الدروس
course cover
الدرس السابع: طرق التفسير
18 Mar 2024
18 Mar 2024

364

1

2

course cover
معالم التفسير

القسم الثاني

الدرس السابع: طرق التفسير
18 Mar 2024
18 Mar 2024

18 Mar 2024

364

1

2


0

0

0

0

2

الدرس السابع: طرق التفسير 

عناصر الدرس: 

تمهيد 

التعريف بطرق التفسير 

الطريق الأول: تفسير القرآن بالقرآن 

الطريق الثاني: تفسير القرآن بالسنة 

الطريق الثالث: التفسير القرآن بأقوال الصحابة  

الطريق الرابع: تفسير القرآن بأقوال التابعين 

الطريق الخامس: تفسير القرآن بلغة العرب.  

الطريق السادس: الاجتهاد في التفسير 

 

تمهيد 

قال الله تعالى: {ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر}، وتيسير الله للقرآن يشمل تيسير ألفاظه للحفظ والتلاوة، وتيسير معانيه للفهم والتدبر، وتيسير هداه للعمل والاتباع.   

ومعاني القرآن على مراتب:  

المرتبة الأولى: ما يدرك بدلالة النصّ من غير اشتباه، ويحصل به العلم الضروري كما في دلالة قول الله تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا} على الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك؛ فهذه دلالة نصية لا يعذر أحد بجهلها.  

وكذلك قول الله تعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} ، وقول الله تعالى: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا} .  

والمرتبة الثانية: ما يُدرك بطريق من طرق الاجتهاد، ومن ذلك الاجتهاد في تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالسنة، وتفسير القرآن بأقوال الصحابة والتابعين، وتفسير القرآن بما يُعرف من لغة العرب.  

ويدخل في ذلك النظر في الدلالات، والجمع بين الأدلة، والترجيح بين الأقوال، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، والمجمل والمبين، والمطلق والمقيّد، وغيرها من العلوم والأدوات. 

والمرتبة الثالثة: ما يخفى على كثير من الناس، ويدركه بعض العلماء بما يسّر الله لهم من حسن الفهم، ودقة الاستنباط. 

والمرتبة الرابعة: ما استأثر الله بعلمه، مثل كيفية صفات الله تعالى، وحقائق المغيبات، وهذا يجب أن نكل علمه إلى الله، وألا نتكلف القول فيه. 

 

التعريف بطرق التفسير 

طرق التفسير هي المسالك التي يسلكها العلماء في تفسير آيات القرآن، وهي على مراتب فأجلّها وأحسنها تفسير القرآن بالقرآن، ثم تفسير القرآن بالسنة، ثم تفسير القرآن بأقوال الصحابة، ثمّ تفسير القرآن بأقوال التابعين ومن تبعهم من الأئمة الربانيين، ثم تفسير القرآن بلغة العرب، ثم تفسير القرآن بالاجتهاد المشروع.  

وهذه الطرق ليست متمايزة ولا متخالفة، بل بينها تداخل واشتراك، ويعين بعضها على بعض، والمقصود من هذا التقسيم توضيح الطريقة للمتعلّم، وإلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد فسّر القرآن بالقرآن، وفسّر القرآن بلغة العرب، وكذلك تفاسير الصحابة والتابعين منها تفسير للقرآن بالقرآن، ومنها تفسير للقرآن بالسنة، ومنها تفسير للقرآن بلغة العرب، ومنها تفسير بالرأي والاجتهاد. 

وقد يجتمع في المسألة الواحدة من مسائل التفسير طرق متعددة من طرق التفسير. 

وهذه الطرق منها ما يُكتفى فيه بالنص لظهور دلالته على المراد، ومنها ما يُحتاج معه إلى اجتهاد، فيقع الاجتهاد في تفسير القرآن بالقرآن، وفي تفسير القرآن بالسنة، وفي تفسير القرآن بأقوال السلف، وفي تفسير القرآن بلغة العرب. 

عبد العزيز بن داخل المطيري

#2

7 Oct 2024

الطريق الأول: تفسير القرآن بالقرآن 

وهو أَجَلُّ طرق التفسير؛ فالله تعالى هو الأعلم بمرادِهِ من كلامه، وهو الذي يوفّق من يشاء من عباده لفهم كلامه، وإدراك مراده، وإذا تبيّن تفسير القرآن بالقرآن فهو أرفع درجات التفسير. 

 

وتفسير القرآن بالقرآن منه متّصل ومنه منفصل: 

- فالتفسير المتصل ما يكون التفسيرُ فيه في موضع الآية المفسَّرة؛ كما في قوله تعالى: {هدى للمتقين . الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون . والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون} فبيّن المراد بالمتقين بذكر أوصافهم وأعمالهم. 

- والتفسير المنفصل ما تكون فيه الآية المفسَّرة في موضع، والآية المفسِّرة في موضع آخر، كما في قول الله تعالى: {وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل}، وهذا في سورة النحل؛ والإشارة إلى قول الله تعالى في سورة الأنعام: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفرٍ ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظمٍ ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون (146)} وهذا يدل على أن سورة الأنعام نزلت قبل سورة النحل. 

 

أنواع تفسير القرآن بالقرآن 

وتفسير القرآن للقرآن على أنواع كثيرة: 

- فمنه تفسير إحدى القراءات لغيرها. 

- ومنه تفسير اللفظ بلفظ أشهر منه وأوضح. 

- ومنه بيان المجمل، وتقييد المطلق، وتخصيص العام. 

- ومنه بسط المختصر، وتنويع الأسلوب، والتفصيل والإجمال.  

والقرآن يصدّق بعضه بعضاً، ويأتلف ولا يختلف، وما أجمل منه في موضع بيّن في موضع آخر، أو أحيل إلى بيانه.  

وقد أحكم الله آياته وفصّلها وبيّنها ليتدبّرها من تبلغه ويتفكّر فيها، ولا يبلغ الناس أن يحيطوا به علماً، لكنه يكفيهم فيما يحتاجون إليه، ويتفاضلون في العلم به، ومن خفي عليه شيء منه؛ فليكله إلى عالمه. 

 

دخول الاجتهاد في تفسير العلماء للقرآن بالقرآن 

وتفسير العلماء للقرآن بالقرآن منه ما مستنده النصّ، ومثاله: قول الله تعالى: {والسماء والطارق . وما أدراك ما الطارق . النجم الثاقب}. 

ومنه ما مستنده الاجتهاد والتأويل، والاجتهاد قد يصيب فيه المجتهد وقد يخطئ؛ فما أخطأ فيه المجتهد فلا يصحّ أن يُنسب إلى التفسير الإلهي للقرآن. 

ومثال ذلك: تفسير قول الله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} بقوله تعالى: {والله يعصمك من الناس}، وهذا الاستدلال ذكره الزمخشري والبغوي والقرطبي وغيرهم، وعمدته أن الضمير في قوله تعالى: {وإنا له} راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.  

وهذا الاستدلال فيه نظر، لأن سورة الحجر مكية، وسورة المائدة مدنية؛ وهذا القول خلاف الأصل، وهو أن يرجع الضمير إلى أقرب مذكور ما لم يصرفه صارف؛ ولا صارف هنا. 

 

والتفسير الاجتهادي للقرآن بالقرآن على مراتب؛ فمنه ما هو ظاهر الصحة، ومنه ما هو مقبول سائغ، ومنه ما فيه بعض الصواب، ومنه ما يُتوقّف فيه ولا يجزم به، ومنه ما هو خطأ.  

 

 عناية العلماء بتفسير القرآن بالقرآن 

   والعلماء يتفاضلون في اجتهادهم في تفسير القرآن بالقرآن كثرة وإصابة، ومن أشهر المتقدمين عناية بهذا الطريق: ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.  

ولابن جرير وابن كثير عناية حسنة بهذا الطريق.  

وقد أفردت فيه مؤلفات منها:  

1. مفاتيح الرضوان في تفسير الذكر بالآثار والقرآن؛ لمحمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني (ت:1182هـ). 

2. وتفسير نظام القرآن وتأويل الفرقان بالفرقان، لعبد الحميد الفراهي الهندي (ت:1349هـ). 

3. وتفسير القرآن بكلام الرحمن، لأبي الوفاء ثناء الله الآمرتسري (ت:1367هـ). 

4. وأضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، لمحمد الأمين الجكني الشنقيطي (ت:1393هـ)، وهو أحسن هذه الكتب وأعظمها نفعاً، وقد ذكر في مقدمة كتابه أنواعاً كثيرة لبيان القرآن للقرآن ومثل لكل نوع بمثال. 

 

ولصحّة قول المفسّر في تفسير القرآن بالقرآن شرطان:  

الشرط الأول: صحّة المستدلّ عليه. 

والشرط الثاني: صحّة وجه الدلالة.  

ولذلك يجب ألا يخالف التفسير أصلاً صحيحاً من القرآن والسنة وإجماع السلف الصالح؛ فكلّ تفسير اقتضى معنى باطلاً دلّت الأدلّة الصحيحة على بطلانه فهو تفسير باطل يدلّ على خطأ المفسِّر أو وَهْمِه أو تمحُّله.  

ومما ينبغي التفطّن له أن تفسير القرآن بالقرآن قد توسّع فيه بعض المفسّرين المتأخرين حتى صار في بعض ما ذكروه تكلّف ظاهر.  

واستعمل بعض أهل الأهواء هذا النوع لمحاولة الاستدلال به على بدعهم؛ ومن ذلك كثرة استدلال نفاة الصفات على تأويل ما ثبت من الصفات الواردة في القرآن بقول الله تعالى: {ليس كمثله شيء}، وهو استدلال خاطئ.  

 

الطريق الثاني: تفسير القرآن بالسنة 

السنة وحي من الله جلّ وعلا؛ لقول الله تعالى عن نبيّه صلى الله عليه وسلم: {وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى}. 

وقد روى الإمام أحمد وأبو داوود من حديث حريز بن عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي عوف، عن المقدام بن معدي كرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السبع..». الحديث. 

- وقال حسان بن عطية المحاربي: «كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن» رواه الدارمي وابن بطة. 

والسنة مبيّنة للقرآن، وشارحة له، وهي على ثلاثة أنواع: قول النبي صلى الله عليه وسلم، وفعله، وإقراره. 

وكلّ ما أفهمَ بيانَ مرادِ اللهِ عزّ وجلّ في كتابه من ذلك بنصّ صريح فهو تفسير نبويٌّ للقرآن. 

فمثال التفسير القولي: قول النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قول الله تعالى: {إن قرآن الفجر كان مشهودا} قال: «تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار» رواه الترمذي 
من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأصله في الصحيحين. 

ومثال التفسير العملي: تفسير النبي صلى الله عليه وسلم لمعنى إقامة الصلاة المأمور بها في قول الله تعالى: {وأقيموا الصلاة} وقوله: {أقم الصلاة} بأدائه للصلاة أداءً بيّن فيه أركانها وواجباتها وشروطها وآدابها، وقال لأصحابه: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» رواه البخاري من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.  

ومثال التفسير بالإقرار: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعمر لما نزل قول الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)} في شأن رجلٍ أذنب ذنباً. 

فقال الرجل: يا رسول الله! أهي في خاصة أو في الناس عامة؟ 

فقال عمر: (لا، ولا نعمة عين لك، بل هي للناس عامة). 

فضحك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «صدق عمر» والحديث في مسند الإمام أحمد من طريق يوسف بن مهران عن ابن عباس عن عمر. 

 

وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن واجب القبول بالشروط المعتبرة لقبول الحديث وهي صحة الإسناد، وسلامة الحديث من الشذوذ والعلة القادحة؛ فإذا صحّ التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجز لأحد مخالفته. 

والسنة لا تعارض القرآن أبداً، ومَن توهّم التعارض فهو لخطئه في فهم الآية، أو فهم الحديث، أو أنّ الحديث غير صحيح أو أنّ أحد النصين منسوخ. 

 

والنبي صلى الله عليه وسلم قد يجتهد في التفسير، بل هو إمام المجتهدين، واجتهاده في التفسير كاجتهاده في غيره من مسائل الدين، فيجتهد في فهم النص، وفيما لا نصّ فيه، لكنه معصوم من أن يُقَرَّ على خطأ. 

فإن أصاب في اجتهاده أقرّه الله، كما أقرّه الله على اجتهاده إذ شرب اللبن لمّا خيره جبريل بين اللبن والخمر، واجتهاده في قتال الكفار يوم أحد خارج المدينة، واجتهاده في ترك هدم البيت وإعادة بنائه على قواعد إبراهيم. 

وما أخطأ فيه فإنّ الله تعالى يبيّن له ولا يقرّه على خطئه، ومن ذلك اجتهاده في أخذ الغنائم يوم بدر قبل الإثخان في قتل الكفار، واجتهاده في التصدي لأكابر الكفار وإعراضه عن الأعمى، واجتهاده في إذنه لبعض المنافقين في التخلف عن غزوة العسرة، واجتهاده في الاستغفار لبعض المنافقين.  

وللتفسير النبوي خصائص منها:  

- أنه معصوم من الخطأ ابتداء أو إقراراً. 

- وأنه قد يكون فيه تخصيص لدلالة اللفظ أو توسيع لها. 

- أنه قد يكون معه إخبار عن مغيّبات لا تُعلم إلا بالوحي. 

- وقد يقع في التفسير النبوي تنبيه على بعض أفراد العام، وإلحاق النظير بنظيره، أو التنبيه لما هو أولى منه بالحكم؛ كتفسير الغاسق بالقمر، وتفسير المسجد الذي أسس على التقوى بمسجده صلى الله عليه وسلم.  

 

وتفسير العلماء للقرآن بالسنة منه تفسير نصّي، ومنه تفسير اجتهادي، يجتهد فيه المفسّر في انتزاع الدلالة من الحديث على التفسير. 

والاجتهاد على مراتب؛ فمنه اجتهاد ظاهر الصحة لقوّة دلالته على التفسير، ومنه اجتهاد فيه صواب وخطأ، ومنه اجتهاد خاطئ لعلّة من العلل التي يظهر بها لأهل العلم أن المجتهد قد أخطأ في اجتهاده، ومتى تبيّن خطأ القول وجب ردّه، ومن الاجتهاد ما هو محلّ نظر وتأمّل. 

والأخذ بالسنة مع القرآن فرض واجب، ولا يجوز ترك الاحتجاج بالسنة متى عُلم بها، وعلى طالب علم التفسير أن يطلب البيان النبوي من مظانّه ما أمكنه ذلك.  

وترتيب طرق التفسير ترتيب ذِكريٌّ لا ترتيب احتجاجي؛ فإنَّ السنة حجّة في جميع الأحوال، وإذا اجتمع في المسألة دليل من القرآن ودليل من السنة قدّم دليل القرآن، وجعل دليل السنة كالبيان له. 

ولا يجوز ترك التفسير النبوي لوجود تفسير قرآني، ولا المعارضة بينهما.  

 

والأحاديث النبوية التي يوردها المفسّرون في تفاسيرهم على نوعين:  

النوع الأول: أحاديث تفسيرية، فيها نصّ على معنى الآية أو معنى متّصل بالآية، ومن أمثلة هذا النوع حديث أبي هريرة وحديث أبي موسى الأشعري في تفسير قول الله تعالى: {يوم يُكشف عن ساق}، وفيهما النص على أنّ المراد بالساق ساق الله تعالى 

وقد قال بهذا القول محمد بن نصر المروزي وابن جزي في التسهيل، وابن القيم. 

وقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة: المعنى "يكشف عن كرب وشدة"، وهو قول تحتمله اللغة لولا ما صح من التفسير النبوي.  

والنوع الثاني: أحاديث ليس فيها نصّ على معنى الآية لكن يمكن أن تفسّر الآية بها بنوع من أنواع الاجتهاد، وهذا الاجتهاد قد يكون ظاهر الصحّة والدلالة على المراد، وقد يكون فيه بعد، وقد يكون محلّ نظر واحتمال. 

ومن أمثلة هذا النوع ما في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن طاووس بن كيسان، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله ويكذبه». 

فهذا الحديث ليس فيه نصّ على لفظ اللمم، لكن فهم منه ابن عباس معنى اللمم. 

والعلماء يتفاضلون في استنباط المعاني المتصلة بالآيات من الأحاديث تفاضلاً كبيراً، والمتأمّل في الأحاديث التي ينتزع منها العلماء معاني تتصل بتفسير الآيات يجد أنه من المتعذر الإحاطة بجمع الأحاديث التي لها صلة بالتفسير. 

 

عبد العزيز بن داخل المطيري

#3

7 Oct 2024

الطريق الثالث: تفسير القرآن بأقوال الصحابة رضي الله عنهم 

الصحابة رضي الله عنهم أعلم الأمة بالقرآن بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد علَّمهم النبي صلى الله عليه وسلم وأدّبهم وزكّاهم، وشهدوا من وقائع التنزيل وعرفوا من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته وجهاده وشؤونه العامة والخاصة ما تقدّموا به على غيرهم في العلم بالقرآن. 

ومن الأوجه الجليلة في تفضيلهم وتقديم تفسيرهم رِضَا الله تعالى عنهم، وتزكيته لهم وطهارة قلوبهم وزكاة نفوسهم، وما فضلوا به غيرهم من الفهم الحسن والعلم الصحيح والعمل الصالح، وكل ذلك كان له أثره البيّن في توفيقهم لحسن فهم معاني القرآن الكريم. 

ومن أوجه تقديم الصحابة رضي الله عنهم في التفسير علمهم بالقراءات وبالأحرف السبعة وبما نسخت تلاوته، وعلمهم بمواضع النزول، وأسبابه وأحواله، وفصاحة لسانهم العربي، ونزول القرآن بلغتهم، وسلامتهم من الأهواء والفتن والفرق التي حدثت بعد زمانهم، وما قذفت به كلّ فرقة من الشبهات والتضليلات. 

فلذلك كانوا أقرب الأمّة إلى فهم مراد الله تعالى بكتابه، وفهم مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة بيانه للقرآن، وهم أئمة هذا العلم، ومنار طريقه. 

 

تفاضل الصحابة في العلم بالتفسير: 

والصحابة – رضي الله عنهم - يتفاضلون في العلم بالتفسير؛ فلعلماء الصحابة وقرّائهم وكبرائهم مزيد عناية بالعلم بالقرآن كالخلفاء الأربعة ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وابن مسعود وأبي الدرداء وسلمان الفارسي وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت وعائشة وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وابن عباس وأبي موسى الأشعري، وجابر بن عبد الله، وابن عمر، وأبي سعيد الخدري، وأنس بن مالك. 

- قال مسروق بن الأجدع: « لقد جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتهم كالإخاذ، فالإخاذ يروي الرجل، والإخاذ يروي الرجلين، والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ يروي المئة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم، فوجدت عبد الله بن مسعود من ذلك الإخاذ » رواه ابن سعد في الطبقات، والبيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى، وابن عساكر في تاريخه. 

- قال أبو عبيدة: « الإخاذ بغير هاء، وهو مجتمع الماء، شبيه بالغدير ». 

 

تعظيم الصحابة رضي الله عنهم لشأن التفسير: 

وكان الصحابة رضي الله عنهم على قدر كبير من التورع عن القول في القرآن بغير علم، وقد أدّبهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أدباً حسناً، فلزموا تأديبه وهديه. 

كما في مسند الإمام أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أَنّ نَفَراً كانوا جلوساً بباب النبي صلي الله عليه وسلم؛ فقال، بعضهم ألم يَقُلِ اللهُ كذا وكذا؟ وقال بعضهم: ألم يَقُل الله كذا وكذا؟ 

فسمع ذلك رسول الله صلي الله عليه وسلم؛ فخرج كأنما فُقِيءَ في وجهه حَبُّ الرُّمَّان، فقال: « بهذا أُمرْتُم؟! أَو بهذا بُعثتُمْ؟! أَنْ تَضْربوا كتابَ الله بعضَه ببعضٍ! إنما ضلَّت الأُمم قبلَكم في مثلَ هذا، إنكم لستم ممّا ها هنا في شيء، انظروا الذي أُمِرتم به فاعملوا به، والذي نُهيتُمْ عنه فانْتَهوا ». 

وهذا التعليم والتأديب من النبي صلى الله عليه وسلم أخذه الصحابة رضي الله عنهم أحسن الأخذ؛ وانتهجوه أحسن الانتهاج، وظهرت آثاره على هديهم ووصاياهم. 

- قال عبد الله بن أبي مليكة: سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن آية من كتاب الله عز وجل، قال: « أيَّة أرض تقلني، أو أيَّة سماء تظلني، أو أين أذهب، وكيف أصنع إذا أنا قلت في آية من كتاب الله بغير ما أراد الله بها؟». رواه سعيد بن منصور. 

وهذه المقولة مروية عن أبي بكر من طرق يشد بعضها بعضاً. 

وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه شديداً في التأديب على القول في التفسير بغير علم، وعلى السؤال عنه سؤال تنطّع وتكلّف، وقصّته مع صبيغ بن عسل التميمي معروفة مشتهرة. 

وكانت شدة عمر حمايةً لجناب القرآن، وصيانةً له من زلل العلماء وعبث المتعالمين والمتكلفين في قراءته وتأويله، وردعاً لأهل الأهواء الذين يتبعون متشابهه، ويضربون بعضه ببعض؛ ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. 

- قال ابن عباس: خطبنا عمر بن الخطاب فقال: « إنَّ أخوف ما أخاف عليكم تغيّر الزمان، وزيغة عالم، وجدال منافق بالقرآن، وأئمة مضلون يضلون الناس بغير علم ». رواه أبو الجهم الباهلي في جزئه، ومن طريقه أبو القاسم البغوي كما في مسند الفاروق لابن كثير. 

- وقال عبد الله بن مسعود لمّا بلغه قول رجل في مسألة في التفسير: « من علم علماً فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من فقه الرجل، أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم». والخبر في صحيح مسلم. 

- وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لأصحابه: « لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، فإنَّ ذلك يوقع الشك في قلوبكم ». رواه أبو عبيد القاسم بن سلام.  

 

طرق التفسير عند الصحابة 

كان الصحابة رضي الله عنهم يفسّرون بالقرآن بالقرآن، ويفسرون القرآن بالسنة، ويفسّرون القرآن بما يعرفون من وقائع التنزيل، ويفسّرون القرآن بلغة العرب، وكانوا يجتهدون رأيهم في فهمِ النص، وفيما لا نصَّ فيه على التفسير. 

واجتهاد الصحابة أسلم وأقرب إلى الصواب من اجتهاد من بعدهم. 

وكان يقع منهم اتفاق كثير في مسائل التفسير، ويقع بينهم من الخلاف في الاجتهاد في التفسير كما يقع مثله في الأحكام، وهو قليل جداً في جنب ما لم يؤثر عنهم فيه اختلاف. 

وما روي عنهم من مسائل الخلاف فأكثره مما لا يصح إسناده، وما صحّ إسناده إليهم فهو على نوعين: 

النوع الأول: ما يصحّ فيه الجمع بين الأقوال دون الحاجة إلى الترجيح، وأكثره مما يكون من باب التفسير بالمثال أو ببعض المعنى. 

ومن أمثلته: اختلافهم في المراد بالقسورة: 

فقال ابن عباس: هم الرماة. 

وقال أبو هريرة: الأسد. 

والقسورة لفظ مشترك يطلق على الرماة وعلى الأسد، وكلٌّ قد قال ببعض المعنى.  

والنوع الآخر: ما يُحتاج فيه إلى الترجيح، وعامّة مسائل هذا النوع مما يكون للخلاف فيه سبب يُعذر به صاحب القول المرجوح، وأكثره في مسائل الأحكام؛ كاختلافهم في المراد بالقرء، وبالذي بيده عقدة النكاح، وعدة المختلعة.  

 

والاختلاف بين الصحابة رضي الله عنهم في التفسير له أسباب: 

منها: أن يقول كلُّ واحد بما بلغه من العلم، ويكون تمام المعنى بمجموع ما بلغهم. 

ومنها: أن يقصد بعضهم إلى إلحاق معنى تشمله دلالة الآية وقد يُغفل عنه؛ فيفسّر الآية به تنبيهاً وإرشاداً، ويفسّر غيره الآية على ظاهرها. 

ومنها: أن يُدرك بعضهم مقصد الآية فيفسّر الآية بها، ويفسّر بعضهم الآية على ظاهر لفظها. 

ومنها: أن يكون أحدهم متمسّكاً بنصٍّ منسوخ لم يعلم ناسخَه، ويكون هذا في الأحكام. 
ومنها: أن يكون مُستنَد أحدهم النص، ومستند الآخر الاجتهاد. 

ومنها: أن يفسّر بعضهم على اللفظ، ويفسّر بعضهم على سبب النزول لعلمه بحاله.  

 

ومن النادر وقوع اختلاف بسبب تأويل خاطئ؛ وما وقع من ذلك فلا يخلو قائله من الإنكار عليه وبيان خطئه؛ كما أنكر عمر على من تأول جواز شرب الخمر من قول الله تعالى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وعملوا الصالحات} وجلده ثمانين جلدة.  

 

مراتب حجّيّة أقوال الصحابة رضي الله عنهم في التفسير 

أقوال الصحابة رضي الله عنهم في التفسير على مراتب: 

المرتبة الأولى: ما له حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه قول الصحابي في سبب النزول روايةً وليس تأوّلاً، ومراسيل الصحابة، وما لا يقال بالرأي والاجتهاد بشرط أن يعلم أنه الصحابي لم يأخذه عمن يروي عن بني إسرائيل.  

والمرتبة الثانية: أقوالٌ صحّت عنهم في التفسير، اتّفقوا عليها ولم يختلفوا فيها، فهذه حجّة أيضاً لحجيّة الإجماع، وأرفعه إجماع الصحابة رضي الله عنهم. 

والمرتبة الثالثة: ما اختلف فيه الصحابة رضي الله عنهم، وهذا الاختلاف على نوعين: 

أحدهما: اختلاف تنوّع، وهو ما يمكن جمع الأقوال الصحيحة فيه من غير تعارض؛ فهذه الأقوال بمجموعها حجّة على ما يعارضها. 

والآخر: اختلاف تضادّ لا بدّ فيه من الترجيح؛ فهذا مما يجتهد العلماء المفسّرون فيه لاستخراج القول الراجح بدليله. 

وهذا النوع لا بدّ أن يكون أحد القولين فيه مأخذه الاجتهاد؛ لأنه لا يقع تعارض بين نصين، وإذا تعارض النص والاجتهاد قُدّم النص. 

 

الطريق الرابع: تفسير القرآن بأقوال التابعين 

الأخذ عن التابعين واتّباعهم له أصل في القرآن؛ فإنّ الله تعالى قد أثنى على أصحاب نبيّه صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار وبيّن ما أعدّ لهم من الثواب العظيم الذي يدلّ دلالة بيّنة على هدايتهم ورضا الله عزّ وجلّ عنهم، ثم اشترط على التابعين شرطاً من أتى به كان مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن يتّبعهم بإحسان كما بيّنه قول الله تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم}. 

ومن إحسان الاتباع أن يصدّق التابعون بما صدّق به الصحابة، وأن يقبلوا ما قبلوه، وأن يردّوا ما يردّوه، وأن يسيروا على منهاجهم، ويأخذوا دينهم بالاتباع لا بالابتداع.  

وقد جعل الله تعالى موافقة الصحابة رضي الله عنهم فيما آمنوا به علامة بيّنة على الهداية كما دلّ على ذلك قول الله تعالى: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا}، وقد كانوا هم المخاطبين وقت نزول الآية.  

وقد ورد الوعيد الشديد على مخالفة سبيلهم في قول الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)}. 

وكان الصحابة يحذّرون من الذين يخالفون سبيلهم، ويبيّنون ما بيّنه الله في كتابه وما بيّنه النبي صلى الله عليه وسلم من وجوب اتّباعهم بإحسان. 

روى ابن أبي حاتم في تفسيره من طريق إسحاق بن سليمان، قال: حدّثنا أبو سنانٍ [الشّيبانيّ] عن ابن عبّاسٍ أنه أتاه رجلٌ فذكر بعضَ أصحابِ محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم ورضي عنهم، كأنه يتنقَّص بعضهم؛ فقال ابن عبّاسٍ: « {والسّابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والّذين اتّبعوهم بإحسانٍ} أمّا أنت فلم تتّبعهم بإحسانٍ ». 

ولذلك اشتدّ حذر الأئمة من أن يقولوا قولاً يخالفون به سلفهم من الصحابة والتابعين، كما قال الإمام أحمد: « إيَّاك أن تتكلَّم في مسألة ليس لك فيها إمام ». رواه ابن الجوزي في مناقبه.  

وأولى التابعين بالإمامة في الدين والعلم بالتفسير مَن شهد لهم الصحابة رضي الله عنهم بالعلم والفقه، وأثنوا عليهم، وائتمنوهم على تعليم الناس وإفتائهم، وأمروا بالأخذ عنهم، ثم من استفاض ثناء الأئمة عليهم بما يدلّ على صدقهم وعلمهم وفضلهم. 

 

فضل التابعين 

ورد في فضل التابعين أحاديث عدة: 

- منها: حديث إبراهيم النخعي، عن عبيدة السلماني، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» متفق عليه، وروي نحوه من حديث عمران بن الحصين، وحديث النعمان بن بشير، وغيرهما. 

- ومنها: حديث عبد الله بن العلاء قال: حدثنا عبد الله بن عامر، عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني وصَاحَبني، والله لا تزالون بخير ما دام فيكم من رأى من رآني وصَاحَب مَن صَاحَبَني» رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، وابن أبي عاصم في السنة، وابن السمّاك، وقد صححه الألباني في السلسلة الصحيحة. 

وسمّوا بالتّابعين لقول الله تعالى: {والذين اتّبعوهم بإحسان}..، وهذا الاسم الشريف يدلّ على أنّهم إنما نالوا أفضليتهم بإحسانهم اتّباع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.  

فمن شُهد له بإحسان الاتباع فهو إمام من أئمة الدين يؤتمّ به ويؤتسَى به، ويعتبر تفسيره للقرآن، ويُحتجّ بروايته بالشروط المعتبرة عند أهل الحديث. 

 

أعلام المفسّرين من التابعين: 

وقد عُرف بالإمامة في التفسير جماعة من التابعين منهم: الربيع بن خثيم الثوري(ت:61هـ)، ومسروق بن الأجدع الهمْداني(ت:62هـ)، وعلقمة بن قيس النخعي(ت:62هـ)، وعَبيدة بن عمرو بن قيس السلماني المرادي (ت: 72هـ)، والأسود بن يزيد النخعي(ت:75هـ)، وزِرُّ بنُ حُبَيشِ بنِ حُباشةَ الأسديّ (ت: 82هـ)، وأبو وائل شقيق بن سلمة الأسدي (ت: 83هـ تقريباً)، وأبو العالية رُفيع بن مهران الرياحي (ت: 93هـ)، وسعيد بن المسيب المخزومي (ت:94هـ) وسعيد بن جبير الأسدي (ت:95هـ)، وإبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي (ت:95هـ)، ومجاهد بن جبر المكي: (ت:102هـ)، والضحاك بن مزاحم الهلالي(ت:102هـ)، وأبو عمرو عامر بن شراحيل الشعبي (ت:104هـ)، وعكرمة البربري مولى ابن عباس (ت:104هـ)، وطاووس بن كيسان(ت:106هـ)، ومحمد بن كعب القرظي(ت:108هـ)، والحسن بن أبي الحسن البصري(ت:110هـ)، ومحمد بن سيرين (ت:110هـ)، ، وعطاء بن أبي رباح المكي(ت:114هـ)، وقتادة بن دعامة السدوسي(ت:117هـ)، وزيد بن أسلم العدوي(ت:136هـ)، وغيرهم كثير ممن تنقل أقوالهم في التفسير، ويستعان بها على فهم معاني القرآن.  

 

تعظيم التابعين لشأن التفسير 

كان التابعون على قدر عظيم من تعظيم القول في التفسير؛ وأخبارهم ووصاياهم في ذلك مشهورة مأثورة. 

- قال عامر بن شراحيل الشعبي: « أدركت أصحاب عبد الله، وأصحاب علي وليسوا هم لشيءٍ من العلم أكرَه منهم لتفسير القرآن ». رواه ابن أبي شيبة. 

- وقال عبيد الله بن عمر العمري: « لقد أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليعظمون القول في التفسير، منهم: سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع». رواه ابن جرير. 

- وقال مسروق بن الأجدع: « اتقوا التفسير، فإنما هو الرواية عن الله ». رواه أبو عبيد. 
- وقال يزيد بن أبي يزيد: « كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام، وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع ». رواه ابن جرير. 

- قال ابن كثير: (فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به؛ فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعاً، فلا حرج عليه؛ ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير). 

 

طرق التفسير عند مفسّري التابعين 

اتّبع التابعون منهج الصحابة رضي الله عنهم في تفسيرهم للقرآن، ففسّروا القرآن بالقرآن، وفسّروا القرآن بالسنة، وفسّروه بأقوال الصحابة وما بلغهم عنهم من وقائع التنزيل، وفسّروه بلغة العرب، واجتهدوا رأيهم فيما لم يبلغهم فيه نص، وفي فهمهم للنص.  
ويقع منهم اتّفاق كثير في التفسير، ويقع بينهم اختلاف أكثره من قبيل اختلاف التنوّع. 

وقد يقع منهم خطأ في الاجتهاد فيردّ، كما روى ابن جرير من طريق أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين عن عَبيدة السلماني في الرجل يدركه رمضان ثم يسافر؛ قال: « إذا شهدت أوله فصم آخره، ألا تراه يقول: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}؟». 

فقول عبيدة هذا اجتهاد اجتهده في فهم النصّ، فخرج بهذا القول الذي قال به وهو أن من شهد أوّل الشهر وهو مقيم فلا يحلّ له أن يفطر إذا سافر في ذلك الشهر، وهذا قول مهجور، وصريح عمل النبي صلى الله عليه وسلم لما سافر في فتح مكة على خلافه، وكذلك أقوال الصحابة رضي الله عنهم في هذه المسألة على خلافه.  

وهجران القول من دلائل ضعفه، وخطأ المجتهد في اجتهاده. 

 

أصناف أهل التفسير من التابعين  

مما يحسن التذكير به أن الصحابة رضي الله عنهم تفرقوا في الأمصار فكان في كلّ مصرٍ منهم علماء يفقّهون الناس في الدين ويعلّمونهم القرآن والسنن، وبقي في المدينة منهم ثلّة مباركة أهل علم وفقه؛ فكان لبعض أولئك الأئمة أصحاب من التابعين عنوا بالتفسير؛ فتعلموه وتفقهوا فيه، وكانوا على صنفين:  

الصنف الأول: أهل حفظ وفقه؛ تعلموا من التفسير ما تأهّلوا به للتعليم؛ فكانوا يعلّمون مما تعلّموا، ويروون مما حفظوا، ويجتهدون في تفسير القرآن بما عرفوا من طرق تفسيره، وهؤلاء هم الذين تُنقل أقوالهم في التفسير، ومنهم: أبو العالية الرياحي، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، والحسن البصري، وقتادة، وزيد بن أسلم، وغيرهم كثير. 

والصنف الثاني: نَقَلةٌ للتفسير؛ عماد عنايتهم بالتفسير على رواية أحاديث التفسير، ونقل تفاسير الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، ولا يكاد يُظفر لهم بأقوال في التفسير إلا قليلاً، لكنهم حفظوا للأمّة علماً كثيراً بضبطهم أقوال المفسرين الذين تقدّموهم.  

وهم على ثلاث طبقات: 

الطبقة الأولى: نقلة ثقات، ومنهم: قيس بن أبي حازم، وأبو الضحى مسلم بن صبيح، وأبو رجاء العطاردي، وأبو نضرة العبدي، وأبو بشر اليشكري، وأبو روق عطية بن الحارث الهمداني، وغيرهم. 

والطبقة الثانية: نقلة متكلّم فيهم من جهة ضعف الضبط أو لاختلاف النقاد في أحوالهم، وهم على درجات متفاوتة، فمنهم تقبل روايته بشروط، ومنهم تُعتبر روايته ولا يحتجّ بها، ومن أهل هذه الطبقة: شهر بن حوشب، وعطية العوفي، وعطاء بن السائب، وسماك بن حرب الذهلي، وعلي بن زيد بن جدعان. 

والطبقة الثالثة: رواة ضعفاء متروكو الحديث لكثرة خطئهم كيزيد بن أبان الرقاشي، وأبان بن أبي عياش، أو لاتهامهم بالكذب كأبي هارون العبدي، وعبد الله بن يزيد الدالاني 

ووجد في زمان التابعين مبتدعة غلاة  كالجعد بن درهم، وعمرو بن عبيد، ومعبد الجهني، وغيلان القدري، وجابر الجعفي. 

 

مراتب أقوال التابعين في التفسير 

أقوال التابعين في التفسير على مراتب فمنها ما يعدّ حجّة قاطعة للنزاع، ومنها ما هو مرجّح قويّ، ومنها ما هو محلّ اعتبار ونظر. 

فأمّا حجيّة تفسير التابعين فهي في حال اتّفاقهم وعدم اختلافهم في التفسير. 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إذا اجتمعوا على شيء فلا يرتاب في كونه حجة).  
والإجماع يُعرف بشهرة الأقوال وعدم المخالف. 

وأمّا المرجّح القويّ فهو إذا تعددت الروايات عن جماعة منهم على قول واحد، أو عُلم بقرائن الأحوال أن التابعيّ أخذ هذا التفسير عن أحد الصحابة وليس اجتهاداً منه ولا مما أخذ من أخبار بني إسرائيل فإنّه من المرجحات التي يستفاد بها ترجيح هذا القول على غيره ما لم تكن له علّة أخرى. 

وأما ما يكون محلّ اعتبار ونظر فهو القول الذي يصحّ عن التابعي ودلالته محتملة، ولا نقف على ما يوجب ردّه. 

ومن أقوال التابعين ما يُتوقّف فيها وتجعل عهدتها على قائلها لخفاء الدليل الذي استند عليه، أو يكون مما لا يقال بالرأي ولم يأخذه من الإسرائيليات وليس فيه نكارة؛ فهذا القول تجعل عهدته على قائله، ولا نقابله بالإنكار من غير دليل. 

وأما الأقوال التي فيها نكارة بمخالفتها لنصّ أو إجماع فتردّ.  

وإذا اختلف التابعون على أقوالٍ لا يمكن الجمع بينها فلا يعدّ قول كل واحد منهما حجة على الآخر، وإنما يطلب الترجيح بين أقوالهم بطرق الترجيح المعروفة عند أهل العلم. 

عبد العزيز بن داخل المطيري

#4

7 Oct 2024

الطريق الخامس: تفسير القرآن بلغة العرب 

نزل القرآن بلسان عربيّ مبين على أحسن ما تعرفه العرب من فنون الخطاب ودلائله، قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)}. 

وكونه بلسان عربيّ مبين يقتضي تحقق وصف الإبانة في ألفاظه ومعانيه وهداياته. 

وقال تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} 

فهو كتاب فصّله الله تعالى بعلمه فجعله تبياناً وتفصيلاً لكل شيء بلسان عربي مبين، والتفصيل والتبيين من دلائل الإفهام بما يُعرف به المعنى، ويدرك به المقصد. 

- قال ابن جرير رحمه الله: (يقول: فصلت آيات هذا الكتاب قرآنا عربياً لقوم يعلمون اللسان العربي)ا.هـ. 

فمن كان حسن المعرفة بلسان العرب تبيّن له من دلالات ألفاظ القرآن معانٍ جليلة لا تخفى عليه، وعرف أنّ القرآن في غايةِ حسنِ البيان التي لا يطيقها البشر، وأنه لا مطعن فيه بوجه من الوجوه. 

وكانت العرب قد بلغت في العناية بلُغَتها وبلاغتها مبلغاً لم يُسمعْ بمثله في أمةٍ من الأمم، حتى تنافسوا في الفصاحة، وتفاخروا بالقصائد المحْكَمَةِ، والخُطَب البليغة، والأمثال السائرة، وحسن البيان عن المراد بأفصح العبارات وأبلغها، وتنافسوا في الاحتجاج عند المخاصمة والمفاخرة بأقوى حُجَّة وألطَفِ منزع، حتى توصّلوا ببراعتهم في البيان إلى أمور لا تبلغها كثير من الحِيَل. 

فلما سمعوا القرآن عرفوا من بيانه وفصاحته ما لا قدرة لهم على الإتيان بمثله، واعترف فصحاؤهم وكبراؤهم بحسن بيان القرآن، وأنه لا يطيقه بشر.  

- قال حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال: «جاء الوليد بن المغيرة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له: اقرأ علي؛ فقرأ عليه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)}. 

قال: أعد، فأعاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق وما يقول هذا بشر». رواه البيهقي في دلائل النبوة، وله شواهد. 

وكانت العرب تعرف من خطاب القرآن ما يكفي لبيان الهدى، وإفهام المعنى، وقيام الحجة؛ فكان يكفيهم بما يعرفون من العربية أن يُتلى عليهم القرآن تلاوة بيّنة؛ فتقوم عليهم الحجّة بذلك في كثير من أبواب الدين؛ كما قال الله تعالى: {يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته}، وقال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82)} 

وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أمره به ربّه جلّ وعلا؛ فبلّغ البلاغ المبين؛ فآمن به مَنْ آمن عن معرفةٍ بالحقّ الذي أنزله الله عليه، ولم يُعْرِضْ منهم مَن أعرض بسبب التباسٍ في بيانه أو نقصٍ في حجّته، بل لله الحجة البالغة والبيان التام، وإنما أعرضوا لكفرهم وعنادهم واستكبارهم من بعد ما تبيّن لهم الهدى. 

 

عناية العلماء بالتفسير اللغوي 

وقد عني المفسّرون بتفسير القرآن بلغة العرب، وحفظوا من الشواهد اللغوية من كلام العرب نثره ونظمه ما بيّنوا به بعض معانيه.  

- قال أسامة بن زيد الليثي، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: « إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر، فإنه ديوان العرب». رواه الحاكم والبيهقي. 

والصحابة رضي الله عنهم كانوا عرباً فصحاء وتفسيرهم القرآن بلغة العرب حجّة لغوية إذا صحّ الإسناد إليهم وأُمن لحن الرواة، وكذلك كبار التابعين وأوساطهم ممن لم يُعرف منهم اللحن. 

وكان الصحابة مع علمهم بالعربية وسلامة لسانهم من العجمة واللحن لهم عناية بالتفقّه في العربية وسؤال الفصحاء المعربين، وحفظ الحجج اللغوية والشواهد من الأشعار والخطب وغيرها. 

- قال عاصم بن أبي النجود: « كان زرّ بن حبيش أعرب الناس، وكان عبد الله [بن مسعود] يسأله عن العربية ». رواه ابن سعد. 

    ومعرفة العلماء المتقدّمين من الصحابة والتابعين بفنون العربية تتفاضل، فبعضهم أوسع معرفة بها من بعض، وأكثر تمكناً من شواهدها وأدوات الاجتهاد فيها، وإن كانوا كلّهم من أهل طبقة الاحتجاج قبل سريان اللحن إلى كلام الناس وفشوّه فيهم بعد مخالطة العجم للعرب. 

ثمّ تتابع العلماء على العناية باللغة العربية واستعمالها في تفسير القرآن، حتى أفردت مؤلفات في التفسير اللغوي وبيان معاني القرآن وإعرابه.  

 

أنواع العناية اللغوية بالألفاظ القرآنية  

وقد تنوّعت عناية علماء العربية بالألفاظ القرآنية حتى بلغت نحو عشرة أنواع، وهي: بيان معاني المفردات والأساليب القرآنية، وبيان معاني الحروف، وإعراب القرآن، وتوجيه القراءات، والتفسير البياني، والوقف والابتداء، والتصريف، والاشتقاق، والبديع، وتناسب الألفاظ والمعاني. 

 

طرق التفسير اللغوي 

للعلماء طريقان في التفسير اللغوي: 

الطريق الأول: طريق النقل عن العرب أو عن علماء اللغة المتقدّمين. 

وقد اشتهر عن جماعة من علماء اللغة المتقدّمين أنهم يتهيّبون تفسير القرآن مع سعة علمهم بلسان العرب، كما يُذكر ذلك عن يونس بن حبيب الضبّي، والأصمعي وغيرهما.  

- قال أبو منصور الأزهري (370هـ) : (قال محمد بن سلام: سألت يونس عن هذه الآية [يريد {لأحتنكنّ ذريّته}] فقال: « يقال: كان في الأرض كلأ فاحتنكه الجراد، أي: أتى عليه، ويقول أحدهم: لم أجد لجاماً فاحتنكتُ دابّتي، أي: ألقيت في حنكها حَبْلاً وقُدْتها به ». 

فذكر المعنيين عن العرب، وتورع عن تفسير الآية بأي منهما.  

والطريق الثاني: الاجتهاد 

وكان من علماء اللغة من يجتهد في فقه كلام العرب وأساليب تخاطبهم، فيجمع ويوازن، ويقيس ويستنتج، ويستخرج العلل، ويستنبط المعاني وأحكام الكلام، ويحفظ الشواهد وينقدها، ويقرر الحجج اللغوية ويرتّبها، ويُباحث العلماء ويناظرهم؛ حتى يقع له علم كثير بالقياس يضيفه إلى ما ثبت لديه بالسماع.  

واجتهاد العلماء في التفسير اللغوي فرع عن اجتهادهم في فقه كلام العرب وتفسير ما يروى من خطبهم وأشعارهم وأمثالهم.  

ومما يجتهدون فيه ما يقع الاتفاق عليه، وهو كثير في مسائل التفسير اللغوي، ومنه ما يختلفون فيه؛ فما أجمعوا عليه فهو حجّة لغوية مقبولة، وما اختلفوا فيه فينظر في نوع خلافهم ويُرجّح بين أقوالهم إذا لم يمكن الجمع بينها، غير أنّه ينبغي التنبّه إلى أمرين:  
أحدهما: أنه ليس كلّ ما تحتمله المفردة القرآنية من المعاني اللغوية يُقبل في التفسير؛ فيردّ ما لا يحتمله السياق، وما يعارض نصاً أو إجماعاً.  

والأمر الآخر: أن التفسير اللغوي منه ما هو محلّ إجماع، ومنه ما هو محلّ خلاف واجتهاد، وقد يقع الخطأ والاختلاف في التفسير اللغوي كما هو واقع في غيره. 

 

موارد الاجتهاد في التفسير اللغوي 

اجتهاد العلماء في التفسير اللغوي له موارد ومداخل منها:  

1: الاجتهاد في ثبوت السماع عن العرب من عدمه. 

2: الاجتهاد في صحة القياس اللغوي. 

3: الاجتهاد في توجيه القراءات. 

4: الاجتهاد في إعراب القرآن. 

5: الاجتهاد في تلمّس العلل البيانية. 

6: الاجتهاد في تصريف بعض المفردات القرآنية. 

7: الاجتهاد في بيان اشتقاق بعض المفردات القرآنية.  

8: الاجتهاد في اكتشاف الأنواع البديعية والبيان عنها.  

9: الاجتهاد في البيان عن تناسب الألفاظ والمعاني القرآنية.  

10: الاجتهاد في التخريج اللغوي لأقوال المفسّرين.  

وهذه الموارد تبيّن سعة مجال الاجتهاد اللغوي في التفسير. 

 

الانحراف في التفسير اللغوي 

ومما ينبغي أن يحذره طالب العلم ويحترز منه الانحراف في التفسير اللغوي، وهذا الانحراف له أسباب أعظمها الإعراض عن النصوص المحكمة وإجماع السلف، واتّباع المتشابه لهوى في النفس، وزيغ في القلب. 

وله مظاهر من أبيَنِها مقابلة نصوص الاعتقاد بالتشكيك في دلالتها، وإقامة الاحتمالات اللغوية الباردة لمعارضتها، والتمحّل لنصرة أقوال أهل الأهواء بأدنى الحجج اللغوية وأوهاها، وضعف العناية بالسنّة، وازدراء أهل الحديث، ودعوى التجديد القائم على نبذ أقوال السلف. 

وله آثارٌ خطيرة على متعاطيه ومتلقّيه، فهو من أسباب الضلال، وانتشار البدع والأهواء، والحرمان من فهم القرآن، والانتفاع به.   

عبد العزيز بن داخل المطيري

#5

7 Oct 2024

الإصبيغ 

الطريق السادس: الاجتهاد في التفسير 

والاجتهاد في التفسير سنة متبعة لمن تأهّل له، فقد اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم في التفسير، واجتهد من بعده خلفاؤه الراشدون المهديّون الذين أمرنا باتّباع سنّتهم، واجتهد المفسرون من الصحابة والتابعين لهم بإحسان. 

ويرجى للمجتهد أن يثاب على اجتهاده، ويثاب على إصابته؛ فإن أخطأ من غير تعدٍّ ولا تفريط رُجيت له المغفرة والإثابة على اجتهاده لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: « إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر » متّفق عليه من حديث بسر بن سعيد، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه.  

والفهم في القرآن من ثمرات الاجتهاد في تدبّر آياته والتفكّر في معانيه، والتبصّر بدلائله، واستعمال أدوات الاجتهاد الصحيحة للوصول إلى المعاني واستخراجها بأنواع من الدلالات المعتبرة لدى أهل العلم.  

والحاجة إلى الاجتهاد في التفسير قائمة في كلّ عصر من العصور، وأسئلة السائلين عن مسائل التفسير كثيرة متجددة، ونوازل مسائل التفسير في كلّ عصر تتطلّب من العلماء الاجتهاد في شأنها، وتبصير الناس بما يلزمهم من اتّباع الهدى في تلك النوازل.  

 

مراتب دلالات طرق التفسير 

والاجتهاد في التفسير ليس طريقاً مستقلا منفصلا عن سائر طرق التفسير؛ بل هو تابع لها ومترتّب عليها.  

ولذلك ينبغي أن يُعلم أن طرق التفسير راجعة إلى أصول ومراتب ينبني بعضها على بعض.  

فالأصل الأول: ما تحصل به الدلالة النصية من الكتاب والسنة على معاني الآيات؛ فدلالة النصّ الصحيح الصريح هي أصل الدلالات، والحاكمة عليها، والمبيّنة لحدودها.  

وكل مسألة حَظِي المفسّر فيها بدلالة نصية صريحة لم يحتج معها إلى اجتهاد؛ إذ لا اجتهاد في موضع النص، بل كل اجتهاد خالف النصّ فهو مردود.  

والأصل الثاني: دلالة الإجماع وهي من الدلائل المستفادة من التفسير بأقوال الصحابة والتابعين؛ فإذا أجمعوا على تفسير آية فإجماعهم حجّة لا تحلّ مخالفته.  

وهذا الأصل ينبني على ما قبله؛ إذ لا يُمكن أن يقع الإجماع على مخالفة دليل صحيح غير منسوخ من الكتاب والسنة.  

والأصل الثالث: دلالة الأثر، والمقصود بها ما تحصّل للمفسّر من أقوال الصحابة والتابعين في تفسير الآية مما لم يتحقق فيه الإجماع؛ فهذه الدلالة أقل مرتبة من سابقتيها، وهي مترتّبة عليهما؛ إذ كل قول خالف الأصل الأول أو الثاني فهو مردود.  

ومسائل الخلاف التي لا يمكن الجمع بين الأقوال فيها وإنما يُصار فيها إلى الترجيح على نوعين:  

النوع الأول: مسائل الخلاف القوي، وهي التي يكون لأصحاب كلّ قول حجج معتبرة أو يكثر الاختلاف فيها بين العلماء. 

والنوع الثاني: مسائل الخلاف الضعيف، وهي المسائل التي يكون القول المرجوح فيها بيّن الضعف، وإن قال به بعض العلماء لأسباب عارضة، وعامّة مسائل الخلاف الضعيف يكون قول الجمهور فيها هو الصواب. 

والأصل الرابع: دلالة اللغة، وذلك بتفسير الآية بما يحتمله السياق من المعاني اللغوية، وهذه الدلالة مترتّبة على ما قبلها؛ فيُشترط لقبولها ألا تخالف النص ولا الإجماع ولا أقوال السلف.  

والأصل الخامس: دلالة الاجتهاد، وهي دلالة مترتّبة على ما سبق من الأصول، لا يجوز أن تخرج عنها، فكلّ تفسير اعتمد فيه صاحبه على اجتهاد خالف فيه نصّاً أو إجماعاً أو أقوال السلف أو الدلالة اللغوية الصحيحة فهو تفسير مردود.  

وبهذا يُعلم أن التفسير بالاجتهاد له حدود تضبطه، وهذه الحدود مبيَّنة بدلائل محكمة لا يُخالفها إلا متعدّ أو مفرّط.  

 

موارد الاجتهاد في التفسير 

والاجتهاد في التفسير له موارد، وهو داخل في جميع طرق التفسير: 

1. فأمّا طريق تفسير القرآن بالقرآن؛ فمن مداخل الاجتهاد فيه: الاجتهاد في ثبوت أسانيد القراءات، والاجتهاد في تفسير مفردة بمفردة أخرى، والاجتهاد في بيان الإجمال وتقييد المطلق وتخصيص العام باستخراج ما يدلّ على ذلك من آيات أخرى،  والاجتهاد في الجمع بين آيتين لاستخراج حكم شرعي، والاجتهاد في تفصيل أمر مذكور في آية بذكر ما يتعلّق به من آية أخرى 

2. وأما تفسير القرآن بالسنّة فمن موارد الاجتهاد فيه: الاجتهاد في ثبوت التفسير النبوي إسناداً ومتناً، والاجتهاد في استخراج دلالة صحيحة بين آية وحديث نبويّ يفسّر تلك الآية أو يبيّن بعض معناها، أو يعين على معرفة تفسيرها، والاجتهاد في تحرير سبب النزول وحاله، والاجتهاد في الاستدلال لبعض الأقوال المأثورة بما صحّ من الأحاديث، والاجتهاد في إعلال بعض الأقوال التفسيرية بما صحّ من الأحاديث النبوية؛ فإنّ من المفسّرين من يجتهد في تفسير آية فيخرج بقول يعارض حديثاً صحيحاً وهو لا يعلم به أو عزب عنه عند اجتهاده؛ فيتعقّبه من يبيّن ذلك. 

ومن أعظم أبواب النفع في هذا الباب الاجتهاد في الذبّ عن سنّة النبي صلى الله عليه وسلم، وإقامة الحجّج والبراهين على إبطال التفاسير البدعية التي شاعت وراجت، وفُتن بها من فُتن، واغترّ بها من اغتر. 

3. وأما تفسير القرآن بأقوال الصحابة؛ فمن مداخل الاجتهاد فيه: الاجتهاد في تعرّف أقوال الصحابة في التفسير، والاجتهاد في التحقق من صحة نسبتها إليهم، والاجتهاد في فهمها وتوجيهها، والتمييز بين ما يُحمل على الرفع منها وما ليس كذلك، والاجتهاد في الجمع والترجيح بين أقوال الصحابة. 

4. وأما تفسير القرآن بأقوال التابعين؛ فيدخله الاجتهاد من أكثر الأوجه المتقدّمة في تفسير القرآن بأقوال الصحابة إلا أنّ أقوال الصحابة التي تُحمل على الرفع يُحمل نظيرها في أقوال التابعين على الإرسال. 

ويضاف إليها الاجتهاد في تمييز أحوال التابعين في العدالة والضبط، وتعرّف مراتبهم ودرجاتهم ليستفاد بهذا الاجتهاد في الترجيح بين أقوالهم عند التعارض.  

ومن أبواب الاجتهاد في تفسير الصحابة والتابعين الاجتهاد في تقرير مسائل الإجماع، وتصنيف مسائل الخلاف، والتمييز بين الخلاف المعتبر وغير المعتبر، وخلاف التنوّع وخلاف التضاد، والتعرّف على الأقوال وأنواعها، وجوامعها وفوارقها ومآخذها وعللها، وللاجتهاد في هذه الأبواب مجال فسيح واسع لا يحيط به علم المجتهد الفرد. 

5. وأما تفسير القرآن بلغة العرب؛ فمن موارد الاجتهاد فيه: الاجتهاد في ثبوت ما يعرف بالنقل عن العرب، وتمييز صحيح الشواهد من منحولها، ومقبولها من مردودها،  والاجتهاد في اكتشاف ما اعترى بعضها من اللحن والتغيير والتصحيف، وضبط الألفاظ العربية رواية ودراية، والتمييز بين لغات العرب، وتعرّف أوجه الاختلاف والتوافق بينها، ومعرفة الإعراب، وتلمّس العلل البيانية، وتوجيه القراءات، ومعرفة الاشتقاق والتصريف، والاجتهاد في تعيين معاني الحروف والمفردات والأساليب القرآنية إلى غير ذلك من الأبواب الواسعة للاجتهاد اللغوي في تفسير القرآن. 

ومن موارد الاجتهاد في التفسير اللغوي أيضاً: 

- الاجتهاد في الاستدلال لصحّة بعض الأقوال التفسيرية وإعلال بعضها. 

- والاجتهاد في الجمع بين بعض الأقوال المأثورة بجامع لغوي يُعبّر عنه المجتهد عبارة حسنة تدلّ على مآخذ الأقوال المندرجة تحت تلك العبارة. 

- والاجتهاد في معرفة التخريج اللغوي لأقوال المفسّرين، وهو باب واسع للاجتهاد، وله أمثلة كثيرة نافعة.  

ومن أمثلته:  

أ: اختلاف المفسّرين في معاني التعريف "بأل" في بعض الألفاظ القرآنية يما يخرّج على أحد معنيين: التعريف للجنس، أو التعريف للعهد. 

ومن ذلك اختلاف المفسّرين في معاني الفلق، والوسواس، والقلم، والطور، والفجر، ونظائرها؛ على أقوال يمكن تخريجها على أصلين لغويين:  

الأصل الأول: أن المراد بالتعريف في هذه الألفاظ الجنس، أي جنس الفلق؛ فيدخل في ذلك جميع ما يُفلق من الأمور الحسية والمعنوية، وجنس "الوسواس"، أي كل ما يوسوس؛ فيدخل في ذلك وسوسة الشيطان، ووسوسة النفس، وجنس الأقلام، وهكذا.  
والأصل الثاني: أن المراد بها العهد الذهني.  

والذين سلكوا هذا المسلك ذهبت كل طائفة منهم إلى ما تراه أولى بالعهد الذهني، ففسّر جماعة من المفسّرين الفلق بأنه فلق الصباح، وفسّر جماعة الوسواس بالشيطان الرجيم، وفسّر جماعة القلمَ بالقلم الذي كُتب به في اللوح المحفوظ، وفسّر جماعة الطور بالجبل الذي نادى الله فيه موسى. 

وما قيل في معنى التعريف يقال نظيره في معاني الحروف والمفردات والأساليب.  

والمقصود من كلّ ما تقدّم بيان سعة مجال الاجتهاد في التفسير، إلا أنّ له حدوداً تضبطه، وله شروط في كلّ نوع من أنواعه؛ فلا يجتهد في تفسير القرآن بالسنة من لا يميّز الصحيح من الضعيف، ولا يعرف أصول شرح الأحاديث، ولا يجتهد في التفسير اللغوي من لا يُحسن أدوات الاجتهاد فيه، وهكذا في كلّ نوع. 

 

وهذا يدلّك على أنّ من تكلّم في التفسير عن غير تأهّل ولا معرفة بموارد الاجتهاد، وما يسوغ الاجتهاد فيه، وما لا يسوغ، ولا يعرف مواضع الإجماع والخلاف في الأبواب التي يحتاج فيها إلى الاجتهاد فإن كلامه في هذا الاجتهاد كلام عن غير تأهّل يفضي به إلى القول في القرآن بغير علم.  

 

شروط الاجتهاد المعتبر في التفسير 

يُشترط للمفسّر المجتهد ثلاثة شروط: 

الشرط الأول: التأهّل في العلوم التي يُحتاج إليها في الباب الذي يجتهد فيه، وهذا الاجتهاد يتجزّأ؛ إذ لكلّ باب ما يتطلّبه.  

والشرط الثاني: أن يعرف موارد الاجتهاد، وما يسوغ أن يجتهد فيه مما لا يسوغ.  
والشرط الثالث: ألا يخرج باجتهاد يخالف أصلاً من الأصول التي تُبنى عليها دلالة الاجتهاد؛ فلا يخالف باجتهاده نصّا ولا إجماعاً، ولا قول السلف، ولا دلالة اللغة.  

 
وكلّ اجتهاد خالف واحداً من هذه الأصول فهو اجتهاد مردود.  

والقول الذي يخرج به صاحب الاجتهاد المعتبر في التفسير قول له حظّ من النظر، وهذا هو معنى الاعتبار.  

ثم قد يكون هذا القول قولاً راجحاً يقيم له المجتهد أدلّة أو قرائن صحيحة ترجّحه، وقد يكون مرجوحاً عند مجتهدين آخرين بحسب ما يؤدّيهم إليه اجتهادُهم.  

والاجتهاد غير المعتبر في التفسير؛ هو الذي لا يُعتدّ به في الموازنة بين الأقوال التفسيرية، ولا يحكى إلا على سبيل التنبيه أو التعجب. 

أنواع التفسير بالرأي 

اشتهر التعبير عن هذا الطريق عند جماعة من المتأخرين من أهل التفسير باسم التفسير بالرأي، وقسّموه إلى قسمين: 

- التفسير بالرأي المحمود، ويعنون به الاجتهاد المشروع المعتبر على ما تقدّم وصفه.  

- والتفسير بالرأي المذموم ويعنون به تفاسير أهل البدع الذين يفسّرون القرآن بآرائهم المجرّدة، وبما يوافق أهواءهم ومذاهبهم.  

وهذا التقسيم وإن بدا واضحاً من جهة التنظير المجرّد إلا أنَّ تنزيلَه على المفسّرين يثير إشكالات عدة، ولا حاجة تقتضيه، والأسلم تسمية الأمور بحقائقها لا بحدود رسمية قد تتخلف أحياناً.  

والمقصود بالاجتهاد هو اجتهاد الرأي، والتعبير بلفظ الاجتهاد مع بيان موارده يدلّ على أن اعتماد صاحبه ليس على مجرّد نظره ورأيه، وإنما هو اجتهاد منضبط بحدود وآداب، وله موارد ودلالات.