتمّة لكتابه "تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن"، وأمضى في إعداد كتابه هذا سنوات طويلة من عمره حتى ذكر أنه جعله وظيفة عمره في شبابه ومشيبه، يقرأ ما ألّف في البديع وينقل وينقد، ويباحث العلماء في مسائله، ويحاور الأذكياء والأدباء، ويسأل كلّ من عرف عنايته بتدبّر القرآن، حتى اجتمع له في سنوات عمره من المعرفة بأنواع البديع ما لخّصه وشرحه في كتابه المذكور.
ثمّ ذكر بدر الدين الزركشي (ت:795هـ) في البرهان، وجلال الدين السيوطي(ت:911هـ) في الإتقان أمثلة كثيرة لبديع القرآن.
ولم يزل المصنّفون يزيد بعضهم على بعض في أنواع البديع، حتى أفردت في بعض الأنواع مؤلفات مختصة بها تشرح معناها، وتجمع أمثلتها، وتبيّن أصولها وفصولها.
فائدة علم البديع للمفسّر
وعلم البديع من العلوم التي لا يحاط بها لتفاضل القرائح والفهوم في إدراك أنواعه وأمثلته، ولذلك لم يزل العلماء يزيد بعضهم على بعض فيها؛ حتى إنّ ابن أبي الإصبع لما بلغ مائة وعشرين نوعاً أمسك الفكر عن التوغّل في أنواع البديع، وزاد عليه صفيّ الدين الحلّي ثلاثين نوعاً.
ولم يزل أهل البديع يزيد بعضهم على بعض في أنواعه حتى أوصلها ابن معصوم إلى مائتي نوع في بديعيته.
وقد يتواردون على أنواع من البديع فيختفلون في تسمية بعضها والحقيقة واحدة.
وقد يظهر للناظر الفَطِن من أنواع البديع ما لا يجده في كتب البديع، على أنّي أوصي المفسّر بأن يأخذ من أنواع البديع بما ظهر نفعه وتيسّر فهمه، وألا يتوغّل فيه توغّل المتكلّفين.
وليكن غرض المفسّر منه ما يعينه على استخراج الأوجه التفسيرية والمعاني اللطيفة، لأنّ علم البديع إذا أوتي الناظرُ فيه حسنَ ذوق، ولطافة ذهن، وقدرة على الاستخراج والتبيين توصّل به إلى أوجه بديعة في التفسير قد لا يتفطّن لها كثير من الناس، فتفيده في التدبّر واستحضار معاني الآيات ولوازم المعاني.
وسأضرب أمثلة بعون الله تعالى على نوعين من أنواع البديع تبيّن فائدة هذا العلم للمفسّر:
النوع الأول: الاحتباك، وهو افتعال من الحبك، وهو شدّة الإحكام في حسن وبهاء، وكلّ ما أُجيد عمله فهو: محبوك.
والمراد بالاحتباك عند أهل البديع أن يقابَل بين جملتين مقابلة غير متطابقة؛ فيحذف من الجملة الأولى ما يقابل الثانية، ويحذف من الثانية ما يقابل الأولى، فتدلّ بما ذكرت على ما حذفت، ويحتبك اللفظ والمعنى بإيجاز بديع.
وله أمثلة كثيرة في القرآن:
منها: قول الله تعالى: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، فدلّ على الاحتباكِ في هذهِ الآيةِ المقابلةُ بين جزاء وحال، والمتبادر إلى الذهن أن يُقابَل بين جزاء وجزاء، أو أن يقابل بين حال وحال؛ فالخروج عن المتبادر لا يكون إلا لفائدة بلاغية؛ فكان تقدير الكلام على هذا المعنى: أفمن يأتي خائفاً يوم القيامة ويلقى في النار خير أمّ من يأتي آمناً ويدخل الجنّة.
النوع الثاني: حسن التقسيم، ويسميه بعض أهل البديع صحة التقسيم، وهو على نوعين: لفظي ومعنوي وقد يجتمعان.
فالتقسيم اللفظي: تقسيم الكلام إلى جمل يسيرة متسّقة متآلفة، ومنه قوله تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)}.
والتقسيم المعنوي: هو استيفاء أقسام المُقسَّم نصّاً أو تنبيهاً، وهو كثير جداً في القرآن الكريم.
ومن أمثلته قول الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)}
فإنّه استوفى ذكر أقسام أمّة الاستجابة فجعلها على ثلاثة أقسام: المحسنين، والمقتصدين، وظالمي أنفسهم، وهم الذين لديهم أصل الإيمان لكنّهم مقترفون لذنوب لم يتوبوا منها.
ولا تخرج أقسام أتباع الرسل عن هذه الأقسام الثلاثة، ولكلّ قسم حظّه من الاصطفاء بقدر حظّه من الاستجابة.
ومن أمثلته أيضاً: قول الله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ}
فاستوفت الآية أقسام حالات العبد.
والتقسيم المعنوي منه ظاهر وخفيّ.
- فالتقسيم الظاهر ما تقدّمت أمثلته، وهو ما ذُكرت أقسامه نصّا أو كان التنبيه فيه على ما حذف ظاهراً.
- والتقسيم الخفيّ ما احتيج فيه إلى استنباط واستخراج، وله دلائل تدلّ عليه، وهو باب عظيم من أبواب تدبّر القرآن، وأمثلته في القرآن كثيرة جداً، يتفاضل العلماء في استخراجها، وإدراك موارد التقسيم فيها.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة "أمراض القلوب وشفائها": (العلم النافع هو أصل الهدى، والعمل بالحق هو الرشاد، وضد الأول هو الضلال، وضد الثاني هو الغيّ، والضلال: العمل بغير علم، والغي: اتباع الهوى، قال تعالى: {والنجم إذا هوى . ما ضل صاحبكم وما غوى} فلا ينال الهدى إلا بالعلم ولا ينال الرشاد إلا بالصبر)ا.هـ.
فهذا الكلام يُستفاد منه التنبّه لما في الآية من تقسيم معنويّ خفيّ، وقد بيّن مورد التقسيم، وهو العلم والعمل، وهذا المورد أصل لكثير من التقسيمات المعنوية في القرآن الكريم.
فقوله تعالى: {ما ضلّ صاحبكم وما غوى} فيه استيفاء الردّ على الإيرادات المحتملة لمنكري خبره صلى الله عليه وسلم عن المعراج.
فقوله: {ما ضلّ} ينفي عنه القول بغير علم.
وقوله: {وما غوى} ينفي عنه إرادة الإخبار بخلاف الحقّ الذي يعلمه.
فإذا كان ما يعلمه حقاً، وأخبر بهذا الحقّ؛ فلا بدّ أن يكون كلامه حقّاً؛ فقامت الحجّة بصدقه؛ لأنّ الحقّ لا يتخلّف عن الخبر إلا بأحد أمرين:
- أن يكون المُخبر غير عارف بالحقّ، وهذا هو الضلال.
- أو أن يكون عارفاً به لكن لا يريد الإخبار به، وهذا هو الغيّ.
فاستوفى بهذا التقسيم الحجّة على صدق خبره صلّى الله عليه وسلم.
وزادهم بيانا بذكره بلفظ {صاحبكم} للإشارة إلى أنّكم تعرفون صدقه، وعقله، ورشده، وأنه ليس بالمتّهم عندكم، وليس غريباً لا تعرفونه؛ بل هو صاحبكم الذي لبث فيكم عمراً تدعونه الصادق الأمين؛ وما ضلّ، وما غوى.
- ونظير هذا قوله تعالى: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا} فجمع الله تعالى في هذه الآية التكفّل بما يحتاجه الداعي إليه، وهما يرجعان إلى أمرين: الهداية والنصر؛ فبالهداية يعرف الحقّ من الباطل، ويسير على الصراط المستقيم، وبالنصر يعان على عدوّه ويتمّ له مقصده، وتحسن عاقبته.
وتقديم الهداية على النصر في هذه الآية من باب تقديم العلم على العمل، لأن الهداية من ثمرات العلم، والنصر من ثواب العمل.
ومن ألطف الأمثلة على التقسيم المعنوي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)}
فجمع الله في هذه الآية أصلي علم السلوك، وهما: البيّنات والهدى، وحاجة الناس إليهما ماسّة، بل هي أشدّ من حاجتهم إلى الطعام والشراب، لأنّه لا نجاة من العذاب ولا طمع في الثواب إلا بهما؛ فمن كتمهما كان أقبح وأضرّ ممن يمنع الطعام والشراب مع تيسّره.
وكتمان البينات يكون بإخفاء الحقّ ولبسه بالباطل، وتضليل الناس، وصدّهم عن الحق.
وكتمان الهدى يكون بترك العمل بالحقّ.
وإذا كتمت البيّنات وكتم الهدى لم يعرف الناس حقاً يتبيّنون به الصواب من الخطأ، ولم يروا قدوة صالحة يأتسون بها، ويبصرون صلاح حالها؛ فيقع الناس في عمياء بين دعاة فتنة يضلّونهم، أو علماء سوء تدعوهم ألسنتهم إلى الحق، وتدعوهم أفعالهم إلى الباطل.
ولذلك كانت هذه الآية من أشدّ الآيات على العلماء لأنّهم يدركون أنّه لا نجاة لهم إلا بالعلم والعمل؛ فبالعلم الصحيح يتحقّق التبيّن ويُعرف الحقّ من الباطل، وبالعمل بهذا العلم يتحقّق الهدى؛ فإنّ العالم لا يكون مهتدياً حتى يعمل بعلمه؛ فرجع مورد التقسيم إلى أصلي العلم والعمل.
والأمثلة على هذا التقسيم المعنوي كثيرة جداً، والموفّق اللبيب يستخرج بهذا النوع علماً غزيراً مباركاً، ولو أُفرد فيه مؤلَّف لكان مجلداً كبيراً.
النوع العاشر: تناسب الألفاظ والمعاني
تناسب الألفاظ والمعاني في القرآن الكريم علم لغويٌّ لطيف المأخذ، عزيز المنال، يلتئم من معرفة صفات الحروف، ودرجاتها، وتناسب ترتيبها، ومراتب الحركات، مع العلم بالاشتقاق، والتصريف، والأشباه والنظائر والفروق اللغوية، وقد اعتنى به جماعة من المفسّرين لفائدته في إحسان تبليغ معاني القرآن، وتقريب دلائل ألفاظه، وهو معين على إدراك التناسب بين بعض الأقوال الصحيحة، والترجيح بين بعض الأوجه التفسيرية.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (أكثر المحققين من علماء العربية والبيان يثبتون المناسبة بين الألفاظ والمعاني).
وهذا العلم من العلوم التي لم ينضج التأليف فيها بعد، ولم تزل معالمه بحاجة إلى تشييد وتجديد، وكثير من أبوابه ومسائله بحاجة إلى تأصيل وتفصيل.
ومما يذكره العلماء في مسائل هذا العلم ما هو ظاهر يدركه من له فقه في العربية، وذوق في حسن بيانها، ومنه ما يحتاج في معرفته إلى تفكّر ونظر دقيق في الألفاظ وتركيبها ونظائرها وصفات حروفها وتناسب حركاتها.
ولهذا العلم أصول مأثورة عن بعض علماء اللغة المتقدمين كالخليل بن أحمد، وسيبويه، وابن قتيبة، وأبو العباس المبرّد، وثعلب، وغيرهم.
ثمّ أتى أبو الفتح ابن جنّي(ت:392هـ) فحاول كشف مكنونات هذا العلم والتنقيب عن أصوله، وإبراز معالمه؛ فكتب في "الخصائص" باباً سماه "تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني"، وقال فيه: (هذا غَورٌ من العربية لا يُنتَصف منه، ولا يكاد يحاط به، وأكثر كلام العرب عليه، وإن كان غُفْلًا مسهوًّا عنه) إلى آخر ما قال في هذا الباب.
ثمّ أتى شيخ الإسلام ابن تيمية(ت:728هـ) فتكلم في أمثلة لهذا العلم بكلام بديع في عدد من كتبه، واستعمله في الترجيح بين بعض الأوجه التفسيرية، والتنبيه على علل بعضها.
وقد ذكر تلميذه النجيب ابن القيّم (ت:751هـ) أنّه سأله عن هذا العلم، فشرح له فيه فصلاً عظيم النفع، وقد وقع هذا الشرح من تلميذه موقعاً حسناً؛ فأخذه وحبّره، وزاد في أمثلته، وفرّع عليه، حتى فتح له في هذا العلم أبواب لطيفة بديعة، وتمنّى أنْ يؤلّف فيه كتاباً مستقلاً، وذكر فيه كلاماً مطوّلاً في كتابه "جلاء الأفهام".
وكان مما ذكره أنَّ العرب تجعل الضمة التي هي أقوى الحركات للمعنى الأقوى، والفتحة الخفيفة للمعنى الخفيف، والمتوسطة للمتوسط:
- فيقولون: "عزَّ يَعَزُّ" بفتح العَين إذا صلب، وأرض عزاز: صلبة.
- ويقولون: "عَزَّ يَعِزُّ بكسرها، إذا امتنع، والممتنع فوق الصلب؛ فقد يكون الشيء صلباً ولا يمتنع على كاسره.
- ثم يقولون: عزَّه يَعُزُّه إذا غَلَبَه، قال الله تعالى في قصة داود عليه السلام: {وعزني في الخطاب}.
والغلبة أقوى من الامتناع؛ إذ قد يكون الشيء ممتنعاً في نفسه، متحصناً من عدوّه، ولا يَغْلِب غيرَه؛ فالغالب أقوى من الممتنع؛ فأعطوه أقوى الحركات، والصلب أضعف من الممتنع؛ فأعطوه أضعف الحركات، والممتنع المتوسط بين المرتبتين؛ فأعطوه حركة الوسط).
وهذا نوع من أنواع تناسب الألفاظ والمعاني.
- وقال ابن القيّم: (الألفاظ مشاكلة للمعاني التي هي أرواحها، يتفرَّس الفطنُ فيها حقيقة المعنى بطبعه وحسّه كما يتعرّف الصادقُ الفراسةَ صفاتِ الأرواح في الأجساد من قوالبها بفطنته، وقلت يوما لشيخنا أبي العباس بن تيمية قدس الله روحه: "قال ابن جني: مكثت برهة إذا ورد عليَّ لفظ آخذ معناه من نفس حروفه وصفاتها وجرسه وكيفية تركيبه ثم أكشفه؛ فإذا هو كما ظننته أو قريبا منه.
فقال لي رحمه الله: وهذا كثيراً ما يقع لي"). إلى آخر ما قال.
أنواع مسائل التناسب بين الألفاظ والمعاني
ومسائل تناسب الألفاظ والمعاني ثلاثة أنواع:
النوع الأول: تناسب صفات الحروف وترتيبها للمعنى المدلول عليه باللفظ، حتى كأنّها تحكي المعنى بجَرْسها وطريقة نطقها، وقد قيل: (الألفاظ في الأسماع كالصور في الأبصار).
- قال ابن القيم رحمه الله: (تأمل قولهم: "حجر" و"هواء" كيف وضعوا للمعنى الثقيلِ الشديدِ هذه الحروفَ الشديدةَ، ووضعوا للمعنى الخفيفِ هذه الحروفَ الهوائيةَ التي هي من أخف الحروف)ا.هـ.
ومن أمثلته في القرآن: ما قيل في لفظ "يصطرخون" في قول الله تعالى: {وهم يصطرخون فيها} وأنّ صفات هذه الحروف وترتيبها مشعر بمعناها، وأنّ أهل النار تتعالى أصواتهم فيها صراخاً وتألّماً واضطراباً وطلباً للنجدة، ودلَّ ضمير "هم" على التمكن والاختصاص، والفعل المضارع على التجدد؛ فصوّرت هذه الآية معنى بليغاً واختصرت شرحاً كثيراً للحال المخزية والمؤلمة للكفار في النار.
وكذلك "يصَّعَّد" في قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} كأنّها تحكي حال الصعود وضيق النَفَس به، وما يعالجه الصاعدُ من الكرب والضيق.
والنوع الثاني: تناسب الحركات ومراتبها، ودلالتها على الفروق المتناسبة بين دلائل الألفاظ على المعاني.
- قال ابن القيم رحمه الله: (تأمّل قولهم: "دار دَوَرَانا" و"فارت القِدْرُ فَوَرَانا" و"غَلَتْ غَلَيَانا" كيف تابعوا بين الحركات في هذه المصادر لتتابع حركة المسمى؛ فطابق اللفظ المعنى)ا.هـ.
والنوع الثالث: مناسبة أحرف الزيادة في الجملة لمعنى الكلام.
وهذه الأنواع متآلفة غير متزايلة، فقد تجتمع كلها في جملة واحدة، وإنما الغرض من التقسيم بيان طرق العلماء في الحديث عن كلّ نوع منها.
ومن أحسن من وجدته تكلّم في هذا النوع مصطفى صادق الرافعي (ت:1356هـ) في قوله: (الكلمات التي يظن أنها زائدة في القرآن كما يقول النحاة، فإن فيه من ذلك أحرفًا: كقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} وقوله: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا} فإن النحاة يقولون إن "ما" في الآية الأولى، و"أن" في الثانية زائدتان، أي: في الإعراب؛ فيظن من لا بصر له أنهما كذلك في النظم ويقيس عليه، مع أن في هذه الزيادة لونًا من التصوير لو هو حذف من الكلام لذهب بكثير من حسنه وروعته.
- فإن المراد بالآية الأولى: تصوير لين النبي صلى الله عليه وسلم لقومه، وإن ذلك رحمة من الله، فجاء هذا المد في "ما" وصفًا لفظيا يؤكد معنى اللين ويفخمه، وفوق ذلك فإن لهجة النطق به تشعر بانعطاف وعناية لا يبتدأ هذا المعنى بأحسن منهما في بلاغة السياق، ثم كان الفصل بين الباء الجارة ومجرورها "وهو لفظ رحمة" مما يلفت النفس إلى تدبر المعنى وينبه الفكر على قيمة الرحمة فيه، وذلك كله طبعي في بلاغة الآية كما ترى.
- والمراد بالثانية: تصوير الفصل الذي كان بين قيام البشير بقميص يوسف وبين مجيئه لبعد ما كان بين يوسف وأبيه عليهما السلام، وأن ذلك كأنه كان منتظرًا بقلق واضطراب تؤكدهما وتصف الطرب لمقدمه واستقراره، غنة هذه النون في الكلمة الفاصلة؛ وهي "أن" في قوله: "أن جاء".
وعلى هذا يجري كل ما ظن أنه في القرآن مزيد: فإن اعتبار الزيادة فيه وإقرارها بمعناها، إنما هو نقص يجلّ القرآن عنه، وليس يقول بذلك إلا رجل يعتسف الكلام ويقتضي فيه بغير علمه أو بعلم غيره ... فما في القرآن حرف واحد إلا ومعه رأي يسنح في البلاغة، من جهة نظمه، أو دلالته، أو وجه اختياره، بحيث يستحيل ألبتة أن يكون فيه موضع قلق أو حرف نافر أو جهة غير محكمة أو شيء مما تنفذ في نقده الصنعة الإنسانية من أي أبواب الكلام إن وسعها منه باب)ا.هـ.
فائدة معرفة تناسب الألفاظ والمعاني للمفسّر
ينبغي أن يكون المفسّر على قدر من المعرفة بتناسب الألفاظ والمعاني، ولو أنّ يتأمّل الأمثلة التي ذكرها العلماء، ويُعمِل الذهن في نظائرها؛ فإنّه يستفيد بذلك من حسن البيان عن معاني القرآن، والتأثير على قلوب المتلقّين، ما لا يدركه بالعلوم الأخرى.
ومن الأمثلة التي يتّضح بها المراد - إن شاء الله تعالى - تفسيرُ "ضيزى" في قول الله تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)}
فتأمَّلْ حروفَ "ضيزى" في هذا الموضع تجد هذا اللفظ منادياً على معناه من الغرابة، والتشنيع، والجور، والنقصان، والاعوجاج.
ذلك أنّ "الضَّيز" في اللغة يفسّر بالجور وبالنقص وبالاعوجاج، وهذه الأوصاف القبيحة قد جمعتها هذه القسمة الجائرة الناقصة المعوجّة، وأقوال السلف في تفسيرها قد انتظمت معانيها في اللغة، وقد أفاد تركيب حروف هذه اللفظة، وغرابة استعمالها معنى الغرابة والتشنيع، وتقبيح هذه القسمة، وحكاية حقيقتها.
وأفاد بناؤها الصرفي على مثال "فُعْلى" الدلالةَ على بلوغ منتهى الغاية في الضيز، وهذا فيه تبكيت وتشنيع على المشركين إذْ بلغت قسمتهم ما لا أضأز منه؛ فهي قسمة ضيزى.
ولو أدرت الألفاظ العربية لفظةً لفظةً لم تجد مفردةً أنسب من هذه المفردة في هذا الموضع، مع موافقتها لفواصل الآي.
خاتمة الحديث عن أنواع العناية اللغوية بالألفاظ القرآنية
الناظر في الأنواع العشرة المتقدّم ذكرها يتبيّن له ما بذله علماء هذه الأمّة من جهد كبير في العناية بالقرآن العظيم على مرّ القرون، فأقاموا سَنن البحث العلمي ودراسة المعاني والألفاظ، وهذه السنن ينبغي أن تكون دائمة متنامية في الأمة، وأن تتجدد بتجدد وسائل المعرفة وإمكانات البحث العلمي.
وكثير من الأعمال المبذولة في كلّ علم قد يجد المتأخر فيها مجالاً رحباً لعمل يقوم به يفيد في تقريبها وتيسيرها للمتعلّمين، ويعين على تحقيق كثير من مسائلها.
وما مضى من الشرح والبيان لتلك الأنواع إنما هو على سبيل التلخيص والإيجاز، وإنما ذكرتُ في كلّ نوع أمثلةً يسيرة لتقريب تصوّر تلك العلوم، وبيان طرق بحث مسائلها، وفائدتها للمفسّر.
وليس بعد فتح الباب وتمهيد الطريق إلا السير فيه بجدّ، والأخذ من تلك العلوم بحظوظ وافرة؛ فإنّ المفسّر كلما ازداد نصيبه من العلوم اللغوية وحسنت معرفته ببحث مسائلها ازداد تحقيقه لمسائل التفسير، وحَسُنَت معرفته بطرق التمييز بين الأقوال الصحيحة والخاطئة، وعرف كيف يخرّج أقوال السلف في التفسير على أصول لغوية صحيحة، وكيف يستخرج المعاني الدقيقة والأوجه التفسيرية اللطيفة، وتوسّعت معرفته بطرق الإبانة عنها، والله الموفق والمعين.