الدروس
course cover
الدرس العاشر: فتنة اللفظية
9 Sep 2015
9 Sep 2015

6874

0

0

course cover
الإيمان بالقرآن

القسم الثالث

الدرس العاشر: فتنة اللفظية
9 Sep 2015
9 Sep 2015

9 Sep 2015

6874

0

0


0

0

0

0

0

فتنة اللفظية

كانت فتنة القول بخلق القرآن فتنة عظيمة، عمّ بلاؤها عامّة الناس، وامتحن فيها علماء أهل السنة محنة شديدة، وذلك بسبب تقريب المأمون ومن تبعه من الخلفاء للمعتزلة، وتعيين كثير من الولاة والقضاة والكتاب منهم أو ممن يداهن في هذه المسألة أو يداري، واجتهادهم في حمل الناس على القول بخلق القرآن، وأنّه لا يتم الدين إلا به؛ وجرت أمور يطول وصفها؛ حتى قُتل من قتل من علماء أهل السنة، وحبس من حُبس، وضُرب من ضرب، واستمرّت هذه المحنة بضع عشرة سنة؛ حتى فشا هذا القول وانتشر، وفُتن به خلق من العامة، ونشأ عليه جيل لا يعرفون قولاً ظاهراً غيره.

وكان من يجرؤ على معارضة الخلفاء والقضاة في هذا الأمر يُنال بألوان من الأذى، حتى إن من كان يريد أن يؤذي أحداً من علماء السنّة أو يتسبب في الإضرار به يشي به إلى القضاة أو الخلفاء بأنّه لا يقول بخلق القرآن؛ فكانت تلك تهمة كافية عندهم لتعذيبه والتضييق عليه.

كما حصل لبشر بن الوليد الكندي؛ فإنّه امتحن في زمان المأمون فامتنع فعرض على السيف فأجاب مكرهاً؛ ثم أطلق؛ فلما كان في زمان المعتصم وكان يحدّث ويفتي ولا يقول بخلق القرآن ؛ فوشى به رجل سوء إلى المعتصم بأنّه لا يقول بخلق القرآن؛ فأمر المعتصم بحبسه في بيته والتضييق عليه وإقامة شرطيّ على بابه يمنعه من الخروج.

ولولا أن حفظ الله هذا الدين برجال صدقٍ ثبتوا في هذه المحنة فثبت بثباتهم خلق من العامة؛ لقد كاد أن يطبق على هذا القول عامة الناس.

فكانت حاجة الناس إلى بيان الحق بياناً لا لبس فيه ماسة.

ولكن جرت حكمة الله بأن تُبتلى الفئة التي ثبتت في المحنة في أوّل الأمر بابتلاء آخر ؛ ويبتلى عامّة الناس بهم.

فظهر من قال بالوقف؛ وكان بسبب القول بالوقف فتنة عظيمة؛ حتى قال بالوقف بعض أهل الحديث الذين لا يقولون بخلق القرآن، واغترّ بهم جماعة من العامّة كما سبق بيانه.

وظهرت فتنة اللفظية فكانت فتنتها أعظم وأطول مدى من فتنة الوقف؛ فإنّها استمرّت قروناً من الزمان وجرى بسببها مِحَن يطول وصفها، وسنذكر بعضها في خلاصة موجزة بإذن الله تعالى.

وكان أوّل من أشعل فتنة اللفظية: حسين بن علي الكرابيسي ، وكان رجلاً قد أوتي سعة في العلم ؛ فحصّل علماً كثيراً، وصنّف مصنّفات كثيرة، وكان له أصحاب وأتباع ؛ لكنّه وقع في سقطات مردية، تدلّ على ضعف إدراكه للمقاصد الشرعية، وضعف السعي في تحقيق المصالح ودرء المفاسد؛ والعلم إذا لم يصحبه عقل ورشد كان وبالاً على صاحبه لأنّه ينصرف عن المقاصد السامية للعلم إلى التشغيب على العلماء ومماحكتهم؛ وربما تمكّن بذكائه وسعة معرفته من إثارة شبهات يريد بها إفحام بعض العلماء والارتفاع عليهم؛ فيعاقب بنقيض قصده؛ فيسقط ويكون ما أثاره من الشبهات مثلبة عليه؛ ينكرها أهل العلم ويذمونه بها.

ومن ذلك أنّ الكرابيسيّ ألّف كتاباً حطّ فيه على بعض الصحابة وزعم أنّ ابن الزبير من الخوارج، وأدرج فيه ما يقوّي به جانب الرافضة ببعض متشابه المرويات؛ وحطّ على بعض التابعين كسليمان الأعمش وغيره، وانتصر للحسن بن صالح بن حيّ وكان يرى السيف.

فعرض كتابه على الإمام أحمد وهو لا يدري لمن هو؛ فاستبشع بعض ما فيه، وقال: (هذا أراد نصرة الحسن بن صالح، فوضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد جمع للروافض أحاديث في هذا الكتاب...)

وقال: (قد جمع للمخالفين ما لم يحسنوا أن يحتجوا به).

فحذّر منه الإمام أحمد، ونهى عن الإخذ عنه؛ فبلغ ذلك الكرابيسيَّ فغضب وتنمّر، وقال: لأقولنَّ مقالة حتى يقول ابن حنبلٍ بخلافها فيكفر؛ فقال: لفظي بالقرآن مخلوق.

وهذه الكلمة التي فاه بها الكرابيسي أثارت فتنة عظيمة على الأمّة؛ وكان الناس بحاجة إلى بيان الحقّ ورفع اللبس، لا زيادة التلبيس والتوهيم، وإثارة فتنة كانوا في عافية منها.

وبهذا نعرف الفرق العظيم بين مقاصد الربانيين من العلماء، ومقاصد الذين يريدون الإثارة والتغليط ومماحكة العلماء ومشاغبتهم، ثم لنتأمّل كيف كانت عاقبة هؤلاء وعاقبة هؤلاء.

نقل أبو بكر المرّوذي وهو من خاصة أصحاب الإمام أحمد مقالة الكرابيسي للإمام أحمد، وذكر له أن الكرابيسي قال: (أقول: إنّ القرآن كلام الله غير مخلوقٍ من كلّ الجهات إلاّ أنّ لفظي به مخلوقٌ، ومن لم يقل: لفظي بالقرآن مخلوقٌ، فهو كافرٌ).

فقال الإمام أحمد: (بل هو الكافر - قاتله الله - وأيّ شيءٍ قالت الجهميّة إلاّ هذا؟ وما ينفعه، وقد نقض كلامُه الأخير ُكلامَه الأوَّل؟!).

ثم قال الإمام أحمد للمرّوذي: أيشٍ خبر أبي ثورٍ، أوافقه على هذا؟

قال المروذي: قلت: قد هجره.

قال: (أحسن، لن يفلح أصحاب الكلام).

ثم قال الإمام أحمد: (ما كان الله ليدعه وهو يقصد إلى التابعين مثل سليمان الأعمش، وغيره، يتكلم فيهم).

وقال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله، عن الكرابيسي، وما أظهر، فكلح وجهه ثم أطرق، ثم قال: هذا قد أظهر رأي جهم.

قال الله تعالى: " {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله}، " فممن يسمع؟ إنما جاء بلاؤهم من هذه الكتب التي وضعوها. تركوا آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأقبلوا على هذه الكتب).

وقبل بيان تلبيس الكرابيسي ؛ يجب أن نفرّق بين أمرين عظيمين:

الأمر الأول: أن القرآن كلام الله تعالى وهو غير مخلوق، فالقرآن يتلوه القارئ، ويكتبه الكاتب في المصحف، ولا يخرج بذلك عن كونه كلام الله، لأن الكلام يُنسب إلى من قاله ابتداء.

فإذا سمعت قارئاً يقرأ: (قل هو الله أحد). وسئلت كلام من هذا ؟

قلت: هو كلام الله.

وإذا سمعت من يقرأ: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكلّ امرئ ما نوى).

عرفت أنّ هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لشهرته عنه، وأنّ الذي قرأ هذا لم يُنشئ هذا الكلام من تلقاء نفسه.

وإذا سمعت من يُنشد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل

عرفت أنّ هذا من قصيدة لبيد بن ربيعة لشهرتها عنه.

وكذلك إذا سمعت قصيدة معروفة لشاعر قديم ينشدها أحدهم ، وسُئلت: قصيدة من هذه؟

فإنّك تنسبها للشاعر الذي قالها ابتداءً، ولا تنسبها لمن أنشدها، ولو أن واحداً من الناس ألقى هذه القصيدة ونسبها لنفسه لعدَّه الناس كذاباً منتحلاً.

لأن الكلام يُنسب نسبة إنشاء إلى من قاله ابتداءً.

والمقصود أن القرآن كلام الله تعالى، وقارئ القرآن إنما يقرأ كلام الله تعالى، فهذا الكلام يُنسب إلى الله تعالى لا إلى القارئ.

وكلام الله تعالى صفة من صفاته، وصفات الله تعالى غير مخلوقة.

وهذه المسألة خالف فيها المعتزلة والجهمية وزعموا أنَّ كلام الله مخلوق.

الأمر الثاني: أنَّ أفعال العباد مخلوقة، فكما أنَّ ذواتهم مخلوقة؛ فكل ما يصدر منهم من قول أو فعل فهو مخلوق؛ كما هو معلوم متقرر من أدلّة كثيرة؛ منها قول الله تعالى: {والله خلقكم وما تعملون}.

وهذه المسألة خالف فيها القدرية؛ فكفَّرهم العلماء؛ لأنَّ من زعم أن الله لم يخلق أفعال العباد؛ وأن العباد يخلقون أفعال أنفسهم فقد أثبت خالقاً غير الله تعالى، ولذلك سمّيت القدرية مجوس هذه الأمة.

وكلام السلف في تكفير من لم يقل بخلق أفعال العباد معروف مشتهر.

قال يحيى بن إسحاق العنبري: سألت حمّاد بن زيدٍ عمن قال: كلام النّاس ليس بمخلوقٍ.

فقال: هذا كلام أهل الكفر "

وقال يحيى بن إسحاق أيضاً: سألت معتمر بن سليمان عمن قال: كلام النّاس ليس بمخلوقٍ.

قال: «هذا كفرٌ»

وقال البخاري في كتاب خلق أفعال العباد: (حدثنا عبيد الله هو ابن قدامة بن سعيد، ثنا حماد بن زيد، قال: «من قال كلام العباد ليس بمخلوق فهو كافر» وتابعه على ذلك يحيى بن سعيد القطان ومعتمر بن سليمان).

والمقصود أن قراءة القارئ من فعله وفعله مخلوق.

فيقال في تلخيص هذين الأمرين: القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة.

فجاءت مسألة اللفظ للتلبيس بين الأمرين؛ فقول القائل: لفظي بالقرآن مخلوق؛ قد يريد به ملفوظه وهو كلام الله الذي تلفّظ به فيكون موافقاً للجهمية الذين يقولون بخلق القرآن.

وقد يريد به فعلَ العبد الذي هو القراءة والتلفّظ بالقرآن؛ لأنَّ اللفظ في اللغة يأتي اسماً ومصدراً؛ فالاسم بمعنى المفعول أي الملفوظ، والمصدر هو التلفظ.

ويتفرّع على هذين الاحتمالين احتمالات أخرى، ولذلك اختلف الناس في تأويل قول القائل: "لفظي بالقرآن مخلوق" إلى أقوال، يأتي بيانها بإذن الله.

فهي كلمة مجملة حمّالة لوجوه، ولا نفع في إيرادها، والناس كانوا أحوج إلى البيان والتوضيح والتصريح بأنَّ القرآن كلام الله غير مخلوق.

لا أن تلقى إليهم كلمة مجملة فيها تلبيس تتأوَّلها كلّ فرقة على ما تريد.

ولذلك فرحت طائفة من الجهمية بهذه المقالة؛ فقالوا: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، ومنهم من قال: القرآن بألفاظنا مخلوق.

وهم يريدون أنَّ القرآن مخلوق؛ لكن القول باللفظ أخفّ وطأة وأقرب إلى قبول العامّة من التصريح بقولهم: إن القرآن مخلوق.

فتستّروا باللفظ؛ كما تستّرت طائفة منهم بالوقف.

ولذلك قال الإمام أحمد: (افترقت الجهمية على ثلاث فرق:

فرقة قالوا: القرآن مخلوق.

وفرقة قالوا :كلام الله، وتسكت.

وفرقة قالوا: لفظنا بالقرآن مخلوق).

فالفرقة الأولى هم جمهور المعتزلة الذين قالوا بخلق القرآن، وأظهروا هذا القول وأشهروه ودعوا إليه.

والفرقة الثانية هم الذين سُمّوا بالواقفة.

والفرقة الثالثة هم اللفظية.

وليس كلّ من قال باللفظ جهمي، كما أنَّه ليس كلّ من قال بالوقف جهمي، وقد سبق بيان ذلك.

وقد اشتدّ إنكار الإمام أحمد على من قال باللفظ إثباتاً أو نفياً لأنه تلبيس يفتن العامة ولا يبيّن لهم حقاً ولا يهديهم سبيلاً.

وجرت محنة عظيمة للإمام البخاري بسبب هذه المسألة، ووقعت فتنة بين أصحاب الإمام أحمد بعد وفاته بسب هذه المسألة، ودخل الغلط على بعض أهل الحديث بسبب هذه المسألة.

وقام الإمام أحمد والإمام البخاري في هذه المسألة بما هو الحقّ فيها، وإن دقّت عنه أفهام بعض الناس، وافتتن بها بعضهم.

بيان الإمام أحمد والبخاري للحقّ في فتنة اللفظ بالقرآن.

قال فوران صاحب الإمام أحمد: سألني الأثرم وأبو عبد الله المعيطيّ أن أطلب من أبي عبد الله خلوةً، فأسأله فيها عن أصحابنا الذين يفرّقون بين اللّفظ والمحكيّ.

فسألته، فقال: القرآن كيف تصرّف في أقواله وأفعاله، فغير مخلوقٍ؛ فأمّا أفعالنا فمخلوقةٌ.

قلت: فاللّفظيّة تعدّهم يا أبا عبد الله في جملة الجهميّة؟

فقال: لا، الجهميّة الّذين قالوا: القرآن مخلوقٌ.

ووردت عن الإمام أحمد روايات أخرى تفيد بأنَّ اللفظية جهمية، وهي محمولة على من قال بخلق القرآن وتستَّر باللفظ.

وقال البخاري في كتاب خلق أفعال العباد: (حركاتهم وأصواتهم واكتسابهم وكتابتهم مخلوقة، فأما القرآن المتلو المبين المثبت في المصاحف المسطور المكتوب الموعى في القلوب فهو كلام الله ليس بمخلوق، قال الله عز وجل: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم}).

وقال البخاري أيضاً: (جميع القرآن هو قوله [تعالى]، والقول صفة القائل موصوف به فالقرآن قول الله عز وجل، والقراءة والكتابة والحفظ للقرآن هو فعل الخلق لقوله: {فاقرءوا ما تيسر منه} والقراءة فعل الخلق).

وروى أبو القاسم اللالكائي أن أبا ثور واسمه خالد بن يزيد الكلبي سُئل عن ألفاظ القرآن، فقال للسائل: هذا ممّا يسعك جهله، واللّه لا يسألك عزّ وجلّ عن هذا، فلا تتكلّموا فيه، فإنّ من زعم أنّ كلامه بالقرآن مخلوقٌ فقد وافق اللّفظيّين؛ لأنّه إذا سمع منك القرآن فقد زعمت أنّ لفظك بالقرآن مخلوقٌ، فقد أجبت القوم أنّه مخلوقٌ).

وقال الذهبي: (ومعلومٌ أنّ التّلفّظ شيءٌ من كسب القارئ غير الملفوظ، والقراءة غير الشّيء المقروء، والتّلاوة وحسنها وتجويدها غير المتلوّ، وصوت القارئ من كسبه فهو يحدث التّلفّظ والصّوت والحركة والنّطق، وإخراج الكلمات من أدواته المخلوقة، ولم يُحدث كلمات القرآن، ولا ترتيبه، ولا تأليفه، ولا معانيه.

فلقد أحسن الإمام أبو عبد الله حيث منع من الخوض في المسألة من الطّرفين، إذ كلّ واحدٍ من إطلاق الخلقيّة وعدمها على اللّفظ موهمٌ، ولم يأت به كتابٌ ولا سنّةٌ، بل الّذي لا نرتاب فيه أنّ القرآن كلام الله منزلٌ غير مخلوقٍ - والله أعلم).

اختلاف المواقف في مسألة اللفظ:

مسألة اللفظ من المسائل التي كان لها ذيوع وانتشار كبير في عصر الإمام أحمد وبعده بقرون، وقد اختلفت مواقف الناس اختلافاً كثيراً كلٌّ يفهمها بفهم ويتأوّلها بتأوّل ويبني موقفه على ما فهم وتأوّل:

الموقف الأول: موقف الجهمية المتستّرة باللفظ، وهم الذين يقولون بخلق القرآن، ويتستَّرون باللفظ، وهم نظير الجهمية المتسترة بالوقف.

وهؤلاء فرحوا بهذه المقالة؛ لأنها أخف شناعة عليهم عند العامّة، ولأنّها أقرب إلى قبول الناس لها؛ فإذا قبلوها كانوا أقرب إلى قبول التصريح بخلق القرآن.

وهؤلاء كانوا من أكثر من أشاع مسألة اللفظ؛ وكثرت الروايات عن الإمام أحمد في التحذير من اللفظية وتسميتهم بالجهمية؛ يقصد بهم من يقول بخلق القرآن، ويتستّر باللفظ.

قال عبد الله بن الإمام أحمد: سمعت أبي يقول: « كلُّ من يقصد إلى القرآن بلفظ أو غير ذلك يريد به مخلوق؛ فهو جهمي »

وقال أيضاً: سمعت أبي يقول: « من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، يريد به القرآن، فهو كافر ».

وقال أيضاً: سألت أبي فقلت: إنّ قومًا يقولون: ألفاظنا بالقرآن مخلوقةٌ؟

قال: «هم جهميّةٌ، وهم شرٌّ ممّن يقف» .

وقال: " هذا هو قول جهمٍ، وعظّم الأمر عنده في هذا، وقال: قال اللّه عزّ وجلّ: {وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتّى يسمع كلام اللّه}، وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «حتّى أبلّغ كلام ربّي»، وقال صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ هذه الصّلاة لا يصلح فيها شيءٌ من كلام النّاس» فمن قال: لفظي بالقرآن مخلوقٌ، فهو جهميٌّ "

وقال أيضا: قلت لأبي: إنّ الكرابيسيّ يقول: لفظي بالقرآن مخلوقٌ.

فقال: «هذا كلام سوءٍ رديءٌ، وهو كلام الجهميّة، كذب الكرابيسيّ، هتكه اللّه، الخبيث»

وقال: «قد خلف هذا بشرًا المرّيسيّ».

وذكر الخلال عن الإمام أحمد أنه قال: (القرآن حيث تصرف كلام الله، واللفظية جهمية.

قلنا: هل علمتَ أن أحداً من الجهمية كان يقوله؟

قال: بلغني أنّ المريسي كان يقوله).

وروى يعقوب الدورقي(ت:252ه): عن الإمام أحمد أنّه قال: «إنّ اللّفظيّة إنّما يدورون على كلام جهمٍ، يزعمون أنّ جبريل إنّما جاء بشيءٍ مخلوقٍ إلى مخلوقٍ».

وقال أخوه أحمد الدّورقيّ (ت:246هـ): قلت لأحمد بن حنبلٍ: ما تقول في هؤلاء الّذين يقولون: لفظي بالقرآن مخلوقٌ؟

فرأيته استوى، واجتمع، وقال: (هذا شرٌّ من قول الجهميّة، من زعم هذا، فقد زعم أنّ جبريل تكلّم بمخلوقٍ، وجاء إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بمخلوقٍ).

وقال عبد الله بن أحمد: سئل أبي، وأنا أسمع عن اللّفظيّة والواقفة، فقال: من كان منهم يحسن الكلام، فهو جهميٌّ.

وكان الإمام أحمد يحمل اللفظية في أوَّل الأمر على هذا المحمل؛ لأنَّ أهل السنَّة ليسوا بحاجة إلى التلبيس؛ فهم يصرّحون بأنّ القرآن غير مخلوق، وأنَّ أفعال العباد مخلوقة.

وكان شديد الحذر من حيل الجهمية، وما يدخلونه على الناس من الشُّبَه وزخرف القول، وينهى عن الدخول في علم الكلام للرد عليهم، وينهى عن استعمال عباراتهم؛ لأنهم يلبّسون بالألفاظ المجملة.

قال جعفر بن أحمد: سمعت أحمد بن حنبلٍ يقول: «اللّفظيّة والواقفة زنادقةٌ عتقٌ».

وقال عبّاسٌ الدّوريّ: كان أحمد بن حنبلٍ يقول: «الواقفة واللّفظيّة جهميّةٌ»

وروى أبو القاسم اللالكائي عن أبي بكر الأسدي أنه قال: أتى قومٌ أبا مصعبٍ الزّهريّ؛ فقالوا: إنّ قبلنا ببغداد رجلًا يقول: لفظه بالقرآن مخلوقٌ.

فقال: (يا أهل العراق، ما يأتينا منكم هناه، ما ينبغي أن نتلقّى وجوهكم إلّا بالسّيوف، هذا كلامٌ نبطيٌّ خبيثٌ).

وقد كانت فتنة الجهمية باللفظ فتنة عظيمة؛ فلذلك اشتدّ تحذير العلماء من هذه الفتنة، ومما يدلّ على انتشار فتنة الجهمية ما رواه الخطيب البغدادي في تاريخه عن محمد بن الْحَسَن بن هَارُون الموصلي أنّه قَالَ: سألت أبا عَبْد اللَّهِ أَحْمَد بنَ مُحَمَّدِ بْنِ حنبل، فقلت: يا أبا عَبْد اللَّهِ أنا رجل من أهل الموصل والغالب عَلَى أهل بلدنا الجهمية، وفيهم أهل سنة نفر يسير يحبونك، وقد وقعت مسألة الكرابيسي نطقي بالقرآن مخلوق؟

فَقَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: (إياك إياك وهذا الكرابيسي، لا تكلّمه ولا تكلّم من يكلّمُه) أربع مرات أو خمس مرات.

قُلْتُ: يا أبا عَبْد اللَّهِ، فهذا القول عندك فما تشاغب منه يرجع إِلَى قول جهم؟

قَالَ: (هذا كله من قول جهم).

وكان الكرابيسيّ صاحب كتب كثيرة وله أصحاب وأتباع ؛ فهجره أهل الحديث حتى قلَّ الانتفاع بعلمه واضمحلّ ذكره إلا فيما أثاره من مغالطات، وما ينقل عنه في مسائل معدودة، واختلفوا في سنة وفاته؛ فقيل: سنة 245هـ ، وقيل: 248هـ.

قال الخطيب البغدادي: (وحديث الكرابيسي يعزّ جدا وذلك أن أَحْمَد بن حنبل كَانَ يتكلم فيه بسبب مسألة اللفظ، وكان هو أيضا يتكلم فِي أَحْمَد، فتجنب الناس الأخذ عنه لهذا السبب).

وقال عنه: (وكان فهما عالما فقيها، وله تصانيف كثيرة فِي الفقه وفي الأصول تدل عَلَى حسن فهمه، وغزارة علمه).

قال الذهبي: (وكان من أوعية العلم، ووضع كتاباً في المدلّسين، يحطّ على جماعةٍ: فيه أنّ ابن الزّبير من الخوارج.

وفيه أحاديث يقوّي به الرّافضة، فأعلم أحمد، فحذّر منه).

وقال ابن عدي: (سمعت محمد بن عبد الله الصيرفي الشافعي يقول لهم، يعني التلامذة: اعتبروا بهذين: حسين الكرابيسي، وأبو ثور. فالحسين في علمه وحفظه، وأبو ثور لا يعشّره في علمه، فتكلم فيه أحمد بن حنبل في باب اللفظ فسقط، وأثنى على أبي ثور، فارتفع للزومه السنة).

وقال عنه ابن حبّان: (وكان ممن جمع وصنف ممن يحسن الفقه والحديث، ولكن أفسده قلة عقله؛ فسبحان من رفع من شاء بالعلم اليسير حتى صار عَلَما يقتدى به، ووضع من شاء مع العلم الكثير حتى صار لا يلتفت إليه).

الموقف الثاني: موقف طائفة ممن خاض في علم الكلام وتأثّر ببعض قول الجهمية وإن كان كلامهم غيرَ جارٍ على أصول الجهمية، وعلى رأس هؤلاء رجل من أهل الشام يقال له: الشرّاك؛ قال: إن القرآن كلام الله؛ فإذا تلفظنا به صار مخلوقاً، وهذا يعود إلى صريح قول الجهمية عند التحقيق.

قال أبو طالبٍ للإمام أحمد: كُتب إليّ من طرسوس أنّ الشّرّاك يزعم أنّ القرآن كلام اللّه، فإذا تلوته فتلاوته مخلوقةٌ.

قال: «قاتله اللّه، هذا كلام جهمٍ بعينه».

قال: قلت: رجلٌ قال في القرآن: كلام اللّه ليس بمخلوقٍ، ولكنّ لفظي هذا به مخلوقٌ؟

قال: «هذا كلام سوءٍ، من قال هذا فقد جاء بالأمر كلّه»

قلت: (الحجّة فيه حديث أبي بكرٍ: لمّا قرأ: {الم غلبت الرّوم} فقالوا: هذا جاء به صاحبك؟ قال: لا، ولكنّه كلام اللّه)؟

قال: «نعم، هذا وغيره، إنّما هو كلام اللّه، إن لم يرجع عن هذا فاجتنبه، ولا تكلّمه، هذا مثل ما قال الشّرّاك» .

قلت: كذا بلغني.

قال: «أخزاه اللّه، تدري من كان خاله؟»

قلت: لا.

قال: «كان خاله عبدَك الصّوفيّ، وكان صاحب كلامٍ ورأي سوءٍ، وكلّ من كان صاحب كلامٍ، فليس ينزع إلى خيرٍ»، واستعظم ذلك واسترجع، وقال: «إلى ما صار أمر النّاس؟».

وهذه الرواية ذكرها ابن بطّة في الإبانة.

و"عَبْدَك" الذي ذكره الإمام أحمد؛ هو أوّل من لقّب بالصوفي في بغداد ، وكان أصله من الكوفة ثم انتقل إلى بغداد، وكان له أبتباع يعظمونه، و"عبدك" لقب له، واسمه عبد الكريم.

وكان صاحب كلام وتصوف، وقد اشتهرت عنه بدع: منها بدعة الملامية، ومنها بدعة التحريم المطلق، كان يزعم أن كل ما في الدنيا حرام، ولا يحلّ منها إلا القوت، وخلط التصوّف بالتشيّع، وتوفي بغداد سنة (210هـ).

ذكر ابن النجار في ذيل تاريخ بغداد عن إسحاق بن داود أنه قال: أول من سمى ببغداد «صوفيا» عبدك الصوفي.

وقد ذكر بعض مقالاته الشيخ إحسان إلهي ظهير في كتابه عن نشأة التصوف.

والشرّاك ابن اخت عبدك الصوفي كما ذكر الإمام أحمد، وهذا من شواهد سعة معرفة الإمام أحمد رحمه الله بالرجال.

ذكر أبو القاسم اللالكائي عن محمّد بن أسلم الطّوسيّ أنه قال: (إنّ من قال: إنّ القرآن يكون مخلوقًا بالألفاظ، فقد زعم أنّ القرآن مخلوقٌ).

الموقف الثالث: موقف داوود بن عليّ بن خلف الأصبهاني الظاهري (ت:270هـ) رأس أهل الظاهر وإمامهم، وكان رجلاً قد أوتي ذكاءً حادّاً وقوّة بيان وتصرّفاً في الاستدلال، وكان مولعاً بكتب الشافعيّ في أوّل عمره؛ معتنيا بجمع الأقوال ومعرفة الخلاف حتى حصّل علماً كثيراً، ثم ردّ القياس وادّعى الاستغناء عنه بالظاهر، وصنّف كتباً كثيرة.

قال أبو زرعة الرازي: ( لو اقتصر على ما يقتصر عليه أهل العلم لظننت أنه يكمد أهل البدع بما عنده من البيان والآلة، ولكنه تعدَّى).

وهو من أصحاب حسين الكرابيسي، وعنه أخذ مقالته في اللفظ، لكنّه تأوّلها على مذهبه في القرآن؛ فإنّ له قولاً في القرآن لم يسبق إليه: قال: (أما الذي في اللوح المحفوظ: فغير مخلوق، وأما الذي هو بين الناس: فمخلوق).

قال الذهبي: (هذه التفرقة والتفصيل ما قالها أحد قبله فيما علمت).

واشتهر عنه أنه قال: (القرآن مُحدث) وكلمة الإحداث عند المعتزلة تعني الخلق؛ لأنّ المحدث هو ما كان بعد أن لم يكن؛ ويقولون بأن كلّ ما كان بعد أن لم يكن فهو مخلوق.ولذلك نفوا صفة الكلام عن الله جل وعلا، وضلوا في ذلك وكذبوا على الله؛ فإنّ الله تعالى يحدث من أمره ما يشاء ، ويفعل ما يشاء متى يشاء.

وهذه الكلمة "محدث" واردة في القرآن في قوله تعالى: {ما يأتيهم من ذكر من ربّهم محدَث إلا كانوا عنه معرضين}

لكنّها ليست على المعنى الذي أراده المعتزلة من أنّه مخلوق، ولكنّ الله يحدث من أمره ما يشاء؛ فيكون حديثا أي جديداً عند إنزاله أو وقوعه.

ولمّا حدثت فتنة اللفظ كان ممن تكلّم بها داوود الظاهري؛ وقال: (لفظي بالقرآن مخلوق).

قال: محمد بن الحسين بن صبيح: سمعت داوود الأصبهاني يقول: القرآن مُحدَث، ولفظي بالقرآن مخلوق). رواه الخلال.

وقال أبو عليٍّ أحمد بن إبراهيم القوهستانيّ(ت:267ه): سمعت إسحاق بن راهويه يقول: إنّ لفلانٍ يعني داود الأصفهانيّ في القرآن قولًا ثالثًا، قولَ سوءٍ؛ فلم يزل يُسأل إسحاق ما هو؟

قال: أظهر اللّفظ، يعني قال: لفظي بالقرآن مخلوقٌ) رواه أبو القاسم اللالكائي.

وقد أنكر عليه إسحاق بن راهويه، وشهد على داوود أنه قال: (القرآن محدث) بعض من حضره، فكتب قاضي نيسابور محمد بن يحيى الذهلي إلى الإمام أحمد ببغداد

أنّ داوود بن علي قال: (القرآن محدث) فأمر الإمام أحمد بهجره ومجانبته.

قال أبو بكر المروذي: إن داوود خرج إلى خراسان إلى ابن راهويه، فتكلم بكلام شهد عليه أبو نصر بن عبد المجيد وآخر، شهدا عليه أنه قال: القرآن محدث.

فقال لي أبو عبد الله [أحمد بن حنبل]: مَن داود بن علي لا فرج عنه الله؟

قلت: هذا من غلمان أبي ثور.

قال: جاءني كتاب محمد بن يحيى النيسابوري أن داوود الأصبهاني قال ببلدنا: إن القرآن محدَث.

فهجره الإمام أحمد، وأمر بهجره.

وذكر الخطيب البغدادي عن أبي زرعة الرازي أن داوود بن علي كانت بينه وَبين صالح بْن الإمام أَحْمَد معرفة حسنة، فكلم صالحا أن يتلطف له فِي الاستئذان على أبيه، فأتى صالح أباه، فَقَالَ له: رجل سألني أن يأتيك؟

قَالَ: ما اسمه؟

قَالَ: دَاوُد.

قَالَ: من أين؟

قَالَ: من أَهْل أصبهان.

قَالَ: أي شيء صناعته؟

قَالَ: وَكَانَ صالح يروغ عَنْ تعريفه إياه؛ فما زال أَبُو عَبْد اللَّهِ يفحص عنه حَتَّى فطن له.

فَقَالَ: هذا قد كتب إلي مُحَمَّد بْن يَحْيَى النيسابوري فِي أمره أنه زعم أن القرآن محدث فلا يقربني.

قَالَ: يا أبت إنه ينتفي من هذا وَينكره.

فَقَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ أَحْمَد: مُحَمَّد بْن يَحْيَى أصدق منه، لا تأذن له فِي المصير إلي).

وقد كان في كتب داوود أحاديث ُكثيرة؛ فهجره أهل الحديث حتى قال الخطيب البغدادي: (وَفي كتبه حَدِيث كثير، إِلا أن الرواية عنه عزيزة جدا).

والمقصود أنّ داوود بن علي الظاهري كان مما تكلّم باللفظ لكنّه تأوّله على مذهبه في القرآن.

فهجره الإمام أحمد، وأمر بهجره.

الموقف الرابع: موقف جمهور أهل الحديث كالإمام أحمد وإسحاق بن راهويه والبخاري وأبي ثور وجماعة.

فهؤلاء منعوا الكلام في اللفظ مطلقاً لالتباسه؛ وبدّعوا الفريقين: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، ومن قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق.

واشتدّوا على من قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ خشية التذرّع بهذا التلبيس إلى إرادة القول بخلق القرآن، وقد جرى من المحنة في القول بخلق القرآن ما جرى فكانوا شديدي الحذر من حيل الجهمية وتلبيسهم.

وبيّنوا أنّ أفعال العباد مخلوقة.

قال إسحاق بن حنبلٍ: (من قال: لفظي بالقرآن مخلوقٌ، فهو جهميٌّ، ومن زعم أنّ لفظه بالقرآن غير مخلوقٍ، فقد ابتدع، فقد نهى أبو عبد اللّه عن هذا، وغضب منه، وقال: (ما سمعت عالمًا قال هذا! أدركت العلماء مثل: هشيمٍ، وأبي بكر بن عيّاشٍ، وسفيان بن عيينة، فما سمعتهم قالوا هذا).

قال إسحاق: (وأبو عبد اللّه أعلم النّاس بالسّنّة في زمانه، لقد ذبّ عن دين اللّه، وأوذي في اللّه، وصبر على السّرّاء والضّرّاء).

وهذا الكلام نصّ عليه غير واحد من أصحاب الإمام أحمد مثل: يعقوب الدورقي.

وقال أبو إسحاق الهاشميّ: سألت أبا عبد اللّه أحمد بن حنبلٍ، فقلت: إذا قالوا لنا: القرآن بألفاظنا مخلوقٌ، نقول لهم: ليس هو بمخلوقٍ بألفاظنا أو نسكت؟

فقال: " اسمع ما أقول لك: القرآن في جميع الوجوه ليس بمخلوقٍ ".

ثمّ قال أبو عبد اللّه: «جبريل حين قاله للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان منه مخلوقًا؟ والنّبيّ حين قاله كان منه مخلوقًا؟ هذا من أخبث قولٍ وأشرّه» ثمّ قال أبو عبد اللّه: «بلغني عن جهمٍ أنّه قال بهذا في بدء أمره».

ذكر ذلك ابن بطّة في الإبانة الكبرى.

وقال عبد الله بن الإمام أحمد: (كان أبي رحمه الله يكره أن يتكلم في اللفظ بشيء أو يقال: مخلوق أو غير مخلوق).

وقال صالح بن الإمام أحمد: تناهى إليَّ أن أبا طالب يحكي عن أبي أنه يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق؛ فأخبرت أبي بذلك.

فقال: من أخبرك؟

فقلت: فلان.

قال: ابعث إلى أبي طالب، فوجهت إليه فجاء وجاء فُوران.

فقال له أبي: أنا قلت لفظي بالقرآن غير مخلوق؟!!

وغضب وجعل يرعد؛ فقال له: قرأت عليك {قل هو الله أحد} ؛ فقلت لي: هذا ليس بمخلوق.

قال: فلم حكيت عنّي أنّي قلت: لفظي بالقرآن غير مخلوقٍ؟!!

وبلغني أنك وضعت ذلك في كتابك، وكتبت به إلى قوم؛ فإن كان في كتابك؛ فامحه أشد المحو، واكتب إلى القوم الّذين كتبت إليهم: إنّي لم أقل لك هذا.

فعاد أبو طالب فذكر أنه قد حكَّ ذلك من كتابه، وأنه كتب إلى القوم يخبرهم أنه وهم على أبي عبد الله في الحكاية).

وأبو طالب هو أحمد بن حميد المُشْكانيّ (ت:244هـ) من خاصّة أصحاب الإمام أحمد، وكان الإمام أحمد يحبّه ويعظّمه، وكان رجلاً صالحاً فقيهاً فقيراً صبوراً على الفقر، وله مسائل يرويها عن الإمام أحمد.

وفُوران هو أبو محمد عبد الله بن محمد بن المهاجر (ت:256هـ) كان من أخصّ أصحاب الإمام أحمد وأحبّهم إليه.

وهذه المسألة تعرف بمسألة أبي طالب؛ وقد جرى خلاف بين أصحاب الإمام أحمد بعد وفاته بسبب هذه المسألة.

قال ابن تيمية: (وهذا الذي ذكره أحمد [يريد جوابه لأبي طالب في قوله: هذا كلام الله لما قرأ قل هو الله أحد، وقال له: هذا ليس بمخلوق ] من أحسن الكلام وأدقه فإن الإشارة إذا أطلقت انصرفت إلى المقصود.

وهو كلام الله الذي تكلم به.

لا ما وصل به إلينا من أفعال العباد وأصواتهم.

فإذا قيل لفظي جعل نفس الوسائط غير مخلوقة.

وهذا باطل كما أن رأى راء في مرآة فقال أكرم الله هذا الوجه وحياه أو قبحه كان دعاؤه على الوجه الموجود في الحقيقة الذي رأى بواسطة المرآة لا على الشعاع المنعكس فيها، وكذلك إذا رأى القمر في الماء فقال قد أبدر، فإنما مقصوده القمر الذي في السماء لا خياله وكذلك من سمعه يذكر رجلا فقال هذا رجل صالح أو رجل فاسق، علم أن المشار إليه هو الشخص المسمى بالاسم، لا نفس الصوت المسموع من الناطق، فلو قال: هذا الصوت أو صوت فلان صالح أو فاسق فسد المعنى)ا.هـ

وقال ابن تيمية: (ونكتة الأمر أن العبرة بالحقيقة المقصودة لا بالوسائل المطلوبة لغيرها، فلما كان مقصود الرائي أن يرى الوجه مثلا فرآه بالمرآة حصل مقصوده، وقال رأيت الوجه وإن كان ذلك بواسطة انعكاس الشعاع في المرآة، وكذلك من كان مقصوده أن يسمع القول الذي قاله غيره ألف ألفاظه وقصد معانيه، فإذا سمعه منه أو من غيره حصل هذا المقصود، وإن كان سماعه من غيره هو بواسطة صوت ذلك الغير باختلاف الصائتين والقلوب، وإنما أشير إلى المقصود لا إلى ما ظهر به المقصود، كما في الاسم والمسمى، فإن القائل إذا قال: جاء زيد وذهب عمرو لم يكن مقصوده الإخبار بالمجيء والإتيان هو لفظ زيد ولفظ عمرو وإلا كان مبطلا، فكذلك إذا قال القائل هذا)ا.ه.

الموقف الخامس: موقف طائفة من أهل الحديث صرحوا بأنّ اللفظ بالقرآن غير مخلوق، وهم يريدون أنّ القرآن غير مخلوق، وأخطؤوا في استعمال هذه العبارة.

وحصل في الأمر التباس عليهم؛ حتى إنّ منهم من نسب ذلك إلى الإمام أحمد كما تقدّم عن أبي طالب وأنّ الإمام أحمد أنكر عليه وتغيّظ عليه وأنّه رجع عن ذلك؛ لكن بقي على ذلك بعض أصحاب الإمام أحمد، ثم قال بهذا القول بعض أتباعهم.

وممن نُسب إليه التصريح بأنّ اللفظ بالقرآن غير مخلوق: محمد بن يحيى الذهلي شيخ البخاري وقاضي نيسابور في زمانه، وأبو حاتم الرازي، ومحمد بن داوود المصيصي قاضي أهل الثغر وهو شيخ أبي داوود السجستاني صاحب السنن، وابن منده ، وأبو نصر السجزي، وأبو إسماعيل الأنصاري، وأبو العلاء الهمذاني.

وقد ذكر ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية.

وهؤلاء :

1. يقولون إن القرآن غير مخلوق.

2. وإن أفعال العباد مخلوقة.

لكنّهم أخطؤوا في إطلاق القول بأن اللفظ بالقرآن غير مخلوق.

وظنوا أنّهم بقولهم: (ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة) يقطعون الطريق على الجهمية الذين يريدون التحيّل باللفظ للقول بخلق القرآن.

قال ابن تيمية: (وكان أهل الحديث قد افترقوا في ذلك، فصار طائفة منهم يقولون: لفظنا بالقرآن غير مخلوق ومرادهم أن القرآن المسموع غير مخلوق، وليس مراده صوت العبد، كما يذكر ذلك عن أبي حاتم الرازي، ومحمد بن داود المصيصي، وطوائف غير هؤلاء.

وفي أتباع هؤلاء من قد يدخل صوت العبد أو فعله في ذلك أو يقف فيه، ففهم ذلك بعض الأئمة، فصار يقول: أفعال العباد وأصواتهم مخلوقة، رداً لهؤلاء، كما فعل البخاري ومحمد بن نصر المروزي وغيرهما من أهل العلم والسنة.

وصار يحصل بسبب كثرة الخوض في ذلك ألفاظ مشتركة، وأهواء للنفوس، حصل بسبب ذلك نوع من الفرقة والفتنة، وحصل بين البخاري وبين محمد بن يحيى الذهلي في ذلك ما هو معروف، وصار قوم مع البخاري كمسلم بن الحجاج نحوه، وقوم عليه كأبي زرعة وأبي حاتم الرازيين وغيرهما.

وكل هؤلاء من أهل العلم والسنة والحديث، وهم من أصحاب أحمد بن حنبل، ولهذا قال ابن قتيبة: إن أهل السنة لم يختلفوا في شيء من أقوالهم إلا في مسألة اللفظ).

اختلاف الأفهام في مسألة اللفظ:

مسألة اللفظ من المسائل الغامضة لتوقفها على مراد القائل، ودخول التأول فيها.

قال ابن تيمية: (الأئمة الكبار كانوا يمنعون من إطلاق الألفاظ المبتدعة المجملة المشتبهة، لما فيه من لبس الحق بالباطل، مع ما توقعه من الاشتباه والاختلاف والفتنة، بخلاف الألفاظ المأثورة والألفاظ التي بينت معانيها، فإن ما كان مأثوراً حصلت له الألفة، وما كان معروفا حصلت به المعرفة، كما يروى عن مالك رحمه الله أنه قال: "إذا قل العلم ظهر الجفاء، وإذا قلت الآثار كثرت الأهواء".

فإذا لم يكن اللفظ منقولاً ولا معناه معقولاً ظهر الجفاء والأهواء).

وقال ابن تيمية أيضاً: (الذين قالوا التلاوة هي المتلو من أهل العلم والسنة قصدوا أن التلاوة هي القول والكلام المقترن بالحركة، وهي الكلام المتلو.

وآخرون قالوا: بل التلاوة غير المتلو، والقراءة غير المقروء، والذين قالوا ذلك من أهل السنة والحديث أرادوا بذلك أن أفعال العباد ليس هي كلام الله، ولا أصوات العباد هي صوت الله، وهذا الذي قصده البخاري، وهو مقصود صحيح.

وسبب ذلك أن لفظ: التلاوة، والقراءة، واللفظ مجمل مشترك: يراد به المصدر، ويراد به المفعول.

فمن قال: اللفظ ليس هو الملفوظ، والقول ليس هو المقول وأراد باللفظ والقول المصدر، كان معني كلامه أن الحركة ليست هي الكلام المسموع، وهذا صحيح.

ومن قال اللفظ هو الملفوظ، والقول هو نفسه المقول وأراد باللفظ والقول مسمى المصدر، صار حقيقة مراده أن اللفظ والقول المراد به الكلام المقول الملفوظ هو الكلام المقول الملفوظ، وهذا صحيح.

فمن قال: اللفظ بالقرآن، أو القراءة، أو التلاوة، مخلوقة أو لفظي بالقرآن، أو تلاوتي دخل في كلامه نفس الكلام المقروء المتلو، وذلك هو كلام الله تعالى.

وإن أراد بذلك مجرد فعله وصوته كان المعني صحيحاً، لكن إطلاق اللفظ يتناول هذا وغيره)ا.هـ.

الموقف السادس: موقف أبي الحسن الأشعري وبعض أتباعه ومن تأثر بطريقته كأبي بكر بن الطيب الباقلاني، والقاضي أبي يعلى.

وهؤلاء فهموا من مسألة اللفظ معنى آخر ؛ وقالوا إنّ الإمام أحمد إنما كره الكلام في اللفظ؛ لأنّ معنى اللفظ الطرح والرمي، وهذا غير لائق أن يقال في حق القرآن.

قال ابن تيمية: (والمنتصرون للسنة من أهل الكلام والفقه: كالأشعري والقاضي أبي بكر بن الطيب والقاضي أبي يعلى وغيرهم يوافقون أحمد على الإنكار على الطائفتين على من يقول: لفظي بالقرآن مخلوق وعلى من يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق، ولكن يجعلون سبب الكراهة كون القرآن لا يلفظ؛ لأن اللفظ الطرح والرمي. ثم هؤلاء منهم من ينكر تكلم الله بالصوت. ومنهم من يقر بذلك).

الموقف السابع: موقف طوائف زعمت أنّ ألفاظ القراء بالقرآن غير مخلوقة؛ وزعموا أن سماعهم لقراءة القارئ هي سماع مباشر من الله، وأنهم يسمعون كلام الله من الله إذا قرأه القارئ كما سمعه موسى بن عمران.

واختلفوا في تفصيل ذلك على أقوال:

فقال بعضهم: إن صوت الربّ حلّ في العبد.

وقال آخرون: ظهر فيه ولم يحلّ فيه.

وقال آخرون: لا نقول ظهر ولا حلّ.

وقال آخرون: الصوت المسموع قديم غير مخلوق.

وقال آخرون: يسمع منه صوتان مخلوق وغير مخلوق.

وهذه الأقوال حكاها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن بعض الطوائف، وحكى أقوالاً أخرى نحوها في البطلان؛ ثم قال: (وهذه الأقوال كلها مبتدعة، لم يقل السلف شيئا منها، وكلها باطلة شرعا وعقلا، ولكن ألجأ أصحابها إليها اشتراك في الألفاظ واشتباه في المعاني، فإنه إذا قيل: سمعت زيدا وقيل: هذا كلام زيد، فإن هذا يقال على كلامه الذي - تكلم هو به بلفظه ومعناه، سواء كان مسموعا منه أو من المبلغ عنه مع العلم بالفرق بين الحالين، وأنه إذا سمع منه سمع بصوته، وإذا سمع من غيره سمع من ذلك المبلغ لا بصوت المتكلم، وإن كان اللفظ لفظ المتكلم، وقد يقال مع القرينة هذا كلام فلان، وإن ترجم عنه بلفظ آخر، كما حكى الله كلام من يحكي قوله من الأمم باللسان العربي، وإن كانوا إنما قالوا بلفظ [عبري] أو سرياني أو قبطي أو غير ذلك).

وقال أيضا: (فمن قال إن لفظه بالقرآن غير مخلوق أو صوته أو فعله أو شيئا من ذلك فهو مبتدع.

وهؤلاء قد يحتجون بقوله: {حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6] ، ويقولون هذا كلام الله غير مخلوق، فهذا غير مخلوق، ونحن لا نسمع إلا صوت القارئ، وهذا جهل منهم. فإن سماع كلام الله بل وسماع كل كلام يكون تارة من المتكلم به بلا واسطة الرسول المبلغ له، قال تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} [الشورى: 51] ، ومن قال: إن الله كلمنا بالقرآن كما كلم موسى بن عمران، أو إنا نسمع كلامه كما سمعه موسى بن عمران، فهو من أعظم الناس جهلا وضلالا.)

وقال أيضا: (وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن القرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله - تعالى - وإن كان مسموعا عن المبلغ عنه، فإن الكلام قد يسمع من المتكلم به، كما سمعه موسى بلا واسطة وهذا سماع مطلق - كما يرى الشيء رؤية مطلقة - وقد يسمعه من المبلغ عنه فيكون قد سمعه سماعا مقيدا - كما يرى الشيء [في] الماء والمرآة رؤية مقيدة لا مطلقة - ولما قال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} كان معلوما عند جميع من خوطب بالقرآن أنه يسمع سماعا مقيدا من المبلغ، ليس المراد به أنه يسمع من الله (كما سمعه موسى بن عمران، فهذا المعنى هو الذي عليه السلف والأئمة).

وقال أيضا: (قال أحمد وغيره من السلف: القرآن كلام الله حيث تصرف غير مخلوق ولم يقل أحد من السلف والأئمة إن أصوات العباد بالقرآن غير مخلوقة أو قديمة ولا قال أيضا أحد منهم: إن المداد الذي يكتب به القرآن قديم أو غير مخلوق. فمن قال إن شيئا من أصوات العباد أو أفعالهم أو حركاتهم أو مدادهم: قديم أو غير مخلوق فهو مبتدع ضال مخالف لإجماع السلف والأئمة).

وقريب من هؤلاء طائفة زعمت أن كلام الله بعينه في المصحف؛ وقد ردّ عليهم البخاري في كتابه خلق أفعال العباد بقوله: (ويقال لمن زعم أني لا أقول: القرآن مكتوب في المصحف ولكن القرآن بعينه في المصحف، يلزمك أن تقول: إن من ذكر الله في القرآن من الجن والإنس والملائكة والمدائن ومكة والمدينة وغيرهما وإبليس وفرعون وهامان وجنودهما والجنة والنار عاينتهم بأعيانهم في المصحف، لأن فرعون مكتوب فيه، كما أن القرآن مكتوب!!)

وعلى كلّ فبعض الأقوال اندثرت، وسوء الفهم ليس له حدود، ومقصودنا التنبيه على الأقوال التي اشتهرت وكان لأصحابها أتباع، أو جرت بسببها محن، وأما الأقوال الواهية المندثرة فيصعب حصرها.

رؤيا أبي حمدون المقرئ

قال أبو حمدونٍ المقرئ قال: لمّا هاج النّاس في اللّفظ بالقرآن مخلوقٌ، وأمر حسينٍ الكرابيسيّ في ذلك، كنت أقرأ بالكرخ، فأتاني رجلٌ فجعل يناظرني ويقول: أنا أريد لفظي مخلوقٌ، والقرآن غير مخلوقٍ. قال: فشكّكني، فدعوت اللّه عزّ وجلّ الفرج، فلمّا كان اللّيل نمت فرأيت كأنّي في صحراء واسعةٍ فيها سريرٌ عليه نضدٌ فوقه شيخٌ ما رأيت أحسن وجهًا منه ولا أنقى ثوبًا منه ولا أطيب رائحةً، وإذا النّاس قيامٌ عن يمينه وعن يساره، إذ جيء بالرّجل الّذي كان يناظرني فأوقف بين يديه وجيء بصورةٍ في سونجرد، فقيل: هذه صورة ماني الّذي أضلّ النّاس، فوضعت على قفا الرّجل، فقال الشّيخ: اضربوا وجه ماني ليس نريدك. قال: فنحّ عن قفاي واضرب به كيف شئت. فقال: وأنت فنحّ لفظك عن القرآن وقل في لفظك ما شئت.

قال: فانتبهت وقد سرى عنّي.). ذكره أبو القاسم اللالكائي.

متى نشأت اللفظية؟

قال الذهبي: (أول من أظهر اللفظ الحسين بن علي الكرابيسي، وذلك في سنة أربع وثلاثين ومائتين).

هكذا قال رحمه الله، والأقرب أنّ نشأة فتنة اللفظية كانت في زمان الخليفة الواثق بن المعتصم لما ذكر أبو داوود السجستاني في مسائله للإمام أحمد، قال: كتبت رقعة، وأرسلت به إلى أبي عبد الله، وهو يومئذ متوار، فأخرج إلي جوابه مكتوبا فيه: قلت: رجل يقول: التلاوة مخلوقة، وألفاظنا بالقرآن مخلوقة والقرآن ليس بمخلوق، ما ترى في مجانبته؟ وهل يسمى مبتدعا؟ وعلى ما يكون عَقْدُ القلب في التلاوة والألفاظ؟ وكيف الجواب فيه؟

قال: هذا يجانب، وهو فوق المبتدع، وما أراه إلا جهمياً، وهذا كلام الجهمية، القرآن ليس بمخلوق، قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو الذي أنزل عليك الكتاب، يريد حديثها» : {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات}، فقالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فاحذروهم، فإنهم هم الذين عنى الله» ، والقرآن ليس بمخلوق)ا.هـ.

محنة الإمام البخاري في مسألة اللفظ:

كان البخاري قد رأى ما نال الإمام أحمد في مسألة اللفظ وهو ببغداد فجعل على نفسه أن لا يتكلم في هذه المسألة، ورأى أنها مسألة مشؤومة، وفطن لذلك بعض أهل بغداد.

ولمّا توجّه البخاري إلى خراسان في آخر حياته وهو في الثانية والستين من عمره؛ وجد في بلده بخارى كثرة المخالفين له؛ فعزم على الإقامة في نيسابور، فبلغ ذلك أهل نيسابور.

فاحتفوا بمقدمه احتفاء بالغاً خرج إليه العلماء والوجهاء والعامة من مسيرة ليلتين أو ثلاث يستقبلونه.

وكان ممن احتفى بمقدمه قاضي نيسابور محمد بن يحيى الذهلي وكان رجلاً مسموع الكلمة في نيسابور ومحدّثا من كبار المحدّثين.

قال مسلم بن الحجاج النيسابوري [صاحب الصحيح]: لما قدم محمد بن إسماعيل نيسابور ما رأيت واليا ولا عالما فَعل به أهل نيسابور ما فعلوا به استقبلوه مرحلتين وثلاثة.

فقال محمد بن يحيى في مجلسه: من أراد أن يستقبل محمد بن إسماعيل غدا فليستقبله فاستقبله محمد بن يحيى، وعامة العلماء فنزل دار البخاريين فقال لنا محمد بن يحيى: لا تسألوه عن شي من الكلام فإنه إن أجاب بخلاف ما نحن فيه، وقع بيننا وبينه ثم شمت بنا كل حروري وكل رافضي، وكل جهمي وكل مرجئ بخراسان.

قال الإمام مسلم: فازدحم الناس على محمد بن إسماعيل حتى امتلأ السطح والدار فلما كان اليوم الثاني، أو الثالث قام إليه رجل فسأله عن اللفظ بالقرآن.

فقال: أفعالنا مخلوقة، وألفاظنا من أفعالنا فوقع بينهم اختلاف.

فقال بعض الناس: قال: لفظي بالقرآن مخلوق، وقال بعضهم: لم يقل حتى تواثبوا؛ فاجتمع أهل الدار وأخرجوهم). ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء.

وقال ابن عدي: ذكر لي جماعة من المشايخ أن محمد بن إسماعيل لما ورد نيسابور اجتمع الناس عليه فحسده بعض من كان في ذلك الوقت من مشايخ نيسابور لما رأوا إقبال الناس إليه، واجتماعهم عليه؛ فقال لأصحاب الحديث: إن محمد بن إسماعيل يقول: اللفظ بالقرآن مخلوق فامتحنوه في المجلس فلما حضر الناس مجلس البخاري قام إليه رجل فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في اللفظ بالقرآن مخلوق هو أم غير مخلوق؟

فأعرض عنه البخاري، ولم يجبه فقال الرجل: يا أبا عبد الله فأعاد عليه القول فأعرض عنه ثم قال في الثالثة فالتفت إليه البخاري، وقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة والامتحان بدعة فشغب الرجل وشغب الناس وتفرقوا عنه وقعد البخاري في منزله.

ونقلت مقالته على غير وجهها إلى قاضي نيسابور محمد بن يحيى الذهلي؛ فقال في مجلسه فيما قال: (من زعم أن لفظي بالقرآن مخلوق فهذا مبتدع لا يجالس ولا يكلم، ومن ذهب بعد مجلسنا هذا إلى محمد بن إسماعيل البخاري فاتهموه، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مثل مذهبه).

وروى الحاكم بإسناده عن ابن عليّ المخلدّي أنه قال: (سمعت محمد بن يحيى يقول: قد أظهر هذا البخاري قول اللفظية، واللفظية عندي شر من الجهمية).

وقال أبو حامد الأعمشي: رأيت محمد بن إسماعيل في جنازة أبي عثمان سعيد بن مروان، ومحمد بن يحيى يسأله عن الأسامي والكنى وعلل الحديث، ويمر فيه محمد بن إسماعيل مثل السهم؛ فما أتى على هذا شهر حتى قال محمد بن يحيى: إلا من يختلف إلى مجلسه فلا يختلف إلينا فإنهم كتبوا إلينا من بغداد أنه تكلم في اللفظ ونهيناه فلم ينته فلا تقربوه، ومن يقربه فلا يقربنا فأقام محمد بن إسماعيل ها هنا مدة ثم خرج إلى بخارى.

وقال محمد بن شاذل يقول: (لما وقع بين محمد بن يحيى والبخاري دخلت على البخاري فقلت: يا أبا عبد الله أيش الحيلة لنا فيما بينك وبين محمد بن يحيى كل من يختلف إليك يطرد؟

فقال: كم يعتري محمد بن يحيى الحسد في العلم، والعلم رزق الله يعطيه من يشاء.

فقلت: هذه المسألة التي تحكى عنك؟

قال: (يا بني هذه مسألة مشؤومة رأيت أحمد بن حنبل، وما ناله في هذه المسألة وجعلت على نفسي أن لا أتكلم فيها).

قال الذهبي: (المسألة هي أن اللفظ مخلوق، سئل عنها البخاري فوقف فيها فلما وقف، واحتج بأن أفعالنا مخلوقة واستدل لذلك فهم منه الذهلي أنه يوجه مسألة اللفظ فتكلم فيه، وأخذه بلازم قوله هو).

وكلام البخاري المتقدّم يدلّ على أنّ الإمام أحمد أوذي في مسألة اللفظ بما جعل البخاري ينأى عن الحديث عنها لالتباسها ودقّة أفهام كثير من الناس عنها ولأنّ الأذى فيها كثير؛ لكن قدّر الله تعالى أن يبتلى بها.

قال الخطيب البغدادي: (وكان مسلم يناضل عن البخاري حتى أوحش ما بينه وبين محمد بن يحيى الذهلي بسببه).

ثم روى بإسناده عن محمد بن يعقوب الحافظ أنه قال: (لما استوطن محمد بن إسماعيل البخاري نيسابور، أكثر مسلم بن الحجاج الاختلاف إليه، فلما وقع بين محمد بن يحيى والبخاري ما وقع في مسألة اللفظ ونادى عليه، ومنع الناس من الاختلاف إليه حتى هجر، وخرج من نيسابور في تلك المحنة، قطعه أكثر الناس غير مسلم، فإنه لم يتخلف عن زيارته، فأنهي إلى محمد بن يحيى أن مسلم بن الحجاج على مذهبه قديما وحديثا، وأنه عوتب على ذلك بالعراق والحجاز ولم يرجع عنه، فلما كان يوم مجلس محمد بن يحيى، قال في آخر مجلسه: ألا من قال باللفظ فلا يحل له أن يحضر مجلسنا، فأخذ مسلم الرداء فوق عمامته وقام على رءوس الناس وخرج من مجلسه، وجمع كل ما كان كتب منه وبعث به على ظهر حمَّال إلى باب محمد بن يحيى، فاستحكمت بذلك الوحشة، وتخلف عنه وعن زيارته).

وقام مع مسلم بن الحجاج أحمد بن سلمة.

قال محمد بن يعقوب الأخرم: سمعت أصحابنا يقولون: لما قام مسلم وأحمد بن سلمة من مجلس الذهلي، قال الذهلي: لا يساكنني هذا الرجل في البلد فخشي البخاري وسافر.

قال أبو عمرو الخفاف [وهو أحمد بن نصر النيسابوري]: (كنا يوما عند أبي إسحاق القيسي ومعنا محمد بن نصر المروزي، فجرى ذكر محمد بن إسماعيل البخاري، فقال محمد بن نصر: سمعته يقول: من زعم أني قلت لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب، فإني لم أقله.

قال: فقلت له: يا أبا عبد الله قد خاض الناس في هذا وأكثروا فيه.

فقال: ليس إلا ما أقول وأحكي لك عنه.

قال أبو عمرو الخفاف: فأتيت محمد بن إسماعيل فناظرته في شيء من الأحاديث حتى طابت نفسه فقلت: يا أبا عبد الله هاهنا أحد يحكى عنك أنك قلت هذه المقالة.

فقال: يا أبا عمرو احفظ ما أقول لك: من زعم من أهل نيسابور، وقومس، والري، وهمذان، وحلوان، وبغداد، والكوفة، والمدينة، ومكة، والبصرة، أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب فإني لم أقل هذه المقالة إلا أني قلت: أفعال العباد مخلوقة.

وقال أحمد بن سلمة: دخلت على البخاري فقلت: يا أبا عبد الله هذا رجل مقبول بخراسان خصوصا في هذه المدينة وقد لج في هذا الحديث حتى لا يقدر أحد منا أن يكلمه فيه فما ترى? فقبض على لحيته ثم قال: {وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد} ، اللهم إنك تعلم أني لم أرد المقام بنيسابور أشرا ولا بطرا، ولا طلبا للرئاسة، وإنما أبت علي نفسي في الرجوع إلى وطني لغلبة المخالفين، وقد قصدني هذا الرجل حسدا لما آتاني الله لا غير ثم قال لي: يا أحمد إني خارج غدا لتتخلصوا من حديثه لأجلي.

قال: فأخبرت جماعة من أصحابنا فوالله ما شيعه غيري كنت معه حين خرج من البلد، وأقام على باب البلد ثلاثة أيام لإصلاح أمره.

وقد أوذي البخاري رحمه الله في هذه المحنة كثيراً ؛ حتى كفّره بعضهم، وهو صابر محتسب ثابت على قول الحق؛ مجتنب للألفاظ الملتبسة.

قال محمد بن أبي حاتم: أتى رجل عبد الله البخاري فقال: يا أبا عبد الله إن فلانا يكفرك فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء به أحدهما".

وكان كثير من أصحابه يقولون له: إن بعض الناس يقع فيك فيقول: {إن كيد الشيطان كان ضعيفا}، ويتلو أيضا: {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله}

فقال له عبد المجيد بن إبراهيم: كيف لا تدعو الله على هؤلاء الذين يظلمونك، ويتناولونك ويبهتونك؟

فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اصبروا حتى تلقوني على الحوض»، وقال صلى الله عليه وسلم: «من دعا على ظالمه فقد انتصر».

قال محمد بن أبي حاتم: وسمعته يقول: لم يكن يتعرض لنا قط أحد من أفناء الناس إلا رمي بقارعة، ولم يسلم وكلما حدث الجهال أنفسهم أن يمكروا بنا رأيت من ليلتي في المنام نارا توقد ثم تطفأ من غير أن ينتفع بها فأتأول قوله تعالى: {كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله}

وكان هجيراه من الليل إذا أتيته في آخر مقدمه من العراق: {إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده} الآية.

محنة الإمام البخاري في بلده بخارى

لما رأى البخاري الوحشة في نيسابور خرج منها إلى بخارى على ما سبق ذكره؛ مع كراهيته للمقام في بخارى لكثرة المخالفين له.

قال أحمد بن منصور الشيرازي قال: سمعت بعض أصحابنا يقول: لما قدم أبو عبد الله بخارى نصب له القباب على فرسخ من البلد، واستقبله عامة أهل البلد حتى لم يبق مذكور إلا استقبله، ونثر عليه الدنانير والدراهم والسكر الكثير فبقي أياما.

قال: فكتب بعد ذلك محمد بن يحيى الذهلي إلى خالد بن أحمد أمير بخارى: إن هذا الرجل قد أظهر خلاف السنة فقرأ كتابه على أهل بخارى فقالوا: لا نفارقه فأمره الأمير بالخروج من البلد فخرج.

وقال أحمد بن منصور: فحكى لي بعض أصحابنا عن إبراهيم بن معقل النسفي قال: رأيت محمد بن إسماعيل في اليوم الذي أخرج فيه من بخارى فتقدمت إليه فقلت: يا أبا عبد الله، كيف ترى هذا اليوم من اليوم الذي نثر عليك فيه ما نثر؟

فقال: لا أبالي إذا سلم ديني.

قال بكر بن منير بن خليد: بعث الأمير خالد بن أحمد الذهلي والي بخارى إلى محمد بن إسماعيل، أن احمل إلي كتاب الجامع والتاريخ وغيرهما لأسمع منك.

فقال محمد بن إسماعيل لرسوله: أنا لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب الناس، فإن كانت لك إلى شيء منه حاجة فاحضرني في مسجدي أو في داري، وإن لم يعجبك هذا فأنت سلطان فامنعني من المجلس ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة؛ لأني لا أكتم العلم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار " قال فكان سبب الوحشة بينهما هذا.

وقال أبو بكر بن أبي عمرو الحافظ: كان سبب مفارقة أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري البلد، يعني: بخارى، أن خالد بن أحمد الذهلي الأمير، خليفة الطاهرية ببخارى، سأل أن يحضر منزله فيقرأ الجامع والتاريخ على أولاده فامتنع أبو عبد الله عن الحضور عنده، فراسله أن يعقد مجلسا لأولاده لا يحضره غيرهم فامتنع عن ذلك أيضا، وقال: لا يسعني أن أخص بالسماع قوما دون قوم، فاستعان خالد بن أحمد بحريث بن أبي الورقاء وغيره من أهل العلم ببخارى عليه، حتى تكلموا في مذهبه ونفاه عن البلد، فدعا عليهم أبو عبد الله محمد بن إسماعيل، فقال: اللهم أرهم ما قصدوني به في أنفسهم وأولادهم وأهاليهم.

فأما خالد فلم يأت عليه إلا أقل من شهر حتى ورد أمر الطاهرية بأن ينادى عليه، فنودي عليه، وهو على أتان، وأشخص على أكاف ثم صار عاقبة أمره إلى ما قد اشتهر وشاع.

وأما حريث بن أبي الورقاء فإنه ابتلى بأهله فرأى فيها ما يجل عن الوصف.

وأما فلان أحد القوم وسماه فإنه ابتلي بأولاده وأراه الله فيهم البلايا.

فلما أخرج من بخارى توجّه إلى بلدة يقال لها خرتنك وفيها له أقارب.

قال عبد القدوس بن عبد الجبار السمرقندي: جاء محمد بن إسماعيل إلى خرتنك، قرية من قرى سمرقند، على فرسخين منها وكان له بها أقرباء فنزل عندهم، قال: فسمعته ليلة من الليالي وقد فرغ من صلاة الليل يدعو ويقول في دعائه: اللهم إنه قد ضاقت على الأرض بما رحبت فاقبضني إليك.

قال: فما تم الشهر حتى قبضه الله تعالى وقبره بخرتنك.

ولقد أكثروا التأليب عليه واشتدوا في أذيته؛ ونحلوه أقوالا شنيعة لم يتفوّه بها، وكذبوا عليه في ذلك.

قال أبو العباس الفضل بن بسام: سمعت إبراهيم بن محمد يقول: أنا توليت دفن محمد بن إسماعيل لما أن مات بخرتنك أردت حمله إلى مدينة سمرقند أن أدفنه بها، فلم يتركني صاحب لنا، فدفناه بها.

فلما أن فرغنا ورجعت إلى المنزل الذي كنت فيه، قَالَ لي صاحب القصر: سألته أمس، قلت: يا أبا عبد الله ما تقول في القرآن؟ فقال: القرآن كلام الله غير مخلوق.

قَالَ: فقلت له: إن الناس يزعمون أنك تقول: ليس في المصاحف قرآن ولا في صدور الناس.

فقال: استغفر الله أن تشهد على بشيء لم تسمعه مني، أقول كما قَالَ الله تعالى {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2)}.

أقول: في المصاحف قرآن وفي صدور الناس قرآن، فمن قَالَ غير هذا يستتاب، فإن تاب وإلا فسبيله سبيل الكفر). ذكره الخطيب البغدادي في تاريخه وأبو القاسم اللالكائي في شرح السنة.

قال عبد الواحد بن آدم الطواويسى: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ومعه جماعة من أصحابه وهو واقف في موضع ذكره فسلمت عليه فرد السلام.

فقلت: ما وقوفك يا رسول الله؟

فقال: أنتظر محمد بن إسماعيل البخاري.

فلما كان بعد أيام بلغني موته فنظرنا فإذا هو قد مات في الساعة التي رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فيها). رواه الخطيب البغدادي.

قال مهيب بن سليم بن مجاهد: توفي أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ليلة السبت، ليلة الفطر، سنة ست وخمسين ومائتين.

ردّ البخاري على الطائفتين:

كان الذين يقول بأن اللفظ بالقرآن غير مخلوق ينسبون قولهم هذا إلى الإمام أحمد، ويظنّون أنّ هذا قوله.

وكان الذين يقابلونهم في هذا الأمر يفعلون ذلك؛ فيدّعون نسبة هذا القول إلى الإمام أحمد، وأنّ هذا مذهبه.

وذلك بسبب ما في هذه المسألة من الغموض والالتباس، وظنّ كل طائفة أنّ هذا هو الحق ، وأن الإمام أحمد كان على ما يقولون به.

وقد ردّ البخاري على الطائفتين، وبيّن الحقّ في هذه المسألة في كتابه "خلق أفعال العباد" بياناً شافياً.

وكان فيما قال: (فأما ما احتج به الفريقان لمذهب أحمد ويدعيه كل لنفسه، فليس بثابت كثير من أخبارهم، وربما لم يفهموا دقة مذهبه، بل المعروف عن أحمد وأهل العلم أن كلام الله غير مخلوق، وما سواه مخلوق، وأنهم كرهوا البحث والتنقيب عن الأشياء الغامضة، وتجنبوا أهل الكلام والخوض والتنازع إلا فيما جاء فيه العلم وبيَّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم "

ثم قال: (حدثنا إسحاق، أنبأ عبد الرزاق، أنبأ معمر، عن الزهري، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوما يتدارءون فقال: «إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا، فلا تضربوا بعضه بعضا، ما علمتم منه فقولوا، وما لا، فكلوه إلى عالمه» قال أبو عبد الله: «وكل من اشتبه عليه شيء فأولى أن يكله إلى عالمه »

كما قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «وما أشكل عليكم فكلوه إلى عالمه »).

للدرس بقيّة