الدروس
course cover
الدرس التاسع: فتنة الوقف في القرآن
9 Sep 2015
9 Sep 2015

7215

0

0

course cover
الإيمان بالقرآن

القسم الثالث

الدرس التاسع: فتنة الوقف في القرآن
9 Sep 2015
9 Sep 2015

9 Sep 2015

7215

0

0


0

0

0

0

0

فتنة الوقف في القرآن

مقدّمة في آثار فتنة القول بخلق القرآن:

كان بدء المحنة في سنة 218هـ ، ورفعت عام 233هـ؛ لكن رفع المحنة لم يكن رفعا للفتنة
فقد أوقف امتحان العلماء في مسألة القول بخلق القرآن، لكن بقي من المعتزلة قضاة ومفتون وخطباء ولهم مجالس وحلقات، وكتب ومصنفات يبثون فيها شبهاتهم، ويلقنونها تلاميذهم، وكان لهم تمكّن في بعض البلدان؛ بسبب اتصالهم ببعض الولاة، وكانوا يعتمدون في إثارة شبهاتهم وتقرير مذاهبهم على ما فُتنوا به من علم الكلام؛ فضلوا به وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل.
والخليفة المتوكّل على الله لمّا أمر برفع المحنة لم يعزل قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد بل أقرّه على منصبه مع كراهة الخليفة لمذهبه في القرآن، ولما أصيب أحمد بن أبي دؤاد بالفالج في جمادى الآخرة سنة 233هـ ؛ ولى مكانه ابنه أبا الوليد محمّد، وبقي في هذا المنصب إلى سنة 237هـ .
ثمّ إن الخليفة غضب عليه وعلى أبيه فعزله وضيّق عليه وحبسه في ديوان الخراج وصادر منه أموالاً طائلة وضياعاً، ثم أحدرهم إلى بغداد، وبقوا فيها حتى مات أبو الوليد في شهر ذي الحجة سنة 239هـ ، ومات أبوه بعده بعشرين يوماً في أوّل سنة 240هـ.
ولعلّ هذا من أسباب بقاء بعض من حبس في المحنة من أهل السنة إلى سنة 237هـ بعد الأمر برفع المحنة بأربع سنين.
والمقصود أنّ بطانة الخليفة المتوكّل قد بقي فيها من الجهمية بقيّة؛ حتى إنّهم كانوا يرفعون إلى المتوكّل بأسماء من يريدون توليتهم القضاء ممن هو على شاكلتهم أو يداهنهم.

وكان المتوكّل بعد أن رفعت المحنة يستشير الإمام أحمد فيمن يرفع إليه بتوليتهم القضاء؛ فكان ينهى عن تولية أهل البدع.
وكتب المتوكل مرة كتاباً إلى الإمام أحمد مع عبد الرحمن بن يحيى بن خاقان وهو ابن وزيره؛ يسأله عن جماعة ممن يريد توليتهم القضاء؛ فكان أكثرهم من الجهمية؛ فبيّن الإمام أحمد حالهم واحداً واحداً ثم قال في خاتمة جوابه لأمير المؤمنين: (أهل البدع والأهواء لا ينبغي أن يُستعان بهم في شيء من أمور المسلمين، مع ما عليه رأي أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - من التمسك بالسنة والمخالفة لأهل البدع)

والمقصود أنّ فتنة القول بخلق القرآن بقيت وولّدت فتناً أخرى كثيرة في الأمة طال أمدها؛ وانتشر أثرها، واتّسع خطرها، وكانت من أعظم أسباب نشأة الفرق، وظهور النحل.

وكانت الردود بين أهل السنة والمعتزلة قائمة على أشدّها، والشبه خطّافة، والأهواء لا تنضبط.
وكان أئمة أهل السنة إنما يردّون على المعتزلة وغيرهم بالكتاب والسنة، ولا يتعاطون علم الكلام في الرد عليهم، ولا يتشاغلون به؛ فسلموا بذلك من فتن كثيرة.
ثم نشأ أقوام أرادوا الردّ على المعتزلة والانتصار لأهل السنة بالحجج المنطقية والطرق الكلامية؛ فخاضوا فيما نهاهم عنه أهل العلم؛ ووقعوا في بدع أخرى، وخرجوا بأقوال محدثة مخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة.
فأنتج كلّ ذلك فتناً عظيمة من أهمّها: فتنة الوقف، وفتنة اللفظ، وجرى بسببهما محن ومواقف يطول وصفها، وظهرت نحل وأهواء لم تكن تعرف من قبل: فظهرت بدعة ابن كلاب والقلانسي وأبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي وغيرهم.
وسنتناول أهمّ هذه الفتن بالدراسة وبيان ما ينبغي لطالب علم التفسير معرفته من أسباب اختلاف الفرق في القرآن، وأصول نشأة تلك الفرق، وموقف أئمة أهل السنة منها، وحجج أهل السنة في الرد عليهم، ومنهجهم في معاملتهم؛ لأنّ هذا مما لا يحسن بالمفسّر جهله.

فتنة الوقف في القرآن
الواقفة هم الذين يقولون: القرآن كلام الله ويقفون، فلا يقولون: مخلوق ولا غير مخلوق.
وهم على ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: طائفة من الجهمية يتستّرون بالوقف، وهم في حقيقة أمرهم يقولون بخلق القرآن، لكنّهم في ظاهر قولهم يقولون بالوقف ويدعون إلى القول به، وينكرون على من يقول: القرآن غير مخلوق.
وقد نبغ القول بالوقف في زمن الإمام أحمد بن حنبل، وكان زعيم هذه الطائفة في بغداد محمد بن شجاع الثلجي، وهو جهميّ متكلّم من أصحاب بشر بن غياث المريسي.
وابن الثلجي هذا ممن كان يكيد الإمام أحمد بالحيل بعد خروجه من السجن؛ فقد وشى به مرّة إلى الخليفة المتوكّل واتّهمه بأنّه يؤوي علويا يدبّر للخروج؛ فدُهم بيت الإمام أحمد ليلاً ورُوّع أهله وأخرج من فيه من الرجال والنساء؛ وفتشوا بيته فلم يجدوا فيه أحداً ممن يُتَّهم بهم؛ وقرؤوا عليه كتاب الخليفة وفيه كلام كثير يتّهمه فيه ويتوعّده؛ فردّ الإمام أحمد على الخليفة بتكذيب ما اتّهم به، وأنّه يرى السمع والطاعة له في المنشط والمكره؛ فعلم الخليفة أنّه قد كُذب عليه.
قال حنبل بن إسحاق: (وكان الذي دسّ من رفع على أبي عبد الله رجلٌ من أهل البدع والخلاف، ولم يمت حتّى بيّن الله أمره للمسلمين، وهو ابن الثلجي).
وأهل هذا الصنف جهمية مخادعون؛ وفتنتهم على العامّة أشدّ من فتنة الجهمية الذين يصرّحون بالقول بخلق القرآن؛ لأنّهم يستدرجونهم بذلك؛ ثم يشكّكونهم في كلام الله؛ فلا يدرون أمخلوق هو أم غير مخلوق، وإذا ابتلي المرء بالشكّ وقع في الفتنة، وكان أقرب إلى التزام قولهم.
ولذلك اشتدّ إنكار الإمام أحمد على هؤلاء الواقفة وكثرت الروايات عنه في تكفيرهم والتحذير منهم.
ذكر عبد الله بن الإمام أحمد أنّ أباه سئل مرّة عن الواقفة؛ فقال: «صنفٌ من الجهميّة استتروا بالوقف»
وقال يعقوب الدّورقيّ: سألت أحمد بن محمّد بن حنبلٍ، قلت: فهؤلاء الّذين يقولون: نقف ونقول كما في القرآن: كلام اللّه، ونسكت؟
قال: « هؤلاء شرٌّ من الجهميّة، إنّما يريدون رأي جهمٍ ».
وقال في رواية أخرى: « هم أشدّ تربيثًا على النّاس من الجهميّة، وهم يشكّكون النّاس، وذلك أنّ الجهميّة قد بان أمرهم، وهؤلاء إذا قالوا: "لا يتكلّم"؛ استمالوا العامّة، إنّما هذا يصير إلى قول الجهميّة »
والتربيث هنا التخذيل عن الحق والتعويق عن اتّباعه، وهو من أعمال المنافقين.
وقال في رواية أخرى: (هؤلاء يستترون، فإذا أحرجتهم كشفوا الجهميّة، فكلّهم جهميّةٌ).

وقد ذكر الذهبي في ميزان الاعتدال عن المروزي أنه قال: حدثنا أبو إسحاق الهاشمي، سمعت الزيادي يقول: أشهدنا ابن الثلاج وصيته، وكان فيها: (ولا يعطى من ثلثي إلا من قال: القرآن مخلوق).
فهذا مما يبيّن معرفة الإمام أحمد بمذاهب القوم، وخبرته بهم.
وكان ابن الثلجي على مذاهبه الرديئة وضّاعاً للأحاديث؛ كثير التلاوة والتعبّد؛ متصدراً في الفقه والإفتاء ببغداد، وله أصحاب وتلاميذ وكتب كثيرة؛ حتى قيل: إنه صنّف في أحكام المناسك كتاباً كبيراً في أكثر من ستين جزءاً.
وكان المتوكّل أراد أن يولّيه القضاء فسأل عنه الإمام أحمد فقال: (لا، ولا على حارس).
وقال عنه ابن عدي: (كان يضع أحاديث في التشبيه وينسبها إلى أصحاب الحديث، يثلبهم بذلك).

والمقصود أن أصحاب هذا الصنف من الواقفة؛ هم جهمية، وعلامة هؤلاء أنّهم يتعاطون علم الكلام ويجادلون؛ فمن كان متكلماً مجادلاً ويقول بالوقف في القرآن فهو جهمي.
ولذلك لمّا سُئل الإمام أحمد عن الواقفة قال: «من كان يخاصم ويُعرف بالكلام فهو جهمي »
وذكر عبد الله بن الإمام أحمد أنّ أباه سئل عن الواقفة أيضاً؛ فقال: «من كان منهم يحسن الكلام فهو جهميٌّ»
وقال زياد بن أيوب: (قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله وعلماء الواقفة جهمية؟
قال: نعم مثل ابن الثلجي وأصحابه الذين يجادلون).
وقال ابن تيمية: (وكانت الواقفة الذين يعتقدون أن القرآن مخلوق ويظهرون الوقف، فلا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق، ويقولون: إنه محدث، ومقصودهم مقصود الذين قالوا هو مخلوق فيوافقونهم في المعنى ويستترون بهذا اللفظ؛ فيمتنعون عن نفي الخلق عنه، وكان إمام الواقفة في زمن أحمد: محمد بن شجاع الثلجي يفعل ذلك، وهو تلميذ بشر المريسي وكانوا يسمونه "ترس الجهمية")ا.هـ.
وابن الثلجي كان في بغداد، وكان له أتباع.
وكان من الواقفة في البصرة: أحمد بن المعذّل العبدي، وكان من كبار فقهاء البصرة في زمانه تفقّه على ابن الماجشون، وله مصنفات في الفقه، وكان من الفصحاء المذكورين، والأدباء المعدودين، حلو العبارة بارعاً في انتقاء الألفاظ، والتنبيه على المعاني الدقيقة، يستميل من يحدّثه من فصاحته.
وكان يحطّ على أبي حنيفة أصحابه، وهو القائل:
إن كنتِ كاذبةَ الذي حدَّثتني .. فعليك إثم أبي حنيفة أو زفر
المائلين إلى القياس تعمّداً .. والراغبين عن التمسّك بالأثر.
ولم تكن له عناية بالحديث، بل ذكر أبو داوود السجستاني أنه نهاه عن طلب الحديث.
واشتغل بشيء من علم الكلام؛ وأتي من هذا الباب، وهو الذي فتق القولَ بالوقف في البصرة؛ ففَتن به خلقاً منهم؛ حتى فَتن بعض أهل الحديث؛ فوافقوه على قوله.
قال نصر بن عليّ الجهضمي: قال الأصمعي ومرَّ به أحمد بن معذَّل فقال: (لا تنتهي أو تفتُقَ في الإسلام فتقا).
وقال حرب الكرماني: سألت أحمد بن حنبل: أيكون من أهل السنة من قال: لا أقول مخلوق ولا غير مخلوق؟
قال: (لا، ولا كرامة. وقد بلغني عن ابن معذَّلٍ الذي يقول بهذا القول أنه فُتن به ناسٌ من أهل البصرة كثير).
قال الذهبي: (قد كان ابن المعذَّل من بحور العلم، لكنه لم يطلب الحديث، ودخل في الكلام، ولهذا توقف في مسألة القرآن).

الصنف الثاني: الذين يقفون شكّاً وتردداً؛ فلا يقولون هو مخلوق ولا غير مخلوق لشكّهم في ذلك.
فهؤلاء لم يؤمنوا حقيقة بكلام الله تعالى؛ لأن الإيمان يقتضي التصديق، والشك منافٍ للتصديق الواجب؛ فالشاكّ غير مؤمن؛ إلا أنَّ الجاهل قد يُعذر لجهله، ومن عرضت له شُبهة قد يُعذر بسبب شهته حتى تقوم عليه الحجة.
قال عبد الله بن الإمام أحمد: سُئل أبي رحمه الله وأنا أسمع عن اللفظية والواقفة؛ فقال: (من كان منهم جاهلا ليس بعالم؛ فليسأل وليتعلم).
قال: وسمعت أبي رحمه الله مرة أخرى وسئل عن اللفظية والواقفة فقال: (من كان منهم يحسن الكلام فهو جهمي).
وهاتان الروايتان تدلان على تفريق الإمام أحمد رحمه الله بين الواقف الجهمي والواقف العامّي.
فالعامّيّ الذين لم يدخل في علم الكلام ولم يجادلْ جدال أصحاب الأهواء؛ يبيّن له الحقّ ويعلَّم، ويجب عليه الإيمان والتصديق بأنّ القرآن كلام الله تعالى، وكلام الله صفة من صفاته، وصفات الله غير مخلوقة.
فإن قبل واتّبع الحقّ قُبل منه، وإن أبى واستكبر أو بقي شاكّاً مرتاباً في كلام الله تعالى بعد إقامة الحجّة عليه؛ حُكم بكفره.
وقد كثرت الآثار عن السلف في تكفير الشاكّة من الواقفة.
قال سلمة بن شبيبٍ: سمعت أحمد بن حنبلٍ يقول: (الواقفيّ لا تشكَّ في كفره).
وقال أبو داود: سألت أحمد بن صالح عمَّن قال: القرآن كلام الله، ولا يقول غير مخلوق، ولا مخلوق.
فقال: (هذا شاك، والشاك كافر).
وقال عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون: «من وقف في القرآن بالشّكّ فهو مثل من قال: مخلوقٌ».
وذلك لأنّ الشك والتكذيب كلاهما منافيان للتصديق الواجب.
والآثار في هذا الباب عن السلف كثيرة جداً.

الصنف الثالث: طائفة من أهل الحديث؛ قالوا بالوقف، وأخطؤوا في ذلك؛ ومنهم من دعا إلى القول بالوقف.
وهؤلاء ينكرون على من يقول: إنّ القرآن مخلوق، ولا يعتقدون أنّ كلام الله مخلوق.
لكنّهم قالوا: إن القول بخلق القرآن قول محدث، فنحن لا نقول إنّه مخلوق، ولا نقول إنّه غير مخلوق، بل نبقى على ما كان عليه السلف قبل إحداث القول بخلق القرآن؛ فنقول: القرآن كلام الله ، ونسكت.
قال أبو داوود: سمعتُ أحمد يُسأل: هل لهم رخصة أن يقول الرجل: القرآن كلام الله، ثم يسكت؟
فقال: ولم يسكت؟ لولا ما وقع فيه الناس كان يسعه السكوت، ولكن حيث تكلموا فيما تكلموا، لأي شيء لا يتكلمون؟ ).
وكان الإمام أحمد شديداً على من يقول بالوقف من المحدّثين، ويأمر بهجرهم؛ لأنّهم يوطّئون الطريق لأصحاب الأهواء، ويشكّكون العامّة في كلام الله، وإذا أثيرت الشبهة وعمّت الفتنة وجب التصريح بالبيان الذي يزيل الشبهة ويكشف اللبس.
ونفي التشكيك في صفات الله تعالى عند حدوث الفتنة في ذلك من البيان الواجب على العلماء، وليس من الخوض المنهي عنه، وقد ظنَّ من وقف من المحدّثين أنّ الكلام في هذه المسألة كلَّه من الخوض المنهي، وليس الأمر كما ظنّوا.
وقد كانت فتنة القول بخلق القرآن فتنة عظيمة، وكذلك فتنة الوقف كانت فتنة عظيمة؛ وكان العامّة أكثر قبولاً للقول بالوقف منهم للقول بخلق القرآن؛ فمن وقف من المحدّثين فقد وافق قوله قول الواقفة من الجهمية والشاكّة، وكان عوناً لهم على التشكيك في كلام الله.
ولذلك أنكر عليهم كبار الأئمة وهجروهم.
وممن نُسب إليه القول بالوقف من أهل الحديث: مصعب بن عبد الله الزبيري، وإسحاق بن أبي إسرائيل المروزي، وبشر بن الوليد الكندي، وعلي بن الجعد الجوهري، ويعقوب بن شيبة السدوسي.

فأمّا مصعب بن عبد الله الزبيري (ت:236هـ) وإسحاق بن أبي إسرائيل المروزي (ت:245هـ) فقد صرّحا بأنّهما لم يقفا على الشكّ، وإنما سكتا كما سكت من قبلهم، وكرها الدخول في هذه المسألة من أصلها، وكرهوا الكلام فيما ليس تحته عمل.
قال ابن أبي خثيمة: قلت لمصعب ابن عبد الله: إن هؤلاء يقولون القرآن كلام الله، ويقفون؛ فيقولون من قال: مخلوق ابتدع، ومن قال: غير مخلوق ابتدع، ويحتجون بك، ويزعمون أنك تقول بهذا القول، وأن مالكاً يقوله.
فقال: معاذ الله؛ أما أنا فأقول كلام الله وأسكت، وقلبي يميل إلى أنه غير مخلوق، ولكني أسكت لأنه بلغني عن مالكٍ أنه يقول: الكلام في الدين كلُّه أكرهه، ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه، القدرَ ورأيَ جهم، وكلَّ ما أشبهه، ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل، فأما الكلام في الله فأحبُّ إليَّ السكوتُ عن هذه الأشياء؛ لأن أهل بلدنا ينهون عن الكلام إلا فيما تحته عمل.
قال مصعب: ولقد ناظرني إسحاق بن أبي إسرائيل فقال: لا أقول كذا ولا كذا، ولا أقول ذلك على الشك، ولكني أسكت كما سكت القوم قبلي.

وكان هذا اجتهاد منهم أخطؤوا فيه رحمهم الله؛ فإنّ كلام الله تعالى صفة من صفاته، وصفات الله ليست مخلوقة، ولو كانت المسألة لم يُتكلّم فيها بالباطل ويُمتحن الناسُ فيها لكان يسعهم السكوت؛ فأمّا مع ما حصل من الفتنة وحاجة الناس إلى البيان، وكثرة تلبيس الجهمية؛ فلا بدّ من التصريح بردّ باطلهم، وأن لا يترك الناس في عماية؛ فيكونوا أقرب إلى قبول الأقوال المحدثة.
قال الحسين بن فهم: (كان مصعب إذا سئل عن القرآن يقف، ويعيب من لا يقف).
وقال شاهين العبدي: سمعت أبا عبد الله، يعنى أحمد بن حنبل، يقول: (إسحاق بن أبي إسرائيل واقفيٌّ مشؤوم، إلا أنه صاحب حديث كيّس).
وقال أبو حاتم الرازي: (كتبتُ عنه فوقف في القرآن، فوقفنا عن حديثه، وقد تركه الناس حتى كنت أمر بمسجده وهو وحيدٌ لا يقربه أحد بعد أن كان الناس إليه عنقاً واحداً).
وقد روى أبو القاسم اللالكائي عن مصعب الزبيري رواية من طريق عليّ بن الفرات الأصفهاني توافق قول أهل السنة في تخطئة الواقفة وتضليلهم؛ فلعلّه رجع عن قوله المشهور عنه، والله تعالى أعلم.

وأما عليّ بن الجعد الجوهري (ت:230هـ) فقد نُسب إليه الوقف، وما هو أشدّ من الوقف، وهو أنه لم ينكر على من يقول بخلق القرآن، وهو في نفسه لا يقول بخلق القرآن.
وكان ابنه الحسن من قضاة الجهمية في بغداد، ثم قيل: إنّ ابنه رجع عن التجهم في خلافة المتوكّل، والله أعلم.
قال الدارقطني: (منع أحمد بن حنبل عبدَ الله ابنه أن يحدِّثَ عن علي بن الجعدِ؛ فسألته ما سبب ذلك؟
فقال: (لأنه وقف في خلق القرآن).
وقال زياد بن أيوب :كنت عند علي بن الجعد؛ فسألوه عن القرآن فقال: القرآن كلام الله، ومن قال: مخلوق؛ لم أعنِّفه.
فذكر زيادُ ذلك لأحمد بن حنبل؛ فقال: (ما بلغني عنه أشد من هذا).
وكان عليّ بن الجعد قد اتّهم بشيء من التشيّع لأجل تكلّمه في بعض الصحابة كعثمان ومعاوية، فعاب ذلك عليه أهل الحديث وأنكروه، وهو موثّق في حديثه غير متّهم، وكان له مسند كبير، ومصنَّفات في الحديث، وقد روى عن الكبار من أمثال ابن أبي ذئب وشعبة والسفيانين والليث بن سعد وغيرهم ، وروى عنه البخاري في صحيحه، وأبو داوود وأبو زرعة وأبو حاتم وغيرهم.
وكان كثير العبادة؛ مكث ستين سنة يصوم يوماً ويفطر يوماً.
ولمّا أظهر الوقف نهى الإمام أحمد عن الكتابة عنه.

وأمّا بشر بن الوليد الكندي (ت:238هـ)؛ فكان قاضياً في عهد المأمون ؛ فامتُحن في القول بخلق القرآن؛ فأبى أن يجيب؛ فعُرض على السيف؛ فأجاب ترخّصاً؛ فكان الإمام أحمد يعذره لذلك، ولما خرج الإمام أحمد من السجن كان كثيراً ما يجالسه؛ ثمّ إنه سُعي به إلى المعتصم بأنّه لا يقول بخلق القرآن؛ فأمر المعتصم أن يُحبس في منزله؛ ووكّل به شرطياً، ومُنع من الإفتاء والتحديث؛ حتى ولي المتوكّل فأطلقه.
قال ابن سعد: (فبقي حتى كبرت سنه، وتكلم بالوقف؛ فأمسك أصحاب الحديث عنه وتركوه).

وأمّا يعقوب بن شيبة السدوسي (ت:262هـ)؛ فمتأخّر عنهم؛ وهو صاحب المسند الكبير، وله مصنفات كثيرة، لكنَّه دخل في شيء من علم الكلام بسبب تتلمذه على أحمد بن المعذَّل العبدي، وعنه أخذ الوقف؛ فاشتدّ إنكار أهل الحديث عليه.
قال الذهبي: (أخذ الوقفَ عن شيخه أحمدَ بن المعذل).
وقال المرّوذيّ: (لمّا أظهر يعقوب بن شيبة الوقف، حذّر منه أبو عبد الله، وأمر بهجرانه).

قال الذهبي: (وقد وقف علي بن الجعد، ومصعب الزبيري، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وجماعة، وخالفهم نحو من ألف إمام، بل سائر أئمة السلف والخلف على نفي الخلقية عن القرآن).
والمقصود أنّ من قال بالوقف من المحدّثين لشبهة عرضت له؛ كان يحذّرُ منه ويُهجرُ حتى يرجعَ عن قوله.
قال أبو داوود: ( سمعت أحمد -وذكر رجلين كانا وقفا في القرآن، ودعوا إليه فجعل يدعو عليهما- وقال لي: (هؤلاء فتنة عظيمة، وجعل يذكرهما بالمكروه).