8 Sep 2015
فتنة القول بخلق القرآن
https://youtu.be/VgiglbOQip4
فتنة القول بخلق القرآن من أعظم الفتن التي بليت بها الأمة، وقد جرى بسببها من المحن والبلايا ما الله به عليم، وكانت هذه الفتنة من أعظم أسباب تفرّق الأمة، وظهور عدد من الفرق التي كان لاختلافها أثر سيّء على الأمّة الإسلامية؛ فجنت عليها الفُرقة ما جنت، وأوهنت منها ما أوهنت، وعصم الله طائفة من المسلمين لم يزالوا ظاهرين على الحقّ، وحجتهم ظاهرة على من خالفهم.
وسنعرض في هذا الباب تلخيصاً لنشأة هذه الفتنة، وأبرز أحداثها، وما كان بسببها من المحن والشدائد على أهل السنة، ونستكمل في الأبواب القادمة الحديثَ عن آثار هذه الفتنة العظيمة.
نشأة القول بخلق القرآن:
أوّل من أحدث بدعة القول بخلق القرآن هو الجعد بن درهم، وقد قتله أمير العراق في زمانه خالد بن عبد الله القسري عام 124 هــ، يوم الأضحى.
قال حبيب بن أبي حبيب: شهدت خالد بن عبد الله القسري بواسط، في يوم أضحى، وقال: «ارجعوا فضحوا تقبل الله منكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله علوا كبيرا عما يقول الجعد بن درهم، ثم نزل فذبحه» رواه البخاري في خلق أفعال العباد، وأبو سعيد الدارمي واللالكائي وغيرهم.
قال أبو القاسم اللالكائي: (لا خلاف بين الأمّة أنّ أوّل من قال: "القرآن مخلوقٌ" جعد بن درهم).
ثم أخذ هذه المقالة: الجهم بن صفوان، واشتهرت عنه، ولم يكن له أتباع لهم شأن في زمانه، وإنما بقيت مقالاته حتى تلقّفها بعض أهل الكلام فطاروا بها وفتحوا بها على الأمّة أبواباً من الفتن العظيمة، ولم يكن الجهمُ من أهل العلم ، ولم تكن له عناية بالأحاديث والآثار، وإنما كان رجلاً قد أوتي ذكاء ولساناً بارعاً وتفننا في الكلام، وجدلاً ومراءً، وكان كاتباً لبعض الأمراء في عصره؛ فانتشرت مقالاته، وكان من أعظم ما أدخله على الأمّة إنكار الأسماء والصفات، وإنكار علوّ الله، والقول بخلق القرآن، والجبر والإرجاء الغاليان، وقد كفّره العلماء في عصره؛ فقتله الأمير سلم بن الأحوز المازني سنة 128هـ.
قال بكير بن معروف: (رأيت سلم بن الأحوز حين ضربَ عُنُقَ الجهمِ فاسودَّ وجهه). رواه اللالكائي.
وقال أبو معاذ البلخي: (كان جهمٌ على معبَر ترمذٍ، وكان رجلًا كوفيَّ الأصل،ِ فصيح اللّسان، لم يكن له علمٌ، ولا مجالسةٌ لأهل العلم، كان تكلّم كلام المتكلّمين، وكلّمه السُّمَنيّة فقالوا له: صف لنا ربّك الّذي تعبده، فدخل البيت لا يخرج كذا وكذا.
قال: ثمّ خرج عليهم بعد أيّامٍ، فقال: هو هذا الهواء مع كلّ شيءٍ، وفي كلّ شيءٍ، ولا يخلو منه شيءٌ).
قال أبو معاذٍ: (كذب عدوّ اللّه، إنّ اللّه في السّماء على عرشه وكما وصف نفسه). رواه اللالكائي.
وقد ذكر ابن بطّة عن يوسف القطّان أنّ الجعد بن درهم جدّ الجهم بن صفوان.
وذكر البخاري في كتاب "خلق أفعال العباد" عن قتيبة بن سعيد أنه قال: «بلغني أن جهما كان يأخذ الكلام من الجعد بن درهم»
ثم ظهر بعدهما بمدّة بشر بن غياث المريسي، وكان في أوّل أمره مشتغلا بالفقه حتى عدّه بعضهم من كبار الفقهاء؛ أخذ عن القاضي أبي يوسف، وروى عن حماد بن سلمة وسفيان بن عيينة، وناظر الشافعيّ في مسائل، وكان مع أخذه عن هؤلاء العلماء يسيء الأدب ويشغّب، وأقبل على علم الكلام، وافتتن به، وكان خطيباً مفوَّها، ومجادلاً مشاغباً.
قال الإمام أحمد: (ما كان صاحب حُججٍ، بل صاحب خطبٍ).
وقال الذهبي: (نظر في الكلام فغلب عليه، وانسلخ من الورع والتّقوى، وجرّد القول بخلق القرآن، ودعا إليه، حتّى كان عينَ الجهميّة في عصره وعالمهم، فمقته أهل العلم، وكفّره عدّةٌ، ولم يدرك جهمَ بن صفوان، بل تلقّف مقالاته من أتباعه).
وكان متخفياً في زمان هارون الرشيد لما بلغه وعيده بقتله؛ ثم أظهر مقالته ودعا إلى ضلالته بعد موت الرشيد سنة 193هـ.
قال الذهبي: (روى أحمد بن إبراهيم الدورقي، عن محمد بن نوح، أن هارون الرشيد قال: بلغني أن بشر بن غياث يقول: "القرآن مخلوق" لله علي إن أظفرني به لأقتلنه. قال الدورقي: وكان بشر متواريا أيام الرشيد، فلما مات ظهر بشر ودعى إلى الضلالة).
وذكر البخاري عن يزيد بن هارون الواسطي أنه قال: «لقد حرَّضتُ أهل بغداد على قتله جهدي، ولقد أُخبرت من كلامه بشيء مرة وجدت وجَعَه في صلبي بعد ثلاث».
وقال علي ابن المديني: «إنما كانت غايته أن يدخل الناس في كفره»
وورى أيضا بإسناده عن أحمد بن خالد الخلال: أنه قال: سمعت يزيد بن هارون وذَكَر أبا بكر الأصم والمريسي فقال: «هما والله زنديقان كافران بالرحمن، حلالا الدم»
وقال عبد الرحمن بن مهدي: «لو أن جهميا بيني وبينه قرابة ما استحللت من ميراثه شيئا» ذكره البخاري في كتاب خلق أفعال العباد.
وقال أيضاً: «من زعم إن الله لم يكلم موسى فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل».
فكان تحذير أئمة أهل السنة من بشر المريسي وأصحابه ظاهراً مستفيضاً؛ حتى حَذِرَهم كثيرٌ من طلابِ العلم، لكنّهم تسللوا إلى الحكّام والولاة بما لهم من العناية بالكتابة والأدب، والتفنن في صياغة المكاتبات، وحفظ نوادر الأخبار، ولطائف المحاضرات.
ثم لمّا آلت الخلافة إلى المأمون سنة 198هـ ، وكان رجلاً له نصيب من العلم والأدب، لكنْ فَتَنَهُ إقبالُه على علم الكلام ولطائف ما يأتي به المعتزلة من زخرف القول ودقائق المسائل،
وعنايتهم بالأدب والمنطق وعلم الكلام؛ فكان يقرّبهم ويجالسهم وزادوه ولعاً بالفلسفة وعلم الكلام حتى أمر باستخراج كتب الفلاسفة اليونانيين من جزيرة قبرص وتعريبها؛ فزاد البلاء بتلك الكتب وما فيها من الشبه التي غرّت المتكلّمين وفتنتهم.
وكان من رؤوس المعتزلة في عهد المأمون: بشر بن غياث المريسي(ت:218هـ)، وثمامة بن أشرس النميري (ت:213هـ) ، وأبو الهذيل محمد بن الهذيل العلاف (ت:235هـ) ؛ وأحمد بن أبي دؤاد الإيادي (ت:240هـ)، فزيّنوا له القول بخلق القرآن، وأنّه لا يتمّ الدين إلا به، وشبّهوا عليه بشبههم؛ وكان في نفسه يرى القول بخلق القرآن لكنّه لا يتجاسر على إظهاره خشية إنكار العلماء عليه.
وكان يقول: (لولا مكان يزيد بن هارون لأظهرت أنّ القرآن مخلوق).
فقال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين، ومن يزيد حتى يكون يُتّقى؟!!
فقال: (ويحك! إني أخاف إن أظهرته فيردّ عليَّ فيختلف الناس؛ فتكون فتنة وأنا أكره الفتنة).
وأرسل إليه المأمون من يختبر أمره فوجده شديداً في منع القول بخلق القرآن؛ فلم يرد أن يثير الناس عليه، وكان أمر الناس مضطرباً في فتنة الخلاف بين المأمون والأمين، واستمرّ هذا الاضطراب سنوات بعد ذلك حتى إنّ المأمون لم يدخل بغداد إلا سنة 204هـ، بعد قتله لأخيه بستّ سنين.
ومات يزيد بن هارون سنة (206هـ)؛ فلم يزل المأمون يقدّم رجلاً ويؤخّر أخرى في دعوة الناس إلى القول بخلق القرآن؛ حتى تجاسر على ذلك سنة 212هـ، لكنّه لم يكن يمتحن الناس بهذا القول، وإنما يدعو إليه، ويقرّب من يقول به، ويقصي من يأباه؛ حتى كثر المعتزلة في زمانه، وكان منهم القضاة والكُتَّاب وجلساء الخليفة والأمراء.
بداية المحنة
وفي سنة 218هـ عزم المأمون على امتحان العلماء في القول بخلق القرآن؛ فكتب إلى الولاة بامتحانهم، ومن أبى هُدّد بالعزل أو الحبس أو القتل.
وكان أوّلَ من امتحن من العلماء عفّان بن مسلم الصفّار شيخ الإمام أحمد، وكان شيخاً كبيراً في الرابعة والثمانين من عمره لمّا امتحن، وكان رجلاً فقيراً ، وفي داره نحو أربعين إنساناً، ويُجرى عليه من بيت المال ألف درهم كلّ شهر.
فدعاه نائب بغداد إسحاق بن إبراهيم المصعبي؛ فقرأ عليه كتاب المأمون، فإذا فيه: (امتحن عفّان وادعه إلى أن يقول: القرآن مخلوق، فإن قال ذلك فأقرَّه على أمره، وإلا فاقطع عنه الذي يجري عليه).
قال عفان: فقال لي إسحاق: ما تقول؟
فقرأت عليه: " {قل هو الله أحد} " حتى ختمتها.
فقلت: أمخلوق هذا؟
قال: يا شيخ إن أمير المؤمنين يقول: إنك إن لم تجبه يقطع عنك ما يجري عليك.
قال عفان: فقلت له: يقول الله تعالى: {وفي السماء رزقكم وما توعدون}؛ فسكتَ وانصرفتُ.
ثمّ ورد كتاب المأمون بامتحان جماعة من أهل الحديث منهم: يحيى بن معين، وأبو خيثمة زهير بن حرب، وأحمد بن إبراهيم الدورقي، وإسماعيل الجوزي، ومحمد بن سعد كاتب الواقدي، وأبو مسلم عبد الرحمن بن يونس المستملي، وابن أبي مسعود.
أمر المأمون بإحضارهم إليه في الرقّة ؛ ولم يُمتحنوا في بلدانهم؛ وإنما أحضروا إليه؛ فامتحنوا فهابوه وخافوا معارضته؛ فأجابوا وأطلقوا.
قال الإمام أحمد: (لو كانوا صبروا وقاموا لله عزّ وجلّ لكان الأمر قد انقطع، وحذرهم الرجل - يعني المأمون - ولكن لمّا أجابوا وهم عينُ البلد اجترأ على غيرهم).
وكان إذا ذكرهم اغتمّ وقال: (همّ أوّل من ثلم هذه الثلمة، وأفسد هذا الأمر).
وفي دمشق ورد كتاب المأمون على إسحاق بن يحيى بن معاذ أمير دمشق، أن أحضر المحدثين بدمشق فامتحنهم؛ فأحضر هشام بن عمار، وسليمان بن عبد الرحمن، وعبد الله بن ذكوان، وأحمد بن أبي الحواري، وكان والي دمشق يجلّ هؤلاء العلماء ولا يقوى على مخالفة أمر الخليفة؛ فامتحنهم امتحانا ليس بالشديد، فأجابوا، خلا أحمد بن أبي الحواري الناسك العابد، وقد كان من أهل الحديث في أوّل أمره ويغلب عليه العناية بالسلوك والتعبّد وتزكية النفس؛ عالماً بأخبار النسّاك والعبّاد وأحوالهم؛ قال عنه أبو داوود السجستاني: (ما رأيت أحداً أعلم بأخبار النُّسَّاك منه).
وكان معروفا بصلاحه؛ حتى قال يحيى بن معين: (أظن أهل الشام يسقيهم الله به الغيث).
ثم إنّه ألقى كتبه في البحر واجتهد في العبادة، وكان معظَّماً محبوباً عند أهل الشام، وكان أمير دمشق يحبّه ويجلّه؛ فجعل يرفق به في المحنة، ويقول: أليست السماوات مخلوقة؟ أليست الأرض مخلوقة؟ وأحمد يأبى أن يطيعه؛ فسجنه في دار الحجارة.
واجتهد والي دمشق أن يجيبه ولو متأوّلاً لأنّه يعلم شدّة المأمون في هذه المحنة؛ فوجّه إلى امرأته وصبيانه ليأتوه ويبكوا عليه ليرجع عن رأيه.
وقيل له: قل: ما في القرآن من الجبال والشجر مخلوق.
فأجاب على هذا، وكتب إسحاق بإجابته إلى الخليفة.
وامتحن في تلك المدة أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر الغسّاني قاضي دمشق وهو من شيوخ الإمام أحمد؛ وكان موصوفا بالعلم والفقه؛ وكان عظيم القدر عند أهل الشام.
قال أبو حاتم الرازي: (ما رأيت أحدا في كورة من الكُوَر أعظم قدرا ولا أجل عند أهلها من أبي مسهر بدمشق، وكنت أرى أبا مسهر إذا خرج إلى المسجد اصطفت الناس يسلمون عليه).
وكان شيخاً كبيراً قد بلغ الثامنة والسبعين من عمره؛ فأُدخل على المأمون وبين يدي المأمون رجل مطروح قد ضُربت عنقه، ليرهبه بذلك؛ فقال له المأمون: ما تقول في القرآن؟
قال: كما قال الله: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله}.
قال: أمخلوق أو غير مخلوق؟
قال: ما يقول أمير المؤمنين؟
قال: مخلوق.
قال: بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة، أو التابعين؟
قال: بالنظر. واحتج عليه.
قال: يا أمير المؤمنين، نحن مع الجمهور الأعظم، أقول بقولهم، والقرآن كلام الله غير مخلوق.
وأخذ المأمون يجادله على طريقة المعتزلة؛ فأبى أبو مسهر أن يجيبه إلى ما قال؛ فدعا المأمون بالنطع والسيف؛ فلما رأى ذلك أجاب مترخّصاً بعذر الإكراه.
قال ابن سعد: (فتركه من القتل وقال: أما إنك لو قلت ذلك قبل أن أدعو لك بالسيف لقبلت منك ورددتك إلى بلادك وأهلك.
ولكنك تخرج الآن فتقول: قلت ذلك فرَقا من القتل؛ أشخصوه إلى بغداد فاحبسوه بها حتى يموت.
فأُشْخِصَ من الرَّقة إلى بغداد في شهر ربيع الآخر سنة ثماني عشرة ومائتين فحبس قِبَل إسحاق بن إبراهيم فلم يلبث في الحبس إلا يسيرا حتى مات فيه، في غرة رجب سنة ثماني عشرة ومائتين؛ فأخرج ليدفن فشهده قوم كثير من أهل بغداد)ا.هـ.
محنة الإمام أحمد بن حنبل
ثم ورد الكتاب من الخليفة إلى أمير بغداد يأمره بامتحان الإمام أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح العجلي، وعبيد الله القواريري، والحسن بن حماد الحضرمي الملقّب بِسَجّادة، ومعهم جماعة من أهل الحديث.
فأحضر كل واحد منهم من موضعه، وأما الإمام أحمد فأتاه رسول صاحب الرَّبْع بعد غروب الشمس؛ فخرج معه عمّه إسحاق بن حنبل يشيّعه، فلما بلغوا دار صاحب الرَّبع، قال للإمام أحمد: إذا كان غداً فاحضر دار الأمير، يقصد إسحاق بن إبراهيم.
فلمّا انصرفوا من عنده قال له عمّه: لو تواريت!
قال: (كيف أتوارى؟ إن تواريت لم آمن عليك وعلى ولدي وولدك والجيران، ويلقى الناس بسببي المكروه، ولكنّي أنظر ما يكون).
فلما اجتمعوا في دار الأمير إسحاق بن إبراهيم ببغداد قرأ عليهم كتاب المأمون يدعوهم فيه إلى القول بخلق القرآن، وكان في كتاب المأمون: (الحمد لله الذي ليس كمثله شيء وهو خالق كلّ شيء..) فقال أحمد: {وهو السميع البصير}
فقال أحد الحاضرين من المعتزلة: ما أردت بقولك: {وهو السميع البصير}؟
قال أحمد: هكذا قال الله تبارك وتعالى.
ثمّ امتحن القوم فأجابوا جميعاً مصانعة وترخّصاً بالإكراه غير هؤلاء الأربعة.
قال ابن كثير: (كان من الحاضرين من أجاب إلى القول بخلق القرآن مصانعة مكرها ؛ لأنهم كانوا يعزلون من لا يجيب عن وظائفه ، وإن كان له رزق على بيت المال قطع ، وإن كان مفتيا منع من الإفتاء ، وإن كان شيخ حديث ردع عن الإسماع والأداء ، ووقعت فتنة صماء، ومحنة شنعاء، وداهية دهياء).
فمن أجاب أطلق، ومن أبى حُبس وقُيّد؛ فلمّا كان بعد ذلك دعا بالقواريري وسجّادة فأجابا وخلّى عنهما.
فكان الإمام أحمد يعذرهما ويقول: (قد أعذرا وحُبِسَا وقُيِّدا، وقال الله عزّ وجل: {إلا من أكره وقلبه مطمئنّ بالإيمان} القَيْدُ كُرْه، والحَبْسُ كُرْه).
وبقي أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح في الحبس؛ فمكثا أياماً؛ ثم ورد كتاب المأمون من طرسوس بأن يحملا إليه؛ فحملا مقيّدين زميلين؛ وشيّعهما العلماء وطلاب العلم إلى الأنبار.
وقال أبو بكر الأحول لأحمد بن حنبل: إن عرضت على السيف تجيب؟ قال: لا.
فلمّا وصلا إلى الرقّة حبسا فيها؛ حتى يقدم المأمون؛ وكان قد خرج إلى بلدة يقال لها: "البذندون".
ودخل عليه في حبسه في الرقّة أبو العبّاس الرقي - وكان من كبار أهل الحديث- في ذلك البلد، ومعه بعض أهل الحديث؛ فجعلوا يذكّرونه ما يُروى في التقية من الأحاديث؛ فقال أحمد: (وكيف تصنعون بحديث خبّاب: "إنّ من كان قبلكم كان يُنشر أحدهم بالمنشار، ثمّ لا يصدّه ذلك عن دينه ").
قال: فيئسنا منه.
فقال أحمد: (لستُ أبالي بالحبس، ما هو ومنزلي إلا واحد، ولا قتلاً بالسيف؛ إنما أخاف فتنة السوط، وأخاف أن لا أصبر).
فسمعه بعض أهل الحبس وهو يقول ذلك؛ فقال: لا عليك يا أبا عبد الله؛ فما هو إلا سوط ثمّ لا تدري أين يقع الثاني؛ فكأنّه سُرّي عنه).
ثمّ أُخِذ الإمام أحمد وصاحبه على محمل؛ وخرج عليهم الأمير رجاء الحضاري وكان من قادة الجيوش؛ فقال: هؤلاء الأشقياء!
فقال الإمام أحمد: يا عدوّ الله؛ أنت تقول: القرآن مخلوق، ونكون نحن الأشقياء.
ثم أنزلوا من المحامل وصيّروا في خيمة؛ فخرج عليهم خادم من خدم المأمون يمسح الدمع عن وجهه من البكاء وهو يقول: (عزّ عليَّ يا أبا عبد الله أن جرّد أمير المؤمنين المأمون سيفاً لم يجرّده قط، وبسط نطعاً لم يبسطه قط، ثم قال: وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا دفعت عن أحمد وصاحبه حتى يقولا: القرآن مخلوق).
فبرك الإمام أحمد على ركبتيه ولحظ السماء بعينيه، ثم قال: (سيدي غرّ هذا الفاجرَ حلمُك حتى تجرّأ على أوليائك بالضرب والقتل، اللهمّ فإن يكن القرآن كلاُمك غير مخلوق فاكفنا مؤونته).
فما مضى ثلث الليل الأول حتى سمعوا صيحة وضجّة، وإذا رجاء الحُضاري قد أقبل فقال: (صدقت يا أبا عبد الله، القرآن كلام الله غير مخلوق، مات والله أمير المؤمنين).
وفي رواية أخرى أن الأمام أحمد قال: (كنتُ أدعو الله أن لا يريني وجهه - يعني المأمون - وذلك أنه بلغني عنه أنّه يقول: "لئن وقعت عيني على أحمد لأقطعنّه إرْبا إرْبا").
قال: (فلمّا دخلنا طرسوس أقمنا أيّاما وأنا في ذلك؛ إذا رجلٌ قد دخل علينا؛ قال لي: يا أبا عبد الله، قد مات الرجل؛ فحمدتُ الله تعالى، وكنت على ذلك أتوقّع الفرَج).
المحنة في زمن المعتصم بن هارون الرشيد
وتولّى الخلافة بعد المأمون أخوه المعتصم، وكان رجلاً لا بصر له بالعلم، وإنما هو قائد جيش وصاحب حروب، لكنّه قلّد أخاه المأمون في هذه المسألة، وقرّب المعتزلة على طريقة أخيه؛ فزيّنوا له ما كانوا يزيّنونه لأخيه.
ومن أوّل يوم تولّى فيه المعتصمُ الخلافةَ عيَّن أحمدَ بن أبي دؤاد الإيادي قاضيَ القضاة؛ فكان من أشد المعتزلة أذية لأهل السنة في القول بالخلق القرآن والامتحان به؛ ومن عجائب ولعه بهذا الامتحان ما ذكره الذهبي في حوادث سنة 231هـ: أن الخليفة الواثق فادى من طاغية الروم أربعة آلاف وستمائة أسير من المسلمين؛ فتفضل أحمد بن أبي دؤاد فقال: (من قال من الأسارى: القرآن مخلوق، خلّصوه وأعطوه دينارين، ومن امتنع دعوه في الأسر!!).
والمقصود أنّ البلاء اشتدّ على أهل السنّة بتوليته، وبتقريب الخليفة له؛ فتولّى كبر هذه المحنة، واجتهد فيها اجتهاداً بالغاً، وحرّض عليها من قرّبهم من قضاة المعتزلة ومناظريهم.
ثم إنَّ ابنَ أبي دؤاد أمرَ بنقل الإمام أحمد ومحمّد بن نوح مقيّدين إلى بغداد؛ ليُحبسا فيها حتى ينظر في أمرهما، وكان الإمام أحمد ومحمد بن نوح قد مرضا تلك الأيام مرضاً شديداً، فأشخصا مقيّدين يُنقلان من بلد إلى بلد في طريق عودتهما إلى بغداد؛ فأما محمد بن نوح فاشتدّ به المرض حتى مات وهو مقيّد في موضع يقال له "عانات" على طريق بغداد؛ فصلى عليه الإمام أحمد.
وكان – رحمه الله – شابّا حديث السنِّ قويّا في أمر الله؛ لا يخاف في الله لومة لائم؛ قد هانت عليه نفسه في سبيل الله.
قال الإمام أحمد: (ما رأيت أحداً على حداثة سنّه أقومَ بأمر الله من محمّد بن نوح، وإنّي لأرجو أن يكون قد خُتم له بخير.
قال لي ذات يوم وأنا معه جالس: يا أبا عبد الله! .. اللهَ اللهَ؛ إنّك لستَ مثلي ولستُ مثلك؛ إنِ اللهُ ابتلاني فأجبتُ فلا يقاس بي، فإنّك لستَ مثلي ولستُ مثلك، أنت رجلٌ يُقتدى بك، وقد مدّ هذا الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك؛ فاتّق الله واثبت لأمر الله).
قال: (فتعجّبت من تقويته ومن موعظته إياي).
ونقّل الإمام أحمد في محابس متعددة إلى أن استقرّ حبسه في محبس العامّة في بغداد، فكان معه جماعة كثيرة في حبسه، ومكث في ذلك الحبس نحو سنتين.
قال الإمام أحمد: (فكنت أصلّي بهم وأنا مقيّد).
وفي تلك المدّة كانت المحنة جارية على أهل العلم؛ فامتحن جماعة من العلماء؛ فمنهم من أجاب ترخّصاً بعذر الإكراه، ومنهم من حُبس، ومنهم من عُزل، ومنهم ضُرب، ومنهم أوذي بالتفريق بينه وبين أهله، وبأنواع أخرى من الأذى؛ وكانت أعناق العامّة ممتدّة إلى أحمد بن حنبل لأنه كان رأس أهل الحديث في زمانه.
المناظرة الكبرى في خلق القرآن
ولمّا رأى إسحاق بن حنبل عمُّ الإمام أحمد بن محمد بن حنبل أنَّ حبس ابن أخيه قد طال تردّد إلى الأمراء وقادة الجيوش وأصحاب السلطان وكلّمهم ليشفعوا في إطلاقه؛ فلمّا أيس منهم دخل على نائب بغداد إسحاق بن إبراهيم بن الحسين المصعبي؛ فذكّره بما كان لحنبل جدّ الإمام أحمد ووالد إسحاق بن حنبل من المكانة والإعانة في حروب بني العباس، وكان حنبل جاراً للحسين جدّ إسحاق بن إبراهيم بمرو؛ فذكّره بذلك وعرّفه؛ فقال إسحاق: قد بلغني ذلك.
ثم خلصا في تحاورهما إلى أن يناظره العلماء والفقهاء فمن أفلحت حجّته كان أغلب، وكان يريد بذلك أن يوجد وسيلة يخرج بها الإمام أحمد من سجنه.
ثم دخل إسحاق بن حنبل على ابن أخيه الإمام أحمد في السجن بصحبة الحاجب فقال له: (يا أبا عبد الله قد أجاب أصحابُك، وقد أعذرتَ فيما بينك وبين الله، وقد أجاب أصحابك والقوم، وبقيت أنت في الحبس والضيق!!).
فقال: (يا عمّ! إذا أجاب العالِم تقيّةً والجاهل يجهل فمتى يتبيّن الحق؟!!).
فأمسك عنه.
وكان ذلك في العشر الأواخر من رمضان سنة 219هـ؛ فمكثوا أياما حتى أَبلغ إسحاق بن إبراهيم الخليفةَ بالأمر؛ ثم أحضر الإمام أحمد من سجنه، إلى دار إسحاق بن إبراهيم ومنعت عنه زيارة أقاربه، ووجّه إليه اثنين من مناظري المعتزلة:
أحدهما أبو شعيب الحجام والآخر محمد بن رباح؛ فناظراه؛ فلم تقم لهما حجّة عليه، فكانا إذا ناظراه بعلم الكلام لم يجبهما، وإذا استدلا عليه بشيء من الكتاب والسنّة ردّ عليهما خطأهما في الاستدلال.
وكان مما سألاه عن القرآن: هل هو مخلوق ؟
فقال لهم: ما تقولون في علم الله هل هو مخلوق؟
فتورّط ابن الحجّام فالتزم أن علم الله مخلوق؛ فكفّره الإمام أحمد، وأنكر ابنُ رباح على صاحبه هذا الالتزام، وقاما من عنده.
فدخل إسحاق بن إبراهيم على الإمام أحمد فكلّمه بكلام ليّن ليثنيه عن موقفه من مسألة خلق القرآن، وكان مما قال له: يا أحمد إني عليك مشفق، وإن بيننا وبينك حُرمة، وقد حلف الخليفة لئن لم تجب ليقتلنَّك.
فقال له الإمام أحمد: ما عندي في هذا الأمر إلا الأمر الأول.
فحوّله من ليلته إلى غرفة مظلمة في دار الخليفة، وزيدت عليه القيود حتى أثقلته.
قال الإمام أحمد: (وحملت على دابّة والأقياد عليّ، وما معي أحد يمسكني؛ ظننتُ أنّي سأخرّ على وجهي من ثقل القيود، وسلّم الله؛ حتى انتهيت إلى الدار؛ فأدخلتُ إلى الدار في جوف الليل، وأغلق عليّ الباب، وأقعد عليه رجلان، وليس في البيت سراج، فقمت أصلّي ولا أعرف القبلة، فصليت فلما أصبحت فإذا أنا على القبلة).
فلما أصبح أحضر إلى مجلس الخليفة واجتمع القضاة وأهل الكلام من المعتزلة وزعيمهم ابن أبي دؤاد، وحضر المجلس بعض الأمراء وقادة الجيوش.
وكان المعتزلة من قبل يحقّرون شأن الإمام أحمد بن حنبل عند الخليفة ويزعمون أنّه شابّ حديث السنّ جاهل مبتدع يحبّ التصدّر والرياسة.
فلمّا رآه الخليفة قال: أليس زعمتم لي أنه حدَث؟ أليس هذا شيخاً مكتهلاً؟
وكان الإمام أحمد قد بلغ الخامسة والخمسين من عمره عام المحنة؛ فأدني من الخليفة وعليه قيوده الثقيلة؛ فسلّم عليه ثم أجلس.
قال الإمام أحمد: فلما مكثت ساعة، قلت له: يا أمير المؤمنين، تأذن لي في الكلام؟
قال: تكلّم.
قلت له: إلامَ دعا إليه ابن عمّك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله.
قلت: فأنا أشهد أن لا إله إلا الله.
ثم قلت له: إن جدّكَ ابن عباس حكى أن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان بالله.
قال: فذكرت الحديث كلّه ، وقلت له: يا أمير المؤمنين؛ فإلى ما أُدعى وهذه شهادتي وإخلاصي لله بالتوحيد؟!!
يا أمير المؤمنين دعوة بعد دعوة محمد صلى الله عليه وسلم؟!!
قال: فسكت.
وأُلقي في نفس المعتصم هيبة أبي عبد الله، وقال له: لولا أنّك كنت في يدِ مَن كان قبلي لما عرضتُ لك.
ثم قال: ناظروه وكلّموه.
فقال ابن أبي دؤاد لعبد الرحمن القزاز كلّمه؛ فقال: ما تقول في القرآن؟
فقال الإمام أحمد: ما تقول في العلم؟
فسكت عبد الرحمن.
فقال الإمام أحمد: القرآن من علم الله، ومن زعم أنّ علم الله مخلوق فقد كفر بالله، وكان يستدلّ على ذلك بقول الله تعالى: {ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم}.
فسكت عبد الرحمن القزاز ولم يردّ شيئاً.
فقالوا بينهم: يا أمير المؤمنين كفّرنا وكفّرك! فلم يلتفت إلى ذلك منهم.
ثم جعلوا يتكلمون من هاهنا ومن هاهنا، وكان الإمام أحمد وحده والمعتزلة نحو خمسين؛ هذا يدلي بشبهة، وهذا يعترض على حجة، وهذا ينزع باستدلال لغوي، وهذا يورد رواية معلولة، وهذا يورد حجّة كلامية؛ فكان إذا ذكروا له شيئاً من الكتاب والسنة واللغة أجابهم وردّ شبهتهم ، وإذا أوردوا عليه شيئا من علم الكلام لم يجبهم، وقال: لا أدري ما هذا، إيتوني بشيء من الكتاب والسنة.
حتى ضجر منه ابن أبي دؤاد وقال له: وأنت لا تقول إلا ما في كتاب الله أو سنّة رسوله؟
فقال الإمام أحمد: وهل يقوم الإسلام إلا بالكتاب والسنة؟!!
وذكر الإمام أحمد فيما بعد أن ابن أبي دؤاد لم يكن صاحب علم ولا حجّة ولا قدرة على المناظرة، إنما كان يستعين ببرغوث البصري وجماعته فإذا انقطع أحدهم عرض ابن أبي دؤاد فتكلم ليوهم أن صاحبه لم ينقطع.
قال الإمام أحمد: (ولقد احتجوا بشيء ما يقوى قلبي ولا ينطلق لساني أن أحكيه، وأنكروا الرواية والآثار، وما ظننتهم على هذا حتى سمعت مقالاتهم).
واستمرّت المناظرة، وجعل صوتُ الإمام أحمد يعلو على أصواتهم، وحجّته تدحض حججهم، ووهبه الله قوّة قلب وحسن جواب وحجّة قاطعة؛ فما أسرع ما كان يقطع حججهم ويردّ على شبههم، وما أسرع ما ينقطع أحدهم.
فلما طالت المناظرة قال ابن أبي دؤاد: هو والله يا أمير المؤمنين ضالُّ مضلٌّ مبتدع، وهؤلاء قضاتك والفقهاء فسَلْهُم؛ يقصد جماعته من المعتزلة.
فقال لهم الخليفة: ما تقولون؟
فقالوا: يا أمير المؤمنين هو ضالٌّ مضلٌّ مبتدع.
قال الإمام أحمد: وما كان في القوم أرأف بي ولا أرحم من أبي إسحاق المعتصم ؛ فأمّا الباقون فأرادوا قتلي، وشاركوا فيه لو أطاعهم وأجابهم إلى ذلك.
ثم صُرفوا من المجلس في ذلك اليوم، واجتمعوا من الغد حتى إذا كان آخر النهار؛ قال لهم المعتصم: انصرفوا، وأبقى عنده الإمام أحمد وعبد الرحمن بن إسحاق؛ فلمّا خلا بهما ذكر المعتصم للإمام أحمد أنّ مؤدّبه صالح الرشيدي كان جالساً في ذلك الموضع، وأشار إلى موضع من الدار، وخالفه في مسألة القرآن؛ فأمر به فسُحب ووطئ.
وأراد بذلك أن يرهب الإمام أحمد عن مخالفته في هذه المسألة، وكان يحبّ أن يجيب الإمام أحمد لأنه كان رأس أهل الحديث فإذا أجاب طمع أن يجيبه الناس.
وكان مما قاله المعتصم: والله إنه لفقيه، والله إنّه لعالم، ولوددت أنّه معي يصلح من شأني، فإن أجابني إلى ما أريد لأطلقنّ عنه.
ثم قال: يا أحمد! ويحك! لقد غمّني أمرُك، ولقد أسهرتَ ليلي، ولولا أنّك كنت في يدِ مَن كان قبلي ما عرضت لك، ولا امتحنتُ أحداً بعدك، ولو أنّه وراء حائطي هذا.
فقال الإمام أحمد: يا أمير المؤمنين ما أعطوني شيئاً من كتاب الله ولا سنّة عن رسول الله.
فرُدَّ الإمامُ أحمد إلى الموضع الذي كان فيه، ووجّه إليه اثنين من المعتزلة يناظرانه فكانا معه حتى حضر الإفطار وجيء بالطعام؛ فأكلا ولم يأكل الإمام أحمد إلا ما يقيم به أوده، وجعل نفسه بمنزلة المضطر.
فلما كان اليوم الثالث من مناظرته وذلك صبيحة خمس وعشرين من رمضان؛ دخل ابن أبي دؤاد على الإمام أحمد فقال له: يا أحمد؛ إنّه قد حلف أن يضربك ضرباً شديداً ، وأن يحبسك في أضيق الحبوس.
وكلّ ذلك ترهيب منهم طمعاً في أن يجيبهم ليتّبعهم العامّة على هذا القول.
ثم قال له ابن أبي دؤاد: يا أحمد والله ما هو القتل بالسيف، يا أحمد إنما هو ضرب بعد ضرب.
فلمّا أدخل على الخليفة في اليوم الثالث، وعنده ابن أبي دؤاد وأصحابه؛ قال المعتصم: أنا عليك شفيق، لقد أسهرت ليلي، كيف بليتُ بك؟!! ويحك! اتّق الله في نفسك وفي دمك.
ثم قال لهم: ناظروه وكلّموه؛ فدار بينهم كلام كثير، وكان مما احتجّ به عليهم الإمام أحمد أن احتجّ بقول الله تعالى: {ألا له الخلق والأمر} ففرّق بين الخلق والأمر، والقرآن من أمر الله تعالى كما قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا}.
ثم قال الإمام أحمد للخليفة المعتصم: علام تدعوني إليه؟ لا من كتاب الله ، ولا من سنّة نبيه، تأويلٌ تأوَّلوه، ورأيٌ رأوه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن جدال في القرآن، وقال: (( المراء في القرآن كفر ))، ولستُ صاحبَ مِرَاءٍ ولا كلام، وإنما أنا صاحبُ آثارٍ وأخبارٍ؛ فاللهَ اللهَ في أمري؛ فارجع إلى الله، فوالله لو رأيتُ أمراً وصحّ لي وتبيّنته لَصِرْتُ إليه.
قال أحمد: فأمسك الخليفة، وكأنَّ أمره قد لان لمّا سمع كلامي ومحاورتي، عرف فلم يُترك، وكان أحلمهم وأوقرهم وأشدّهم عليّ تحنُّنا إلا أنّهم لم يتركوه، واكتنفه إسحاق وابن أبي دؤاد؛ فقالا له: ليس من التدبير تَخْلِيَته هكذا يا أمير المؤمنين، ابلُ فيه عذراً يا أمير المؤمنين، هذا يناوئ خليفتين!! هذا هلاك العامة!!
وقال برغوث البصري وشعيب: يا أمير المؤمنين كافر حلال الدم، اضربْ عنقه، ودمه في أعناقنا.
وقالا: إنّه ضالّ مضلّ.
قال أحمد: (ولم يكن في القوم أشدّ تكفيراً ولا أخبث منهما).
فاشتدّ الخليفة عند ذلك وعزم على ضربه؛ فدعا بالعقابين والسياط والجلادين؛ فلمّا صار الإمام أحمد بين العقابين وعظ الخليفة، وكان مما قال له: (يا أمير المؤمنين، اللهَ اللهَ، إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: (( لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث... )) الحديث.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله؛ فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم)) فبمَ تستحلّ دمي ولم آت شيئاً من هذا يا أمير المؤمنين؟!!
يا أمير المؤمنين: اذكر وقوفك بين يدي الله كوقوفي بين يديك، يا أمير المؤمنين راقب اللهَ).
فكأنّه أمسك ولان، لكنّه لم يُترك؛ فقال ابن أبي دؤاد وخاف أن يكون منه عطف أو رأفة: يا أمير المؤمنين إنّه ضالّ مضلّ كافر بالله.
فقوي عزمُ الخليفةِ على ضرب الإمام أحمد؛ فدعا بكرسي فوضع له؛ فجلس عليه، وابن أبي دؤاد وأصحابه قيام على رأسه.
فقال أحد الحراس للإمام أحمد: خذ الخشبتين بيدك وشدّ عليهما؛ فلم يتبيّن أحمد كلامه؛ فتخلّعت يداه بعد ذلك من الضرب.
ثم قال المعتصم للجلادين: أروني سياطكم؛ فنظر فيها؛ فقال: إيتوني بغيرها؛ فأتوه بغيرها.
ثم قال لهم: تقدّموا؛ وقال لهم: ادنوا واحداً واحداً، ثم قال لأوّلهم: أوجعْ قطع الله يدك.
قال الإمام أحمد: فتقدّم فضربني سوطين، ثمّ تأخر.
ثم قال للآخر: ادن، شدّ قطع الله يدك، ثم جاء آخر ؛ فلم يزالوا كذلك حتى أغمي على الإمام أحمد، فوقف المعتصم عليه وهم محدقون به حتى أفاق، فقال له: يا أحمد ، ويلك تقتل نفسك، ويحك أجبني، أُطلق عنك.
وأجلب الحاضرون عليه: أمير المؤمنين قائم على رأسك، إمامك يسألك أن تجيبه، يريدون أن يجيبهم إلى مقالتهم.
وضربه عُجيف - أحد قادة جيوش المعتصم - بقائمة سيفه، وقال له: تريد تغلب هؤلاء كلهم؟!!
وجعل بعضهم يقول: يا أمير المؤمنين دمه في عنقي.
فرجع إلى الكرسي، وقال للجلاد: ادنه، أوجع قطع الله يدك، ولم يزل يدعو واحداً واحداً ، وكلّ واحد يضربه سوطين ثمّ يتنحّى، حتى يكون ذلك أشدّ في الضرب، حتى أغمي عليه مرّة أخرى، ثمّ ترك حتى أفاق؛ فقام إليه ثانية، فكرر عليه مقالته فلم يجبه، ثم أعاد ضربه مرة ثالثة حتى أغمي عليه، ثم ترك حتى أفاق، ثمّ قام إليه الثالثة؛ فجعل يقول: يا أحمد أجبني.
قال أحمد: وجعل عبد الرحمن يقول لي: أصحابك يحيى وفلان وفلان، أليس قد أجابوا؟
فلم يجبهم، وعزم على احتمال الضرب والأذى.
وقال المعتصم لابن أبي دؤاد: لقد ارتبكت في أمر هذا الرجل.
فقال له: يا أمير المؤمنين، إنّه والله كافر مشرك، قد أشرك من غير وجه؛ فلا يزال به حتى يصرفه عما يريد.
فأعيدَ عليه الضربُ حتى ضرب نيّفاً وثلاثين سوطاً، وأغمي عليه ؛ ثم سحبوه وكبّوه على وجهه وداسوه، فلمّا رأى المعتصم أنّه لا يتحرّك دخله الرعب، وأمر بتخليته.
فلم يفق إلا وهو في حجرة قد أطلقت عنه الأقياد.
وأراد الخليفة أن يطلق سراحه بعد الضرب؛ فقال ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين احبسه؛ فإنّه فتنة، يا أمير المؤمنين إنّه ضالّ مضلّ، وإن أخليته فتنتَ به الناس.
فلم يلتفت إليه الخليفة، وأخذه الندم والارتباك.
وجيء الإمام أحمد بسويق ليشرب؛ فأبى، وقال: لا أفطر، ثم قال: (لي ولهم موقف بين يدي الله عزّ وجل).
فنقلت هذه الكلمة إلى الخليفة؛ فقال: يخلّى سبيله الساعة.
وأمر أن يُكْسَى كسوة حسنة، مبطّنة وقميصا وطيلسانا وخفّا وقلنسوة، وأن يحمل إلى منزله.
وكان نائبُ بغداد قد أخذ عمَّ الإمام أحمد وبعض أقاربه من الليل وأوقفهم؛ فعلمَ الناسُ أنّه سيحدث في شأن أحمد حدثٌ؛ فاجتمع الناس في الميدان والطرقات، وأغلقت الأسواق، واجتمع الناس؛ فبينا هم كذلك إذ خرج عليهم الإمام أحمد على دابّة عليه كسوة حسنة، وابن أبي دؤاد عن يمينه، وإسحاق بن إبراهيم عن يساره.
وأُخِذ إلى دار إسحاق بن إبراهيم ؛ فبعث إلى جيرانه ومشايخ المجالس ؛ فجمعهم وأدخلوا عليه ؛ فقال لهم: هذا أحمد بن حنبل، إن كان فيكم من يعرفه، وإلا فليعرف.
ثم حملوه على دابّة إلى داره يشيّعه نائب بغداد والناس.
قال حنبل بن إسحاق - وهو ابن عمّ الإمام أحمد-: فلمّا صار إلى باب الدار؛ ذهب لينزل فاحتضنته ولم أعلم؛ فوقعت يدي على موضع الضربة فصاح وآلمه ذلك، ولم أعلم فنحّيت يدي؛ فنزل متوكّئا عليَّ، وأغلق الباب، ودخلنا معه، ورمى بنفسه على وجهه لا يقدر أن يتحرّك إلا بجهد، وخلع ما كان عليه من اللباس الذي كسوه، فأمر به فبيع، وتصدّق بثمنه.
وجاء رجل من أهل السجن يقال له " أبو الصبح"، يعالج من الضرب والجراحات؛ فقال: (قد رأيت مَن ضُرب الضرب العظيم، ما رأيت ضرباً مثل هذا؛ هذا ضرب التلف).
وكان لبعض الجراحات غور؛ فسبرها بالميل ؛ فلم يجدها نقبت، وعافاه الله من ذلك، ورأى بعض اللحم قد مات من الضرب؛ فقطعه بسكين، فلم يزل أثر الضرب في ظهره.
وجعل يضع له الدواء ويصنع له المراهم حتى تعافى بعد أيام، وقوي على شهود الصلاة مع المسلمين، وكان كهلاً في الخامسة والخمسين من عمره لمّا ضُرِبَ رحمه الله ورفع درجته.
قال عليّ بن المديني: (إنّ الله عزّ وجلّ أعزّ هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث: أبو بكر الصديق يوم الردّة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة). رواه الخطيب البغدادي وعبد الغني المقدسي.
ولم تنته المحنة بهذا عن المسلمين، لكنّهم كفّوا عن امتحان الإمام أحمد، فلم يعرض له المعتصم بقيّة حياته حتى مات سنة 226هـ.
وجرت في خلافته حروب واضطرابات شغلته كثيراً ؛ منها فتنة بابك الخرّمي، واستبداد الأفشين، وخيانات بعض العسكر، وحروب بينه وبين الروم؛ فأمكنه الله من قتل بابك الخرّمي وقتل الأفشين وأصحابه، وردّ عدوان الرّوم وفتح عمّورية.
ولم يزل الإمام أحمد بعدَ أن برئ من الضرب يحضر الجمعة والجماعة، ويحدّث ويفتي، حتى مات المعتصم.
ثم إنّ الإمام أحمد قد عفا عن المعتصم، وجعله في حلّ، وعفا عن كلّ من آذاه في تلك المحنة إلا من كان صاحب بدعة.
جاءه رجلٌ حسن الهيئة كأنّه كان مع السلطان؛ فجلس عنده حتى انصرف جلساؤه ثم دنا منه؛ فقال له: يا أبا عبد الله؛ اجعلني في حلّ.
قال: من ماذا؟
قال: كنت حاضراً يوم ضُربتَ، وما أعنتُ ولا تكلمتُ، إلا أنّي حضرتُ ذلك.
فأطرق الإمام أحمد رثم رفع رأسه إليه؛ فقال: أحدث لله توبةً، ولا تعدْ إلى مثل ذلك الموقف.
فقال له: يا أبا عبد الله أنا تائب إلى الله تعالى من السلطان.
فقال الإمام أحمد: فأنت في حلٍّ وكلّ من ذكرني إلا مبتدع.
ثم قال: قد جعلت أبا إسحاق [يعني المعتصم]في حلّ، ورأيت الله عزّ وجل يقول: {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم}
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بالعفو في قضية مسطح.
ثم قال: العفو أفضل، وما ينفعك أن يعذّب أخوك المسلم بسببك، ولكن تعفو وتصفح عنه؛ فيغفر الله لك كما وعدك.
محنة أهل السنة في مدّة حبس الإمام أحمد
وكان العلماءُ في مدّة سجن الإمام أحمد وبعدها يُمتحنون ويُؤذون:
ففي الكوفة: أُخذ أبو نعيم الفضل بن دكين وكان شيخاً كبيراً قد قارب التسعين؛ فأدخل على الوالي مع جماعة من أهل الحديث منهم أحمد بن يونس وابن أبي حنيفة؛ فامتحنه الوالي: فقال أبو نعيم: (أدركت الكوفة وبها أكثر من سبعمائة شيخ، الأعمش فمن دونه يقولون: القرآن كلام الله).
وفي رواية: (فما رأيتُ خَلقاً يقول بهذه المقالة -يعني بخلق القرآن - ولا تكلم أحد بهذه المقالة إلا رُمي بالزَّندقة).
ثمّ قطع زرّا من قميصه وقال: عنقي أهون علي من زري هذا.
ثمّ إنّه طُعن في عنقه وأصابه (وَرَشْكين) وهو كسر في الصدر، ومات بعد يوم من جراحته في يوم الشكّ من رمضان سنة 219هـ؛ قبل خروج الإمام أحمد بنحو شهر.
ذكر ابن سعد في طبقاته عن عبدوس بن كامل قال: كنا عند أبي نعيم الفضل بن دكين في شهر ربيع الأول سنة 217هـ يوما بالكوفة فجاءه ابن المحاضر بن المورّع؛ فقال له أبو نعيم: إني رأيت أباك البارحة في النوم وكأنه أعطاني درهمين ونصفا؛ فما تؤولون هذا؟
فقلنا: خيرا رأيت.
قال: أما أنا فقد أولتها أني أعيش يومين ونصفا، أو شهرين ونصفا، أو سنتين ونصفا، ثم أُلحق بالعصبة؛ فتوفي بالكوفة ليلة الثلاثاء ودفن يوم الثلاثاء لانسلاخ شعبان سنة تسع عشرة ومائتين وذلك بعد هذه الرؤيا بثلاثين شهرا تامة.
وفي البصرة: أُخذ العباس بن عبد العظيم العنبري، وعلي بن المديني؛ فامتحنا فلم يجيبا في أول الأمر؛ فأما العباس فأقيم فضرب بالسوط حتى أجاب، وعلي بن المديني ينظر إليه؛ فلما رأى ما نزل بعباس العنبري وأنّه قد أجاب أجاب مثله، ولم يُنل بمكروه ولا ضرب؛ فكان الإمام أحمد يعذر العباس ولا يعذر عليّا لذلك.
وكان علي بن المديني قد رأى في منامه أنه يصافح داوود عليه السلام؛ وكان عابراً ؛ فعبرها بأنه يفتن في دينه.
المحنة في عهد الواثق بن المعتصم
ثمّ ولي بعد المعتصم ابنه الواثق؛ فنشط في المحنة بتدبير من قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد؛ وأظهر القضاةُ القول بخلق القرآن؛ فكان الإمام أحمد يشهد الجمعة، ويعيد الصلاة إذا رجع، ويقول: تؤتى الجمعة لفضلها، والصلاة تعاد خلف من قال بهذه المقالة.
وفي خلافة الواثق ورد كتاب ابن أبي دؤاد إلى والي مصر؛ يأمره فيه بامتحان أبي يعقوب يوسف بن يحيى البويطي؛ عالم مصر ومفتيها، وتلميذ الشافعي وأعلم أصحابه، وخليفته في مجلسه بعد موته.
فاستدعاه والي مصر؛ فامتحنه فأبى أن يجيب، وكان الوالي حسن الرأي فيه؛ فقال: قل فيما بيني وبينك!
فقال: لا أقوله، ليس بي أنا، ولكن بي أن يقتدي بي مائة ألف يقولون: قال أبو يعقوب، ولا يدرون المعنى والسبب؛ فيضلون، ولا أقوله أبدا.
وكان ابن أبي دؤاد قد أمر أن يُحمل إلى بغداد في أربعين رطلاً من حديد يقيّد بها ويغرّمها من ماله إن لم يجب.
فيكون وزن القيد نحو 15 كيلوجرام من الحديد.
قال الربيع بن سليمان: (كان البويطي أبدا يحرك شفتيه بذكر الله، وما أبصرت أحدا أنزع بحجة من كتاب الله من البويطي، ولقد رأيته على بغل في عنقه غل، وفي رجليه قيد، وبينه وبين الغل سلسلة فيها لبنة، وزنها أربعون رطلا، وهو يقول: إنما خلق الله الخلق بـ"كن"، فإذا كانت مخلوقة، فكأن مخلوقا خلق بمخلوق، ولئن أدخلت عليه لأصدقنه -يعني: الواثق- ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم).
وترك في السجن إلى أن مات في قيوده سنة 231هـ.
وممن حبس في تلك المحنة مع البويطي: نعيم بن حماد المروزي، من أئمة أهل السنة، وهو أوّل من صنّف المسند، وهو الذي حثّ الإمام أحمد على كتابة المسند.
قال الإمام أحمد: ( جاءنا نعيم بن حماد ونحن على باب هُشيم نتذاكر المقطعات فقال: جمعتم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: (فعُنينا بها منذ يومئذ).
قال محمد بن سعد في طبقاته: ( نعيم بن حماد..كان من أهل خراسان، من أهل مرو، وطلب الحديث طلبا كثيرا بالعراق والحجاز، ثم نزل مصر؛ فلم يزل بها حتى أُشخص منها في خلافة أبي إسحاق بن هارون - يعني المعتصم - فسُئل عن القرآن فأبى أن يجيب فيه بشيء مما أرادوه عليه؛ فحبس بسامرا؛ فلم يزل محبوسا بها حتى مات في السجن في سنة ثمان وعشرين ومائتين)ا.هـ.
وقال الذهبي: (حُمل إلى العراق في امتحان القرآن مع البويطي مقيدين، فمات نعيمٌ بسرَّ من رأى)
وروى الخطيب البغدادي عن نفطويه أنَّه جُرَّ بأقياده فألقي في حفرة، ولم يكفَّن ولم يصلَّ عليه، بأمرٍ من صاحب ابن أبي دؤاد.
وممن حُبس في تلك المحنة: الحافظ المحدّث محمود بن غيلان المروزي نزيل بغداد من شيوخ البخاري ومسلم، وقد أكثر الترمذي من الرواية عنه.
سئل عنه الإمام أحمد فقال: (ثقة، أعرفه بالحديث، صاحب سنة، قد حبس بسبب القرآن).
وفي زمان الواثق حدثت فتنة أخرى بسبب تشدّده في الامتحان بخلق القرآن، وسجنه لكثير من العلماء والأئمة والمؤذنين الذين لا يجيبون إلى القول بخلق القرآن، وهي أنّ نفراً من فقهاء بغداد ضاقوا ذرعاً بما جرى من المحنة فأتوا الإمام أحمد فقالوا له: إن هذا الأمر قد فشا وتفاقم، ونحن نخافه على أكثر من هذا، وذكروا له أنّ ابن أبي دؤاد يأمر المعلمين بتعليم الصبيان في الكتاتيب القولَ بخلق القرآن، وأنّهم يخشون أن ينشأ جيل على هذا الكفر، وقالوا: نحن لا نرضى بإمارته.
واحتجّوا للخروج عليه بحجج؛ فنهاهم الإمام أحمد عمّا أرادوه؛ وقال لهم: (عليكم بالنُّكْرة بقلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ولا دماء المسلمين معكم، انظروا في عاقبة أمركم، ولا تعجلوا، واصبروا حتى يستريح برٌّ ويُستراح من فاجر).
فقال بعضهم: (إنا نخاف على أولادنا إذا ظهر هذا لم يعرفوا غيره، ويمحى الإسلام يدرس).
قال: (كلا، إنّ الله عزّ وجل ناصر دينه، وإنّ هذا الأمر له ربٌّ ينصره، وإنّ الإسلام عزيز منيع).
فلم يقبلوا منه، وخرجوا من عنده.
قال حنبل بن إسحاق: (فمضى القوم، فكان من أمرهم أنهم لم يحمدوا، ولم ينالوا ما أرادوا، اختفوا من السلطان وهربوا، وأُخد بعضهم فحبس، ومات في الحبس).
ثمّ ورد كتاب من الأمير إسحاق بن إبراهيم إلى الإمام أحمد يبلغه ما أمره به الخليفة الواثق، وكان في كتابه: (إن أمير المؤمنين قد ذكرك، فلا يجتمعن إليك أحد، ولا تساكني بأرض ولا مدينة أنا فيها، فاذهب حيث شئت من أرض الله).
فاختفى الإمام أحمد ثلاثة أيام في دار صاحبه أبي إسحاق إبراهيم بن هانئ النيسابوري، ثم تنقل في أماكن متخفياً ثم رجع إلى منزله واحتبس فيه، وامتنع عن التحديث، ومجالسة الناس.
ولم يزل البلاء بهذه المحنة يشتدّ سنة بعد سنة حتّى كانت سنة 231هـ من أشدّ تلك السنوات على أهل السنة:
ففيها: فادى الخليفة الواثق من طاغية الروم أربعة آلاف وستمائة أسير من المسلمين؛ فتفضَّل أحمدُ بن أبي دؤاد بوضع شرط لمن يفادَون؛ فقال: (من قال من الأسارى: القرآن مخلوق، خلّصوه وأعطوه دينارين، ومن امتنع دعوه في الأسر!!).
وفي رواية: (فلا تفتكّوه).
وفي تلك السنة ورد كتاب الخليفة الواثق إلى أمير البصرة يأمره أن يمتحن الأئمة والمؤذنين بخلق القرآن؛ فسجن جماعة منهم.
مقتل أحمد بن نصر الخزاعي
وفي آخر شعبان من تلك السنة أُحضر أحمد بن نصر الخزاعي إلى مجلس الواثق؛ وكان شيخاً أبيض الرأس واللحية، فأُوقف على النطع مقيّداً؛ وامتحنه الواثق بنفسه، قال له: ما تقول في القرآن؟
قال: كلام الله.
قال: أفمخلوق هو؟
قال: كلام الله.
قال: فترى ربك في القيامة؟
قال: كذا جاءت الرواية.
قال الواثق: ويحك! يُرى كما يُرى المحدود المتجسم، ويحويه مكان، ويحصره ناظر! أنا كفرت بمن هذه صفته.
ثمّ قال لمن حضره من قضاة المعتزلة: ما تقولون فيه؟
فقال عبد الرحمن بن إسحاق: يا أمير المؤمنين هو حلال الدم.
وقال أبو عبد الله الأرمني: اسقني دمه يا أمير المؤمنين.
وقال ابن أبي دؤاد: هو كافر يستتاب، لعلّ به عاهةً أو نقصَ عقل.
فقال الواثق: إذا رأيتموني قمت إليه فلا يقومن أحد معي، فإني أحتسب خطاي.
ثم نهض إليه بالصمصامة -وكانت سيفا لعمرو بن معد يكرب الزبيدي أهدي لموسى الهادي ثم صار إليه؛ فلما انتهى إليه ضربه بها على عاتقه وهو مربوط بحبل قد أوقف على نطع، ثم ضربه أخرى على رأسه ثم طعنه بالصمصامة في بطنه فسقط على النطع صريعا رحمه الله وتقبّله في الشهداء.
قال جعفر بن محمد الصائغ: رأيت أحمد بن نصر حيث ضربت عنقه قال رأسه: لا إله إلا الله.
وذكر السرّاج عن إبراهيم بن الحسن أنه قال: رأى بعض أصحابنا أحمد بن نصر في النوم فقال: ما فعل بك ربك؟ قال: ما كانت إلا غفوةٌ حتى لقيتُ الله، فضحك إلي.
ثم عُلّق رأسه رحمه الله في بغداد، وربطوا في أذنه ورقة كتبوا فيها: (هذا رأس أحمدَ بنِ نصر بن مالك، دعاه عبد الله الإمام هارون إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه، فأبى إلا المعاندة، فعجله الله إلى ناره).
وصُلب جسده في سامرا، وبقي مصلوباً ستّ سنين ؛ ثمّ جمع رأسه وجسده ودفع إلى أهله فدفنوه، واجتمع لتشييعه ودفنه ما لا يحصى من العامّة.
وذُكر عند الإمام أحمد فقال: (رحمه الله ما كان أسخاه، لقد جاد بنفسه).
وقال أيضا: (ما دخل على الخليفة أحد يصدقه سواه).
وكان جدّه مالك بن الهيثم أحد نقباء الدولة العباسية، وأخوه أميراً من أمراء الجيوش مات سنة 208هـ، ولم يشفع له ذلك عندهم.
وممن أوذي في هذه المحنة من المحدّثين: فضل بن نوح الأنماطي؛ فإنّه ضُرب، ثمّ فرّقوا بينه وبين امرأته.
وفي آخر زمن الواثق جيء بشيخ من أهل الشام من بلدة يقال لها "أذنه" ليُمتحن في مسألة خلق القرآن بحضرة الواثق؛ وكان الواثق إذا أراد أن يقتل أحداً أحضر ابنه المهتدي ليشهد قتله.
قال المهتدي بن الواثق: (فأدخل الشيخ على الواثق مقيدا، وهو جميل الوجه تام القامة، حسن الشيبة، فرأيت الواثق قد استحيا منه، ورقّ له، فما زال يدنيه ويقربه، حتى قرب منه، فسلم الشيخ فأحسن السلام، ودعا فأبلغ الدعاء، وأوجز، فقال له الواثق: اجلس.
ثم قال له: يا شيخ، ناظر ابن أبي دؤاد على ما يناظرك عليه).
ثمّ حكى المناظرة التي جرت بينهما، وخلاصتها أن هذا الشيخ قال لابن أبي دؤاد: يا أحمد بن أبي دؤاد! إلى ما دعوت الناس ودعوتني إليه؟
فقال ابن أبي دؤاد: إلى أن تقول: القرآن مخلوق؛ لأن كل شيء دون الله مخلوق.
قال الشيخ: أخبرني يا أحمد عن مقالتك هذه، أواجبة داخلة في عقد الدين، فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه ما قلت؟
قال ابن أبي دؤاد: نعم
قال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله تعالى إلى عباده، هل ستر رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا مما أمر الله تعالى به في دينه؟
قال ابن أبي دؤاد: لا
قال الشيخ: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة إلى مقالتك هذه؟
فسكت ابن أبي دؤاد.
فقال الشيخ: تكلم؛ فسكت.
فالتفت الشيخ إلى الواثق، فقال: يا أمير المؤمنين، واحدة.
فقال الواثق: واحدة.
فقال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن الله تعالى حين أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} أكان الله تعالى الصادقَ في إكمال دينه، أم أنت الصادقُ في نقصانه، فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه بمقالتك هذه؟
فسكت ابن أبي دؤاد.
فقال الشيخ: أجب يا أحمد، فلم يجبه.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، اثنتان.
فقال الواثق: اثنتان.
فقال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن مقالتك هذه، أَعَلِمَها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جهلها؟
قال ابن أبي دؤاد: علمها
قال الشيخ: فدعا الناس إليها؟
فسكت ابن أبي دؤاد.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، ثلاث.
فقال الواثق: ثلاث).
وفي رواية أنه قال له: ما تقول في القرآن؟
قال ابن أبي دؤاد: مخلوقٌ.
قال الشيخ: هذا شيءٌ عَلِمَه النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وأبو بكرٍ وعمر والخلفاء الرّاشدون، أم شيءٌ لم يعلموه؟
قال: شيءٌ لم يعلموه.
فقال: سبحان الله! شيءٌ لم يعلمه النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم علمته أنت؟
فخجل، فقال: أقلني.
قال الشيخ: المسألة بحالها.
قال ابن أبي دؤاد: نعم، علموه.
فقال: علموه، ولم يدعوا النّاس إليه؟
قال: نعم.
قال: أفلا وسعك ما وسعهم؟).
ثم أعرض الشيخ عن ابن أبي دؤاد، وأقبل على الواثق، فقال: يا أمير المؤمنين..إن لم يتسّع لك الإمساك عن هذه المقالة ما اتّسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، فلا وسَّع الله على من لم يتسع له ما اتّسع لهم من ذلك.
فقال الواثق: نعم إن لم يتسع لنا من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، فلا وسع الله علينا، اقطعوا قيد الشيخ.
وفي رواية أخرى أن الواثق دخل مجلساً وأخذ يردّد ما دار في المناظرة؛ ثم أمر بقطع قيود الشيخ، وسقط من عينه ابن أبي دؤاد، ولم يمتحن بعدها أحداً.
قال المهتدي بن الواثق: (فرجعت عن هذه المقالة - القول بخلق القرآن - منذ ذلك اليوم، وأظن الواثق بالله كان رجع عنها من ذلك الوقت).
قال الحافظ أحمد بن عبد الرّحمن الشّيرازيّ : (هذا الأذنيّ هو أبو عبد الرّحمن عبد الله بن محمّد بن إسحاق الأذرميّ).
وتوفّي الواثق لستٍّ بقين من ذي الحجّة سنة 232هـ ، وبويع بعده أخوه جعفر المتوكّل، وكان شابّا في السادسة والعشرين من عمره لمّا تولّى الخلافة، وكان كارهاً لأمر المحنة.
رفع المحنة
وفي سنة 233هـ رفعت المحنة رفعاً تامّا ومُنع القضاة من امتحان الناس، وأظهر المتوكّل السنة، وأكرم المحدّثين، وأشهرت مجالس الحديث، وروى المحدّثون أحاديث الصفات، وانكشفت الغمّة عن أهل السنة بفضل الله ورحمته.
لكن بقي في السجون جماعة ممن حبسوا في تلك المحنة تأخّر إطلاقهم إلى سنة 237هـ إذ صدر أمر الخليفة المتوكّل بإطلاق جميع من في السجون ممن امتنع عن القول بخلق القرآن في أيام أبيه، وأمر بإنزال جثة أحمد بن نصر الخزاعي، فدفعت إلى أقاربه فدفنت.
ولعلّ من أسباب تأخّر إطلاقهم أنّ المتوكل لم يعزل ابن أبي دؤاد بعد أمره برفع المحنة، ولمّا فُلج سنة 233هـ ؛ ولّى مكانه ابنه محمّد؛ وبقي في منصبه إلى سنة 237هـ؛ فارتكب ما أغضب الخليفةَ فعزله وصادر منه أموالاً طائلة وأمر بحبسه.
وممّن حُبس في هذه المحنة وطال حبسه المحدّث الفقيه: الحارث بن مسكين المصري؛ شيخ أبي داوود والنسائي.
قال الخطيب البغدادي: (كان فقيها ثقة ثبتا؛ حمله المأمون إلى بغداد وسجنه في المحنة، فلم يُجِب؛ فلم يزل محبوسا ببغداد إلى أن ولي المتوكل فأطلقه).
فيكون قد مكث في السجن بضع عشرة سنة؛ ثمّ إنه حدّث ببغداد بعد إطلاقه، وأقبل عليه طلاب الحديث؛ ثمّ ولاه المتوكّل قضاء مصر فمكث في القضاء إلى أن استعفى منه سنة 245هـ فأعفي، ومات بعدها بخمس سنين.
وفي عام 233 ه أُصيب أحمد بن أبي دؤاد بالفالج، وقيل: إنه قد دعا على نفسه بذلك إن كان القرآن غير مخلوق؛ فحبس في جسده؛ لا يستطيع الحركة سبع سنين؛ ولم يزل أمره في سفال، وغضب عليه المتوكّل وصادر منه أموالاً طائلة، وتوالت عليه النكبات حتى هلك في أوّل عام 240هـ بعد موت ابنه محمّد بعشرين يوماً.