الدروس
course cover
الدرس الأول: آداب عامة لأهل التفسير
18 Mar 2024
18 Mar 2024

309

5

7

course cover
آداب أهل التفسير

القسم الأول

الدرس الأول: آداب عامة لأهل التفسير
18 Mar 2024
18 Mar 2024

18 Mar 2024

309

5

7


6

0

0

0

1

بسم الله الرحمن الرحيم 


الدرس الأول: آداب عامة لأهل التفسير


الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى أما بعد:  

فإنّ للتفسير عند أهله آداباً يتأدبون بها، وسماتٍ يتّسمون بها، يظهر بها أثر هذا العلم الجليل على نفوسهم، وسمتهم، وهديهم، في تعلّم التفسير، ورعايته، وتعليمه، وتلك الآداب منها ما يعمّ المفسّر ومتعلّم التفسير، ومنها ما يختصّ بالمفسّر، ومنها ما يختصّ بالمتعلّم.  

 

الآداب العامة لأهل التفسير 

أما الآداب العامّة لأهل التفسير طلاباً ومعلمين فتلخيصها في عشرة آداب 

 

الأدب الأول: صلاح النية في التعلم والتعليم 

وذلك بتحقيق الإخلاص، وإحسان القصد.  

- فأما الإخلاص لله تعالى فشرطٌ لقبول العمل والانتفاع به؛ فإنّ كلّ علم لا يراد به وجه الله تعالى لا ينفع صاحبه، بل ربما كان وبالاً عليه، وأخطر الآفات على العالم والمتعلم ما يقدح في صحة الإخلاص، وأشدّ ذلك المراءاة، والتسميع، وإرادة الدنيا بعمل الآخرة، وطلب التعالي بالعلم. 

- وأما إحسان القصد، فيزداد به المعلّم والمتعلّم رفعةً وثواباً، ويُفتح لهما به أبوابٌ من فضل الله ورحمته وبركاته. 

وإحسان القصد له جانبان:  

أحدهما: تعظيم شأن النية بقوّة الاحتساب، وتصفية العمل من الشوائب القادحة في كمال الإخلاص، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: « إنما الأعمال بالنيات ». 

وكم من عملٍ صالح عظمته النيّة فاصطفاه الله لعبده ورفعه به، وأوجب له به فضلاً عظيماً، وإن كان مما يتقالّه كثير من الناس ويزهدون فيه.  

- قال ابن المبارك: سمعت جعفر بن حيان يقول: « ملاك هذه الأعمال النيات؛ فإنَّ الرجل يبلغ بنيته ما لا يبلغ بعمله ». 

- وذكر ابن رجب عن عبد الله بن المبارك أنه قال: « رُبَّ عملٍ صغيرٍ تعظِّمهُ النيَّةُ، وربَّ عمل كبيرٍ تُصَغِّره النيَّةُ ». 

 

والجانب الآخر: تعدد المقاصد الحسنة في العمل الواحد؛ فيثاب عليها المؤمن بأنواع من الثواب ويجد لتلك المقاصد بركات عظيمة، وأثراً حسناً في تعلّمه وتفهّمه وتعليمه.  

 

ومن المقاصد التي ينبغي أن تحتسب وتُستصحب:  

1: أن يقصد المتعلم مع تحقيقه الإخلاص رفعَ الجهل عن نفسه، وعن أمّته، بأن يتعلم ما يتبصّر به في دينه ويبصّر به إخوانه، وما يعينه على اتباع هدى الله 

2: أن ينال رضى الله تعالى بما يصنع من طلب العلم، ويتعرّض لنفحاته وفضله العظيم؛ فإنّ طلب العلم من أسباب رضوان الله تعالى على العبد.   

3: أنّ يكثّر سواد الصالحين، ويعزّ أمرهم؛ فإنّ اجتماع المؤمنين على عمل صالح فيه عزّة لهم، وباب إلى التعاون على البرّ والتقوى، وما فيه عزّ للإسلام والمسلمين، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من المصالح العظيمة التي تحصل بالتآخي الذي أرشد الله إليه بقوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} ، وقال: {وتعاونوا على البرّ والتقوى}، وأمر به النبي صلى الله عليه وسلم بقول: « كونوا عبادَ الله إخوانا ». متفق عليه من حديث أبي هريرة وحديث أنس بن مالك رضي الله عنهما. 

4: أن يتعلم ما ينصر به دين الله عزّ وجلّ وكتابه، ويجاهد به الكفار والمنافقين، ويدحض به حججهم، ويكشف شبههم، وما يلبّسون به على الناس. 

5: أن يتلمّس مواضع حاجة طلاب العلم في ذلك العلم الذي يطلبه، وما يمكنه الإفادة به؛ فكم ترك الأوّل للآخر، ومن الوفاء للعلماء السابقين تتميم أعمالهم، ونشر علمهم، وكم من باب من أبواب النفع يظهر للطالب الصادق الموفّق فيجتهد فيه حتى يكون له فيه عملٌ مبارك ينتفع به من بعده 

 

الأدب الثاني: تعظيم هدى الله تعالى واتباعه وبيانه والدعوة إليه 

مما ينبغي أن يُعنى به أهل العلم عامة وأهل التفسير خاصّة تعظيم هدى الله تعالى، والاجتهاد في معرفته في الشؤون العامة والخاصة، والحرص على اتباعه، وبيانه وتبليغه، وأن يتلقوا هدى الله تعالى بقوة نفس، وعزيمة على الاتباع، وشكر وتعظيم، ويقين بحسن عاقبة اتباع هدى الله.  

 

وقد كانت أوّل وصية إلهية أوصى الله بها المكلفين عند بدء هذه الحياة الدنيا حين أهبط آدم وحواء وإبليس إلى الأرض هي الوصية باتّباع هداه؛ كما قال الله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)} 

وقال تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)} 

فضمن الله تعالى لمن اتّبع هداه ألا يضلّ ولا يشقى، وألا خوف عليه، وألا يحزن.  

فالعصمة من الضلال تثمر استقامة الحال، والعصمة من الشقاء تثمر حسن العاقبة، وضمان ألا خوف عليه فيه العصمة من الضرر، وضمان ألا يحزن يتضمّن وعدين كريمين: 

أحدهما: راحة البال مما مضى فلا يأسى على ما فات، ولا يلحقه ضرر بما أصابه. 

والآخر: أن يثاب ثواباً كريماً يذهب عنه الحزن كما قال تعالى في أهل الجنة حين يدخلونها: {وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن إن ربنا لغفور شكور} 

 

ونحن قد جاءنا أعظم الهدى من الله تعالى فجعلنا الله من خير أمّة أخرجت للناس، وأرسل إلينا أفضل رسله، وأنزل إلينا أعظم كتبه وأحسنها بياناً وهداية. 

قال الله تعالى: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتّبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم}. 

فحقّ علينا أن نشكر نعمة الله علينا، وأنّ نعظّم ما جاءنا من الهدى، وأن نتبعه ونحسن البيان عنه والدعوة إليه.  

وأوّل ما يكون من ذلك أن نسأل الله تعالى الهدى سؤال الحريص عليه، المعظّم له، الراغب فيه غاية الرغبة، الذي يوقن أنه إذا حرم الهدى فقد خاب خسر؛ فيكون سؤاله الهداية من الله تعالى كسؤال المضطرّ، ليقينه بأنّ ضرورة الهداية في الدين مقدمة على سائر الضروريات، ثم يحسن تلقي هدى الله بتعظيمٍ وشكر، وعزمٍ صادق على اتباع الهدى، ومَن علم الله من قلبه ذلك زاده هدى وتوفيقاً، وبارك له فيما يعلّمه، وأعزّه بهداه 

 

وقد بيّن الله تعالى في كتابه أسباب الهدى، وتلخيصها في: الإيمان بالله وعمل الصالحات، وخشيته تعالى، والإنابة إليه، واستهدائه، والاعتصام به، واتباع رضوان الله بما يعرف من هداه، وشكر الله على نعمة الهداية. 

- قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ}. 

- وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)} 

- وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) 

- وقال تعالى: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)} 

- وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)} 

- وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)} 

- وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)} 

- وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)} 

- وقال تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} 

- وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)} 

- وقال تعالى في الحديث القدسي: [ يا عبادي كلكم ضالّ إلا من هديته فاستهدوني أهْدِكم ] رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي دريس الخولاني، عن أبي ذرّ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربّه جلّ وعلا.   

 

وليحذر كلّ الحذر من أسباب الضلال التي توعد الله تعالى عليها بالحرمان من الهداية، ومنها: الكفر، والظلم، والكبر، والفسق، والكذب، والإسراف في المعاصي. 

وأصل أسباب الضلال الإعراض عن ذكر الله تعالى فهو جريمة قد توعد الله تعالى عليها بالانتقام، كما قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)}. 

وقد بيّن الله تعالى في مواضع من كتابه ما يعرف به بعض تفاصيل هذا الانتقام؛ فقال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)}. 

- وقال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)} 

- وقال تعالى: { وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)} 

- وقال تعالى: {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)} 

- وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)} 

 

ومن تعظيم هدى الله تعالى أن تحرص على إعزاز أمر الله حيثما كنت، فتعزّه في نفسك، وفي أهلك، ومَن حولك، ومن يمكنك دعوتهم.  

- قال عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد: حدثنا سفيان قال: قال رجلٌ للحسن: أوصني، قال: « أعزَّ أمرَ الله يعزَّك الله ». 

 

الأدب الثالث: تعظيم القرآن والفرح به ونصرته وإعلاء شأنه في كلّ ميدان 

وأهلُ التفسير أولى أن يكونوا معظمين للقرآن، فرحين به، داعين إلى الله به، مبيّنين هداه، وناصرين له، وذابّين عنه، ومن أعزّ شأنَ القرآن أعزّ الله شأنه.  

ومِن تعظيم القرآن تعظيم ما فيه من هدى الله تعالى، وتحبيبه إلى الناس، وترغيبهم فيه، ودعوتهم إليه. 

وعظمة القرآن تعرف بعظمة قدره وعظمة صفاته؛ فينبغي أن يكون لأهل التفسير من اليقين والبصيرة بعظمة القرآن ما تمتلئ به نفوسهم تعظيماً وفرحاً بالقرآن.  

وللفرح بالقرآن شأن عجيب، وأثر مبارك؛ فإنه من أسباب رضوان الله تعالى والفتح في معاني القرآن، إذ يحمل النفس على الإقبال على القرآن وتلاوته آناء الليل وأطراف النهار، وتدبّره، وتفهّم معانيه، والانبساط لسماعه، والاستبشار بلطائفه، وتعظيم شأنه، والإنابة إلى الله تعالى، فينفتح له بذلك أبواب من الهدايات الخاصة.  

والفرح بالقرآن من شكر نعمة الله علينا به، إذ هو من إحسان تلقّي هذه النعمة العظيمة، وقد دلّت النصوص على أنّ الله تعالى يُحبّ من العبد أن يُحسن تلقّي نعمه، وأنّ ذلك من أسباب رضوانه، ورحمته، وفضله العظيم.  

ولا يستوي من يعظّم شأنَ نعمة ربّه ويفرح بها ويشكره عليها، ومن لا يبالي بها ولا يرفع بها رأسه، بل ربما نسب ما فهمه من معاني القرآن إلى فطنته وذكائه، وبحثه ودراسته، وقد يكون مخطئاً في فهمه، غارقاً في وهمه، قد زُيّن له أنه مصيب وهو في خطأ مبين.  

قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} 

وقوله: {فبذلك فليفرحوا} قدّم الجار والمجرور واشتمل على الإشارة للبعيد لإفادة التعظيم المشعر بالحصر. 

ونقل الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد عن العلامة المفسّر الشيخ عبد الرحمن الدوسري صاحب تفسير "صفوة الآثار والمفاهيم" أنه سُئل عن أهمّ شروط المفسّر؛ فأجاب على البديهة: (أن تملأ قلبَه الفرحةُ بالقرآن). 

 

الأدب الرابع: حسن السمت وصلاح الهَدْي 

فالعلم النافع هو ما أورث البصيرة، وظهر أثره على الجوارح سمتاً حسناً، وهدياً صالحاً؛ حتى يكون إماماً في الخير داعياً إليه ببيانه واتباعه للهدى.  

والسمت الحسن: حسن الهيئة والطريقة، وذلك يكون بالالتزام بالسنن الظاهرة، ومنها الوقار والسكينة، وترك الجهل والصخب، والتحلي بهيئة أهل الخير والفضل 

والهدي الصالح: هو العمل بالعلم على فقه وبصيرة.  

والتحلي بحسن السمت وصلاح الهدي من أهمّ الآداب التي ينبغي لأهل التفسير أن يُعنوا بها، فإنهم محلّ الأسوة عند الناس، وهم المتصدّون لتبليغ معاني القرآن؛ فيجب أن يجمعوا بين بيان معاني القرآن وبيّناته، وبين الاهتداء بهديه في أنفسهم؛ فإذا فعلوا ذلك كانوا من أئمة الهدى ومن معلمي الناس الخير.  

وقد اشتدّ الوعيد على من خالف هاتين الخصلتين من الذين يكتمون البينات والهدى لعظم جرمهم في الأمة. 

قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)} 

فلكثرة من يلعنهم جمعوا بوصف واحد يعمّ أصنافهم من الملائكة والإنس والجنّ والحيوان وغيرهم؛ وذلك لعظيم جنايتهم وسوء أثرهم.  

فكاتمو البينات هم الذين لا يتكلمون ببيان الحقّ ولا يظهرونه عند الحاجة إلى بيانه، ولا يرشدون الناس إليه بقولهم وبيانهم.  

وكاتمو الهدى هم الذين لا يعملون به، ولا يظهر أثره عليهم. 

فلا يجد الناس من يعلّمهم دينهم ويبيّن لهم ما يحتاجون إلى بيانه، ولا يجدون إماماً يقتدون بهديه وعمله؛ فيقع الناس في عماية عمياء، وضلال مبين.  

وذلك إنما يكون لانحراف مقاصدهم في العلم، وسوء أخذهم له، وغفلتهم الشديدة عن الله تعالى.  

وهذا خلاف ما يجب أن يكون عليه أهل العلم والإيمان، ولا سيما أهل التفسير؛ فإنهم وارثو النبي صلى الله عليه وسلم في أعظم إرثه، وهو تبليغ القرآن وبيانه والدعوة إليه كما قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}، وقال تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)} 

فينبغي لأهل التفسير أن يحسنوا أخذ هذا الإرث ورعايته علماً وعملاً، ومن صدقت نيّته في ذلك وحسن قصده وعزمه ظهرت عليه آثار اتباع هدى الله، وكان من العلماء الربانيين والأئمة المهديين.  

- قال روح بن عبادة القيسي: حدثنا هشام، عن الحسن البصري قال: « قد كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يُرى ذلك في تخشّعه وهديه، وفي لسانه وبصره ويده ». رواه الإمام أحمد في الزهد، والبيهقي في شعب الإيمان. 

- وقال معن بن عيسى القزاز: حدثنا مالك بن أنس، عن ابن شهاب قال: « إنَّهذاالعلمأدب الله الذي أدَّب به نبيَّه صلى الله عليه وسلم، وأدّب النبي صلى الله عليه وسلم أمّته به، وهو أمانة الله إلى رسوله ليؤديه على ما أدي إليه، فمن سمع علماً فليجعله أمامه حجة فيما بينه وبين نبيه». رواه الحاكم في معرفة علوم الحديث، والخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع.  

- وقال عبد الله بن المبارك: قال لي مخلد بن الحسين: « نحن إلى ‌كثير ‌من ‌الأدبِ أحوجُ منا إلى كثيرٍ من الحديث ». رواه الخطيب البغدادي في الجامع.  

- وقال إبراهيم بن حبيب بن الشّهيد: قال لي أبي: « يا بنيّ! إيت الفقهاء والعلماء، وتعلّم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإنّ ذاك أحبّ إليّ لك من كثيرٍ من الحديث ». رواه الخطيب البغدادي في الجامع.  

- وقال مالك بن أنس: قال ابن سيرين: «كانوا يتعلمون الهَدْيَ كما يتعلَّمون العلم ». رواه الخطيب البغدادي في الجامع.  

- وقال ابن وهب: حدثني مالك (أنَّ محمد بن سيرين قد ثَقل وتخلَّف عن الحج، فكان يأمر من يحجّ أن ينظر إلى هدي القاسم ولَبوسه وناحيته؛ فيبلّغوه ذلك؛ فيقتدي بالقاسم).رواه يعقوب بن سفيان في المعرفة، وابن عساكر في تاريخه. 

- وقال عبد الرحمن بن عمر رسته: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: « إن كنا لنأتي الرجل ما نريد علمه وحديثه، إنما نأتي لنتعلم من ‌هديه ‌وسمته ودلّه ». رواه البيهقي في شعب الإيمان.  

ومن سار على طريقة أهل العلم والإيمان في تعلّم العلم والهدي معاً كان من أئمة الهدى. 

ومن الدعاء الذي أرشد الله إليه عباده المؤمنين أن يقولوا: {ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما} 

وهو يشمل الإمامة على اختلاف درجاتها، فقد يفتح لعبد من عباد الله في عمل من الأعمال فيكون فيه إماماً يقتدى به فيه ، ولو كان لديه ضعف في أبواب أخرى من أبواب الخير. 

واللبيب الذي يحاسب نفسه ويزن عمله بالكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة يعرف من نفسه ما هو مقصّر فيه من أبواب الخير، ويعرف ما فتح له فيه مما يحسنه؛ فيعتني أولاً بالقدر الواجب من كل ذلك، وهو أمر متيسّر لا حرج فيه على المرء؛ لأن الواجبات الشرعية هي من تكاليف الدين، وما جعل لله علينا في الدين من حرج. 

ثم يعتني بالاجتهاد فيما فتح له فيه، وليعلم أن قيمة كل امرئ ما يحسنه كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه. 

ومما يعينه على الإحسان في ذلك الأمر النظر إلى سير المحسنين فيه فيعتني بآثارهم ومآثرهم سواء أكانوا من الأموات أم الأحياء 

فمن مات يعتني بسيرهم ويتعرف على طرائقهم وأسباب تفوقهم وتمكنهم وانتفاع الناس بهم. 

والأحياء منهم يحرص على الاستفادة منهم بما يتيسر له، فقد ينتفع من مجالستهم ومراسلتهم والعرض عليهم ما لا يستفيده من القراءة والدراسة مدة طويلة. 

 

ولا يخلو زمان من صالحين متمسكين بالهدي الصحيح، وإن قلّوا، ومَن كان صاحب تأسٍّ بأهل الخير والصلاح كفاه أن يحثه على ذلك ما يراه من جوانب الخير والصلاح لديهم، فرُبَّ عمل يراه المرء من أحدهم فينتفع به زمناً طويلاً، ولا يشترط في القدوة أن يكون كاملاً في جميع الجوانب، بل النقص من طبيعة البشر، حتى الصالحين يقع منهم تقصير وقصور في جوانب وإجادة وإحسان في جوانب أخرى. 

فمن فتح له في العلم والتعليم ونشر العلم قد يقع منه قصور وتقصير في جوانب أخرى. 

ومن فتح له في التعبد والتهجد وكثرة الصلاة والصيام والتلاوة وكثرة الذكر قد يقع منه قصور وتقصير في جوانب أخرى. 

ومن فتح له في أعمال البر والإحسان ونفع الناس قد يقع منه تقصير في غير ذلك من الأمور. 

ومن فتح له في الجهاد والنصيحة والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورعاية حدود الله وحرماته فكذلك. 

وأما من كان ذا حظ في هذه الأعمال كلها فهو إمام من الأئمة الأبدال. 

- ذكر ابن عبد البر في التمهيد والاستذكار أن عبد الله بن عبد العزيز العُمَري العابد كتب إلى الإمام مالك بن أنس يحضُّه على الانفراد والعمل وترك مجالسة الناس في العلم وغيره فكتب إليه مالك: (إن الله تعالى قسم بين عباده الأعمالَ كما قسمَ الأرزاقَ؛ فرُبَّ رجل فُتِحَ له في الصلاة، ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح الله له في الجهاد، ولم يفتح له في الصلاة، وآخر فتح له في الصدقة، ولم يفتح له في الصيام. 

وقد علمتُ أنَّ نشر العلم وتعليمَه من أفضل الأعمال، وقد رضيتُ بما فَتَحَ الله لي فيه، وقسم لي منه، وما أظنُّ ما أنا فيه بدون ما أنت فيه من العبادة، وكلانا على خير إن شاء الله). 

 

ومن فتح الله له باباً من أبواب الخير فليعتنِ بالاتساء بأئمة ذلك الباب من الصالحين، وينتفع من هديهم ودلّهم وسمتهم في غير مخالفة لهدي الكتاب والسنة. 

 

وبهذا يُعلم أن الاقتداء يتجزأ ويتنوَّع ، فما يُرى عند بعض الصالحين من تقصير وقصور في جوانب لا يمنع من الاقتداء بهم فيما أحسنوا فيه. 

ومن تطَلَّب قدوة تاماً في جميع هذه الأبواب أعياه ذلك. 

ومن تأمل أحوال مَن حوله وجد من بعضهم إجادة وبراعة في بعض أمور الخير، فليكن ذلك حافزاً له على الاتساء بهم بما يتيسر له. 

 

والآثار عن السلف في الاتساء ببعض أحوال الناس وأقوالهم كثيرة مبثوثة في سيرهم. 

 

- قال محمد بن الوليد الزبيدي، عن يحيى بن جابر، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير حدثه، أنَّ أباه حدَّثه، أنه سمع معاوية يقول: (سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم ‌كلاماً ‌نفعني الله به، سمعته يقول:  « إنَّك إذا اتّبعت الريبة في الناس أفسدتهم » فإني لا أتبع الريبة فيهم فأفسدهم). رواه البخاري في الأدب المفرد.  

- وقال عون بن عبد الله: قال لي أصبغ بن عبد العزيز [بن مروان بن الحكم]: سمعت من أبيك كلاماً نفعني الله تعالى به وهو: « لأن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة ». ذكره ابن الجوزي في المنتظم.  

- وقال أسود بن عامر قال حسن - يعني ابن صالح -: قال زبيد بن الحارث اليامي: « سمعت كلمة فنفعني الله عزَّ وجلَّ بها ثلاثين سنة ». رواه أبو نعيم في الحلية. 

 

وبعضهم قد يرى موقفاً أمامه فيعتبر به مدة طويلة من الزمن، وهذا هو مقصود الاقتداء أن ينتفع المقتدي بما يسمع ويرى. 

 

الأدب الخامس: الحلم والتأني والرفق والحزم 

وهذه الخصال الأربع من أهمّ ما ينبغي أن يأخذ به أهل التفسير أنفسهم فإنَّ من حازها فاز ببلوغ غايته بإذن الله تعالى من التعلم والرعاية للعلم والتعليم، وأن يكون لتعلمه بركة وحبور ونفع عظيم، بعد التأسيس على شرطي القبول من الإخلاص والمتابعة.  

والحلم والأناة خصلتان يحبّهما الله، والرفق ما كان في شيء إلا زانه، والله يعطي على الرفق ما لا يعطي على غيره، والحزم هو التأهب للأمور، وإعداد العدّة لها، والحذر مما يحول بينه وبين تحقيق مقاصده، والاجتهاد في العمل برفق وطول أناة، والحزم علاج ناجع للتسويف والتماوت والوهن.  

- قال قرة بن خالد، عن أبي جمرة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم للأشج أشج عبد القيس: « إنَّ فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة ». رواه مسلم في صحيحه، والبخاري في الأدب المفرد، وروي من حديث أبي سعيد الخدري وحديث الوازع بن المزرّع العبدي رضي الله عنهما.  

- وقال أبو بكر بن حزم، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « يا عائشة! إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه ». رواه مسلم في صحيحه، وله طرق وألفاظ في الصحيحين وغيرهما.  

- وقال شعبة، عن المقدام بن شريح، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت على جملٍ فجعلت تصرفه بضربه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « يا عائشة! عليك بالرفق فإنه لم يكن في شيء إلا زانه، ولم ينزع من شيء إلا شانه». رواه أبو داوود الطيالسي، وأحمد، والبخاري في الأدب المفرد، ومسلم في صحيحه.  

- وقال عبد الرحمن بن هلال العبسي: سمعت جريراً [ بنَ عبد الله البجلي ] يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « من ‌يحرم ‌الرفق يحرم الخير ». رواه أحمد، ومسلم في صحيحه، والبخاري في الأدب المفرد.  

وفي رواية في مصنف ابن أبي شيبة، وسنن أبي داود من طريق الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عبد الرحمن بن هلال، عن جرير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ‌يحرم ‌الرفق يحرم ‌الخير ‌كله». 

- وقال سعد بن سعيد بن قيس الأنصاري: حدثنا الزهري، عن رجلٍ من بلي قال: دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه وسلم فانتجاه دوني؛ فقلت له: يا أبت! أيّ شيء قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟  

فقال: قال لي: « إذا هممتَ بالأمر فعليك بالتؤدة حتى يأتيك الله بالمخرج من أمرك». رواه ابن أبي شيبة، والبخاري في الأدب المفرد، ويعقوب بن سفيان في المعرفة، والبيهقي في شعب الإيمان. 

- وقال الليث بن سعد: حدثني يزيد بن حبيب، عن سعد بن سنان، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ‌التأني ‌من ‌الله، والعجلة من الشيطان». رواه ابن أبي شيبة، ويعقوب بن سفيان، وأبو يعلى، وسعد بن سنان ويقال سنان بن سعد مختلف فيه، وثقه يحيى بن معين، وضعّفه أحمد والنسائي، وللحديث شاهد من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه يرفعه إلى درجة الحسن إن شاء الله.  

- وقال عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: « تعلموا الصمت، ثم تعلموا الحلم، ثم تعلموا العمل بالعلم، ثم انشروا ». رواه البيهقي في شعب الإيمان. 

- وقال عيسى بن حماد التجيبي: كثيراً ما كنتُ أسمع الليث بن سعد يقول لأصحاب الحديث: « تعلَّموا الحلمَ قبل العلم ». رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله. 

- وقال ابن وهب وابن لهيعة، عن ابن عجلان عن رجاء بن حيوة قال: يقال: « ما أحسن الإسلام ويزينه الإيمان! وما أحسن الإيمان ويزينه التقوى! وما أحسن التقوى ويزينه العلم! وما أحسن العلم ويزينه الحلم! وما أحسن الحلم ويزينه الرفق! ». رواه ابن عساكر. 

- وقال حبيب بن حجر القيسي: « كان يقال: ما أحسن الإيمان يزينه العلم، وما أحسن العلم يزينه العمل، وما أحسن العمل يزينه الرفق، وما أضيف شيء إلى شيء أزين من ‌حلم ‌إلى ‌علم ». رواه ابن المبارك في الزهد، ويعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ، وابن أبي الدنيا في الحلم. 

- وقال ضمرة بن ربيعة عن كريز بن سليمان قال: كان مكحول يقول: « اللهمَّ انفعنا بالعلم، وزينا بالحلم، وجملنا بالتقوى، وكرمنا بالعافية ». رواه ابن عساكر. 

- - قال سفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار، قال: « ما أوي شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم ». رواه أبو خيثمة في كتاب العلم.، والدارمي في مسنده، ويعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ، وابن أبي خيثمة في التاريخ.   

- وقال زمعة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن طاوس بن كيسان قال: « ما حُمل العلم في مثل جراب حلم». رواه ابن أبي شيبة، والدارمي.  

- وقال حماد بن سلمة، عن عاصم الأحول، قال: قال الشعبي: « زَيْن العِلْمِ حِلْمُ أهله». رواه ابن أبي شيبة، والدارمي. 

- وقال أبو أسامة الكوفي، عن سعيد بن زيد، قال: سمعت برداً، عن سليمان بن موسى، قال: «ما جمع شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم». رواه ابن أبي شيبة.  

- وقال عمر بن حفص بن غياث، عن أبيه قال: كنت جالساً عند جعفر بن محمد، ورجلٌ يشكو رجلاً عنده، قال لي كذا، وفعل لي كذا؛ فقال له جعفر: « من أكرمك فأكرمه ومن استخف بك فأكرم نفسك عنه ». رواه ابن حبان في روضة العقلاء. 

قال أبو العتاهية: 

فيا ربّ هب لي منك حلــماً فإنني … أرى الحـــــلم لم يندم عليه حليم 

ويا رب هب لي منك عزماً على التقي … أقيم به ما عشت حيث أقيم 

   

وأما الحزم في طلب العلم وتعليمه فقد رويت فيه آثار عن السلف.  

- قال مالك بن أنس: (كان بالمدينة أقوام بدؤوا معنا في طلب هذا الأمر، ثم كفّوا عنه، حتى سمعوا هذا الحديث [ لحديث غلام مات وهو يطلب العلم فرؤيت فيه رؤيا حسنة]؛ فلقد رجعوا إليه، وأخذوا بالحزم، وهم اليوم من علماء بلدنا، اللهَ اللهَ يا يحيى، جدّ في هذا الأمر). 

ولا يتأتّى الحزم إلا ببصيرة نافذة بحسن عاقبة الاجتهاد فيما هو بصدده والمبادرة إليه؛ فيقوى عليه.  

قال الحارث بن ضابئ البرجمي:  

وفي الشك تفريط وفي الحزم قوة ... ويخطئ في الحدس الفتى ويصيب 

 

وقال ابن الجوزي: (الرجلُ من ‌عمل ‌بالحزم، وحذر الجائزات). 

ومن الحزم أن يأخذ المرء نفسه بما يستطيع المداومة عليه من التعلم والعمل والدعوة والتعليم؛ فإن القليل بالقليل يكثر، وأحبّ العمل إلى الله أدومه وإن قلّ، وإذا أحبّ الله عملاً تقبّله، ونفع به صاحبه، وبارك له فيه.  

ومن الحزم تنظيم الوقت، والبدء بالأهم، والمداومة على التحصيل، وعدم استعجال الثمرة؛ فيسير العلم مع الإحسان والضبط خير من كثير لا يضبط، ولا يوضع موضعه، ولا يظهر أثره. 

وليعلم طالب العلم أن تقويم السلوك خير من الاستكثار من المعرفة المجرّدة، وأنّ العمل اليسير على سلوك حَسن خير وأدعى للقبول والنفع من عمل دؤوب وتحصيل كثير مع سلوك سيء يذهب ببركة العلم.  

عبد العزيز بن داخل المطيري

#2

21 Sep 2024

الأدب السادس: التحلي بالشمائل الحسنة، والخصال الحميدة  

من الصدق، والأمانة، والنصح، والوفاء، والتواضع ولين الجانب، وكرم الصحبة، وحسن المواساة، وغيرها من محاسن الأخلاق.  

وأهل القرآن هم خيار الناس؛ فينبغي لهم أن يكونوا من أحسنهم أخلاقاً. 

- قال سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه». رواه أحمد، والبخاري، وأبو داوود. 

- وقال الأعمش: حدثني شقيق، عن مسروق قال: كنا جلوساً مع عبد الله بن عمرو يحدثنا، إذ قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا، وإنه كان يقول: « إن خياركم ‌أحاسنكم ‌أخلاقاً ». رواه أحمد، والبخاري، ومسلم.  

- وقال محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أكمل المؤمنين إيمانا، ‌أحسنهم ‌خلقا ». رواه أحمد، والدارمي، وغيرهما، وله طرق أخرى وشواهد. 

- وقال وكيع، عن سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ميمون بن أبي شبيب، عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: « اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس ‌بخلق ‌حسن ». رواه ابن أبي شيبة، وأحمد، والدارمي، والترمذي، وغيرهم، ورواه وكيع مرة عن معاذ بن جبل بهذا الإسناد كما ذكر ذلك أحمد.  

- وقال داود بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إنَّ أكثر ما يدخل من الناس النار الأجوفان ».  

قالوا: يا رسول الله! وما الأجوفان؟  

قال: « الفرج والفم ». 

قال: « أتدرون أكثر ما يدخل الجنة؟ تقوى الله، وحسن الخلق ». رواه أحمد، والبخاري في الأدب المفرد، وقد تابع إدريس بن يزيد والد عبد الله أخاه داوود على هذا الحديث. 

 

والأخلاق مقسومة في الأصل ثم يدخلها الاكتساب والتغيّر بإذن الله وتقديره؛ والناس يُمتحنون فيما قسم الله لهم من الأخلاق؛ فمنهم من يشكر اللهَ على ما قسم له من الأخلاق الحسنة فتزداد حسناً وينتفع بها، ويهذّب ما ابتلي به من أخلاق سيئة، ويسأل الله أن يصرفها عنه؛ فتتهذّب أخلاقه وتحسن، ويتخلّص من الأخلاق السيئة أو يضعف أثرها. 

ومن الناس من تُقسم له أخلاق حسنة فيضيّعها ويفرّط فيها بما يكتسب من أخلاق سيئة بسبب بمخالطة جلساء أو اتّباع شهوات أو مغيّرات أخر يتعرّض لها أو تعرض له.

ولذلك يشرع للعبد أن يسأل اللهَ تعالى أن يحسّن خلقه، ويصرف عنه مساوئ الأخلاق، وهذا يشمل صرف أعينها ومسبباتها.  

- وقال عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا قام إلى الصلاة، قال: « وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا، وما أنا من المشركين، إن صلاتي، ونسكي، ومحياي، ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت أنت ربي، وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت ... ». الحديث، رواه أحمد، والدارمي، ومسلم، وأبو داوود.  

- وقال مرّة الهمداني، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: « إن الله تعالى قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله تعالى يعطي المال من أحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب ». رواه أحمد، وابن أبي شيبة، والبخاري في الأدب المفرد، وغيرهم مرفوعاً وموقوفاً، ورجّح الدارقطني وقفه، وله حكم الرفع.  

- وقال مطر بن عبد الرحمن الأعنق: سمعت هند بنت الوازع، عن أبيها الوازع بن الزراع العبدي رضي الله عنه، وكان ممن وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع وفد بني عبد القيس؛ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشجّ عبد القيس: « يا أشجّ! إنَّ فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة ». 

فقال: « يا رسول الله! أنا تخلقتهما، أو جبلني الله عليهما؟ ». 

قال: « بل الله جبلك عليهما » 

قال: « الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله ». رواه الإمام أحمد وأبو داوود وغيرهما، وأصل الحديث في الصحيحين. 

- وقال علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نضرة العبدي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: « صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما صلاة العصر بنهارٍ، ثم قام خطيبا فلم يدع شيئا يكون إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه ». 

وكان فيما قال: فذكر أحاديث... 

قال: ثم ذكر الأخلاق فقال: « يكون الرجل سريع الغضب، سريع الفيئة، فهذه بهذه، ويكون بطيء الغضب بطيء الفيئة، فهذه بهذه، فخيرهم بطيء الغضب سريع الفيئة، وشرهم سريع الغضب بطيء الفيئة، وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم توقد، ألم تروا إلى حمرة عينيه، وانتفاخ أوداجه، فإذا وجد أحدكم ذلك فليجلس، أو قال: ليلصق بالأرض ». رواه عبد الرزاق وأحمد والترمذي وغيرهم، وعليّ بن زيد ضعيف الحديث، لكن لهذا الحديث أصل ولبعضه شواهد.  

فذكر القسمة ثم أمر بالتهذيب وأرشد إلى ما يهذّب به الغضوب غضبه حتى يضعف أثره ويتخلّص من شرّه، وهذا مما يدلّ على أنّ الأخلاق مقسومة في الأصل، وأنا مأمورون بتهذيب أخلاقنا، واكتساب الأخلاق الحسنة. 

- وقال مالك بن أنس، عن ابن شهاب الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم حتى نفد ما عنده، فقال: « ما يكون عندي من خير فلن أدّخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر ». رواه البخاري ومسلم.  

وفي رواية مطولة في دلائل النبوة للبيهقي وفيها: « فرجعت فما سألت أحداً بعده شيئاً؛ فجاءت الدنيا، فما من أهل بيت من الأنصار أكثر أموالا منا ». 

- وقال عبد الملك بن عمير عن رجاء بن حيوة الكندي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: « إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتحرَّ الخير يُعطه، ومن يتوقَّ الشرَّ يوقه». رواه أبو خيثمة في كتاب العلم والبيهقي في شعب الإيمان وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله. 

واعتياد الأعمال المفردة من جنس واحد يصيّرها عادة فتقوى حتى تكون طبيعة وخلقاً كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا ». 

 

وأصول الأخلاق الحسنة خمسة من أحرزها رُجي له أن يكون حسن الخلق: الصدق، والأمانة، والعدل، والكرم، والرفق.  

والكرم أصله كرم النفس؛ ومنه الصفح والتجاوز عن الزلات؛ ومنه بذل الإحسان، فقد يكون المقلّ كريماً. 

- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (قيل للحسن البصري: ما حسن الخلق؟ قال: ‌بذل ‌الندى وكف الأذى وطلاقة الوجه). 

وهذا تلخيص حسن؛ لأن المعاملة بذلٌ وكفّ، وطلاقة الوجه عنوان السماحة؛ فمن كان كافاً شرّه باذلاً خيره عن سماحة فهو حسن الخلق.  

  

الأدب السابع: التنزّه من الخصال المذمومة 

فينبغي لأهل التفسير أن يتجنبوا ما يخلّ بالعدالة، ويخرم المروءة؛ وأن يتنزّهوا عما لا يليق، ويعرضوا عن اللغو، ويتركوا المماراة، والجدال بالباطل، ويجتنبوا التنطّع والتشدد في الدين.   

وأخصّ ما يتأكّد اجتنابه الكبائر الباطنة من العجب والكبر، والحسد والغلّ، والتعالي والتفاخر، والتكثّر بالعلم. 

والأدلة والآثار في هذه الجمل كثيرة.  
- قال معن بن محمد الغفاري، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إنَّ الدينَ يُسْرٌ، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبَه، فسدِّدوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدّلجة». رواه البخاري والنسائي. وقد روي من حديث عائشة وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغِّض إلى نفسك عبادة الله؛ فإن المنبتَّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى
».

وطرقه لا تخلو من ضعف، ومعناه صحيح، ويشهد له حديث أبي هريرة المتقدم. ومن أمثال العرب: (المنبت لا أظهراً أبقى ولا أرضاً قطع). وطلب العلم من الدين فالتعمّق فيه مظنة الانقطاع والحرمان.

- وقال يحيى بن أبي كثير اليمامي: حدثني أبو قلابة، عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ومن ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة». رواه مسلم.  

- وقال يونس بن عبيد: كتب إليّ ميمون بن مهران: « إيّاك والخصومة والجدال في الدّين، ولا تجادلنّ عالمًا ولا جاهلًا، أمّا العالم فإنّه يخزن عنك علمه ولا يبالي ما صنعت، وأمّا الجاهل، فإنّه يخشن بصدرك ولا يطيعك ». رواه الدارمي في مسنده، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله بنحوه.  

- وقال علي بن عبد العزيز البغوي: حدثنا أبو يعقوب المروزي، قال سمعت سفيان يقول: « العالم لا يماري ولا يداري، ينشر حكمة الله، فإن قبلت حمد الله، وإن ردت حمد الله ». رواه البيهقي في شعب الإيمان. 

 

الأدب الثامن: التجرّد من الهوى 

 فهو داءٌ دويّ ما خالط شيئاً إلا أفسده، ولا علماً إلا حُرم صاحبه بركته، قال الله تعالى: {ولا تتبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله}.  

ومن خطر اتباع الهوى أنه داء يستجري بصاحبه، ويتعاظم فيه حتى يفسد الحبّ والبغض في القلب؛ فيحبّ ويبغض على ما تهوى نفسه من خلاف الحق، ويحبّ ويبغض لأجل ذلك ما تضرّه محبّته أو بغضه، فتغلق في وجهه أبواب من الخير بسبب اتباعه هواه.  

والهوى إذا استحكم في القلب أفسد التصوّر، وزُيّن لصاحبه سوء عمله؛ ودخل عليه العجب، فصار يرى ما أشرب من هواه حقاً، ويرى ما خالفه باطلاً، كما قال تعالى: { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)}. 

وللهوى سلطان على النفس يأمرها وينهاها، ويدعوها إلى ما فيه ضلالها وهلاكها، ولذلك نهى الله تعالى عن اتّباع الهوى؛ فقال تعالى: {فلا تتبعوا الهوى}، وقال تعالى: {ولا تتبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله}. 

 

الأدب التاسع: الاحترازُ من القول في القرآن بغير علم 

ومن أهمّ الآداب التي ينبغي لأهل التفسير العناية بها التحرز من القول في القرآن بغير علم، وألا يضربوا بعضه ببعض، ويثيروا الإشكالات من غير بيان فإنّ ذلك يوقع الشكّ في القلوب.  

- قال ابن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: كان قوم على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً يتنازعون في القرآن، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم متغيرا وجهه، فقال: « يا قوم! بهذا هلكت الأمم، ‌إن ‌القرآن ‌يصدق ‌بعضه ‌بعضا، فلا تكذبوا بعضه ببعض ». رواه الطبراني في الأوسط، وأصله في صحيح مسلم.  

- وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه من طرق متعددة يشدّ بعضها بعضاً أنّه سُئل عن آية من كتاب الله عز وجل فقال: « أيَّة أرض تقلني، أو أيَّة سماء تظلني، أو أين أذهب، وكيف أصنع إذا أنا قلت في آية من كتاب الله بغير ما أراد الله بها؟! ». 

- وقال مجالد بن سعيد عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: « القرآن كلام الله؛ فمن قال فليعلم ما يقول؛ فإنما يقول على الله عزَّ وجلَّ ». رواه البيهقي في شعب الإيمان، وفي رواية أخرجها في كتاب الأسماء والصفات له: « إن القرآن كلام الله تعالى؛ فمن كذب على القرآن فإنما يكذب على الله عز وجل ». 

- وقال القاسم بن محمد بن أبي بكر: « لأن يعيش الرجل جاهلاً بعد أن يعلم حق الله عليه خير له من أن يقول ما لا يعلم » رواه الدارمي.  

- وقال إبراهيم النخعي: « كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه ». رواه أبو عبيد في فضائل القرآن، وابن أبي الدنيا في كتاب "الصمت" والبيهقي في شعب الإيمان بمعناه. 

- وقال عامر بن شراحيل الشعبي: « أدركت أصحاب عبد الله وأصحاب علي وليس هم لشيءٍ من العلم أكره منهم لتفسير القرآن ». رواه ابن أبي شيبة.  

 

- وقال حماد بن زيد: حدثنا عبيد الله بن عمر العُمَري قال: « لقد أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليغلّظون القول في التفسير منهم: سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع ». رواه الإمام أحمد في العلل، وابن جرير في تفسيره. 

 

الأدب العاشر: التثبت في تلقي العلم وفيما ينقل عن أهل العلم 

ينبغي لأهل التفسير أن يكونوا على قدر حسن من التثبت والتبيّن في أخذ العلم وتبليغه؛ فالتثبّتُ في العلم، وتفهم الحجج، ومعرفة مصادر الأقوال، والتمييز بين الغثّ والسمين من أسباب الرسوخ في العلم. 

وحمل العلم من كل وجه من غير تمييز من أسباب فساد التصور في المسائل العلمية، وضعف الملكة العلمية.  

ونصوص الكتاب والسنة وآثار السلف بالوصية بالتثبت والتبيّن، والنهى عن العجلة والتسرع والتخليط في مسائل العلم كثيرة.  

- قال أحمد بن أبي الحواري: حدثنا مروان بن محمد، عن سعيد بن عبد العزيز، عن سليمان بن موسى قال: « الذي يأخذ كلّ ما سمع ذاك حاطب ليل ». رواه أبو زرعة الدمشقي. 

- وقال الربيع بن سليمان المرادي: سمعت الشافعي يقول: « مَثَل الذي يطلب العلم بلا حجة مثل ‌حاطب ‌ليل يحمل حطب فيها أفعى تلدغه وهو لا يدري ». رواه الحاكم في المدخل، والخطيب البغدادي في نصيحة أهل الحديث، وزاد: قال الربيع: « يعني الذين لا يسألون عن الحجة من أين ». 

 

ويقبح بطالب العلم أن ينسب إلى إمام من الأئمة ما لا يصحّ عنه تعجلاً منه، أو سوء فهم وعدم تثبت.  

وأقبح من ذلك أن يحكي الإجماع من غير معرفة بأصول حكاية الإجماع، أو يطلق الأحكام جزافاً، ويدّعي الدعاوى العريضة، ويتصرف في النقل بما يخلّ بالمعنى؛ فمن سلك هذا المسلك لم يوثق بعلمه، ولو كان عنده صواب كثير.