الدروس
course cover
الدرس الثالث: آداب المفسّر
18 Mar 2024
18 Mar 2024

224

4

0

course cover
آداب أهل التفسير

القسم الأول

الدرس الثالث: آداب المفسّر
18 Mar 2024
18 Mar 2024

18 Mar 2024

224

4

0


0

0

0

0

0

بسم الله الرحمن الرحيم 


الدرس الثالث: آداب المفسّر 

 

للمفسّر آداب ينبغي أن يراعيها 

الأدب الأول: ألا يتصدّر للتفسير قبل التأهّل  

فالتصدّر قبل التأهل فتنة للمتصدر ومن يتلقى عنه؛ فقد يستجري به الحديث إلى القول في القرآن بغير علم، والإجابة من غير تثبّت؛ فيأثم من حيث أراد الأجر، ويبوء بعد رجاء الربح بالخسران، والعياذ بالله 

وتدريس التفسير على مراتب؛ فينبغي لطالب العلم أن يعي المرتبة التي تأهّل فيها للتدريس، وأن يجتهد في استكمال عدّة المفسّر بما يمكّنه من إتقان تدريس التفسير 

ومن عدّة المفسر 

1: دراسة مسائل التفسير وما يتصل بها من علوم القرآن دراسة حسنة يتمكن بها من شرح مسائل التفسير وتقريبها للطلاب 

2: وإتقان أصول التفسير ومهاراته إتقاناً يمكنه من معرفة مواضع الإجماع والخلاف، ومراتب الاختلاف، وطرق الجمع والترجيح، والتوجيه والتخريج، وتمييز الصواب من الخطأ 

3: التأسيس الجيد في علوم الشريعة واللغة العربية، ولا يشترط التبحّر في تلك العلوم، بل يكفيه في مرحلة التأسيس في تلك العلوم مختصراتٌ شاملة لعامّة أبوابها ومسائلها، يدرسها بإيجاز تحت إشراف علمي، ويتدرب على إتقان المهارات الأساسية في كلّ علم منها. 

 

وأما من كان متأهلاً للتفسير حسن المعرفة له؛ فهل يجب عليه أن يتصدر لتعليمه؟  

فيه تفصيل، وللسلف مذاهب فيه؛ والخلاصة أنّ بذل العلم له أحكام 

- فمنه ما هو فرض عين، لا يعذر العالم بتركه، ومن ذلك إجابة من يسأل عما ينفعه، والنصيحة للمستنصح، وإنكار المنكر بما يستطيع، وبيان خطأ من يتأوّل القرآن على غير تأويله، ويقوله فيه بغير علم 

- ومنه ما هو فرض كفاية كالتصدي لتعليم الطلاب، وإجابة أسئلتهم، والدعوة بالقرآن، وتفصيل الردّ على المخالفين 

 

فمن كان قائماً بالواجب من ذلك ثمّ عُرف مكانه وفضله وعلمه وكثر عليه الطلاب والمستفيدون؛ فهل يندب له التصدر؟  

للسلف الصالح في هذا الأمر مذاهب سلوكية فيما يختاره المرء لنفسه 

المذهب الأول: مذهب من يتصدّر لنشر ما عنده من العلم، إبراء للذمة ونصيحة للمسلمين، ورغبة في فضل الله تعالى وما أعدّه لمن يعلّم الناس الخير 

وهذا مذهب علي بن أبي طالب، وحذيفة بن اليمان، وأبي هريرة، وابن عباس، وابن الزبير، وتميم الداري، وأنس بن مالك، وغيرهم؛ فنشروا علماً غزيراً، وأجرى الله على أيديهم خيراً كثيراً. 

وعلى هذا المذهب جماعة من التابعين وتابعيهم، منهم عروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وسفيان الثوري، وغيرهم. 

 

بل كان من أهل العلم من يتألّف الناس على علمه، ويرغّبهم في حفظه وروايته، ويدلّهم على نفسه لينتفعوا بما لديه من العلم، وليس ذلك من الرياء في شيء إذا صلح القصد. 

- قال وهب بن عبد الله الكوفي، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة قال: شهدت علياً وهو يخطب ويقول: « سلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم بليل نزلت أم بنهار وأم في سهل، أم في جبل ». رواه عبد الرزاق في تفسيره. 

- وقال بكار بن عبد الله بن وهب الصنعاني: حدثني خلاد بن عبد الرحمن، أنه سمع أبا الطفيل يحدّث، أنه سمع حذيفة بن اليمان يقول: « يا أيها الناس، ألا تسألوني؟ فإنَّ الناس كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر ». رواه أحمد، وأصله في الصحيحين 

- وقال سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن أبي يزيد، عن ابن أبي مليكة، قال: سمعت ابن عباس يقول: « ‌سلوني عن سورة البقرة، وعن سورة النساء؛ فإني قرأت القرآن وأنا صغير ». رواه ابن سعد في الطبقات 

- قال محمد بن المرتفع العبدري: سمعت ابن الزبير يقول: « يا معشر الحاج سلوني؛ فعلينا كان التنزيل، ونحن حضرنا التأويل ». رواه ابن سعد. 

- وأما ما رواه يحيى بن معين في تاريخه وابن أبي شيبة في مصنفه من طريق سفيان بن عيينة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه قال: « ما كان في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحدٌ يقول "‌سلوني" غير على بن أبى طالب » فهذا محمول على ما سمعه 

- وقال سفيان بن عيينة: قال الزهري: « كان عروة يتألف الناس على علمه ». رواه ابن أبي شيبة وابن أبي خيثمة وابن عساكر. 

- وقال حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه قال: « يا بنيّ سلوني فلقد ترُكتُ حتى كدتُ أن أنسى، وإني لأُسأل عن الحديث فيقيم لي حديث يومي ». رواه يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ. 

- وقال عمرو بن دينار: لما قدم مكة - يعني عروة - قال لنا: « ائتوني فتلقَّوا مني ». رواه ابن أبي شيبة وابن أبي خيثمة وابن عساكر. 

- قال محمد بن إسحاق بن يسار: « رأيت أبا سلمة بن عبد الرحمن يأخذ بيد الصبي من الكُتَّاب؛ فيذهب به إلى البيت فيملي عليه الحديث ويكتب له ». رواه الخطيب البغدادي وابن عساكر في تاريخيهما. 

- وقال معمر، عن أيوب وكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة، عن سعيد بن جبير قال: « ‌سلوني يا معشر الشباب، فإني أوشكت أن أذهب من بين أظهركم ».  

قالا: « فأكثر الناس مسألته ». رواه عبد الرزاق في مصنفه، وابن جرير في تفسيره بنحوه. 

- وقال غسان بن مضر، عن سعيد بن يزيد، عن عكرمة قال: « ما لكم لا تسألونا ». رواه ابن أبي شيبة 

- وقال أبو عبد الله الطهراني: حدثنا عبد الرزاق قال: كان الثوري يقول: « سلوني عن المناسك والقرآن فإني بهما عالم ». رواه ابن أبي حاتم. 

 

والمذهب الثاني: مذهب من كان يفرّ من التصدّر ولا يُحبّ أن يشتهر ذكره خوفاً على نفسه من الفتنة، لكنّه إذا سُئل أجاب، وإذا لزمه بعض خاصته انتفعوا به، ووجدوا عنده علماً كثيراً، وهذا مذهب أبي العالية الرياحي، وعلقمة بن قيس النخعي، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، ومحمد بن سيرين، وغيرهم. 

- قال عاصم الأحول: « كان أبو العالية إذا جلس إليه أكثر من أربعة قام ». رواه أحمد في الزهد، وابن أبي شيبة في المصنف. 

- وقال إبراهيم النخعي عن علقمة أنه قيل له حين مات عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لو قعدت فعلَّمتَ الناس السنة؟ 

فقال: « أتريدون أن يوطأ عقبي » رواه الدارمي. 

- وقال عبد الرحمن بن يزيد النخعي: قيل لعلقمة: ألا تقعد في المسجد فيُجتمع إليك، وتُسأل، ونجلس معك؟! فإنه يُسأل من هو دونك!! 

فقال: « إني أكره أن يوطأ عقبي، يقال هذا علقمة ». رواه أبو خيثمة في كتاب العلم وابن عساكر.

- ,قال يونس بن بكيرٍ: حدّثنا الأعمش، عن خيثمة بن عبد الرحمن الجعفي، قال: «كان الحارث بن قيسٍ الجعفيّ، - وكان من أصحاب عبد اللّه وكانوا معجبين به - فكان يجلس إليه الرّجل والرّجلان فيحدّثهما، فإذا كثروا قام وتركهم ». رواه الدارمي في سننه، ويعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ.   

- وقال حماد بن زيد، عن يزيد بن حازم أخي جرير بن حازم قال: سمعت الحسن يقول: « إن خفق النعال خلف الرجال قلّ ما يلبث الحمقى ». رواه الدارمي 

- قال إسماعيل بن عياش: حدثني صفوان بن عمرو، قال: « رأيت خالد بن معدان إذا ‌عظمت ‌حلقته قام كراهية الشهرة ». رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق. 

- وقال سعيد بن عامرٍ الضبعي، عن بسطام بن مسلمٍ، قال: « كان محمّد بن سيرين إذا مشى معه الرّجل قام؛ فقال: ألك حاجةٌ؟ فإن كانت له حاجةٌ قضاها، وإن عاد يمشي معه قام فقال: ألك حاجةٌ؟ ». رواه الدارمي وابن عساكر 

- وقال حجاج بن محمد: سمعت شعبة يقول: « ربما ذهب أيوب في الحاجة فأريد أن أمشي معه فلا يدعني ويخرج؛ فيأخذ هاهنا وهاهنا لكي لا يُفطن له ». رواه يعقوب بن سفيان. 

- وقال مروان بن محمد الطاطري: سمعت مالك بن أنس يقول:  « جلست إلى ابن هرمز ثلاث عشرة سنة، فأخذ عليَّ ألا أروي عنه شيئاً ». رواه أبو زرعة الدمشقي. 


والمذهب الثالث: مذهب من كان لا يحرص على التصدّر ولا يفرّ منه؛ بل إذا سُئل أجاب، وإذا استُفتي أفتى، وإذا أمره الأمير بالتصدّر تصدّر وإلا لم يتكلّفه، وكان هذا مذهب عامّة علماء الصحابة رضي الله عنهم وكبار التابعين. 

- وفي حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا يقصّ على الناس إلا أمير أو مأمور أو مراء ». رواه أحمد. 

- وقال بكير بن عبد الله بن الأشج: دخل عوف بن مالك هو وذو الكلاع مسجد بيت المقدس، فقال له عوف: عندك ابن عمك؟ 

فقال ذو الكلاع: أما إنه من خير أو من أصلح الناس؛ فقال عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « لا يقص إلا أمير، أو مأمور، أو متكلّف ». رواه أحمد، وفيه انقطاع. 

ورواه البخاري في التاريخ الكبير فقال: قال ابن المنذر حدثنا معن سمع معاوية عن أزهر بن سعيد عن ذي الكلاع: كان كعب يقص في إمارة معاوية فقال عوف ابن مالك لذي الكلاع: يا أبا شراحيل أرأيت ابن عمك أبأمر الأمير يقص؟ فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « الُقصَّاصُ ثلاثة: أمير أو مأمور أو مختال ». 

قال: « فمكث كعب سنة لا يقص حتى أرسل إليه معاوية يأمره أن يقص ». 

 

ومن أهل العلم من إذا كان في مكان يُعرف فيه تصدّر وحدّث وأفتى، وإذا كان في بلد لا يُعرف فيه تجنَّب التصدّر، كما روي عن سعيد بن جبير رحمه الله. 

- قال عمر بن حبيب: كان سعيد بن جبير بأصبهان لا يحدث ثم رجع إلى الكوفة؛ فجعل يحدث فقلنا له: كنت بأصبهان لا تحدّث وتحدّث بالكوفة؟!! 

 فقال: « انشر بزَّك حيث تُعرف ». رواه أبو الشيخ الأصبهاني في طبقات أصبهان. 

- وقال عبد الواحد بن زياد: حدثنا أبو شهاب، قال: «كان سعيد بن جبير يقص لنا كلَّ يوم مرتين بعد صلاة الفجر وبعد العصر» رواه ابن سعد. 

 

الأدب الثاني: ألا يغترّ بعلمه، ولا بكثرة الأصحاب ولا قلّتهم 

مما ينبغي أن يعِيَهُ المفسّر ومن يتصدّر لنشر العلم أنّ العبرة بصحة العمل وقبوله، وإذا تقبّل الله من عبد عملاً ولو كان يسيراً بارك له فيه، ونفعه به، وإذا لم يتقبّل الله منه لم تنفعه كثرة العمل؛ فلذلك ينبغي أن يحذر العالم من الاغترار بعلمه وكثرة أصحابه ومن يحضر مجالسه، وأن يحذر كذلك من الاغترار بقلّتهم.  

فالكثرة قد يدخل بسببها العجب، وهو آفة مهلكة، تجلب المقت، وتمحق البركة، وكم من معجب وكل إلى نفسه؛ فخُذل وشقي. 

والقلّة قد يقع بسببها الزهد في نشر العلم؛ فيكلّ ويترك نشر العلم. 

وكلا الآفتين علاجهما بالبصيرة النافعة: 

- فأما من يخشى على نفسه العجبَ لكثرة من يعتري مجالسه؛ فليعلم أنّ كثرتهم لا تنفعه إلا أن يتقبّل الله منه، ويبارك له فيهم؛ فعاد الأمر إلى مشيئة الله تعالى وحده، وفضله ورحمته، وهذا اليقين طارد للعجب بإذن الله 

- وأما من يخاف على نفسه الفتنة لقلّة من يحضر مجالسه فليعلم أنّ كثيراً من العلماء لم يكن يحضر مجالسهم إلا قلّة، وفي الصحيح أنّ من الأنبياء من يأتي يوم القيامة وليس معه أحد؛ فالعبرة بصحة عمله وقبوله؛ فما دام نشره للعلم نشراً صحيحاً على منهاج صحيح وبنية صالحة فهو على خير، ولن يضيع من عمله شيء، وكم من عالمٍ لم يشتهر علمُه في حياته حتى إذا مات أحيا الله له علماً نافعاً مباركاً، وثناء حسناً.  


ومن أهل العلم من يقلّ أصحابه في أكثر حياته، ثم يكثرون في آخرها، وقد تتبعت سير كثير من العلماء؛ فوجدت أكثر من ينشر علمهم من يتتلمذ عليهم في آخر حياتهم.

- قال أيوب بن سويد الرملي: سمعت الأوزاعي يقول: « كان عطاء بن أبي رباح أرضى الناس عند الناس، وما كان يشهد مجلسه إلا سبعة أو ثمانية ». رواه أبو زرعة الدمشقي، ويعقوب بن سفيان الفسوي بلفظ: « مات عطاء بن أبي رباح يوم مات وهو أرضى أهل الأرض عند الناس، وما كان أكثرهم من يتهدى إليه »، وفي رواية عند ابن عساكر: « من ينهد إليه ». 

- وقال عبد الرحمن بن عمر رسته: قال عبد الرحمن بن مهديكنت أجلس يوم الجمعة في مسجد الجامع فيجلس إليَّ الناس، فإذا كانوا كثيراً فرحت، وإذا قلّوا حزنت؛ فسألت بشر بن منصور؛ فقال: « هذا مجلس سوء، لا تعد إليه ». 

قال: « فما عدت إليه ». رواه أبو نعم في الحلية. - وقال عبد الله بن وهب في كتاب العلم من جامعه كما في جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر: سمعت مالكاً يقول: « إنَّالعلمَليسبكثرةالرواية، ولكنه نور يجعله الله في القلوب».  

 

الأدب الثالث: صلاح السريرة وحبّ الخير لطلابه وللناس والنصيحة لهم 

مما يتأكد في حق العالم أن يكون عاملاً بعلمه، صالح السريرة، حسن السيرة، يحبّ الخير للناس كما يحبّه لنفسه، وأن ينصح لهم في تعليمه وتعامله، وأن يخرج إلى طلابه سليم الصدر، حسن الظنّ، لا يسمح بمقالة الطلاب بعضهم في بعض 

 - قال عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: « ينبغي للعالم أن يغسل قلبَه كما يغسل الرجلُ ثوبه من النجس ». رواه البيهقي في شعب الإيمان 

- وقال برد بن سنانٍ، عن سليمان بن موسى الدّمشقيّ، عن أبي الدّرداء رضي اللّه عنه، قال: «لا تكون عالمًا حتّى تكون متعلّمًا، ولا تكون بالعلم عالمًا حتّى تكون به عاملًا، وكفى بك إثمًا أن لا تزال مخاصمًا، وكفى بك إثمًا أن لا تزال مماريًا، وكفى بك كاذبًا أن لا تزال محدّثًا في غير ذات اللّه عزّ وجلّ». رواه الدارمي. 

سليمان بن موسى لم يدرك أبا الدرداء، لكن رواه ابن سعد في الطبقات من طريق كثير بن هشام الكلابي، عن جعفر بن برقان قال: بلغني عن أبي الدرداء؛ فذكره بنحوه؛ فيتقوّى به.   

- وقال يونس بن سيفٍ الحمصيّ: حدّثني أبو كبشة السّلوليّ، قال: سمعت أبا الدّرداء رضي اللّه عنه، يقول: «إنّ من أشرّ النّاس عند اللّه منزلةً يوم القيامة عالمٌ لا ينتفع بعلمه». رواه الدارمي. 

- وقال الوليد بن مسلم: حدثنا القاسم بن هزان قال: سمعت الزهري يقول: « لا يوثق للناس عمل عامل لا يعلم، ولا يُرضى بقول عالم لا يعمل ». رواه يعقوب بن سفيان في المعرفة، وأبو نعيم في الحلية 

- قال غالب القطان قال: قال الحسن: «إن فضل الفعال على المقال مكرمة، وإن فضل المقال على الفعال منقصة» رواه ابن سعد في الطبقات وأبو نعيم في الحلية واللفظ له، والبيهقي في شعب الإيمان. 


الأدب الرابع: أن يكون قدوة صالحة في أدبه وحلمه وعلمه وتعليمه 

ينبغي للعالم أن يكون قدوة صالحة لطلابه ومن يأخذ عنه، فيكون رفيقاً حليماً في تعليمه وتعامله، ينتفع الطلاب من هديه وأدبه كما ينتفعون من علمه، بل الانتفاع بالأدب مفتاح للانتفاع بالعلم، ومن كان سيء المعاملة نفر الناس منه ولم يصبر عليه إلا قلّة ممن يجدون عنده ما لا يجدون عند غيره 

وقد قال الله تعالى: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} 

وقال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)} 

وعامّة الطلاب ينظرون إلى هدي العالِم وتعامله أكثر من نظرهم إلى علمه، وإذا اطمأنّت قلوبهم لهديه وعلمه كان كلامه أسرعَ إلى قلوبهم 

- قال علي بن محمد الحلواني: حدثنا أحمد بن بشر بن بكر قال: حدثنا أبي، عن الأوزاعي، عن الزهري قال: «كنا نأتي العالم فما نتعلّم من أدبه أحبّ إلينا من علمه ». رواه أبو نعيم في الحلية. 

- وقال عبد الرحمن بن عمر رُسْته: سمعتُ عبد الرحمن بن مهدي يقول: « إن كنّا لنأتي الرّجل ما نريد علمه وحديثه، إنّما نأتي نتعلّم من هديه وسمته ودلّه ». رواه البيهقي في شعب الإيمان. 

- وقال مالك رحمه الله: كانت أمي تعمّمني وتقول لي: « اذهب إلى ربيعة فتعلَّم من أدبه قبل علمه ». ذكره القاضي عياض في ترتيب المدارك. 

- وقال محمد بن سعيد بن أبي مريم: سمعت ابن وهب يقول: « ما تعلَّمت من أدب مالك أفضل من علمه ». رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 


الأدب الخامس: ألا يتقدّم مَن هو أولى منه في المجلس حتى يؤذن له 

فإنَّ تَقَدّم المرء أمام من هو خير له منقصة في حقه، وظلم لمن هو أولى منه بالمجلس، وكان الصحابة رضي الله عنهم ربما تدافعوا الإمامة والفتوى ومن أسباب ذلك خشية أن يتقدّم المرء مَن هو خير منه؛ فإنّ الإمام كالشافع للمأمومين بين يدي ربّهم جلّ وعلا 

- قال كثير بن هشام الكلابي: حدثنا جعفر بن برقان، قال: حدثنا عبد الأعلى بن الحكم الكلابي: أتيت دار أبي موسى الأشعري، فإذا حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري فوق إجَّار لهم، فقلت: هؤلاء والله الذين أريد؛ فأخذت أرتقي إليهم، فإذا غلام على الدرجة فمنعني فنازعته فالتفت إليَّ بعضهم قال: خلِّ عن الرجل؛ فأتيتهم حتى جلستُ إليهم، فإذا عندهم مصحف أرسل به عثمان، وأمرهم أن يقيموا مصاحفهم عليه؛ فقال أبو موسى: « ما وجدتم في مصحفي هذا من زيادة فلا تنقصوها، وما وجدتم من نقصان فاكتبوه ». 

فقال حذيفة: « كيف بما صنعنا؟!! والله ما أحد من أهل هذا البلد يرغب عن قراءة هذا الشيخ، يعني ابن مسعود، ولا أحد من أهل اليمن يرغب عن قراءة هذا الشيخ، يعني أبا موسى الأشعري ». 

قال عبد الأعلى: (وكان حذيفة هو الذي أشار على عثمان رضي الله عنه بجمع المصاحف على مصحف واحد، ثم إنَّ الصلاة حضرت؛ فقالوا لأبي موسى الأشعري: تقدم فإنا في دارك، فقال: لا أتقدّم بين يدي ابن مسعود، فتنازعوا ساعة، وكان ابن مسعود بين حذيفة وأبي موسى؛ فدفعاه حتى تقدَّم فصلَّى بهم). رواه عمر بن شبة في تاريخ المدينة، وابن أبي داوود في المصاحف 

- وقال ابن أبي عدي، عن ‌حسين المعلّم، عن ‌عبد الله بن بريدة قال: قال ‌سمرة بن جندب: « لقد كنت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاما فكنت أحفظ عنه، فما يمنعني من القول إلا أن ها هنا ‌رجالا ‌هم ‌أسنّ مني». رواه مسلم في صحيحه.  

- وقال يحيى بن آدم: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم قال: « كان ‌زرٌّ ‌أكبرَ ‌من ‌أبي ‌وائل ». قال: « فكانا إذا جلسا جميعًا لم يحدّث أبو وائل مع زر ». رواه يعقوب بن سفيان في المعرفة، والخطيب البغدادي في الجامع، وابن عساكر في تاريخ دمشق، ورواه ابن أبي خيثمة في تاريخه لكنّه أسقط عاصماً.  

- وقال أبو حاتم الرازي: حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت يحيى بن معين يقول: « ما رأيت منذ خرجت من بلادي أحدا أشبه بالمشيخة الذين أدركت من أبي مسهر، والذي يحدث وفي البلاد من هو ‌أولى ‌بالتحديث منه فهو أحمق». رواه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، وابن عساكر في تاريخ دمشق.  

- وقال محمد بن العباس بن الوليد الدمشقي: سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: سمعت يحيى بن معين، يقول: « إذا رأيتني أحدث في بلدة فيها مثل أبي مسهر فينبغي ‌للحيتي ‌أن ‌تحلق ». رواه ابن حبان في الثقات، وابن عساكر في تاريخ دمشق. 

- وقال الليث بن سعد، عن عبيد الله بن عمر قال: « كان يحيى بن سعيد يحدّثنا فيسيح علينا مثل اللؤلؤ ويشير عبيد الله بيديه إحداهما على الأخرى ». 

قال عبيد الله: « فإذا طلع ربيعة قطع يحيى حديثه إجلالا لربيعة وإعظاماً له ». رواه الخطيب البغدادي في الجامع، وابن عساكر في تاريخ دمشق. 

فإن أذن له شيخه، وأحبّ له أن يتصدّر في المجلس انتفت الكراهة؛ لأنّ الشيخَ قد يرى من المصلحة تصدّر تلميذه في حياته لينظر كيف يلقي العلم للناس؛ فإن أصاب أيّده على صوابه، وإن أخطأ صوّبه.  

- قال وهب بن جرير: حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال لسعيد بن جبير: « حدّث ».  

قال: « ‌أحدث ‌وأنت ‌شاهد؟!! ».  

قال: « أوَليس من نعمة الله عليك أن تحدّث وأنا شاهد؛ فإن أخطأت علمتك؟! ». رواه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، والبيهقي في المدخل.

وهذا لا يقتضي ألا يتصدّر التلميذ في حياة شيخه مطلقاً؛ فقد تصدّر كثير من العلماء في حياة شيوخهم، ولا سيما إذا دعت الحاجة للتصدر والتعليم والإفتاء وكان له من العلم ما يؤهّله للتصدر. وإنما الأدب مع الشيخ أنه إذا كان معه في مجلس ألا يتصدّر بحضرته إلا أن يأذن له، وكذلك إذا حضر حلقة شيخ آخر لم يكن له أن يتصدّر في حلقته بغير إذنه.


عبد العزيز بن داخل المطيري

#2

19 Sep 2024

الأدب السادس: التثبّت والتبيين فيما يلقيه من العلم إلى الطلاب

ينبغي على العالم ألا يلقي إلى طلابه إلا علماً صحيحاً قد تثبّت منه بما تبرأ به ذمّته، وأن يتجنَّب التعجّل في الحديثِ وإطلاق الأحكام جزافاً، وإلقاء الكلام على عواهنه من غير تبيّن، وأن يتحرّز من القول على الله بغير علم؛ فكلّ ذلك مما يسقط أهلية المعلّم للتعليم ويُضعف الثقة به؛ وربما وقعت في نفس بعض من يستمع إليه كلمة خاطئة فساكنته زمناً طويلاً وعزّ خروجها منه. 

وأن يعطي الدرس حقَّه من الإعداد الجيد؛ فلا يلقي الدروس ارتجالاً من غير ضبطٍ حسن يُعتمد عليه؛ فإنّ طلاب العلم إنما أتوه ليعلّمهم، وينصح لهم في التعليم، وقد تركوا مشاغلهم ليستمعوا إليه، ويتتلمذوا عليه؛ فمن حقّهم عليه أن يحسن ما يلقي إليهم من العلم، وأن يجتهد في تحريره وتحبيره، وبيانه وترتيبه؛ حتى يكون أقرب إلى أفهامهم. 

ومن عوّد نفسه إحسان إعداد الدروس رجي له أن تكون دروسه منارة لطلاب العلم، ومرجعاً متيناً لهم، وعدّة صالحة لطلب العلم 

والإعداد الجيد مظنة للسلامة من الخطأ والزلل، وأقرب إلى براءة الذمة من معرّة التفريط في تحرّي الصواب 

- وقال أبو الضحى، عن مسروق قال: دخلنا على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: « يا أيها الناس من علم شيئاً؛ ‌فليقل ‌به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم؛ فإنَّ من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم. قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} ». رواه البخاري ومسلم 

 

- وقال محمد بن عبد الله بن الحكم: أنبأنا ابن وهب قال: قال لي مالك وهو ينكر كثرة الجواب في المسائل: « يا عبد الله! ما علمت فقُلْ ودلَّ عليه، وما لم تعلم فاسكت عنه وإياك أن تتقلد للناس قلادة سوء ». 

- وقال مالك بن أنس: حدثني ربيعة، قال: قال لي ابن خلدة وكان نعم القاضي: « يا ربيعة إياك أن تفتي الناس فإذا جاءك الرجل يسألك فلا تكن همَّتك أن تخرجه مما وقع فيه، ولتكن همتك أن تتخلص مما سألك عنه ». رواه البيهقي في المدخل.


وينبغي للعالم ألا يشقّ على الطلاب في تعليمهم، ولا ينفّرهم بغلظة ولا إهمال، وأن يبيّن لهم مسائل العلم بياناً يناسب أفهامهم، ويتدرّج بهم من صغار العلم إلى كباره، ويعطيهم صفو العلم وخلاصته، ويبيّن لهم المنهج الصحيح لطلب العلم. 

- قال أبو عبد الله البخاري في صحيحه: (قال ابن عباس: {كونوا ربانيين}: حلماء فقهاء، ويقال: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم ‌قبل ‌كباره). 

 

الأدب السابع: إحسان التذكير بالقرآن، وبذل العلم ونشره  

قال الله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)} 

- وقال حسان بن عطية، عن أبي كبشة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: « بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار ». رواه أحمد، والبخاري.  

- وقال العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ». رواه أحمد ومسلم. 

والمفسّر وارث للنبي صلى الله عليه وسلم في أعظم إرثه وهو التذكير بالقرآن وبيان معانيه للناس؛ فينبغي للمفسّر أن يتخيّر ما يذكّر به في كلّ موقف بحسبه، وأن يجتهد في بذل العلم ونشره، ودعوة الناس للخير، وتعليم الطلاب، وإجابة السائلين. 

 

- قال ابن وهب، عن ضمام، عن إسماعيل، عن عقيل، عن ابن شهاب « أنه كان ينزل بالأعراب يعلمهم ». رواه أبو نعيم في الحلية. 

- وقال سفيان بن عيينة، عن زياد بن سعد، قال: « كان ابن شهاب يحدّث الأعراب». رواه الدارمي.  

- وقال أبو مسهر: حدثني هِقْل بن زياد قال: « أجاب الأوزاعي في سبعين ألف مسألة ». رواه ابن أبي حاتم. 

هقل لقب واسمه محمد بن زياد السكسكي، وكان أوثق أصحاب الأوزاعي وأحفظهم وأضبطهم لعلمه، وهذا العدد لعلّه فيما كتب من مسائله.  

 

وينبغي للمعلّم أن يراعي السياسة الشرعية في التعليم والدعوة؛ فلا يخالف المشهور المعروف في البلد ما دام له اجتهاد سائغ. 

- قال معروف بن خربوذ المكّي، عن أبي الطفيل، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: « حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يكذب الله ورسوله ». رواه البخاري في صحيحه وبوّب عليه: (باب من خص بالعلم قوما دون قوم، كراهية أن لا يفهموا). 

- وقال ابن شهاب الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: « ما أنت بمحدّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ». رواه مسلم في مقدمة صحيحه.  

- وقال ابن وهب، وحدثني ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة قال: قال لي أبي: « ما حدثت أحدا بشيء من العلم قط لم يبلغه عقله إلا كان ضلالا عليه». رواه ابن عبد البرّ في جامع بيان العلم وفضله. 

- وقال ابن أبي الأسود، عن عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن أبي قلابة قال: « لا تحدث بحديث من لا يعرفه، فإنَّ من لا يعرفه يضره ولا ينفعه». رواه ابن عبد البرّ في جامع بيان العلم وفضله. 

- وقال حماد بن سلمة، عن حميد، قال: قلت لعمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: لو جمعت الناس على شيء؟  

فقال: « ما يسرّني أنهم لم يختلفوا ». 

قال: ثم كتب إلى الآفاق وإلى الأمصار: « ليقضِ كلُّ قومٍ بما اجتمع عليه فقهاؤهم ». رواه الدارمي 

- وقال عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة المسعودي، عن عون بن عبد الله، قال: « ما أحبّ أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، فإنهم لو اجتمعوا على شيء؛ فتركه رجلٌ ترك السنة، ولو اختلفوا فأخذ رجلٌ بقول أحدٍ أخذ بالسنة». رواه الدارمي. 

- وقال هشام بن عروة، عن عروة، عن مروان بن الحكم، قال: قال لي عثمان بن عفان، إن عمر رضي الله عنه قال لي: « إني قد رأيت في الجد رأيا، فإن رأيتم أن تتبعوه فاتبعوه » 

قال: عثمان: « إن نتبع رأيك فإنه رشد، وإن نتبع رأي الشيخ قبلك فنعم ذو الرأي كان». 

قال: « وكان أبو بكر يجعله أبا ».  رواه عبد الرزاق، والدارمي، والبيهقي، وله طرق أخر.

 

وإذا علم العالم أو طالب العلم من حال السائل أنه إنما يسأل تفكّها وتكثّراً أو تعنّتاً وامتحاناً فلا يلزمه أن يجيبه، بل ربما كان الأصلح الإعراض؛ لأن هذه المقاصد دليل على جهل صاحبها، وقد قال الله تعالى: {وأعرض عن الجاهلين}، وقال تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره}.  

والعالم يقدّر المصلحة الشرعية لكل حالة بحسبها، فلا يلزم العالم أن يجيب على أسئلة من لا يريد الانتفاع بجوابه، لكن إذا خشي أن يفتن السائل الحاضرين بسؤاله فتكون حاجتهم مقدمة على حاجته؛ فيبيّن لهم الهدى فيما سأل عنه السائل.  

- قال يزيد النحوي، عن عكرمة، قال: قال لي ابن عباس: « انطلق فأفت الناس فمن جاءك يسألك عما يعنيه فأفته، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته، فإنك تطرح عن نفسك ثلثي مؤنة الناس ». رواه البيهقي في المدخل.  

 

وليتأنّ العالم في الإجابة ولا يعجل حتى يعرف ما يخرج به من تلك المسألة فيكون حجة له عند الله عز وجلّ. 

- وقال أحمد بن أبي الحواري: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، ثنا سفيان بن عيينة، عن محمد بن المنكدر، قال: « إن العالم بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل بينهم ». رواه البيهقي في المدخل.  

- وقال عبد الله بن وهب: سمعت مالكا، يقول: (العجلة في الفتوى نوع من الجهل والخرق، وكان يقال: « التأنيمنالله والعجلة من الشيطان ». 

وما عجل امرؤ فأصاب واتأد آخر فأخطأ إلا كان الذي اتأد أصوب رأيا، ولا عجل امرؤ فأخطأ واتأد آخر فأخطأ إلا كان الذي اتأد أيسر خطأ). رواه البيهقي في المدخل.  

 

الأدب الثامن: إعانة طلاب العلم ونفعهم بما يستطيع من أوجه الإعانة والنفع 

وإرشادهم إلى ما فيه قيام مصالحهم، وأن يحسن في نفعهم بما لا يحرجهم، ولا يكشف ما لا يسرّهم كشفه، فكم من عالم ذُكر في سيرته أنه ألمّت به ملمّة كادت تصرفه عن طلب العلم فوفّقت له إعانة من شيخه بماله أو جاهه فعاد لطلب العلم واجتهد فيه حتى بلغ فيه مراتب العلماء. 

 

الأدب التاسع: أن يعزّ شأن العلم ويصونه 

ولا يذله بالتكسب به عند الكبراء بلسان الحال ولا بلسان المقال، ولا يهينه بإلقائه إلى من لا يلقي له بالاً، ولا يرفع به رأساً.

- قال أبو المليح الحسن بن عمر الرّقي: سمعت ميمون بن مهران يقول: « ‌يا ‌أصحاب ‌القرآن! لا تتخذوا القرآن بضاعة تلتمسون به الشرف - يعني الربح - في الدنيا، والتمسوا الدنيا بالدنيا، والتمسوا الآخرة بالآخرة ». رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق. 

- وقال إبراهيم بن سعد: سمعت ابن شهاب يحدّث أبي قال: أرسل إليَّ هشام بن عبد الملك: أن أكتب لبنيَّ بعض أحاديثك.    

فقلتُ: « لو سألتَني عن حديثين ما تابعت بينهما، ولكن إن كنت تريده فادع كاتباً فإذا اجتمع إليَّ الناس يسألوني كتبت لهم ما تريد ». 

قال: فأرسل كاتباً ومكث سنة، ما يأتي يوم إلا ملأته. 

قال: فلقيني بعض بني هشام فقال لي: يا أبا بكر ما أرانا إلا قد أنقصناك. 

قال ابن شهاب: فقلت له: « إنما كنتَ في عَزاز الأرض، إنما هبطتَ بطونَ الأودية اليوم ». رواه يعقوب بن سفيان. 

 

ومن جيّد نظم القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني قوله:  

يقولون لي فيك انقباض وإنما … رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما 

أرى الناس من داناهم هان عندهم … ومن أكرمته عزة النفس أكرما 

ولم أقض حــــــــــــق العلم إن كان كلما … بدا طمـــــــــــع صيرته لي سلما 

إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى … ولكن نفس الحر تحتمل الظما 

ولو أن أهل العلم ‌صانوه ‌صانهم … ولو عظموه في النفوس لعَظما 

 

الأدب العاشر: صيانة التفسير وحماية جنابه  

وذلك بنفي انتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وتحريف الغالين، وتحذير طلاب العلم ممن يدّعي هذا العلم الشريف وليس من أهله، ويلبّس على العامة وطلاب العلم في تفسير كتاب الله تعالى. 

وقد تقرر أنّ على أهل كل علم واجبين:  

أحدهما: تعليمه لطالبيه على منهاج أهله. 

والآخر: صيانته من انتحال مدّعيه ظلماً وزوراً. 

- قال الإمام أحمد بن حنبل في مقدمة كتابه الردّ على الجهمية: (الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍ تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، ‌وانتحال ‌المبطلين، وتأويل الجاهلين). 

- قال محمد بن عبد العزيز بن محمد الواسطي: حدثنا بقية بن الوليد، عن رزيق أبي عبد الله الألهاني، عن القاسم أبي عبد الرحمن، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يحمل هذا العلم من كل خلف ‌عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، ‌وانتحال ‌المبطلين، وتأويل الجاهلين ». رواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار.  

- قال حماد بن زيد: حدثنا بقية بن الوليد، حدثنا معان بن رفاعة، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: « يرث هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين». رواه البيهقي في السنن الكبرى وغيرها، وهو مرسل ضعيف، لكن له شواهد وطرق حسنه بها بعض أهل العلم.  

- قال أبو بكر البيهقي: (وقد وجد تصديق هذا الخبر في زمان الصحابة، ثم في كل عصر من الأعصار إلى يومنا هذا).