7 Sep 2015
الدرس الأول: بيان وجوب الإيمان بالقرآن
الحمد لله الذي أنزل القرآن ذكراً للعالمين، وهدى ورحمة للمؤمنين، فبصَّرهم بهِ وهداهم، ووعظهم به وزكَّاهم، وأنزل لهم فيه تفصيل كلّ شيء، وضرب فيه من كلّ مثل، ويسّره للذكر، ووعد من آمن به واتّبعه بالنجاة من العذاب الأليم، والفوز بالفضل العظيم في الدنيا والآخرة، كما قال الله تعالى: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)}
والصلاة والسلام على النبيّ الأمين، والرسول الكريم، الذي أنزل الله عليه الكتاب والحكمة وكرَّمه، وعلّمه مما يشاء وفهّمه، وأرسله إلينا شاهداً ومبشّراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً؛ فكان أعلم الناس بالقرآن، وأعظمهم نصيباً من بركته، وأحسنهم اتّباعاً لهداه؛ حتى كان خلقُه القرآن؛ كما صحَّ عن سعد بن هشام بن عامر أنه قال لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قالت: «ألست تقرأ القرآن؟»
قال: بلى.
قالت: «فإنَّ خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن» رواه مسلم.
وهذا غايةُ ما يكونُ من الاهتداءِ بالقرآنِ، واستكمالِ الإيمانِ به، أن يكون خلق الإنسان ما بيَّنه الله عزَّ وجل وهدى إليه في القرآن اعتقاداً وقولاً وعملاً.
وقد أُمرنا باتّباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعَلى قدْرِ ما يبلغ العبدُ من إحسان اتّباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ يكون حظّه من بركة هذا الاتباع، وحظّه من هُدى القرآن وما رتَّب الله عليه من الفضل العظيم.
أمّا بعد:
فإنّ الإيمان بالقرآن أصل من أصول الإيمان التي لا يصحّ الإيمان إلا بها، فحريّ بطالب العلم أن يعتني بفقه مسائل هذا الأصل العظيم حتى يتبيّن ما يتحقق به، وما يقدح في صحة الإيمان به، وأن يتعرّف المسائلَ التي يبحثها العلماء في أبواب الإيمان بالقرآن، ويعرف مراتب المخالفة في ذلك، وأحكام المخالفين ودرجاتهم.
****
بيان وجوب الإيمان بالقرآن
قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ}.
وقال تعالى: { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) }
قال ابن جرير الطبري: (يقول: وآمنوا بالنور الذي أنزلنا، وهو هذا القرآن الذي أنزله الله على نبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم).
وقال الله تعالى لنبيه: { وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ}، ويدخل في ذلك الإيمان بالقرآن دخولا أوليٍّا.
وقال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)}
وقال الله تعالى فيما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله}.
والإيمان بالقرآن أصل من أصول الإيمان لا يصحّ الإيمان إلا بها؛ كما في حديث جبريل الطويل أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» رواه مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
ومن لم يؤمن بالقرآن فهو كافر متوعّد بالعذاب الشديد؛ كما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)}
وقال تعالى: { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)}
وقال تعالى: { وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5)}
وتوعَّدَ اللهُ اليهودَ والنصارى بالوعيد الشديد إذا لم يؤمنوا بالقرآن بعد معرفتهم بما أنزل الله من قبل؛ فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)}
وقال تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)}
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} – سماهم باسم الكفر- {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) }.
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)}
فسماهم الله عز وجل كافرين وتوعدهم بالوعيد الشديد وعدَّهم أعداءً له.
وقال تعالى: {بل هم في شكّ من ذكري بل لمّا يذوقوا عذاب}.
فدلَّت هذه الآيات دلالة بيّنة على وجوب الإيمان بالقرآن، وأنّ من لم يؤمن به فهو كافر بالله، عدوّ لله، متوعَّد بالعذاب الشديد، وأن الشاكّ في القرآن غير مؤمن به، وأنه متوعد بالعذاب لكفره وإعراضه عن الإيمان بالقرآن.
فصل: والإيمان بالقرآن يكون بالاعتقاد والقول والعمل.
- فالإيمان الاعتقادي بالقرآن: أن يصدّق بأنّه كلام الله تعالى أنزله على رسوله بالحقّ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى صراط مستقيم، وأنّ كل ما أنزل الله فيه فهو حقّ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وأنه قيّم لا عوج له، ولا اختلاف فيه، يهدي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم.
وأنه محفوظ بأمر الله إلى أن يأتي وعد الله، لا يخلق ولا يبلى، ولا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، ولا بسورة من مثله.
ومن الإيمان الاعتقادي بالقرآن أن يصدّق بكلّ ما أخبر الله به في كتابه الكريم، وأن يخضع لما أمر الله به، فيعتقد وجوب ما أوجب الله فيه، ويعتقد تحريم ما حرّم الله فيه، وأنّه لا طاعة لما خالفه.
- والإيمان القولي: أن يقول ما يدلّ على إيمانه بالقرآن، وتصديقه بما أنزل الله فيه، ومن ذلك تلاوة القرآن تصديقاً وتعبّداً.
- والإيمان العملي: هو اتّباع هدى القرآن؛ بامتثال ما أمر الله به، واجتناب ما نهى الله عنه في كتابه الكريم.
فمن جمع هذه الثلاث فهو مؤمن بالقرآن؛ قد وعده الله فضلاً كبيراً ، وأجراً عظيماً؛ كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)}.
وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)}
وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)}