الدروس
course cover
الدرس الثاني: آداب طالب علم التفسير
18 Mar 2024
18 Mar 2024

254

5

1

course cover
آداب أهل التفسير

القسم الأول

الدرس الثاني: آداب طالب علم التفسير
18 Mar 2024
18 Mar 2024

18 Mar 2024

254

5

1


0

0

0

0

1

بسم الله الرحمن الرحيم 


الدرس الثاني: آداب طالب علم التفسير 

 لطالب علم التفسير آداب من تحلّى بها رجي له أن ينتفع بطلبه، ويجد ثمرته، ويُبارك له في شيوخه، وكتبه، وزملائه، وما يتعلمّه 

 

الأدب الأول: أخذ علم التفسير عن أهله  

الذين أحسنوا تعلّمه، ورعايته، وتعليمه، فالعلم دين، وطلبه من أهله سنّة متَّبعة، فالأخذ عن الشيخ المتقن يضيء الطريق للطالب، ويختصر عليه كثيراً من الجهد والوقت، ويعينه على إحسان فهم المسائل العلمية وصحة تصورها، ويصوّبه فيما يخطئ في فهمه وتصوّره، ويبيّن له ما يشكل عليه، ويبصّره بما ينفعه ويرفعه، ويأخذ بيده حتى يشتدّ عودُه في العلم، وتستبين له معالمه. 

  

ومن التمس العلم من غير أهله كان على خطر من الزيغ والضلالة، والافتتان بشبهاتهم، والتخلّق بأخلاقهم 

- قال هارون بن عميرة: قال أبو هريرة: « إنَّ هذا العلم دين؛ فانظروا ممن تأخذونه ». رواه ابن أبي خيثمة. 

- وقال هشام بن حسان عن محمد بن سيرين قال: « إنَّ هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم ». رواه مسلم في مقدمة صحيحه. 

 

وليحذر طالب العلم من الاغترار بالمتعالمين الذين يتكلمون في تفسير كتاب الله بغير علمٍ ولا هدى، والذين لم يأخذوا هذا العلم على سَنَن أهله القائمين به، وليجتنب القراءة في تفاسير أهل الأهواء قبل أن يكون لديه من العلم الصحيح ما يميّز به صوابهم من خطئهم. 

- قال الوليد بن مسلم: سمعت عبد الرحمن بن يزيد بن جابر يقول: « لا يُؤخذ العلمُ إلا عمّن شُهد له بالطلب ». رواه ابن أبي حاتم. 

- وقال محمد بن إسماعيل الترمذي: سمعت ابن أبي أويس يقول: سمعت خالي مالك بن أنس يقول: « إنَّ هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم، لقد أدركت سبعين ممن يقول: قال فلان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، عند هذه الأساطين، وأشار إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فما أخذت عنهم شيئاً، وإنَّ أحدهم لو اؤتمن على بيت مالٍ لكان أميناً، إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن، وقدم علينا ابن شهاب؛ فكنَّا نزدحم على بابه ». رواه الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه وابن عبد البر في الانتقاء. 

- وقال إبراهيم بن المنذر الحزامي: سمعت معن بن عيسى يقول: قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد الله! كيف لم تكتب عن الناس، وقد أدركتَهم متوافرين؟ 

قال: « أدركتهم متوافرين، ولكن لا أكتب إلا عن رجل يعرف ما يخرج من رأسه ». رواه الخطيب البغدادي في الكفاية. 

- وقال إبراهيم بن المنذر: حدثني معن بن عيسى: كان مالك بن أنس يقول: « لا تأخذ العلم من أربعة، وخذ ممن سوى ذلك، لا تأخذ من سفيه معلن بالسفه وإن كان أروى الناس، ولا تأخذ من كذاب يكذب في أحاديث الناس إذا جُرّب ذلك عليه وإن كان لا يتهم أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من صاحب هوى يدعو الناس إلى هواه، ولا من شيخ له فضل وعبادة إذا كان لا يعرف ما يحدّث  ». رواه يعقوب بن سفيان 

 

الأدب الثاني: توقير الشيخ وتبجيله ومراعاة حاله والصبر على جفائه وحدّته 

وإظهار الفرح والسرور بما يتعلم منه؛ فإنّ ذلك أدعى أن يوليه شيخه عناية حسنة، ويخصّه بأبواب من العلم ومهارات تختصر عليه كثيراً من الجهد والوقت فينتفع بها انتفاعاً عظيماً. 

بل كان من أهل العلم من يبالغ في التلطّف لشيخه ليحظى بعنايته ومودّته وإقباله عليه، وإذا كان ممن يلازمه ويكثر التردد عليه فينبغي له أن يراعي أوقات راحته، ومشاغله في بيته فلا يحرجه 

- قال يعلى بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «إن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل؛ فأتوسّد ردائي على بابه؛ فتسفي الريح على وجهي التراب، فيخرج، فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك؟! ألا أرسلت إليَّ فآتيك؟!! 

فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك. فأسأله عن الحديث». رواه ابن سعد، والدارمي، ويعقوب بن سفيان. 

- وقال رزين بن حبيب الجهني، عن عامر بن شراحيل الشعبي قال: ذهب زيد بن ثابت ليركب ووضع رجله في الركاب؛ فأمسك ابن عباس بالركاب؛ فقال: « تنحَّ يا ابن عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ». 

فقال: « لا، هكذا نفعل بالعلماء والكبراء ». رواه يعقوب بن سفيان في المعرفة، والحاكم في المستدرك، وابن عساكر في تاريخه. 

- وقال محمد بن عبد الله الأنصاري: حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة أن ابن عباس قام إلى زيد بن ثابت فأخذ له بركابه، فقال له: « تنحّ يا ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ». 

فقال: « إنا هكذا نفعل بكبرائنا وعلمائنا ». رواه محمد بن يحيى الذهلي في جزئه، وابنُ سعد في الطبقات، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في السنن الكبرى. 

- وقال معمر، عن عبد الله بن طاووس، عن أبيه قال: « من السنَّةِ أن يوقَّر العالِـم ». رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله. 

- وقال المبارك بن فضالة، عن هشام بن عروة عن أبيه قال: « لقد كان يبلغني عن الرجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديثُ فآتيه فأجده قد قال؛ فأجلس على بابه فأسأله عنه ». رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق كما في المختصر، وذكره أبو الحجاج المزي في تهذيب الكمال، والذهبي في سير أعلام النبلاء. 

- وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن ابن شهاب الزهري قال: « إن كنتُ لآتي باب عروة فأرجع إعظاماً له، ولو شئتُ أن أدخل عليه لدخلتُ ». رواه أحمد بن حنبل في العلل، ويعقوب بن سفيان في المعرفة. 

- وقال ابن وهب، عن مالك بن أنس قال: « كان عبيد الله بن عبد الله بن عتبة من علماء الناس كثير العلم، وكان ابن شهاب يخدمه حتى إن كان ليناوله الشيء، وكان ابن شهاب يصحب عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود حتى إنْ كان لينزع له الماء ». رواه يعقوب بن سفيان في المعرفة، والبيهقي في المدخل. 

قلت: وكان عبيد الله بن عبد الله كفيف البصر، وقّاد البصيرة. 

 

وليصبر الطالب على ما يكون من المعلّم من جفاء وقسوة، وليحمل تصرفاته على أحسن المحامل ما وجد إلى ذلك سبيلاً، ولا يقطع الرغبة فيما عنده من العلم لخطأ يكون منه ما بقي أهلاً لأن يتلقّى عنه العلم 

- قال مطرف بن عبد الله اليساري: قال مالك: « كنت آتي نافعاً مولى ابن عمر نصف النهار ما يظلني شيء من الشمس، وكان منزله بالنَّقيع بالصورين، وكان حَدًّا فأتحيَّن خروجه فيخرج؛ فأدعه ساعة وأريه أني لم أردْه، ثم أعرضُ له فأسلّم عليه، ثم أدعُه حتى إذا دخل البلاط أقول: كيف قال ابن عمر في كذا وكذا؟ فيقول: قال: كذا وكذا، فأخنس عنه ». رواه ابن سعد. 

والنقيع وادٍ جنوب المدينة، وهو من أكبر روافد وادي العقيق، والصوران موضع منه. 

- وقال عبد اللَّه بن الإمام أحمد: سمعت أبي يقول: « كان في نافع مولى ابن عمر عُسْرٌ في الحديث». 

- وقال ابن أبي أويس عن أبيه قال: كنا نختلف إليه - يعني نافعاً - وكان سيئ الخلق؛ فقلت: ما أصنع بهذا العبد؟ 

قال: « فتركتُه ولزمه غيري؛ فانتفع به ». رواه يعقوب بن سفيان. 

قلت: لا يسلّم وَصْمه بسوء الخلق، وإنما كانت فيه حدّة لا تخرجه إلى السيء من القول والعمل؛ فالرجل إمام معروف بعدالته وتعبّده وبذله للعلم، وقد لقي في ذلك مشقة، وبعثه عمر بن عبد العزيز يعلّم في مصر فمكث فيها مدّة، ثم إنّه بُعث للتعليم في اليمن فمكث فيها مدة ثم استقرّ بالمدينة، وأقبل في آخر حياته على العبادة، فلعلّه بعد كبر سنّه وجد ما أبرمه من كثرة السائلين فنتجت له حدّة وانقباض، وقد بورك له في آخر حياته؛ فأكثر من حمل علمه ونشره هم الذين تتلمذوا عليه في آخر حياته: مالك بن أنس، وعبيد الله بن عمر العمري، وأيوب السختياني، وابن جريج،  وأضرابهم من أساطين الرواية والعلم. 

لكن يستفاد من هذا الخبر أنّ من توفيق الله لطالب العلم صبرَه على ما يجد من عسر شيخه، وأن يحسن التلطفَ له حتى يستفيد من علمه. 

 

وقد أثمر تلطّف مالك لشيخه نافع وإحسانه مساءلته إياه أن أقبل نافع على مالك فحدّثه بحديث كثير 

- قال ابن وهب: قال مالك: « كنت آتي نافعاً مولى ابن عمر، وأنا يومئذ غلام حديث السن، ومعي غلام لي؛ فينزل إليَّ فيقعد معي ويحدثني ». رواه يعقوب بن سفيان. 

- وقال سفيان بن عيينة، عن ابن جريج قال: « لم أخرج الذي قد استخرجتُ من عطاء إلا برفقي به». رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله. 

يقصد عطاء بن أبي رباح رحمه الله 

 

الأدب الثالث: توقير مجلس العلم والتبكير إليه  

وحسن الإقبال على المعلّم، والإجابة على ما يَسأل طلابه ليستظهر ما عندهم من العلم والفهم، واجتناب ما يشين المجلس من العبث، والصخب، واللغط، والتدافع، والاشتغال بغير الدرس 

وإذا وجد المجلسَ مكتظاً فينبغي له أن يجلس حيث ينتهي به المجلس، ولا يتخطّى الرقاب، ولا يؤذي الجلساء، ولا يقيم أحداً ليجلس مكانه هو أو غيره 

وإذا جاء بعده طالب والمكان مضيق فليفسح له ما استطاع 

وينبغي للطالب إذا حضر المجلس أن يكون له ما يدوّن فيه مسائل الدرس وما يستفيده من فوائد. 

- قال أحمد بن عمرو بن جابر الرملي: سمعت الحارث بن أبي أسامة يقول: كان يزيد بن هارون إذا جاءه من فاته المجلس قال: « يا غلام! ‌ناولهالمنديل ». رواه الخطيب البغدادي في الجامع 

- وقال أبو سعد عبد الكريم بن محمد السمعاني: حضرت مجلس إملاء شيخنا أبي سعد بن أبي الفضل بن البغداديّ في مسجد الميدان بأصبهان بعد العصر، فأملى وكتبنا، فلمّا كان وقت الاصفرار دخل بعض أصحاب الحديث، وكان وقت الانصراف، فأنشأ الشّيخ رحمه اللّه يقول: 

ولا يَرِدون الماء إلا عشيّةً ..... إذا صدر الورّاد عن كلّ منهل 

 

وإذا تحدّث شيخه فليحسن الإنصات إليه ولا يعاجله بالسؤال حتى يفرغ من حديثه أو يبادرهم الشيخ بالسؤال، ومن القبيح جداً أن يقطع حديث الشيخ في درسه أو تأخذه العجلة بالمشاركة في الحديث، ولو كان قد سمعه من قبل؛ فإن الشيخ أقرب إلى تمييز ما يقول، والطالب إنما حضر ليستفيد؛ فإن كان عنده مزيد علم في المسألة يظنّه قد خفي على الشيخ؛ فليمهل حتى يفرغ الشيخ من حديثه؛ ثم ليخرج ما عنده مخرج السؤال والعرض؛ فإنّ ذلك أدعى للقبول 

 

الأدب الرابع: إحسان مساءلة الشيخ، وعقل أجوبته، وتعرّف ما يستخرج به علمه 

والمساءلة الحسنة من أعظم أبواب تحصيل العلم، وقد ذكر عن عليّ بن أبي طالب وابن عباس وغيرهما أنهم أدركوا العلم بلسان سؤول وقلبٍ عقول 

- قال يعلى بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار: يا فلان هَلُمَّ فلنسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم اليوم كثير. 

فقال: واعجباً لك يا ابن عباس!! أترى الناس يحتاجون إليك، وفي الناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من ترى؟!! 

فتركَ ذلك، وأقبلتُ على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتيه وهو قائل؛ فأتوسّد ردائي على بابه؛ فتسفي الريح على وجهي التراب، فيخرج، فيراني، فيقول: يا ابن عمّ رسول الله ما جاء بك؟! ألا أرسلت إليَّ فآتيك؟!! 

فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك. فأسأله عن الحديث. 

قال: فبقي الرجل حتى رآني، وقد اجتمع الناسُ عليَّ؛ فقال: « كان هذا الفتى أعقلَ مني». رواه ابن سعد، والدارمي، ويعقوب بن سفيان. 

- وقال سليمان الأحول، عن طاووس بن كيسان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: « إن كنت لأسأل عن الأمر الواحد ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ». رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق. 

قال جرير بن عبد الحميد الضبي، عن المغيرة بن مقسم الضبي، قال: قيل لابن عباس كيف أصبت هذا العلم؟  

قال: « بلسان سؤول، ‌وقلب ‌عقول ». رواه عبد الله بن الإمام أحمد في فضائل الصحابة لأبيه، والبيهقي في المدخل، وفيه انقطاع، ورواه المعافى بن زكريا في الجليس الصالح من طريق الأصمعي، عن عبد الحميد بن الحسن الهلالي، عن مغيرة، عن الشعبي، عن ابن عباس. 

- وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن الزهري قال: قال المهاجرون لعمر ألا تدعو أبناءنا كما تدعو ابن عباس؟  

قال: « ذاك ‌فتى ‌الكهول! إنَّ له لساناً سؤولاً، وقلباً عقولاً». رواه عبد الرزاق في مصنفه، وأحمد في فضائل الصحابة، وابن أبي شيبة في مصنفه، وغيرهم. 

- وقال أبو هلال الراسبي: حدثنا عبد الله بن بريدة، قال: أرسل معاوية إلى دغفل فسأله عن أنساب العرب، وعن النجوم، وعن العربية، وعن أنساب قريش، فأخبره فإذا رجلٌ عالم، فقال: « من أين حفظت هذا يا دغفل؟!! ». 

قال: « بلسان سؤول وقلب عقول، وإنّ غائلة العلم النسيان ». رواه أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة، والبيهقي في المدخل. 

ودغفل مختلف في صحبته، وقد عمّر في الجاهلية والإسلام.

وقال ابن وهب: حدثني يونس، عن ابن شهاب الزهري أنه قال: « إنما هذا العلم خزائن وتفتحها المسألة ». رواه يعقوب بن سفيان في المعرفة، والبيهقي في المدخل، والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه. 

- وقال ابن وهب، عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: « لا ينال العلم مستحيٍ ولا مستكبر ». رواه البيهقي في المدخل، وعلقه البخاري في صحيحه. 

 

وإحسان السؤال من دلائل فقه الطالب، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: « ما سألني رجلٌ عن مسألة إلا عرفتُ: فقيه هو أو غير فقيه ». رواه ابن أبي شيبة. 

وذلك أنّ الفقيه يعرف لِمَ يسأل؟ وكيف يسأل؟ ومتى يسأل؟ 

فلا يسأل سؤالاً إلا بعد أن يمعن النظر في مسألته ويتحرّى معرفة الصواب فيها وما يشكل عليه منها، ثمّ يكون سؤاله بعد ذلك نافعاً له 

والفقيه إذا سأل شيخَه عن مسألة ضبط جوابها، وعرف حجة الجواب ووجهه، واستفاد منه في نظائر تلك المسألة، فتظهر له مسائل بعد ذلك تدلّ على أنه قد فقه الجواب السابق، فيتبيّن الشيخ أن تلميذه قد فقه عنه، وانفتح له بالجواب السابق أبواب من العلم. 

 

ذكر أبو بكر الزبيدي في طبقات النحويين عن يونس بن حبيب الضبّيّ أنه قال: سُئل أبو عمرو بن العلاء عن اشتقاق الخيل، فلم يعرف، فمرَّ أعرابيٌّ مُحْرِم، فأراد السائلُ سؤال الأعرابي، فقال له أبو عمرو: « دَعْنِي! فأنا ألطف بسؤاله وأعرف ». 

فسأله؛ فقال الأعرابي: اشتقاق الاسم من فعل المسمّى؛ فلم يعرف من حضر ما أراد الأعرابي، فسألوا أبا عمرو عن ذلك، فقال: « ذهب إلى الخُيلاء التي في الخيل والعُجْب؛ ألا تراها تمشي العِرَضْنة خُيلاءً وتكبُّرًا! ».ا. هـ. 

والشاهد قول أبي عمرو بن العلاء: « دعني فأنا ألطف بسؤاله وأعرف ». 

فمساءلة الشيخ إنما ينتفع بها من كان يعرف كيف يسأل؟ وكيف يستخرج علم شيخه؟ وكان لطيفاً متلطفاً في ذلك حتى يدرك بغيته 

- قال سعيد بن عبد العزيز التنوخي: قال سليمان بن موسى [الدمشقي]: « حسنُ المسألة نصف العلم ». رواه أبو زرعة الدمشقي 

وكان سليمان بن موسى ممن عُرف بإحسان المساءلة حتى كان الناس يعطونه مسائلهم ليسأل لهم 

وقد قال فيه عطاء بن أبي رباح: « سيّد شباب أهل الشام سليمان بن موسى ». رواه ابن عساكر 

- قال معتمر بن سليمان: سمعت بُرْدَ بنَ سنان قال: « كان الناس يجتمعون على عطاء والذي يلي لهم المسألة سليمان بن موسى ». رواه يحيى بن معين في تاريخه، وأحمد بن حنبل في العلل، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل.

- وقال مروان بن محمد الطاطري: حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال: كان عطاء بن أبي رباح إذا جاءه سليمان بن موسى يقول لأصحابه: « كفوا عني المسألة فقد جاءكم من يكفيكم المسألة ». رواه أبو زرعة الدمشقي.  

- وقال أبو زرعة الدمشقي في "تاريخ دمشق": سمعتُ أبا مسهرٍ يقول: قال سعيد بن عبد العزيز: « ما رأيت أحسنَ مسألة منك بعد سليمان بن موسى ».   

- وقال علي بن المديني: حدثنا سفيان بن عيينة قال: (سمعت مالك بن أنس يسأل زيد بن أسلم عن حديث عمر أنه حمل على فرس في سبيل الله؛ فجعل يرفق به، ويسأله عن الكلمة بعد الكلمة، والشيء بعد الشيء). رواه ابن عبد البر في الانتقاء. 

 

والاستكثار من المساءلة مع الفقه والضبط من أعظم الأبواب لتحصيل العلم وغزارته وبركته، وكانت هذه طريقة شائعة لدى أهل العلم. 

- قال أبيّ بن كعب رضي الله عنه لزرّ بن حبيش: « لا تريد أن تدع آية في كتاب الله تعالى إلا سألتني عنها!! ». رواه الإمام أحمد. 

- وقال عامر الشعبي: « والله ما من آية إلا قد سألتُ عنها ». رواه ابن جرير. 

 

بل كان منهم من يجمع المسائل حتى إذا لقي العلماء سألهم، كما كان يفعل ذلك سعيد بن جبير، ومحمد بن سيرين، وغيرهما. 

- قال وُهَيب بن خالد: حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير قال: « كنا إذا اختلفنا بالكوفة في شيء كتبته عندي حتى ألقى ابن عمر فأسأله عنه ». رواه ابن سعد.

- قال حماد بن زيد، عن يحيى بن عتيق، عن محمد بن سيرين قال: « كنت ألقى عَبيدة بأطراف فأسأله ». رواه أحمد في العلل. 

- وقال حماد بن زيد، عن هشام بن حسان قال: قلت للقاسم بن محمد: محمد بن سيرين يقرئك السلام - وكان أمرني أن أسأله عن شيء - قال: « عافاه الله، ذاك شيخ ما بذلك البلد أحدٌ أحبّ إليّ لقاءً منه ». رواه ابن عساكر.

- وقال سلام بن مسكين: حدثني عمران بن عبد الله قال: لما قدم قتادة على سعيد بن المسيب جعل يسائله أياماً وأكثر؛ فقال له سعيد: « أكلَّ ما سألتني عنه تحفظه؟ ». 

قال: نعم، سألتك عن كذا فقلت فيه كذا، وسألتك عن كذا فقلت فيه كذا، وقال فيه الحسن كذا. 

قال: حتى ردَّ عليه حديثا كثيراً. 

قال: يقول سعيد: « ما كنت أظنّ أن الله خلق مثلك!! ». 

وقال سلام بن مسكين: فحدثت به سعيد بن أبي عروبة، فكان يحدث به. 

قال سلام: « وكانت مسائل قد درسها قبل ذلك عند الحسن وغيره، فسأله عنها ». رواه ابن سعد. 

- وقال مغيرة بن سقلاب: حدثني محمد بن أحمد بن إسحاق، عن الزهري قال: « كان يصطاد العلم بالمساءلة كما يصطاد الوحش ». رواه أبو نعيم في الحلية. 

- وقال إبراهيم بن سعد الزهري: قال لي أبي: « ما سبقنا ابن شهاب من العلم إلا أنا كنا نأتي المجلس؛ فيستقبل ويشدّ ثوبه عند صدره ويسأل عما يريد، وكنا تمنعنا الحداثة ». رواه يعقوب بن سفيان. 

 

وينبغي أنّ يحذر الطالب من أن يصدر سؤاله عن تعجل وتفريط في التثبت والنظر، وتركٍ لضبط جواب المسألة؛ فإن ذلك من دلائل ضعف الفقه وغلبة الجهل والتعجل وضياع الحزم؛ فتجده يثير الأسئلة عن غير فقه؛ ويلقيها من غير تلطف، ثم إذا أجيب لم يضبط الجواب فيراه شيخه يعيد عين مسألته أو نظيرتها من غير ضبطٍ لما أجيب به من قبل؛ فيزهد في تعليمه لما يرى من ضعف ضبطه وتخليطه، بل يخشى عليه من التصدر وهو على هذه الطريقة في ضعف الضبط وسوء الفهم 

- قال ابن شهاب الزهري، عن القاسم بن محمد؛ أنه قال: سمعتُ رجلاً يسأل عبد الله بن عباس عن الأنفال؛ فقال ابن عباس: « الفرس من النفل، والسلب من النفل ». 

قال: ثم عاد لمسألته، فقال ابن عباس ذلك أيضاً. 

ثم قال الرجل: الأنفال التي قال الله في كتابه ما هي؟  

قال القاسم: فلم يزلْ يسأله حتى كاد أن يحرجه؛ فقال ابن عباس: « أتدرون ما مثل هذا؟! مثل صبيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب ». رواه مالك في الموطأ، وعبد الرزاق في تفسيره، وابن جرير في تفسيره. 

 

ومن أقبح ما يقع من الطالب ويحرمه بركة علم شيخه مناكفته إياه، واعتراضه وتشغيبه عليه، وقد بدر من بعض الصالحين من طلبة العلم شيء من ذلك لبعض مشايخهم فحرموا بركة علمهم وندموا على ذلك 

فقد ذكر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف رحمه الله أنه كان يسائل ابنَ عباس ويماريه فحُرم بذلك كثيراً من علم ابن عباس. 

- قال عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن شهاب الزهري قال: « كان أبو سلمة يماري ابنَ عباس؛ فحُرِمَ بذلك علماً كثيراً ». رواه البخاري في التاريخ الكبير، ويعقوب بن سفيان في المعرفة، وابن أبي خيثمة في تاريخه، وابن عساكر في تاريخه. 

- وقال حماد بن زيد عن معمر عن الزهري قال: « كان أبو سلمة يسأل بن عباس فكان يخزن عنه، وكان عبيد الله يلطفه فكان يغرّه غرّا ». رواه الإمام أحمد في العلل 

ثم إنه ندم على ذلك، وقال: « لو رفقتُ بابن عباس لأصبتُ منه علماً كثيراً ». رواه الدارمي من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري عنه. 

ولعل من أسباب مماراته إياه أنه كان قد حفظ حديثاً كثيراً من أبي هريرة وعائشة وغيرهما، وولي القضاء بالمدينة وهو شابّ لم يبلغ الثلاثين في حياة ابن عباس وبادر إلى مناظرة الكبار، ولو تلطف لهم بالسؤال لاستفاد علماً كثيراً. 

 

الأدب الخامس: الصدق في طلب العلم، والنهمة فيه، والإعراض عن اللغو 

فإنّ ذلك أدعى لإحسان التحصيل، والازدياد من العلم، فإنّ من أخذ العلم بقوة، وإقبال نفس، وتعظيمٍ لشأن العلم كان تلقيه للعلم تلقياً حسناً يضعه في مواضعه، ويعرف له قدره، وهذا من أسباب بركة العلم والانتفاع به 

ومن وجد في نفسه فتوراً وضعفاً فليتعاهد نفسه بتذكيرها بفضائل العلم عموماً وفضائل علم التفسير خاصة، وليداوم على الطلب والتحصيل؛ حتى تكون له نهْمةٍ في طلب العلم 

 

والنهمة في طلب العلم هي بلوغ الهمة في طلب العلم مبلغاً عالياً يثير حرص صاحبه على التعلم، وشدة الرغبة في الازدياد منه، والسعي الحثيث لذلك، حتى يهجر لأجله كثيراً من الملذات والمتع. 

وكلما ازداد طالبُ العلم علماً عظمت رغبته في الازدياد منه أكثر؛ فهو منهوم لا يشبع، ولو قضى عمره كله في طلب العلم لأن الإنسان لن يبلغ في العلم غاية الكمال مهما بلغ اجتهاده وتحصيله، وفوق كل ذي علم عليم. 

 

- قال محمد بن يحيى بن حبان، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، ‌احرصعلىماينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان ». رواه مسلم، وابن ماجه، والنسائي من هذا الطريق، وهو أجود أسانيد هذا الحديث. 

 

ومفتاح النهمة في العلم: اليقين بعظيم ثواب العلم ومحبة الله تعالى للعلم وأهله الذين يطلبونه ابتغاء وجهه، ومن غاب عنه اليقين أو ضعف ثقل عليه طلب العلم لله 

- قال الأعمش: حدثني أبو صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « ليس صلاة أثقل على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهماولوحبوا ». رواه أحمد، والبخاري، ومسلم 

فلما غاب عنهم اليقين بعظم الثواب وحسن العاقبة ثقلت عليهم الصلاة لأن أنفسهم إنما تراها تكاليف محضة 

 

ومن طلب العلم موقناً بمحبة الله تعالى لطلبه إياه، وحسن عاقبته له في الدنيا والآخرة، علم أنَّ ساعةً واحدةً يمكثها في طلب العلم بقصد صالح خيرٌ له من الدنيا وما فيها، ومن كان كذلك جعل الله في قلبه حلاوة العلم ولذة طلبه حتى يود ألا يفارق هذا العمل لشدة ما يجد من حلاوته ولذته مع يقينه بنفعه وثمرته، نسأل الله من فضله. 

ولهذه النهمة أثر كبير في التحفيز لطلب العلم، وإحسان تحصيله 

- قال زيد بن أبي أنيسة، عن سيار، عن الحسن البصري قال: « ‌منهومان لا يشبعان: منهوم في العلم لا يشبع منه، ومنهوم في الدنيا لا يشبع منها ». رواه الدارمي، وروي نحوه مرفوعاً من أحديث ابن مسعود، وأنس، وابن عباس بأسانيد ضعيفة لا تصح. 

- وقال أبو الحسن المدائني في كتاب الحكمة: (قيل للشعبي: من أين لك هذا العلم كله؟! 

قال: « بنفي الاعتماد، والسير في البلاد، وصبر كصبر الجماد، وبكور كبكور الغراب ». رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق. 

- وقال عبد الله بن يحيى بن أبي كثير: سمعت أبي يقول: « ‌لايستطاعالعلم براحة الجسم ». رواه مسلم في صحيحه 

- وقال داود بن مخراق: سمعت النضر بن شميل يقول: « لا يجد الرجل لذة العلم حتى يجوع فينسى جوعه ». رواه أبو عبد الله ابن منده في أماليه. 

- وقال الحسين بن الوليد: سمعت شعبة يقول: « كم عصيدة فاتتني ». رواه ابن عدي في الكامل، وأبو نعيم في الحلية 

- وقال الشافعي رحمه الله في "الرسالة": (والناس في العلم طبقات، موقعُهم من العلم بقدْر درجاتهم في العلم به؛ فحقّ على طلبة العلم بلوغُ غاية جهدِهم في الاستكثار من علمه والصبرُ على كل ‌عارض ‌دون ‌طَلَبِه وإخلاص النية لله في استدراك علمه نصاً واستنباطاً والرغبة إلى الله في العون عليه فإنه لا يُدرَك خيرٌ إلا بعونه؛ فإن من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصاً واستدلالاً ووفقه الله للقول والعمل بما علمنه فاز بالفضيلة في دينه ودنياه وانتفت عنه الرِّيَب ونَوَّرت في قلبه الحكمة واستوجب في الدين موضع الإمامة)ا.هـ. 

- وقال ابن أبي الخناجر: سمعت يزيد بن هارون يقول لأصحابه: « منغابخاب، وأكل نصيبه الأصحاب». 

وقال: « وقد كان خلق من طلبة العلم بالبصرة في زمن علي بن المديني يأخذون مواضعهم في مجلسه في ليلة الإملاء ويبيتون هناك حرصا على السماع وتخوفا من الفوات ». رواه الخطيب البغدادي في الجامع 

 

ولا يستقيم لطالب العلم طريق الطلب إلا بالصدق في طلبه، والإعراض عن اللغو: 

- فأما الصدق في الطلب فإنه يستلزم وضوح المنهج وصدق العزيمة، وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: « اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد ».  

فبالثبات في الأمر تحصل البصيرة، ويتضح المنهج للمؤمن، ويكون على بينة من أمره. 

وبالعزيمة على الرشد يتحقق له صلاح الإرادة وصلاح العمل. 

- وأما الإعراض عن اللغو فهو من أخصّ صفات المؤمنين ومن أرجى أسباب الفلاح، كما في قول الله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُون (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُون} 

فمن لم يجاهد نفسه على الإعراض عن اللغو ذهبت بركة كثير من أوقاته وأعماله. 

عبد العزيز بن داخل المطيري

#2

16 Sep 2024

الأدب السادس: إعداد العدّة لطلب العلم  

من دلائل الصدق في طلب العلم إعداد العدة الحسنة له، وكلّ صاحب صنعة إذا لم تكن عدّته وافية حسنة دخل عليه من الضعف والنقص بحسب ما فرّط فيها. 

ولكل أمرٍ ذي بالٍ عُدّته التي ينبغي للصادق في طلبها أن يحرص على حيازتها وإحسانها، وقد قال الله تعالى في ذمّ المنافقين الذين لم يصدقوا في رغبة الجهاد في سبيل الله: {ولو أرادوا الخروج لأعدّوا له عدة}. 

فطالب العلم الصادق في طلبه يعدّ له عدّته اللازمة والمكمّلة، وكلما كان الطالب أحسن استعداداً، وأكمل عدة كان ذلك أرجى لحسن تحصيله العلمي. 


ومن ذلك:  

1: تكميل الأدوات التي يحتاجها للدراسة والطلب بما يناسب حاله، وإعداد العدة لحضور مجالس العلم، والقراءة على المشايخ. 

قال محمد بن إدريس الشافعي: سمعت مالك بن أنس يقول: سمعت الزهري يقول: « حضور المجلس بلا نسخة ذلّ ». رواه أبو نعيم في الحلية. 

وذلك أنّ من ليس له نسخة يحتاج إلى أن يطالع نسخ زملائه وهم مشغولون عنه بالدرس 

2: تهيئة مسكنه، ومحلّ إقامته ودراسته، وتدبير أمور معيشته بما يتفق مع طلبه للعلم ما أمكنه، وأن ينظم وقته لذلك مهما كان عنده من الشواغل والقواطع.  

- قال ابن شهاب الزهري: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: « كنت أنا وجارٌ لي من الأنصار في بني أمية بن زيد، وهي من عوالي المدينة، وكنا نتناوب النزولَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل يوماً وأنزل يوماً، فإذا نزلتُ جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك ». رواه أحمد، والبخاري، ومسلم.

- وقال سليمان بن حرب: حدثنا حماد عن أيوب قال: « لو أعلم أنّ أهلي يحتاجون إلى دستجة بقْلٍ ما قعدت معلماً ». رواه يعقوب بن سفيان. 

- وقال أبو بكر الحميدي: حدثنا سفيان قال: قال أيوب: « لو أعلم أنَّ أهلي يحتاجون إلى حزمة أو دستجة من بقلٍ ما جلست معكم ». رواه يعقوب بن سفيان.  

3: أن يعدّ ما يدوّن فيه مسائل العلم من كتب ودفاتر وملفات إلكترونية، وأن يحتاط لذلك.  

4: تحصيل الكتب النافعة التي يدرسها، والتي يحتاج إلى الرجوع إليها من الكتب الأصول في فنون العلم، وليختر أجود طبعاتها ما أمكنه ذلك، ولا ينبغي أن يستكثر من الكتب في أوّل طلبه للعلم لأنها تشغله عن إتقان ما يدرس. 

5: توثيق الصلة بشيوخه وطلاب العلم المتمكنين، وأن يكون له تواصل حسن معهم.  

6: توثيق الصلة بالنابهين المفيدين من زملائه؛ فالمرء يقوى بإخوانه، ويجد منهم العون والمؤازرة والتنشيط للطلب 

7: تنظيم ملخصاته، وتصنيفها، وبناء الأصول العلمية وتنميتها وتهذيبها؛ لأنها هي ثروته الحقيقية في العلم، وقد كان لكثير من العلماء أصولهم العلمية الخاصة يداومون على مطالعتها والإضافة إليها وتحريرها والإفادة منها. 

 

الأدب السابع: التدرج في طلب العلم، وأخذه برفق ومداومة  

مما ينبغي أن يتفطّن له طالب العلم أنّ العلم له جادّة مسلوكة، ودربٌ من سار عليه وصل؛ وله أصول ضابطة، وحدود من تعدّاها فقد أساء وظلم 

ومن ذلك أنّ يُتّبع في طلبه للعلم سبيل أهل العلم والإيمان؛ فيأخذه طالب العلم برفق وتؤدة على مرّ الليالي والأيام. 

- قال عبد الله بن وهب: سمعت يونس بن يزيد يقول: سمعت الزهري يقول: « إن هذا العلم إن أخذته بالمكاثرة غلبك ولم تظفر منه بشيء، ولكن خذه مع الأيام والليالي أخذا رفيقا تظفر به ». رواه أبو نعيم في الحلية 

- وقال عبد الرزاق: سمعت معمراً، يقول: سمعت الزهري، يقول: « من طلب العلم جملة فاته جملة، وإنما يدرك العلم حديث وحديثان ». رواه الخطيب البغدادي في أخلاق الراوي. 

- وقال ابن وهب، عن يونس، عن الزهري قال: « العلم وادٍ؛ فإن هبطت وادياً فعليك بالتؤدة حتى تخرج منه، فإنك لا تقطع حتى يقطع بك ». رواه أبو نعيم في الحلية. 

- وقال عبد الله بن وهب: « سمعت من ثلاث مئة شيخ وسبعين شيخا، فما رأيت أحداً أحفظ من عمرو بن الحارث، وذلك أنه كان قد جعل على نفسه يتحفظ كل يوم ثلاثة أحاديث».


وفي ذلك حكمة فإنّ من أخذ العلم برفق، ودرسه كما ينبغي له أن يُدرس، وعَرف ما فيه من الهدى وعمل به، ثم ازداد علماً آخر وصنع فيه كما صنع فيما أخذه من قبل انتفع بعلمه ورسخ فيه، ونبت في العلم نباتاً حسناً، ومن أخذ العلم بالمكاثرة لم يمكنه ضبطه، ولا التفكر فيه، ولا مذاكرته وضبطه وتمييز صحيحه من ضعيفه، وصوابه من خطئه

وليس العلم بكثرة التحصيل من غير ضبط ولا تمييز. 

وكان مما ذكر عن جماعة من ابتغى العلم أنهم أكثروا على أنفسهم فحملوا علماً كثيراً عجزوا عن ضبطه؛ وتمييز صحيحه من سقيمه، ودخل عليهم الخلل من جهة ضعف الضبط؛ كما ذُكر عن ابن لهيعة الحضرمي وكان رجلاً صدوقاً صالحاً غير متّهم بالكذب، لكنه كان شغوفاً بالعلم كثير الكتابة للحديث، وكان يعلّق على رقبته خريطة فيها ورق يكتب فيه الحديث ويتجوّل في طلبه حتى كني بأبي خريطة؛ فحمل حديثاً كثيراً جداً عجز عن ضبطه وتمييزه؛ فدخل عليه الضعف ونزلت مرتبته عند أهل الحديث. 

- قال بشر بن المنذر: (كان ابن لهيعة يكنى أبا خريطة، وذاك أنه كانت له خريطة معلّقة في عنقه، وكان يدور بمصر، فكلما قدم قوم كان يدور عليهم، وكان إذا رأى شيخًا سأله: من لقيت؟ وعمن كتبت؟ فإن وجد عنده شيئًا كتب عنه، فلذلك كان يكنى أبا خريطة). رواه ابن حبان في المجروحين. 

وقد ذكر الإمام مسلم في مقدمة صحيحه ما خلاصته أن ضبط القليل من العلم أيسر وأنفع من معالجة كثير لا يمكن ضبطه، وأن أخذ الكثير إنما يكون لمن كان حسن التعلّم والتمييز والتيقظ للعلل.

فمن رام الوثوب إلى العلم الكثير وهو لم يضبط قليله ضيّع علمه، وأضعف الوثوق به، ولم يكن إماماً.


- قال أحمد بن حنبل: حدثنا أبو الجهم عبد القدوس بن بكر بن خنيس، عن محمد بن النضر الحارثي، قال: « كان يقال: أول التعليم الإنصات له، ثم الاستماع له، ثم حفظه، ثم العمل به ثم بثّه ». رواه البيهقي في شعب الإيمان.

- وقال أبو عثمان الحناط: سمعت ذا النون يقول: قال سفيان بن عيينة: « أول العلم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر». رواه البيهقي في شعب الإيمان.

-  وقال ابن القيم رحمه الله: (وللعلم سِتّ مَرَاتِب:

أولها: حسن السُّؤَال.

الثَّانِيَة: حسن الانصات وَالِاسْتِمَاع.

الثَّالِثَة: حسن الْفَهم.

الرَّابِعَة: الْحِفْظ.

الْخَامِسَة: التَّعْلِيم.

السَّادِسَة وَهِي ثَمَرَته: وَهِي الْعَمَل بِهِ ومراعاة حُدُوده)ا.هـ.

ثم ذكر أنّ الحرمان من تحصيل العلم وتحقق آثاره وبركاته إنما يكون بسبب الإخلال بواحدة من هذه المراتب. 

 

الأدب الثامن: العناية بحسن الضبط، وتقييد مسائل العلم 

وبناء الأصول العلمية وتعاهدها بالمراجعة والتهذيب والزيادة؛ حتى تكون له عدّة صالحة في طلب العلم، وفي التعليم إذا تأهّل له. 

وليحذر طالب العلم من التفريط في بناء الأصول العلمية، وليدع قول من يزهّده فيها، فإنّها رأس ماله في العلم، وحقيقة تحصيله العلمي 

وإذا عوّد طالب العلم نفسه تقييد مسائل العلم في دفاتر أو كتب أو ملفات إلكترونية، وأحسن حفظها وتصنيفها وتعاهدها وجد بعد مدّة من الزمن أنه قد جمع ثروة علمية لا يستهان بها، وأصبحت عنده كالكنز الذي يتعاهده ويخاف عليه من الضياع، ويستفيد بكثرة التعاهد والتهذيب والإضافة رسوخ تلك المعلومات في ذهنه، وتولّد الأفكار النافعة في الإفادة منها ونشرها 

وقد كان لكثير من العلماء أصولهم العلمية التي يحتفظون بها ويتعاهدونها فإذا أرادوا التأليف نهلوا منها، وكانت تلك الأصول من أسباب تمكنهم العلمي وثراء مؤلفاتهم بالمسائل والنقول الحسنة عن العلماء. 

وقد ذكر ابن رشيق المغربي عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنّه وقف على خمسة وعشرين تفسيراً مسنداً، وأنه كتب نقول السلف مجردًا عن الاستدلال على جميع القرآن،  

وهذا لا شكّ أنه أصل علميّ مهمّ في التفسير. 

 

الأدب التاسع: العناية بالمهارات العلمية

ومن ذلك مهارات القراءة والتلخيص والفهرسة والبحث ودراسة المسائل وجرد المطولات؛ فالتمرّن عليها وإتقانها سبب لتحصيل علمٍ غزيرٍ مبارك لا يدركه الطالب بالتلقي من شيوخه، ولا بالقراءة المجردة. 

وكان شيخنا ابن جبرين رحمه الله يقول ما معناه: انظروا إلى غزارة علم شيخ الإسلام ابن تيمية، وكثرة تفننه في العلوم والحجج؛ فإنه لم يحصّل ذلك العلم كلّه من شيوخه الذين درس عليهم، ولكنّه فهم آتاه الله إياه.

 

وحصول الفهم الحسن فيما لم يدرسه الطالب من مسائل العلم على شيوخه إنما يكون بتوفيق من الله عزّ وجلّ، وهو ينبني على أصلين:  

الأصل الأول: ضبط المعارف الأساسية في العلوم 

والأصل الثاني: تحصيل المهارات العلمية التي يمكنه بها إجراء نظير ما درسه فيما لم يدرسه؛ حتى يتحقق بالعلم ويتفهم أصوله وفروعه وحججه وعلل الأقوال فيه.  

 

والسبيل إلى تحصيل المهارة إنما يكون بالصبر على التكرار المتقن حتى ترتاض النفس لها، وتصبح تلك المهارة لها كالسجية التي لا تتكلفها، فحينئذ يكون اكتساب طالب العلم للمهارة اكتساباً صحيحاً. 

وكثير من طلاب العلم إنما يعوّقهم عن تحصيل كثير من المهارات ضعف الصبر على احتمال التكرار، واكتفاؤهم بالمعرفة الأولية التي لا تُكسب مهارة، ولا تفيد رسوخاً، وإنما هي معرفة سهلة التحصيل سريعة الرحيل. 

عبد العزيز بن داخل المطيري

#3

16 Sep 2024

الأدب العاشر: إحسان المذاكرة والمدارسة  

وهو من آكد الآداب وأهمّها، وإغفاله مضيعة للعلم،  

والمذاكرة والمدارسة من أرجى الأسباب لثبات العلم ورسوخه، وازدياد الطالب فهماً لما درس، ومعرفة بعلل لم يكن قد تفطّن لها من قبل، وتوسعاً لمداركه، وإدراكاً لأوجه من التناسب بين مسائل العلم ما لم يكن يدركها من قبل.  

وربما كان قد فهم بعض المسائل العلمية فهماً خاطئاً غير صحيح فيتنبّه لذلك بالمذاكرة والمدارسة. 

وينفتح له بالمذاكرة والمدارسة أبواب من العلم والفهم.  

 

والمذاكرة النافعة على نوعين: مذاكرة النفس، ومذاكرة الحذاق والنابهين من طلاب العلم.  

فأما مذاكرة النفس، فهي الأصل، وبها يحصل التفهم والتذكّر والانتفاع، ولا سيّما التفكر في معاني القرآن ودراسة أقوال العلماء في التفسير، وتكرار النظر فيها؛ فهي من أعظم أسباب رسوخ الفهم في القرآن، وقد كان هذا السبب من أعظم أسباب نبوغ بعض المفسرين:  

- قال سليمان بن داود المهري: حدثنا ابن أبي مليح قال: قالت أم محمد بن كعب القرظي لابنها: يا بني لولا أني أعرفك صغيراً وكبيراً طيباً لظننت أنك تُحْدِثُ في كل يوم حدثاً؛ فقال: « يا أُمَّهْ! إني إذا دخلت للصلاة وقفت من القرآن على عجائب حتى إنَّ ليلي يذهب قبل أن أقضي منه حاجتي ». رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق، وروى نحوه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس من طريق زهير بن عباد الرؤاسي، عن أبي كثير المصري عن أمّ محمد بن كعب.  

- وقال أبو معشر المدني: قال محمد بن كعب: « كنتُ إذا سمعت حديثاً عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم التمسته في القرآن ». رواه ابن المبارك في الزهد. 

فمن كان هذا عيشه مع القرآن كان حرياً أن يفتح له في معانيه وكنوزه.  

- وقال مروان بن محمد الطاطري: سمعت الليث بن سعد، يقول: تذكّر ابن شهاب ليلة بعد العشاء حديثاً وهو جالس متوضئا قال: « فما زال ذلك مجلسه حتى أصبح ».  

قال مروان: « جعل يتذاكر الحديث ». رواه الدارمي 

- قال ابن أبي مريم: سمعت الليث بن سعد يقول: « وضع الطشت بين يدي ابن شهاب، فتذكّر حديثاً فلم تزل يده في الطشت حتى طلع الفجر حتى صحّحه». رواه أبو نعيم في الحلية، والخطيب البغدادي في الجامع. 

 

وأما مذاكرة الحاذقين من طلاب العلم فتصقل الفهم، وتنفي دغله. 

- قال أبو عثمان البصري: قال أبو أحمد محمد بن عبد الوهاب الفراء:  كان يقال: « عليكم بمذاكرة العلم، فإنها مبسطة للعلم، وميقظة للفؤاد، ومجلاة للبصر ». رواه البيهقي في المدخل. 

- وقال أبو منصور الثعالبي: (المذاكرة صَيْقَل العقل، والكتب بساتين العقلاء). 

- وقال أبو زكريا النووي: (بالمذاكرة يثبت المحفوظ ويتحرر ويتأكد ويتقرر ويزداد بحسب كثرة ‌المذاكرة، ‌ومذاكرة حاذق في الفنّ ساعة أنفع من المطالعة والحفظ ساعاتٍ بل أياماً)ا.هـ. 

فإذا كان هذا نفع مذاكرة ساعة؛ فما الظن بالمداومة على المذاكرة.  

ومن جيّد ما أنشده أبو عمر ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله منسوباً للؤلؤيّ قوله 

والعلم بالفهم ‌وبالمذاكرة والدرس والفكرة والمناظرة 

فربَّ إنسان ينال الحفظا ويورد النص ويحكي اللفظا 

وما له في غــــــــــيره نصيب مما حــــــــــــــــواه العــالم الأريب 

 

ومن تأمّل الآثار الواردة عن علماء السلف الصالح في مذاكرة العلم ومدارسته وإيثارهم إيّاها على كثير من النوافل علم أنّ مذاكرة العلم سنّة متّبعة، وعرف قدر المذاكرة وأثرها العظيم على طالب العلم.  

- قال هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن الأحنف بن قيس قال: كنا جلوساً بباب عمر فخرجت جارية فقلنا: "سرية عمر!" 

فقالت: إنها ليست سرية لعمر، إني لا أحلّ لعمر، إني من مال الله. 

فتذاكرنا بيننا ما يحل له من مال الله، قال: فرقى ذلك إليه، فأرسل إلينا فقال: « ما كنتم تذاكرون؟ ». 

فقلنا: خرجتذ علينا جارية، فقلنا: هذه سرية عمر، فقالت: إنها ليست بسرية عمر، إنها لا تحلّ لعمر، إنها من مال الله، فتذاكرنا ما بيننا ما يحل لك من مال الله. 

فقال: « أنا أخبركم بما أستحلّ من مال الله: حلّة الشتاء والقيظ، وما أحجّ عليه وما أعتمر من الظهر، وقوت أهلي كرجل من قريش، ليس بأغناهم ولا بأفقرهم، أنا رجل من المسلمين يصيبني ما أصابهم ». رواه ابن أبي شيبة. 

- وقال كهمس بن الحسن، عن عبد اللَّه بن بريدة قال: قال علي: « تزاوروا وتذاكروا الحديث، فإنكم إن لم تفعلوا يدرس ». رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، والدارمي في سننه، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في المدخل، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 

- وقال يحيى بن آدم: حدثنا أبو إسرائيل الملائي، عن عطاء بن السائب، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: « تذاكروا الحديث فإن حياته ‌المذاكرة ». رواه ابن أبي شيبة، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في المدخل 

وقال أبو يحيى عبد الحميد الحمّاني، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: قال عبد الله [بن مسعود] رضي الله عنه: « تذاكروا الحديث فإن ذكر الحديث حياته ». رواه الحاكم في المستدرك موقوفاً، وفي معرفة علوم الحديث مقطوعاً على علقمة، ورواه البيهقي في المدخل مقطوعاً، وقال: (رفعه أبو عبد الله في كتاب المستدرك بهذا الإسناد إلى عبد الله، وهو غلط، إنما هو عن علقمة من قوله، كذلك رواه غيره بهذا الإسناد وكذلك رواه الثوري وغيره عن الأعمش). 

- وقال سفيان الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة، قال: « تذاكروا الحديث فإنَّ ذكره حياته ». رواه الدارمي، وأبو نعيم في الحلية 

 - وقال أبو بشر اليشكري، عن سعيد بن جبير قال: كنا في حجرة ابن عباس، ومعنا عطاء بن أبي رباح ونفر من الموالي، وعبيد بن عمير، ونفر من العرب؛ فتذاكرنا اللماس [يريد معنى قول الله تعالى: {أو لامستم النساء} 

فقلت أنا وعطاء: اللمس باليد. 

وقال عبيد بن عمير والعرب: هو الجماع. 

فقلت: إن عندكم من هذا لفصلٌ قريب، فدخلت على ابن عباس وهو قاعد على سرير، فقال لي: « مَهْيَم؟ ». 

فقلت: تذاكرنا اللمس، فقال بعضنا: هو اللمس باليد، وقال بعضنا: هو الجماع. 

قال: « من قال: هو الجماع؟ ». 

قلت: العرب. 

قال: « فمن قال: هو اللمس باليد؟ ». 

قلت: الموالي. 

قال: « فمن أي الفريقين كنت؟ ». 

قلت: مع الموالي. 

فضحك، وقال: « غُلبت الموالي، غُلبت الموالي ». - ثلاث مرات - ثم قال: « إن اللمس والمس والمباشرة إلى الجماع ما هو، ولكن الله عز وجل يكني ما شاء بما شاء ». رواه سعيد بن منصور وابن جرير. 

- وقال أبو بشر جعفر بن إياس اليشكري، عن أبي نضرة العبدي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: « تحدثوا، فإن الحديث يهيج الحديث ». رواه ابن أبي شيبة، والدارمي، وأبو زرعة الدمشقي في تاريخه، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في المدخل 

- وقال هشيم بن بشير: حدثنا حجاج [ بن أرطأة ]، عن عطاء، وابن أبي ليلى، عن عطاء، قال: « كنا نكون عند جابر بن عبد الله فيحدثنا فإذا خرجنا من عنده تذاكرنا حديثه فكان أبو الزبير من أحفظنا للحديث ». رواه أبو خيثمة في كتاب العلم، والدارمي في سننه. 

- وقال محمد بن فضيل: حدثنا يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: « إحياء الحديث ‌مذاكرته، فذاكروه ». 

قال: فقال عبد الله بن شداد: « يرحمك الله كم من حديث أحييته في صدري قد كان مات ». رواه أبو خيثمة في كتاب العلم، وابن أبي شيبة في مصنفه، والدارمي في سننه. 

- وقال أبو بكر الحميدي: حدثنا سفيان، قال: سمعت يزيد بن أبي زياد، يقول: التقى ابن أبي ليلى، وعبد الله بن شداد بن الهاد، فتذاكرا الحديث؛ فسمعت أحدهما، يقول للآخر: « يرحمك الله! فربَّ حديث قد أحييته في صدري ». رواه البيهقي في المدخل 

وقال الوليد بن مسلم: حدثنا الأوزاعي، حدثنا حسين بن الحسن، عن عون بن عبد الله بن عتبة قال: لقد أتينا أم الدرداء فتحدثنا عندها فقلنا: أمللناك يا أم الدرداء! 

فقالت: « ما أمللتموني، لقد طلبت العبادة في كلّ شيء؛ فما وجدتُ شيئاً أشفى لنفسي من ‌مذاكرة العلم ». أو قال: « مذاكرة الفقه ». رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله. 

- وقال هشيم بن بشير: أخبرنا يونس، قال: «كنا نأتي الحسن فإذا خرجنا من عنده، تذاكرنا بيننا». رواه الدارمي 

- وقال إبراهيم بن هاشم: سمعت سفيان بن عيينة، يقول: « قدم أيوب فجالس عمرو بن دينار من العشاء إلى الصبح ». رواه الخطيب البغدادي في تاريخه. 

- وقال محمد بن فضيل، عن أبيه، قال: « كان الحارث بن يزيد العكلي وابن شبرمة والقعقاع بن يزيد ومغيرة إذا صلوا العشاء الآخرة، جلسوا في الفقه، فلم يفرق بينهم إلا أذان الصبح ». رواه الدارمي. 

وقد روي نحو هذا عن ابن المبارك، ووكيع، وأحمد، وغيرهم.  

 

بل كان من أهل العلم من يفضّل المذاكرة على قيام الليل، ولا سيّما مذاكرة عالم لا يكاد يلقاه إلا قليلاً، ويجد في مذاكرته نفعاً، وتثبتاً في العلم، وزيادة في البصيرة.   

- قال عبد الرزاق: حدثنا معمر، عن قتادة، عن مطرف، قال سمعت ابن عباس، يقول: « مذاكرة العلم ساعة خير من إحياء ليلة ». رواه البيهقي في المدخل. 

وروي نحوه عن أبي الدرداء لكن صوابه « تفكّر ساعة ». 

- وقال عمرو بن مرّة، عن سالم بن أبي الجعدِ، عن أمّ الدرداءِ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: « تفكّرُساعةٍ خير من قيام ليلة ». رواه ابن سعد في الطبقات، وابن أبي شيبة في المصنف، وأحمد في الزهد وغيرهم.  

والتفكّر منه ما هو مذاكرة للنفس.  

- وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل، يقول: لما قدم أبو زرعة نزل عند أبي فكان كثير المذاكرة له، فسمعت أبي يوماً، يقول: « ما صليت غير الفرض، استأثرت بمذاكرة أبي زرعة على نوافلي ». رواه الخطيب البغدادي. 

- وقال أبو زرعة الرازي: كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث!! 

قيل له: وما يدريك؟ 

قال: « ذاكرته فأخذت عليه الأبواب ». رواه الخطيب البغدادي في تاريخه. 

وأبو زرعة الرازي كان آية في الحفظ لا يكاد يسمع شيئاً إلا حفظه، ولا يكاد يحفظ شيئاً فينساه، وطوّف في البلدان، واستكثر من الشيوخ، وحصّل نسخاً كثيرة كان يحفظها عن ظهر قلب.  

قال محمد بن مسلم بن وارة: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: «كلّ حديث لا يعرفه أبو زرعة الرازي ليس له أصل ». رواه ابن عدي. 

- وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: « ما جاوز الجسرَ أفقهَ من إسحاق بن راهويه، ولا أحفظ من أبي زرعة ». رواه الخطيب البغدادي. 

 

ومَن ترك المذاكرة والمدارسة كان على خطر النسيان، فكان بعض أهل العلم يحدّث بعلمه الصبيان ومن يعلم أنه لا يعيه إنما يريد بذلك تذكير نفسه به ليحفظه.  

وقد تقدّم قول دغفل بن حنظلة الشيباني لمعاوية: « إن غائلة العلم النسيان».  

- وقال محمد بن يوسف الفريابي: حدثنا سفيان الثوري، عن طارق بن عبد الرحمن البجلي، عن حكيم بن جابر، قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه « إنَّ لكل شيء آفة، وآفة العلم النسيان ». رواه البخاري في التاريخ الكبير، والدارمي في سننه. 

- وقال الوليد بن مسلم: قال الأوزاعي، عن الزهري: « إنما يُذهب العلم النسيانُ وقلة المذاكرة ». رواه ابن أبي خيثمة في تاريخه، وابن عديّ في الكامل، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في المدخل، والخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه 

- وقال وكيع: حدثنا عيسى بن المسيب قال: سمعت إبراهيم [ النخعي] يقول: « إذا سمعت حديثًا فحدث به حين تسمعه، ولو أن تحدّث به من لا يشتهيه، فإنه يكون كالكتاب في صدرك ». رواه ابن أبي شيبة، والبيهقي في المدخل 

- قال ابن وهب: حدثني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري، عن أبيه، عن ابن شهاب أنه كان يسمع العلم من عروة وغيره؛ فيأتي إلى جارية له وهي نائمة فيوقظها؛ فيقول: اسمعي! حدثني فلان بكذا، وحدثنا فلان بكذا؛ فتقول: مالي وما لهذا الحديث؟ 

فيقول: « قد علمت أنك لا تنتفعين به، ولكن سمعته الآن فأردت أن أستذكره ». رواه الخطيب البغدادي في الجامع، والبيهقي في المدخل وأسقط والد يعقوب من الإسناد. 

- وقال محمد بن فضيل عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء أنه « كان يأتي صبيان الكتاب فيعرض عليهم حديثه كي لا ينسى ». رواه ابن أبي شيبة في المصنف، والبيهقي في المدخل. 

وفي رواية في سنن الدارمي قال: « كان إسماعيل بن رجاء يجمع صبيان الكتاب، يحدثهم، يتحفظ بذلك ». رواه الدارمي. 

وفي رواية في كتاب العلم لأبي خيثمة عن إسماعيل قال: « كنا نجمع الصبيان فنحدّثهم ». 

- وقال الرياشي: سمعت الأصمعي وقد قيل له: حفظتَ ونسي أصحابك؟ !! 

قال: « درستُ وتركوا ». ذكره ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله. 

- وقال ثعلب في مجالسه: قيل للأصمعي: كيف حفظت ونسى أصحابك؟  

قال: ‌« درست ‌وتركوا ». 

- وقال أبو مسهر الغساني: قال سعيد بن عبد العزيز - يعاتب أصحاب الأوزاعي - فقال: « ما لكم لا تجتمعون؟ ما لكم لا تتذاكرون؟ ». رواه أبو زرعة الدمشقي. 

وأنشد ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله لبعضهم 

إذا لم يذاكِر ذو العلومِ بعلمه ولم يدّكر علماً نسي ما تعلما 

عبد العزيز بن داخل المطيري

#4

17 Sep 2024

الأدب الحادي عشر: أدب المزاملة في العلم 

وحفظ حقوق الزملاء من الطلاب، وأداء واجب الأخوة لهم، بالنصح لهم، ومعاونتهم على البرّ والتقوى، وستر خَلاتهم، وإظهار محاسنهم، والتعريف بهم فيما يحسنون ليُنتفع بهم؛ فإنّ ذلك من أسباب بركة طالب العلم والانتفاع بعلمه. 

وليحذر قرناء السوء، ومن يظهر منه اللجاج والمجادلة والتشغيب.  

ومن لم يتبيّن حالَه جيّداً من الطلاب فليعامله بحسن الظن مع الاحتياط؛ فيؤدي له الحقوق الواجبة، ويحسن إليه في مواضع الإحسان المعروفة إلى أنّ يتبيّن حاله، وتظهر شمائله ودواخله 

وتخيّر للصداقة من يكون أقرب إلى موافقة طبعك، وتكميل نقصك، وتفهّم مقاصدك، ورعاية حالك، وأعون لك على المذاكرة وتقويم السلوك، ولتكن مصاحبتك إيّاه لله. 

ولا ينبغي لطالب العلم أن يستنكف من الاستفادة من أقرانه ومن دونهم؛ فربّ فائدة عزيزة لا ينالها طالب العلم إلا ممن هو دونه 

- قال إبراهيم الحربي: سمعت أحمد بن حنبلٍ يقول - وقيل له: مالكٌ على قدره يسمع من نظرائه!! - قال: « وما عليه؟! يزداد به علمًا ولم يضرَّه ». رواه الخطيب البغدادي في الجامع. 

 

ومن أحسنِ أوجه الاستفادة من الأقران تكميلُ الأصول العلمية التي يرجع إليها الطالب.   

- قال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمرٌ، قال: « دخلتُ أنا وابن جريجٍ مسجدًا ومعي ألواحٌ ومعه ألواحٌ؛ فجعل يكتب عنّي وأكتب عنه ». رواه الخطيب البغدادي في الجامع 

- وقال الحسين بن إدريس: حدثنا ابن عمّارٍ، قال: « أدخل عبدُ الرّحمن بن مهديٍّ في تصنيفه من حديث يحيى بن سعيدٍ ألفي حديثٍ ». رواه الخطيب البغدادي في الجامع 

- وقال محمد بن أحمد بن الحسين القرشي: سمعت الحُمَيديَّ يقول: « ‌صحبتالشافعيَّمنمكة إلى مصر؛ فكنت أستفيد منه المسائل، وكان يستفيد مني الحديث ». رواه أبو بكر البيهقي في مناقب الشافعي، والحميدي معدود من طبقة تلاميذ الشافعي، لكنّه كان حافظاً للحديث عامة وحديث سفيان بن عيينة خاصة، وكان الشافعيّ يعرف له ذلك ويتعجب من حفظه 

- وقال محمد بن أبي سهل الطّوسي: سمعت الربيع بن سليمان يقول: ( سمعت الشافعي يقول: « ما رأيت صاحب بَلْغَمٍ أحفظ من الحميدي ». وكان يحفظ لسفيان بن عيينة عشرة آلاف حديث). رواه أبو بكر البيهقي في مناقب الشافعي 

 

الأدب الثاني عشر: الوفاء لمشايخه، وحسن العهد لهم 

فهو من الآداب الكريمة والخصال الحميدة؛ فيعرف لهم فضلهم، ويدعو لهم، وينشر فضائلهم، ويذكر محاسنهم، ويشكر صنائعهم، ويرغّيب في علومهم. 

ومن الأدب مع الشيخ ألا ينتقل عنه حتى يستأذنه ويستوصيه؛ فإنَّ ذلك من أسباب بركة العلم، وأن يُرزق الطالب بعد التأهّل أصحاب صدق أوفياء. 

وليحذر من أضداد ذلك؛ فإنّ لها مغبّة سوء على الطالب.

 

وليتثبّت في النقل عن شيخه في حال حياته وبعد موته؛ فلا ينقل عنه إلا ما هو متيقن منه، حسن الفهم له، وإذا شكّ في شيء فليراجعه فيه إذا كان حياً حتى يتفهّمه ويتبيّن حجة شيخه فيما ذهب إليه، وإذا كان ميّتاً راجع كبار أصحابه وأضبطهم لعلمه. 

 

ومن القبيح أن ينقل عن شيخه بواسطة لا يسمّيها ما يُستغرب عنه ويستنكر؛ فهذا ضرب من التدليس واللؤم؛ فإنّ الناس إذا عرفوه بالأخذ عن شيخه حملوا قوله عن شيخه على المشافهة والعيان.

ولا يليق بطالب علمٍ يستفيد من شيخه علماً كثيراً أن يترك الكثير المستطاب، ويكون عوناً على التشنيع على شيخه بنقل غرائب العلم على غير وجهها. 

ومن أعظم ما يوقع الوحشة بين الشيخ وتلميذه أن يحكي التلميذ عن شيخه خلاف ما يقرّره ويؤكد عليه في مجالسه ودروسه وكتبه. 

وربما كان في بعض تلك المسائل ما يلحق الشيخ بسببه أذى. 

وقد ذكر لي أخي عبد الله رحمه الله وكان من قدماء طلاب شيخنا ابن عثيمين رحمه الله أنّ ممن حضر بعض دروسه في العقيدة من أساء فهم مسألة المعية، ونقل عن الشيخ فيها قولاً مستشنعاً بسوء فهم منه؛ وشاعت تلك المسألة في ذلك الوقت وتُكلّم في عقيدة الشيخ بسببها.

قال: فغاب الشيخ عن دروسه أسبوعاً، وعكف على تحرير معتقده في رسالة مختصرة ووضّح فيها مقصده في مسألة المعية بما يوافق عقيدة أهل السنة والجماعة؛ وسمّى رسالته "عقيدتنا" ، ثم قرأها على الشيخ ابن باز رحمه الله فأقرّها وقدّم لها، وقال له الشيخ ابن باز: هذه عقيدة أهل السنة والجماعة؛ فسمّها "عقيدة أهل السنة والجماعة" ، فسمّاها كذلك، وهي مطبوعة متداولة.

 

ووقع من أحد أصحاب الإمام أحمد زلة في حكاية قول عنه في مسألة اللفظ بالقرآن؛ فكان الإمام أحمد حازماً شديداً في معالجة هذا الخطأ 

- قال صالح بن الإمام أحمد: تناهى إليَّ أن أبا طالب يحكي عن أبي أنه يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق؛ فأخبرت أبي بذلك. 

فقال: من أخبرك؟ 

فقلت: فلان. 

قال: ابعث إلى أبي طالب، فوجهت إليه فجاء وجاء فوران. 

فقال له أبي: أنا قلت لفظي بالقرآن غير مخلوق؟!! 

وغضب وجعل يرعد؛ فقال له: قرأتُ عليك {قل هو الله أحد}؛ فقلتَ لي: "هذا ليس بمخلوق". 

قال: فلمَ حكيت عني أني قلت: لفظي بالقرآن غير مخلوق؟!! 

وبلغني أنك وضعت ذلك في كتابك، وكتبت به إلى قوم؛ فإن كان في كتابك؛ فامحه أشد المحو، واكتب إلى القوم الذين كتبت إليهم: إني لم أقل لك هذا. 

فعاد أبو طالب فذكر أنه قد حكَّ ذلك من كتابه، وأنه كتب إلى القوم يخبرهم أنه وهم على أبي عبد الله في الحكاية). 

وفوران هو أبو محمد عبد الله بن محمد بن المهاجر (ت:256 هـ) كان من أخص أصحاب الإمام أحمد وأحبهم إليه. 

وأبو طالب هو أحمد بن حميد المشكاني (ت:244 هـ) من خاصة أصحاب الإمام أحمد، وكان الإمام أحمد يحبّه ويعظمه، وكان رجلاً صالحاً فقيهاً فقيراً صبوراً على الفقر، وله مسائل يرويها عن الإمام أحمد، لكنّه أخطأ في هذه المسألة 

وهذه المسألة تعرف بمسألة أبي طالب؛ وقد جرى خلاف بين أصحاب الإمام أحمد بعد وفاته بسبب هذه المسألة. 

وأكثر ما يكون الخطأ على الشيوخ في استخراج أقوال لهم لم ينصوا عليها كمثل هذا الاستخراج الذي استخرجه أبو طالب، وليس هو نصّ كلام الإمام أحمد.